|
بعض الملامح السندبادية في الخطاب الشعري العربي المعاصر التوظيف غير المباشر الحلقة الثانية
محمد عبد الرحمن يونس
الحوار المتمدن-العدد: 1911 - 2007 / 5 / 10 - 08:31
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
و تشكّل الرؤية السندبادية عند يوسف الخال وعياً جمعيّاً، و رؤية حضارية جمعيّة، فهو لا يسافر وحيداً، و لا يؤثّر في الحضارة الغربية و يتأثّر بها وحيداً، إنّه كلٌّ إنساني يمثّل لبنان كلّه. و يستخدم يوسف الخال الضمير » نحن « ليشير إلى هذا الوعي الجمعي بأهمية هذه الرؤية الحضارية، من خلال الأفعال و الكلمات الآتية: » نهبط - نهتف - نجيء - نحن - نصعد - بلادنا - نصيح - يصلنا بغيرنا - جئناك .. الخ «. و يغيب الضمير » أنا « من القصيدة ليتحوّل إلى » نا « الدالّة على الفاعلين، و إلى » نحن «. و هذا » التحوّل من الـ » أنا « إلى » نحن « من الخاص إلى العام، و من الجزئي إلى الكلّي، إنّها المعاناة – معاناة العصر و معاناة الواقع الجماعية، يعبّر عنها الشاعر حين يتقمّص الكل و يصير ضمير شعبه و عصره «.(21). و إذ يسافر السندباد و أصحابه إلى جزر جميلة خضراء خصبة، فإنّ هذه الجزر تشير تحديداً عند الخال إلى أوروبا و حضارتها، و عقلها الثقافي المستنير، و هذه الحضارة هي حلم السندباد و جماعته منذ الطفولة، لأنّ الحضر يسكنون بها، و لذا فهم يسافرون إلى هؤلاء الحضر، في حين نجد أنّ الرفاق الآخرين يعيشون خانعين مستسلمين للملل و الضجر، رافضين الانفتاح صوب أوروبا. يقول في نفس القصيدة: » رفاقنا الهناك آثروا الهجير و النقيق و الضجر، و نحن نعشق السفر. أخبرنا الرعاة في جبالنا عن جزر يغمرها المطر، يغمرها الغمام و الخزام و المطر، عن جزر يسكنها الحضر. بها، بمثل لونها الغريب يحلم الكبار في الصغر. «.(22). و يشكّل الشاعر يوسف الخال في نهاية قصيدته لغةً شعرية تشبه إلى حد بعيد لغة البحّارة و هم يجدّفون استعداداً للسفر، إذ يستخدم لفظة » هللويا «، و هي قريبة جداً من لغة بعض البحّارة و لغة الصيادين حينما يبدؤون الرحلة، و معروف عنهم في بعض البلدان العربية أنّهم يرددون بشكل جماعي عبارات مثل: » هيلا .. هيلا .. هيلاهوب «. و هذه هي الألفاظ الغنائية التي رافقت الملاحم منذ العهود القديمة، و التي هي شديدة القرب من لغة الأساطير و السحر. فالأسطورة كانت في العهود القديمة ذات طابع غنائي و الملاحم كذلك، و الأسطورة نفسها تحوّلت إلى ملحمة في حضارة الشرق القديم.(23). يقول الشاعر في نفس القصيدة: » و نبدأ السفر: هللويا هللويا و في هنيهة تغيب عن عيوننا الجبال، و المرافئ الأمان، و المرابع المليئة اليدين بالزهر: هللويا. هللويا. و نبدأ السفر و سيرة الرجوع و الصراع و الظفر «.(24). يعود السندباد و رفاقه من الجزر البعيدة التي يغمرها المطر، و يسكنها الحضر منتصرين ظافرين بمعطيات هذه الحضارة الأوروبية من لغة و ثقافات و عادات. من هنا فإن الشاعر يوسف الخال يقدّم إلينا من خلال قصيدته السفر: » لبنان العريق الذي تجلله الأسطورة كحاضر و موجود. (و) عن طريق اختيار الزمن الذي يروي به يوسف الخال الحدث يوضّح أنّ ماضي بلاده و حاضرها يتساويان من حيث القيمة، فهي تنطلق إلى إبداع عالمي تاريخي في الماضي و الحاضر.»(25). يقدّم الشاعر لبنان لوحة جمالية شفيفة في ديوانه الحريّة، و يتغنّى بهذه اللوحة، فلبنان مسرى النور، و يلجأ الخلود إليه، و يشيد مدائن الفكر و المعرفة على شطآنه، حتى أنّ الثقافة الإغريقية و ثقافة العالم تتأثر بثقافة لبنان و فكره، إنّه أمل العروبة، و إن تجاهل الآخرون ذلك، الوطن الحضاري العربي الذي يمازج بين العروبة و الحضارة الأوروبية، إنّه قبلة المعرفة و الجمال باعتباره منارة للحرية و الأحرار و النور، كما يؤكّد الشاعر في قصيدته التالية بعنوان لبنان، إذ يقول فيها: » و لأنت، قبل اليوم، مسرى النور في درب الليالي يأوي إليك الخير في الدنيا، و تحضنك المعالي، و لطالما لجأ الخلود إليك يطمع بالوصال ... فإذا البحار مراكب تجري و تهزا بالمحال تبني الشطوط مدائناً للفكر، بعد، و للجلال و تعلّم الإغريق و الدنيا أساليب المقال. أمل العروبة في يديك و إن تجاهلت الموالي ... تحمي بقايا النور في الشرق الجريح من الزوال و تظلّ للأحرار موئلهم على مَرِّ الليالي. لبنان، روحي عنك، يا وطناً تفرّد بالمحال فلأنت أوّل يعربيّ الوجه غربيّ الخصال « (26). آثرت أن أطيل المقطع الشعري، حتى تبرز معالم هذه اللوحة التي رسمها الشاعر لوطنه لبنان، و التي هي لوحة للحضارة الأوروبية التي يسافر إليها السندباد و رفاقه في قصيدة » السفر « السابقة، لكنّ هذه اللوحة لوحة عربية التأسيس، جمعت ما في الحضارة العربية من قيم جمالية، بالإضافة إلى حضارة أوروبا و خصالها. يسافر السندباد المعاصر إلى أوروبا، و يعود غانماً ظافراً، و تبدو الإشارة إلى هذه العودة السندبادية من أوروبا إلى لبنان، واضحة في قصيدة للشاعر يوسف الخال بعنوان » العودة «، إذ تحلم امرأة جميلة بعودة » سيّدها « محمّلاً بالذهب و الفضّة من مجاهل بعيدة، تجثم وراء قبرص و قرطاجنة، هذه المجاهل هي تحديداً مجاهل أوروبا و الغرب، إذ يعود هذا الحبيب » السيد « مكلّلاً بالجواهر الغريبة التي تضيء يديه و تاجه، و هذه الجواهر بدورها تشير إلى معطيات أوروبا الحضارية من فكر و فن و علم و معرفة. يعود هذا الحبيب بوجهه الشامخ كالجبل عميقاً، مليئاً بالمعرفة، و ثراء التجربة الفكرية التي اكتسبها من بلاد ما وراء قبرص و قرطاجنة، إنّها عودة سندباد فرد معاصر، مكتنز مليء بالرقي و الحضارة و كنوز المعرفة، لكنّها في النهاية هي عودة العرب اللبنانيين من أوروبا إلى لبنان. و في النصّ الشعري » تعيّن اللغة الشعرية إمّا شيئاً خاصّاً (ملموساً و فرديّاً، أو شيئاً عامّاً). بصيغة أخرى، (و) يكون مدلول اللغة الشعرية إمّا مقولة خاصّة (ملموسة و فردية) و إمّا مقولة عامّة حسب (السياق) .. «(27)، و هذه المقولة العامّة التي يريد الشاعر الخال أن يؤكّدها في قصيدته » العودة «، هي غنى و ثراء التفاعل الحضاري المثمر بين ثقافة لبنان و حضارته و بين حضارة أوروبا و معارفها. يقول في قصيدة العودة: » غداً يعود سيّدي. شراعه كغيمة بيضاء عند الشّفق. ... يعود، يا هلا ! من المجاهل الوراء قبرص الحبيبة، الوراء قرطاجنّة يعود لي: جبينه العريق وجه جبلٍ، و زرقة الخضّم، عمقه السحيق في عيونه - يعود لي. محمّلاً بالذّهب، بفضّة تُصاغ للهياكل ... محمّلاً يعود سيّدي بالعاج صولجان ملك، سريره بالجوهر الغريب خاتماً له، فرائداً لتاجه محمّلاً يعود سيّدي بالشوق لي، و الأمل «(28). و عندما يطمح الشاعر يوسف الخال إلى معارف أوروبا و حضارتها، فإنّه يقف أيضاً في سلّم هذه الحضارة مواكباً و ندّاً لها، فهو يرى أنّها حضارة العرب أيضاً، لأنّهم أسهموا في بنائها و ثرائها المعرفيّ عبر إحدى مراحل التاريخ الإنساني، يقول: » إنّ هذه الحضارة هي نحن بقدر ما هي هم. فقد أسهمنا في بنائها في مرحلة من تاريخنا و لن يكون لنا مستقبل ما لم نعد إلى الإسهام فيها من جديد. فالحضارة الإنسانية واحدة، و نحن ننعتها بالغربية أو الأوروبية لأنّ الغرب أو أوروبا قد أعطاها في الألف سنة الأخيرة أكثر مما أعطتها أيّة منطقة جغرافية أخرى، ثم إنّ هذا النعت شكليّ لا جوهريّ. إنّه تعبيري (...) إنّ الحضارة الغربية هي حضارتنا «(29). و يعتزّ يوسف الخال بحضارة لبنان و مجده قديماً، هذه الحضارة التي كانت دليلاً و هادياً للتائهين، و يكتب قصيدة بعنوان » نحن «، تذكّرنا بكلاسيكيات الفخر و المديح في تراثنا العربي الجاهلي و الإسلامي و الأموي و العبّاسي. يقول فيها: » نحن من نحن ؟ حقّ أن يسأل الناس فقدماً قد ضلّ عنّا الرواة غيرنا التائهون في حاضر العيش و في غيبه، و نحن الهداة يطمئنّ الفناء إن نحن أومأنا إليه، و تطمئنّ الحياة إن رضينا، فالأرض حبٌّ و خيرٌ أو غضبنا، فالأرض قفر موات ما أتانا المُحال إلاّ سألناه: أعفوٌ ما يبتغي أم حماة. نحن، يا صاحبي، حنين إلى ماضٍ و توقٌ إلى غدٍ و صلاة «(30). و هذه الدعوات إلى استلهام تراث و معطيات أوروبا الثقافية، و التراث الإنساني بشكل عام، كانت على أيدي أعلام مجلة شعر التي أسسها يوسف الخال في بيروت، و كان من أبرز أعلامها في تلك الفترة: بدر شاكر السيّاب، و أدونيس، و أنسي الحاج، و ها هو الشاعر أدونيس » علي أحمد سعيد «، أحد أعلام مجلّة شعر، يدعو إلى استلهام التراث الإنساني الذي ينتمي إلى حضارة يحددها ببلدان البحر الأبيض المتوسط، يقول(31): » إن الشاعر العربي المعاصر يعرف أن موروثه العربي ليس إلا جزءاً من موروث آخر أكبر، يريد هو إدخاله فيه، بغية أكماله، و تمكينة من أن يصمد بمواجهة الموت (...) المتوسط، إبتداء من قرطاجة مروراً بالإسكندرية و بيروت، و انتهاء بانطاكية، بعد أن يكون قد اشتمل على سومر و بابل (...) هذا هو الإطار الحقيقي الذي تثرى فيه مصادرنا الثقافية .. و من هذه الأصول العريقة تنبع التراثات «. و يمكن القول: إن الفكر الإنساني العربي المعاصر لا يتجدد و لا يكتمل بناؤه المعرفي بانفتاحه على حضارة المتوسط و أوروبا فحسب، بل هو بحاجة لأن ينهل من حضارات العالم المتعاقبة و المتزامنة كلها، إذ لا تستطيع أمة من الأمم ومهما بلغت من الرقي الحضاري و المعرفي أن تكتفي بتراثها و ثقافتها القومية الخاصة بها، و بالتالي فإن حضارة أوروبا و حضارة المتوسط - التي هي جزء منها - بحاجة ماسّة لأن تنفتحا على حضارات العالم القديم و الحديث حتى تصبحا أكثر كونية و شمولية و عمقاً معرفياً وإنسانياً، فحضارات أفريقيا السوداء و أمريكا اللاتينية، و الصين و اليابان، و غيرها هي حضارات لها تراثها الإنساني و الثقافي، و بتفاعل هذا التراث مع حضارة المتوسط و أوروبا فإنه سيزيدها ثراءً و عمقاً، وسيزداد في نفس الآن. و حضارة لبنان بالنسبة ليوسف الخال هي حضارة السحر و الجمال و الرقي، يقول في قصيدة » العودة « السابقة: » أنا الجمال: يا جداولَِ النبيذ جُدّلتْ على اللّجين يا شواطىْءَ العقيق، يا فمي ! نهدايَ لجّتان: في الجزائر العجابِ و الخليجُ نجوة، فيا زوارق احتمي ! هنا القفير عسّلت، و الكرم عنّبت ثماره .. حذارِ ! هذا حَرَمٌ لسيدي الحبيب، يا هلا ! من المجاهل الوراء قبرص، الوراء قرطاجنة يعود لي مكللاً بالظفر. بالله يا رياح لا تمهّلي: ... خوفي على الأسوار أن تهون، و الحياضِ ُتسْتباح بغتهً. بالله لا تمهّلي، ردّي الحبيب لي، ردّيهِ كالإله من غيابه: أحضنه، أغمره بقبلي و في نعيم جسدي أُسكنه للأبد «. (32) في القصيدة السابقة نلاحظ أن المرأة الجميلة التي تنتظر الفارس الحلم السندباد، القادم من وراء قبرص و قرطاجنة تصف نفسها بالسحر و الجمال و الشفافية، فهي الثمار و الشهد و العسل و النبيذ، و يمكن القول إن هذه المرأة الجميلة تشير رمزياً إلى لبنان بشموليته، بسحره و جماله و سحر شواطئه، و طبيعته الخلاّبة، و خيراته الوفيرة، و هذه المرأة التي ترى أن سحرها الأنثوي الأخّاذ حرم لسيّدها الحبيب السندباد، هي في البنية الرمزية العميقة تشير دلالياً إلى لبنان الوفي البارّ بأبنائه، الذي يرفض أن يكون تحت سيطرة الاستعمار، فخصبه و خيراته حرمٌ لأبنائه الأوفياء الذين يرتحلون إلى حضارات العالم، ثم يعودون لبناء مجده و حضارته، و لخوف لبنان من أن تستباح أراضيه، فهو يستعجل أبناءه للقدوم إليه، إنه سيحتضنهم في نعيمه و خيراته إلى الأبد. إننا مضطرون أحياناً لتأويل النص الشعري خارج بنيته النصّية، حتى يمكن فهم بنيته الرمزية البعيدة الايحاء، فالدلالات التي يفرزها النص الشعري لا تكتفي ببنية اللغة من حيث إشارتها إلى المعاني القريبة، بل إنها تُحيل إلى حقول مرجعية أخرى بفضاءات متعددة و نامية، يمكن أن تُفَسّر أكثر من تفسير، و تؤوَّل تأويلات من باحث إلى آخر، » و الحقيقة أن تأويل عمل أدبي أو غير أدبي لذاته و في ذاته دون التخلّي عنه لحظة واحدة و دون اسقاطه خارج ذاته، لأمر يكاد يكون مستحيلاً. أو هذه المهمّة بالأحرى ممكنة، لكنّ الوصف لن يكون إذّاك إلاّ تكراراً حرفياً للعمل نفسه. فهو يلاحق عن قرب أشكال العمل بحيث لا يكوِّن الاثنان إلاّ شيئاً واحداً. «(33). و يكتب الشاعر بلند الحيدري قصيدة معاصرة بعنوان: » السندباد في رحلته الثامنة »(34). تقول قصيدة بلند: »يا أنت المبحر يا أنت المتسائل عن ظلّ لك منسيّ في مدة شبر من أرض لا تطبق جفنيك حياءً من موتك مرمياً في قارعة الدرب. كل دروب الأرض سواء للموتى فافتح عينيك ... و مت كن في موتك أكبر من كفارة ذنب أكبر من أن تولد ميتاً في جنة كلبٍ موعود بعرائس من ذهب و جنان من كذب «.(35) . إنّ القصيدة تحمل نزعة مأسوية منكسرة و تشاؤمية، و يبدو السندباد المعاصر فيها يائساً من فضاءات الرحلة و دروبها. » كل دروب الارض سواء للموتى فافتح عينك ... و مت «. و يؤكد بلند الحيدري في حديث له أن سبب هذه النزعة المأساوية يعود إلى معاناته القاسية في علاقته بما هو اجتماعي و سياسي من حوله، و يقول: » أما دواويني (...) فكانت منفعلة انفعالاً شديداً و ملتصقة بكل ما يقع لنا اجتماعياً و سياسياً. و كان لي من جراء ذلك معاناة على جانب كبير من القسوة. «. و يضيف بلند(36) قائلاً: » و يحدد أحد النقاد الرؤية الاجتماعية في هذاه الدواوين بقوله إن بلند الحيدري كان يعبّر عن ألم الشخص المنكسر مع تفاهة المنتصر .«. و طالما أن الحياة المعاصرة في فضاءات البلدان ، بكل إشكالياتها الفاجعة و القاتمة، مرتع للكذب، فلماذا الخوف من الموت ؟ إنه حلّ جمالي و إنساني بدلاً من العيش في جنان كلابها الكاذبة. » أكبر من أن تولد ميتاً في جنة كلبٍ موعود بعرائس من ذهب و جنان من كذب «. و إلى آخر بلاد المعمورة يسافر السندباد المعاصر لكنه لا يجد إلا اليأس و الأحزان و الخيبة، يقول الشاعر: » إلى آخر نقطة ضوء في عينيه يمدّ يديه يقول: انتظري يا نجمة فجر مبلول بالدمع .. انتظري ها أنا ذا آتٍ من أقصى ما تملك مرآتي من ذكرى عن رجل أبحر في كل فجاج الأرض في كل سموات الدينا في كل سموات الدينا .. و بحار الدينا في كل الحب و كل البغض فما كانت إلا بحراً أصغر من قطرة أصغر من أن يوقظ الصحراء «.(37) . و من داخل فضاءات اليأس و الاحزان تبدو » نجمة الفجر «، التي يناجيها السندباد و يتأملها، و التي تشير رمزياً إلى المستقبل المشرق و كل المنى الجميلة، راعشة بالأحزان و الدموع، أي أنها غائبة أو متأخرة في الظهور، و المستقبل المشرق هو الآخر غائب، أو بعيد الظهور في فضاءات اليأس. و لذا نجد هذا السندباد الذي يسافر إلى كل فجاج الإرض و بحارها و فضاءاتها لا يجد إلا بحراً أصغر من قطرة، و كيف له أن يوقظ الصحراء ؟ فالمكان بكل شساعته، و وفق الرؤية الشعرية ما هو إلا صحراء ملفّعة باليأس و الإحباط،و هذه الصحراء أكبر من مساحات البحار التي تشير في الفضاء الشعري إلى الحرية و التوق و الثورة، و الفضاءات الرحبة المفتوحة، لكن الحرية في هذه الفضاءات الرحبة تظل أضيق من قطرة ماءوأصغرمنها، إذاً فالموت – في الرؤية الشعرية – أفضل من العيش في هذه الفضاءات، و ظلّ جنانها الكلبيّة، » و هكذا يبلغ ضياع الشاعر العربي قمّته، و ينتشر على كافة أصعدة و مراتب علاقته بالعالم الذي أصبح بفعل ذلك، مرادفاً لديه لـ » العبث« . و لايبدو الخلاص ممكناً هنا - حتى لو كان خلاصاً مؤقتاً - إلاّ فيما وراء هذه الشاشة الغائمة للعالم، و إلاّ في ملجأ التوحّد الانعزالي. إنّ العديد من الشعراء العرب، الّذين وجدوا أنفسهم مُحاصرِيْن برؤيتهم ذاتها، يقدّمون الانطباع بأنّهم ليسوا في حاجة للتواصل « (38) . إنّ الخطاب النقدي الذي أحاول من خلاله، أن أفسّر بعض رؤى الشاعر بلند الحيدري، قد لا يكون مصيباً تماماً في فكّ شفرات الرموز الشعرية، و لايدّعي أنّه مصيب، لأنّ النص الشعري شبكة نامية و معقّدة من الإيحاءات و الدلالات، يصعب تحديدها و ضبطها، و هي تحيل إلى خلفيات مرجعية تتعلق بالتاريخ و الأسطورة و الرموز، و الحالات النفسيّة و الاجتماعية و التاريخية الخاصّة بالشاعر نفسه. و » ما من شكّ أنّ النصّ الشعري الجيّد يثير أسئلة جديدة أمام النقد، فيخرجه عن سننه و تقاليده المألوفة، و يضع أمامه إشكالية المغايرة و التحوّل « (39)، و بالتالي فإنّ المعرفة التي يسعى النقد إلى تأسيسها ليست نهائية و لا مكتملة، لأن النص النقدي نفسه يمكن أن يفرز نصّاً نقديّاً مغايراً له، من خلال قراءة ثانية للنص الشعري، و لأن النقد نفسه لم يصبح عِلْماً متّفقاً عليه و له قوانينه النقديّة التي تضبط مصطلحاته ضبطاً دقيقاً. إنّه لا يزال في دائرة فنيّة، و علاقة هذه الفنيّة بالعلوم الأخرى.
و أكتفي في هذه الدراسة بهذه النماذج الشعرية التي عرضتها، و التي وظّفت شخصية السندباد الأسطورية توظيفاً غير مباشر. غير أن هنالك ملامح سندبادية أخرى مهمّة عند الشعراء الذين تناولتهم هذه الدراسة، و عند شعراء عرب آخرين، لا تتسع هذه الدراسة القصيرة لدراسة أعمالهم مجتمعة. و من هؤلاء الشعراء: عبد المنعم عواد يوسف، و مؤيد العبد الواحد، و نجيب سرور، و شوقي خميس، و نزار قباني، و عبد الوهاب البياتي، و معين بسيسو و آخرون. و إذا كان الشعر الأصيل يستفيد من الموروث الأصيل(40)، و يعيد تشكيله شعرياًً، وفق رؤية جديدة، تستثمر إمكاناته المعرفية، و الفنية الجمالية، فإنّ أهم الأساطير التي أُعِيْدَ تشكيلها في الخطاب الشعري العربي المعاصر هي أسطورة السندباد البحري، إذ أثّرت هذه الشخصية تأثيراً واضحاً في جميع الأجناس الأدبية الإبداعية العربية الحديثة و المعاصرة.
#محمد_عبد_الرحمن_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعض الملامح السندبادية في الخطاب الشعري العربي المعاصر الحلق
...
-
محمد عبد الرحمن يونس للثقافية: ألف ليلة وليلة لفناني العالم
...
-
الأستاذ الجامعي والجامعات العربية المعاصرة
-
عداوة الشعر الحديث
-
شتاءات في المنفى قصة قصيرة
-
السياسيون وشهادة الدكتوراه
-
السرد بين النظرية والتراث
-
ذكريات مع الراحل الدكتور أسد محمد
-
العدد الواحد والتسعون من مجلة الكتب وجهات نظر
-
العدد الجديد من مجلة الكويت عدد حزيران يونيو 2006م
-
لمحة تاريخية عن مدينة القاهرة
-
الفضاء الروائي و المرأة في الرواية اليمنية المعاصرة
-
حوار مع القاص والروائي والباحث د. محمد عبد الرحمن يونس
-
في حوار حول الثقافة والأدب والسياسية في الصين
-
سفر قصة قصيرة
-
الشعر العربي المعاصر بين الوطن و المنفى
-
مدخل في الأسطورة و أهميتها
-
الأسطورة في الشعر والفكر
-
كوابيس
-
العلاقة بين الكاتب العربي والناشر العربي
المزيد.....
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
-
محكمة مصرية تؤيد سجن المعارض السياسي أحمد طنطاوي لعام وحظر ت
...
-
اشتباكات مسلحة بنابلس وإصابة فلسطيني برصاص الاحتلال قرب رام
...
-
المقابر الجماعية في سوريا.. تأكيد أميركي على ضمان المساءلة
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|