|
الحضارة الشرقية غنية بأشكال ما قبل المسرح
عادل محمود
الحوار المتمدن-العدد: 1909 - 2007 / 5 / 8 - 08:25
المحور:
الادب والفن
المخرج المسرحي العراقي د.فاضل سوداني : الحضارة الشرقية غنية بأشكال ما قبل المسرح .. حاوره : عادل محمود
كتب الدكتور فاضل سوداني في المسرح عن عزلة الانسان العربي في مجتمعه عندما يكون اداة في نظام يشيىء الانسان ويحوله إلى آلة للتدمير والعنف، لذا يصر بأن المسرح يتطلب وعيا شاملا بمشاكل الانسان وتشعبات الحياة. يجد ان التناقض بين ثقافة الفنان وثقافة المنفى يحدث عندما يعيش الفنان الاغتراب المفروض عليه بعيدا عن بيته الأول فينبت الوعي وعن تلك العوامل التي شكلت وعيه الفني والجمالي ولكن المنفى يفرض حالة من وهج الثقافات واعتنائها لانه يعتمد على وعي الفنان ذاته في اعطاء مهمته الفنية بعدا جديدا يؤدي إلى أن تتحول غربته إلى تاريخ جديد من الإبداع مضيفا ان الفنان غريب دائما بالمفهوم الوجودي ولهذا فان الإبداع فقط يجعله منسجما من جديد مع ذاته اولا ومع الآخر ثانيا. فاضل السوداني.. مخرج مسرحي وباحث اكاديمي عراقي مقيم في الدنمارك أستاذ جامعي وباحث أكاديمي في الفن حاصل على دكتوراه في الاخراج والعلوم المسرحية، وهو المدير الفني لفرقة (مسرح البعد الرابع) في كوبنهاغن. وعضو الجمعية الملكية للمؤلفين المسرحيين الدنماركيين وعضو نقابة المخرجين المسرحيين الدنماركيين وعضو الهيئة العالمية للمسرح (باريس)، وعضو جماعة المسرح والتراث (القاهرة) كما يعمل باحثا حرا في الطقوس الدرامية والفن الشرقي في معهد تاريخ البحوث المسرحية جامعة كوبنهاكن. اخرج الكثير من المسرحيات أهمها: دانتون.. جورج بوشنر/ انتغونا.. جان كوكتو / انغولا.. بيتر فايس / جلجامش../ والسياب(رؤية بصرية) ومساء الخير ايها السيد فان كوخ/ الرحلة الضوئية/ رؤيا/ لفاضل سوداني. كتب مسرحيات أغنية الصقر، الاخطبوط، الغرف الزجاجية، النزهات الخيالية عن الفيلسوف سورن كيركجارد، مساء الخير ايها السيد فان كوخ، الرحلة الضوئية، الصور الحية، النزهة، الضيف، وله تحت الطبع كتاب حول الطقوس الدراسية في تراث الشرق القديم، وآخر حول البعد الرابع للزمن والفضاء في العرض المسرحي. تاليا حوار مع السوداني: _ غنيت للصقر في الصحراء فخرج من الغرف الزجاجية موكبك في النزهات الخيالية عبر رحلة ضوئية في مساء فان كوخ .. هل توصف لنا مواسم تكوين مطرك فوق حقول دفاتر ابداعك في المسرح ؟
إن المشروع الفني لأي فنان هو زمن يسمح بطرح سؤال جوهري، قد لا يكفي عمر الفنان لمعالجته.
لكن الاغتراب الذي عشته ومازات لمدة 29 عاما تاثيره الكبير حيث تتغير الكثير من المفاهيم ، لكن انفرادات الروح التي تاسست في الوعي الاول وامام الباب الاول وفي المحلة الاولى لابد ان يكون لها تاثيرها الايجابي ايضا وضمن هذا كتبت نحوثي المسرحية ودراساتي النقدية، أو نصوصي المسرحية والتي أخرجتها برؤى حاولت من خلالها الوصول إلى مفهومي عن النص البصري، والبعد الرابع، والتفاعلية بالتلقي، و الذاكرة الجسدية المطلقة للممثل، وذاكرة الأشياء. إنه أسلوبي في العمل الذي يعتمد على نظرة خاصة ليس للحاضر وإنما للمستقبل و الماضي أيضا الذي يشمل ماضي الإنسان وقلقه التاريخي وغموض التاريخ المكتوب دائما بانحياز. ومن جانب آخر كانت تقلقني ـ أيضا ـ علاقتي كإنسان معاصر ، بالأزمة الإنسانية للآخر،وشموليتها،بغض النظر عن البعد الزماني والجغرافي ، كما هو الحال في كتابتي لمسرحية "مساء الخير أيها السيد فان كوخ"، أو مسرحية "النزهة "، وكذلك مسرحية " الرحلة الضوئية"، أو مسرحية" النـزهات الخيالية ". وفيما يخص علاقة الفنان بالتاريخ يحتاج الامر الى قراءة جديدة .انطلاقا من هذا فإنني عالجت علاقتي بالتاريخ السومري والبابلي مثلا ، من خلال قراءتي المتحررة لملحمة "جلجامش" أنتجت مسرحيتي "أغنية الصقر" . وطرحت على نفسي السؤال التالي : كيف يمكن النظر إلى العلاقة بين الذات المعاصرة و التاريخ وبين العنف، والحرية كمفردات معاصرة يمكن أن نعثر عليها في التراجيديا أو الملحمة ؟ فمن أجل الإجابة عنه، اتجهت نحو معالجة موضوعة تراجيدية البطل الملحمي، وجحيم الحرية بوعيها المعاصر، كالتباس من جانب، والتزام من جانب آخر، وكذلك انعكاس العنف كسلوك يميز حياتنا المعاصرة كان من الضروري إعادة تفسير النص التراجيدي و الملحمي القديم ( واعني ملحمة جلجامش ) ،والنظر إليه وقراءته من فضاءاته الخفية الأخرى ، بحيث نتعمق في تفسير مصير البطل ضمن التباسات الوجود الملحمي والمعطى المعاصر.وهذا يفرض بالتأكيد، وعيا بنائيا، تأويليا ودراميا للأحداث حسب مفهومي البصري. فحاولت التعامل والغور بحرية في المتن المتشابك والمعقد لأهم ملحمة منحت البطل إمكانية طرح الأسئلة المصيرية (ملحمة جلجامش )،كنص ملحمي متفرد عصي على الفهم ،أحيانا، يخضع لفانتازيا الامتداد الأسطوري،مبتعدا عن مقصلة المنطق واليقينيات.وقد أدى هذا إلى انبثاق نص مسرحي امتلك حريته وديناميكيته بعيدا عن الفضاء الملحمي، وهو نص أغنية الصقر (إصدار دار الحضارة الجديدة سابقا ـ الكنوز الأدبية بيروت) التي عالجت جلجامش كبطل يحمل قدره ويتصارع مع ظلامية عصره ، لكنه كان معذبا من حريته أيضا ، وكان الجوهر الذي يمتد على طول المسرحية هو الحرية والاختيار . ومن أجل أن يتحقق الوعي الملحمي المعاصر في "أغنية الصقر"، لم أعتمد على تفاصيل الأحداث والشخصيات، كما أكدها الشاعر الملحمي القديم ، بل عمدت إلى إتباع أسلوب التناقض ، بمعنى استخدام بعض أحداث الملحمة والتناقض معها، وإبقاء بعض شخصياتها ، مع التغيير الجذري لمصائرهما، وأهدافهما وخلق شخصيات جديدة ، ومسك اللحظة الزمنية المعاصرة التي تؤدي إلى الإبداع الدرامي البصري . فتطور شخصية جلجامش الجديدة في النص المسرحي، شمل بعدا آخر ، فهو لم يعد بطلا أسطوريا وملحميا، نصفه إله ،ونصفه الآخر إنسان، كما في الملحمة .وإنما هو ابن ملك مازالوا يهيئونه للعرش ، فهو إذن شاب قليل التجربة أيضا ، يعيش وسط مجتمع مدنس يقدس قيوده وعبوديته، ومسكون بالخوف من سلطة قصر ملئ بالوجود المزيف يقوده الملك( والد جلجامش)،وأركان سلطته الإرهابية من الجهلة وعلى رأسهم الكاهن( الطاعون و العقل المعدي والمتكيف للشرور). فمن أجل أن يتوحد جلجامش مع ذاته، ويمارس وجوده الخالص والمكثف، عليه أن يكتشف أسرار فضاء الوجود الملوث الآخر الذي يحيط به، عندها يرى سبب ويلات مدينته هو القصر ـ كسلطة . فكل من جلجامش بوعيه المعاصر ( الحرية المعاصرة ) و الملك يمثلان زمنين مختلفين،لكن لهما فعلهما الخاص الذي تفترض الضرورة الوجودية أن يدافع كل منهما عن زمنه . وزمن جلجامش يعني وعيه الحر، ورحلته المصيرية، ولكن ليس في طلب الخلود، كما في الملحمة، وإنما لممارسة فعل حريته الواعية ،وهذا يعني أن الذات مسكونة بحريتها من أجل الوصول إلى الحقيقة الذاتية ومواجهة الوجود المزيف ، وتمسك جلجامش بحريته في ذات الوقت يحثه ويقربه من مصيره المحتوم ـ بوعي منه ـ أي يقربه من الموت ..تلك البومة القدرية بعينيها الناريتين. إن جلجامش يجب أن يقتل، لأنه رأى وهج الحرية وشعاعها،فسمح لنفسه بالتحرك في فضاء أوسع من ذلك الذي حدد له ، لذلك فالملك ( والد جلجامش )، يسند مهمة قتل ابنه إلى الكاهن (الأب الروحي الآخر والمنفذ الفعلي لنتائج مقصلة منطق السلطة)، فتبدأ عملية استهانة رجال السلطة بكل القيم الإنسانية تاريخيا،ويصبح جلجامش صدى للفكر البنائي العالمي المتمرد ، فيتهمونه بسرقة النار المقدسة ، ويدينون دعوته بدوران الأرض حول الشمس ، وإيمانه بأن الملكية الخاصة سرقة ، وبحثه الدائم عن الحقيقة بوعي أعمى عندما يمسك مصباحا وسط الظهيرة ودعوته بأن الوجود مرتبط بالوعي . ولهذا فإن جلجامش المعاصر كبطل جديد يجتاز حواجز المكان والزمان ، فهو اختزال للعقل البشري وشمولية الكينونة الايجابية التي تدعو إلى الفعل الثوري التمردي تاريخيا، و في هذا العالم .إنه اختزال لبطولة بروميثيوس، والعقل التركيبي لجاليلو، وحب ديوجين وديكارت للحقيقة ، وجنون وعبقرية نيتشه من أجل الإنسان الحلم ، وقدر المسيح في حبه للتضحية ، وهذه هي مجمل الخطايا التي يذنبون جلجامش بها،.إنه بطل يمكن أن يوجد في كل العصور، لكنه مرفوض في كل العصور أيضا. وإذا حاولنا أن نحلل البعد السيميولوجي للزمن الأسطوري في فضاء هذا النص المسرحي البصري، لاكتشفنا ما يؤكد على وجود أزمنة ثلاث للحدث ، حيث هنالك تداخلا وتلامسا واعيا ومقصودا للأزمنة ، لذا فان الأحداث تخضع لزمنها الإبداعي، الذي يشبه زمن الحلم، وليس الواقعي. وهذا يعتمد على تحقيق ما أطلق عليه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في النص والعرض البصري.وإذا كانت الملحمة البابلية القديمة قد عالجت جلجامش كفعل باحث عن الخلود ، فإن مسرحية "أغنية الصقر" تناقضت مع هذه الموضوعة، وأوجدت بديلها المعاصر .كما في الحوار التالي : ( جلجامش : إن مانبغيه ليس الخلود وإنما وسيلة العيش في هذه الحياة ، حتى وإن كان الطريق إلى هذه الغاية هو الموت ذاته . المهم هو الحيوية وليست الحياة.الأبدية... نعم ليست الحياة الأبدية ) إذن جلجامش هنا يفضل الموت على الحياة بدون حيوية ، بدون وعي ، ولهذا فإنه لا يقوم برحلته من أجل الحصول على " زهرة الحياة "، وإنما يقوم بهذه الرحلة بداخل ذاته ووعيه وماضيه وحياته وحياة الآخرين من أجل اكتشاف المعنى الحقيقي للحياة ، وفي جانب آخر عالجت موضوعة الحرية والذات الأخرى أيضا، فكتبت مسرحية "الرحلة الضوئية"برؤيا مختلفة للتعبير عن طقس مسرحي بصري عن رؤى فان كوخ (العنف وأمل الإنسان في التطهير )،وأخرجتها برؤى إخراجية متنوعة ومختلفة، سواء كان ذلك باللغة الدنمركية ( لجمهور دنمركي ) أو العربية ( للجمهور العربي ) وسيطبع النص قريبا ، وقد ترجمت المسرحية إلى الانكليزية كجزء من متطلبات الدراسة للباحثة سميرة تاريستي في معهد اللغة الانكليزية ـ قسم الدراما في جامعة تطوان في المغرب وتحت اشراف الدكتور خالد امين . إن الوعي الشامل في تحقيق رؤيا معاصرة لتراجيديا الكائن الانساني عموما ، وخاصة في علاقة المثقف او الفنان بعصره انعكس على كتابتي وإخراجي لمسرحية ( الرحلة الضوئية ) ، ففيها تناولت شمولية المشكلة . و في هذا النص حاولت تحقيق مفهومي حول النص البصري في الكتابة، واعتماد رؤيا إخراجية لتأكيد ما ورائية الأحداث وانعكاسها على واقعنا، إنها لغة لها علاقة بميتافيزيقا العنف، وميتافيزيقا ذاكرة الجسد المطلقة.إزاء هذا نحتاج إلى مسرح مغاير، وإلى مفهوم مسرحي يرى العنف والجمال والتطهير برؤيا تتناسب مع حجم خراب الإنسان وضياعه المعاصر. وبالتأكيد فإن تأسيس عرض مسرحي بهذا المفهوم سيبتعد عن تقديم حياة فان كوخ كسرد تاريخي، و سيتعمق في تلك الرؤيا التي تسببها نوبات الوجد الوحشية التي يعاني منها الفنان جراء العنف الاجتماعي الذي يمارس ضده ، وسيتعمق في أحلام الفنان ، وفي تلك الرؤى القلقة التي توجد صداها في العنف وفي الفوضى الكونية ، وفي ذلك النور المتوهج الذي يضئ روح الفنان وأرواحنا ليطهرنا كشهود على انهيار الحضارة. إذن من أجل تقديم عرض مسرحي بصري عن الإنسان والعنف،احتوى النص على طقوس بصرية عديدة ، وهذا النص هو محاولة للكشف عن النص البصري الذي يكتب للعرض وليس للقراءة ويؤَول كشفرة تؤسس بصرية الذاكرة الجسدية المطلقة للممثل وبصرية العرض المسرحي المستقبلي . وحول ذات الموضوعة كتبت مسرحية النزهات الخيالية وهي عن علاقة الفيلسوف الدنماركي سيرن كيركجاردبثقافة عصره ومجتمعه.اذن الموضوع يمكن ان ينعكس على علاقة أي مثقف بما فيه النثقف العربي. ومثل هذه العلاقة تمتل معاصرتها وخاصة في الوطن العربي ن في ظل نهيار القيم والثقافة وشيزوفرينيا الذات العربية عموما وخاصة الذات المثقفة . اما مسرحية ( النزهة ) فهي عن عزلة الانسان العربي او العراقي في مجتمعه عندما يكون اداة في نظام يشيئ الانسان ويحوله الى الة للتدمير والعنف . اذن المسرح يتطلب وعيا شاملا بمشاكل الانسان وتشعبات الحياة .
_ ترجمت لك مسرحيات إلى الدنماركية .. كيف تقيم صدى تذوق الجمهور لها ؟ يحدث التناقض بين ثقافة الفنان وثقافة المنفى عندما يعيش الاغتراب المفروض عليه بعيدا عن بيته الأول ، منبت الوعي التأسيسي،وعن تلك العوامل التي شكلت وعيه الفني والجمالي ،ولكن بالرغم من هذا، فإن المنفى يفرض حالة من دمج الثقافات و إغنائها. وبالتأكيد فإن هذا، يعتمد على وعي الفنان ذاته في إعطاء مهمته الفنية بعدا جديدا يؤدي إلى أن تتحول غربته إلى تاريخ جديد من الإبداع في مكان وزمان جديدين. وهذا هو جوهر مهمة الفنان في اغترابه . إن ضرورة هذا الوعي، تحتمه طبيعة المجتمع الأوربي التجريدية ، لأنها تفرض على الفنان قيما جديدة لا تشكل ذات الاهتمامات الفنية للفنان سابقا والتي يحاول الفنان من خلالها معايشة الوجود والالتحام المصيري ، فتنشأ فوضى التناقض ، ويبدأ التصادم بين القيم الثقافية والحضارية التي تشكل وعيه الفني، وبين تلك التي تميز ثقافة المنفى،وعليه أن يحافظ على خلفيته الثقافية حتى يستطيع أن يتوصل إلى التفرد و إنقاذ فنه. وهذه قضية أساسية ، لأن معايشة المنفى الأوربي الجديد في سنوات الاغتراب الأولى، تخلق حالة من الانبهار والاندهاش،بسبب بهرجة الحياة الجديدة التي تصيب الفنان بالتوهان،وبلا وعي منه ينجذب إلى الحياة الاستهلاكية، فتخبو جذوة الروح، و تنطفئ شعلة النار التي اختزنها الفنان في روحه، فيخضع فنه لمتطلبات تجارة السوق في مجتمع المنفى الاستهلاكي،أو يجبره لمعان الذهب على التحول إلى تاجر، كما حدث للكثير من المبدعين في الغربة ، لأن الأشياء المستهلكة ، تصبح هي الجوهرية في مجتمع الوعي الاستهلاكي، فيتأثر الفنان بهذا التشيؤ ، ويصبح تأثيره كفنان حقيقي كالذي يعزف على طبل مثقوب . وهنا تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته أيضا،وعلى عكس هذا،فإنه يفقد مصباح النور القدسي الذي عثر عليه في أحد دروب الدنيا المليئة بالأسى. فالفنان غريب دائما ( بالمفهوم الوجودي )، ولهذا فان الإبداع ـ فقط ـ يجعله منسجما من جديد مع ذاته ـ أولا ـ ومع الآخر ـ ثانيا ـ . ويجب أن نفهم العمل الإبداعي الذي يقدم إلى جمهور أوربي من زاوية أخرى، حيث أن بعض الفنانين العراقيين والعرب مصابون بهوس الجمهور الأوربي، أي أنهم يعتقدون أن تقديم عروضهم أمام جمهور أوربي يخلق عالمية الفن والفنان ، كما يجاهد بعض الفنانين العرب في استجداء العرض في أوربا، بدلا من بذل الجهد في إمكانية اكتشاف الأسئلة المصيرية التي تقلق الفنان والجمهور، وكذلك العمل على غنى أدواته الفنية ولغة خطابه الفني، بلا ثرثرة فكرية و فنية أو عاطفية وبلا سذاجة تجريبية.فاكتشاف الأسئلة الجوهرية التي تمس مصير جمهوره ومجتمعه هي التي تخلق عالمية الفكر والإبداع. وبالتأكيد، فإن كل هذا يؤثر على رؤية الفنان، بل أحيانا، تتغير جذريا،فمثلا يمكن أن تدخل مفردات ومفاهيم جديدة على اهتماماته.وبما أن الفلسفة والثقافة الغربية وبالذات الفرنسية المعاصرة تمتلك القدرة الشمولية في سبر أغوار النفس والحياة والعقل البشري ، فلابد إذن، أن يكون هنالك تأثير ما ، ولابد أن يعمد الفنان لمعالجة مشاكل الإنسان بشمولية كبيرة ذات فضاء واسع،فيصبح اهتمامه ليس في الإنسان ـ فقط ـ وإنما يضاف لها كل ما يتحرك في محيطه وفضائه، فالمسرح يهتم بالإنسان، إضافة إلى اهتمامه بأشيائه أيضا، أي تلك الأشياء التي تقلقه ،وهذا واضح في الثقافة الغربية، وكذلك الحال في الرسم بحيث امتلكت الأشياء وجودها في فضاء اللوحة وامتداد معناها خارج هذا الفضاء .ولكن هذه الأشياء لا يمكن أن تتكامل، أو تمتلك كيانها ومعناها في فضاء اللوحة،أو في الفضاء المسرحي إلا بجانب الإنسان ومن خلاله فقط، فتبدو علاقتهما أزلية . مثل هذا المفهوم يسمح بتقبل الجمهور الاوربي لحساسية الفنان الشرقي عندما يغترب ويعالج المشاكل من هذه الزاوية . ولهذا استقبلت من قبل الجمهور مسرحيتي (الرحلة الضوئية ) او مسرحية (مساء الخير ايها السيد فان كوخ ) مثلا
3 _ ما هي مقومات النهوض بدراما المسرح العربي للنهوض به من حالة ركود ؟ هذا السؤال يدفعنا الى تشخيص طبيعة العلاقة بين المسرح والمدينة العربية، وهل هنالك حقا وجود لهذه العلاقة ؟. أم أن هنالك وهما وادعاء دعائيا واعلاميا للسلطات ذاتها. وبما أن الأنظمة العربية تكره الفن والجمال، وتخاف من علاقته بالمدينة ، نتيجة لجماهيريته، فإنها إما أن تكيفه مع أهدافها الإيديولوجية والسياسية، وبهذا فإنها تقوم بالتشويه الفكري ، وإما أنها ترفضه بحجج دينية سلفية كما ذكرت سابقا . ولهذا فليس هنالك علاقة مصيرية بين الفن والمدينة العربية لان تطور المسرح وتكامله فكريا وجماليا يفرض مقدمات جوهرية تؤثر في المدينة كمجتمع والإنسان كفرد برغم تعقيدات التطور الاجتماعي . وأهم هذه المقدمات هي الديمقراطية الاجتماعية ، وحرية الفنان و الذات ككائن بشري مبدع فاعل ، بما فيها حرية الاكتشاف والتجريب في الفكر والفن وشتى أشكال الوعي الثقافي . فالمدينة المتحضرة التي تحتم مقدمات التكامل الاجتماعي، ويشكل التطور العلمي والفكري والثقافي أساس وجودها اليومي ، بالتأكيد ستكون مدينة مستقبلية ، ويوتوبيا ، ومدينة الحلم ، والفردوس . إنها المدينة والمدنية التي تؤثر على المتعايشين في فضاءها الديناميكي . وبما أن المسرح قضية حضارية أساسا، فإنه ينشأ ويتطور في المدينة الحضارية، وتحتمه تكاملية المجتمع المديني . ولهذا فإن أي تفكير بجوهر وماهية المسرح، هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية ـ جمالية وفينومينولوجية ـ ظاهرا تيه ـ أيضا .. وبالرغم من ارتباط المسرح بالمثيولوجيا والطقوس الدينية لمختلف المجتمعات القديمة ،إلا أنه كان ـ ومازال ـ يعبر بشكل بصري عن التصورات والأسس الفكرية والفلسفية والمشكلات الاجتماعية للمدينة والإنسان . إن الالتباس الذي يعيق تطور المسرح العربي الآن، ويخلق جوهر أزمته، هو أن المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح،لأن المتعايشين في المدينة منشغلين عن المسرح بأمور أخرى ، إما أن تكون إيديولوجية ،أو سياسية ،أوفكاهية تخديرية ،وإما أن الأنظمة التي تسير هذه المدن تعتبر المعرفة الفكرية والجمالية شيئا ثانويا . وعكس هذا فإن المسرح، لا يمكن أن يوجد، ويكون ديناميكيا إلا في قدرته على إثارة الأسئلة الجوهرية والمصيرية في عصر تكنولوجي جديد. إضافة إلى أن المسرح يشكل بالنسبة للمدينة خطورة جوهرية، لأنه يخلق التجمعات، ويثير الأسئلة، وينتج وعيا جديدا، ويقوم بعدوى المعرفة، لهذا فإنه يعد هامشيا في صلب برنامج النظام الذي يقود المدينة العربية. والجانب الآخر الذي يمتلك أهميته، وتفرضه لغة المسرح وطبيعته الفنية ، هو تغيير العلاقة مع الجمهور المتلقي ليتحول إلى متفاعل، و يقوم بفعل المشاركة كما كانت عليه وظيفته في الطقوس المسرحية قديما . هنا تكمن ضرورة إعادة معمارية السرد الرؤيوي والفكري للطقس المسرحي في المدينة العربية المستقبلية، من هنا كانت دعوتي لكتابة النص البصري الذي يفرض على المؤلف العربي ان يكف من الاستمرا ر بكتابة نص ادبي يعتمد الكلمة فقط والثرثرات الافكرية وعدم طرح الاسئلة المصيرية ، ويبتعد عن بصريات العرض . ان اعتماد بصريات النص كتابة من قبل المؤلف ، واعتماد الرؤيا الاخراجية البصرية من قبل المخرج البصري سيساعد على إمكانية لاستعادة مجد المسرح حتى يصبح له ارتباط عضوي بحياة الجمهور كما كان عليه المسرح اليوناني القديم . أو خلق تلك العلاقة الحميمة المتجذرة بالمدينة، كما في مدينة القرون الوسطى الأوربية .
4 _ حدثنا عن مشاركتك في كتابي ( تأثير برخت في المسرح العربي ) وكتاب ( فن خيال الظل ) مع مجموعة من الباحثين الاوربين لمعهد العلوم والبحوث المسرحية _ جامعة كوبنهاغن ؟ ان تكون بين باحثين مختصين اصحاب تفرد بحثي وفكري ليس بالامر الهين ، وبالتاكيد فان هذا يحتم على ان تتناول الموضوع من زاوية جديدة متميزة سواء تأثير برخت في المسرح العربي او مميزات خيال الظل في المجتمع العربي بالرغم من هذا كونه لا يخلق هوية منفردة للمسرح العربي . اذن ماهي هذه الميزات . بدا يمكن القول بان الفنان العربي يجد نفسه قريبا فكريا من المسرح الاوربي المعاصر الذي يهتم بتراث الشرق وخاصة مفهوم المسرح الملحمي والتغريب للمنظر والمخرج الالماني برتولد برشت واستخدامه للتراث الآسيوي والشرقي عموما . فمسرح برشت وبالذات مفهوم التغريب والرؤيا التاريخية والوعي الجدلي للمفاهيم يمكن أن تخدم جمهور المسرح في الكثير من الدول العربية بسبب الاوضاع السياسية التي تحرم الانسان العربي من حريته والعيش في مجتمع الديمقراطية ، وكذلك فان مسرح برشت فيه الكثير من التعلمية التي يحتاجها المسرح الواقعي العربي . اما من ناحية الشكل فان التاريخ والحضارة الشرقية غنيتان بتنوع الأشكال التراثية الملحمية واشكال ماقبل المسرح والتي يمكن ان تخلق تواصلا فعالا للجمهور مع المسرح.
وبالرغم من ان برشت يعتبر ظاهرة أوربية وان المفاهيم الفكرية والمشاكل الاجتماعية التي عالجها تتعلق بالمجتمع والانسان البرجوازي الاوربي ، إلا ان الجمهور العربي يمتلك تلك المقدمات التي يمكن من خلالها ان يتفاعل مع مايراه سواء كان مسرحا أم حكاية ، لان الكثير من الطقوس والملاحم العربية لها طابعها الملحمي القريبة من أحلامه وتاريخه ، وتتميز ايضا بالعلاقة الحميمية المفتوحة نحو الاخر . وهذا بالتأكيد يؤثر على القيم الجمالية والفنية. وبما ان الفن ينشا لتلبية الحاجات الاجتماعية ، فمن السهولة ان نكتشف في الفعاليات الفنية والثقافية تلك العلاقة التي تتسم بالحميمية بين المؤدي والجمهور سواء كان ذلك في الطقوس الدينية او الفعاليات الفنية والاجتماعية . اذن هنالك الكثير من الممهدات التي هيأة المسرح والجمهور العربي لاستيعاب ظاهرة المسرح ومن ثم تقبل المفاهيم المسرحية الملحمية .
ان الحياة الثقافية في الشرق القديم اعتمدت على الحكاية والراوي ( الحكواتي) الذي يسرد قصصا تاريخية واقعية او اسطورية متخيلة مشحونة بالحكمة الاجتماعية والفلسفية المستقاة من التراث . وعندما استخدم برشت وسائل المسرح الاسيوي ( وخاصة الاغنية والراوي ) فانه كان واعيا بأهمية هذه الوسائل في خلق العلاقة الجدلية بين عناصر العرض الملحمي ، وهي تشكل اساس تمايز التراث الشرقي. وضمن مفهوم برشت للمسرح الملحمي ودور الراوي في العرض المعاصر الهادف الى المتعة والمعرفة يمكن ان نكتشفها بجذورها البدائية في الاشكال التراثية الماقبل المسرحة في التراث العربي وبهذا فان برشت منح الفنان العربي كيفية البحث في اشكاله التراثية من اجل خلق خصوصية مسرحه المعاصر ، وهو بالذات دفعنا الى الإهتمام بالحكواتي كشخصية مسرحية درامية في المسرح .
لكن الطقوس التي لها علاقة بالدرامية والاحتفالية والفرجة هي طقوس كانت تمارس لوقت قريب مثل خيال الظل والحكواتي ، وكذلك التعزية وغيرها ، باعتبارها طقس ديني ودرامي يخلق الفرجة الشعبية التي تتحقق من خلال العناصر الدرامية الموجودة في هذا الطقس الذي يذكرنا ببعض الطقوس التراجيدية البابلية أو اليونانية القديمة.
وتعتبر هذه الطقوس تعبيرا ديناميكيا عن طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع العربي و الإسلامي القديم، لأنها تعكس الواقع بكل قسوته، وتشير إلى المشاكل السياسية والاجتماعية مما يُغني ويحفز الرغبات الداخلية المشحونة بالمواقف النقدية التي يتبناها الإنسان في علاقته بالسلطة، لكن من خلال التركيز على الجانب ألا متاعي والترفيهي والذي يعد تذوقا جماليا متماشيا مع مقاييس المجتمع القديم .وبالتأكيد فإن هذا هو السبب الأساسي لديمومتها في حياة المجتمع الشرقي بالرغم من تعرض القائمين عليها لأشكال مختلفة من الاضطهاد والمنع .
وقد تاثر الكثير من المخرجين والكتاب العرب الذين اهتموا بنقل التراث العربي الى المسر المعاصر واستخدموا الحكايات والطقوس التراثية من مختلف المصادر العربية الغنية دراميا مثل الفريد فرج وعبد الكريم برشيد وسعد الله ونوس وعادل كاظم والطيب الصديقي وغيرهم وعلى النقيض من هذا لعب العقل البر يشتي المؤدلج والمشاكس دورا كبيرا في تأكيد الأيديولوجيا في المسرح . ولهذا فان مؤلفي ومنظري ومخرجي هذا الاتجاه أعني المسرح الملحمي البر يختي والمسرح الطليعي (أو اللامعقول أو مسرح العبث ) وبعدها التجارب والتيارات المسرحية الآنية الأخرى
وبالرغم من ان جميع الدراسات التي كُـتبت عن خيال الظل تؤكد، على أن موطنه الأول هو بلدان الشرق القديم حيث امتدت جذوره التاريخية إلى الهند والصين، وفي اليونان تمتد جذور الكراكوز إلى التاريخ الإغريقي القديم مثلا الا ان المجتمع الاسلامي والعربي القديم عرف هذا النوع من المسرح واصبحت له مميزاته وتقنياته.
ولهذا فان خيال الظل لا يشكل جوهر تأصيل المسرح العربي المعاصر ولايخلق شكلا مسرحيا تعبيريا يتماشى مع روح العصر ويستلهم مشكلات حقيقية ومصيرية يعاني منها المجتمع العربي . لانه جزء من الماضي والتراث وان دعوة سعدالله ونوس في انشاء متحف لهذا الفن ، تقدم فيه باباته كما كانت تقدم في الماضي ، هي دعوة صائبة (وبهذا نحفظ فنا ، كما حفظت البابات مسرحها القديم ) او ان يقدم في المقاهي التراثية كشكل مسرحي تراثي .
ومن جانب آخر فان الطقوس الدينية المعروفة بالتعزية وبالذات ( التشابيه ) والتي مازلت تقام حتى اليوم في إيران والعراق ولبنان ، أهمية خاصة لأنها تقترب من مسرح الفرجة والعرض الشعبي، و بالرغم من طابعها الديني إلا أن طبيعة العلاقة بين الجمهور والمؤدي تعتمد دائما على تغريب الحدث والشخصية ، مع إمكانية تميزنا لملحمية الأحداث أيضا .
وتعتبر التعزية أحد اقدم المراثي الدرامية في العالم الإسلامي التي يمكن استخدام بعض تكنيكها الفني في المسرح المعاصر . وقد نشأت التعزية منذ ما يقرب من ثلاثة قرون تقريبا وتعرضت دائما للمنع من قبل السلطات لأسباب دينية وأخرى سياسية .(( وقد نجد للتعزية معادلا في المسرح الأوربي وخاصة في المسرحيات الدينية المسماة ـ الرغبات الربانية ـ . وتقارن التعزية أحيانا بالتراجيديا اليونانية ، أما البعض الآخر فيؤكد على تشابه نصوص التعزية مع بعض النصوص الدينية البابلية .)) ويمكن مقارنتها بمسرحيات الأسرار الدينية Mysteries أو المسرحيات الأخلاقية Morality Plays التي كانت تعرف في أوربا في القرون الوسطى . ويمكن دراستها في الوقت الحاضر على اعتبارها طقسا دراميا سواء من ناحية الطاقة التصويرية الكامنة في لغة الطقس، أو من ناحية الحركة التعبيرية التي يفجرها قطاع كبير من الجمهور المشارك في هذه الطقوس والذي يتعدى دوره من المشاهدة إلى المشاركة الفعلية في هذه الشعائر التطهيرية . ويعتمد الممثلون في التعزية وهم عادة من رجال الدين ، على الشعر والغناء ، ويلتزمون الصدق في أدائهم فيخلقون جوا تراجيديا من اجل إثارة الجمهور وأيقاظ مشاعره ودفعه للمشاركة الوجدانية من خلال البكاء و اللطم على الصدور بحرقة وعنف. إن الشيء المهم في هذه الطقوس هي المشاركة الجماعية لجميع السكان ، حيث تتحول المدينة إلى احتفالات ومواكب ومجالس وغيرها من الفعاليات التي تتسم بدراميتها والتي تقام في الفضاء الواسع ، فيعم الحزن والندب الجماعي . الشئ المهم الذي اكتده في البحث هو ان الطقس الدرامي ( التشابيه ) يمتلك مميزات المسرح الديني وقد اكتشفت ان هنالك وجود لعنصر التغريب البرشتي والبعد الشرطي في طقس التعازي : ولهذا يمكن القول بان التعزية تشترك مع المسرح الملحمي بالكثير من المميزات والوسائل والخواص حتى وان كانت بمفهومها البدائي ،لان الممثلين في طقس التعزية الدرامي ( التشابيه ) يقومون بتغريب بدائي للحدث والشخصية ، فنري الممثل يتعامل مع الشخصية بمفهوم الشخص الثالث أي " هو " أي هنالك مسافة بينهما " أنا" الممثل و "هو" الشخصية . والممثلون والعاملون والجمهور يعرفون تفاصيل الحادثة التاريخية ولهذا فانهم يعون مهمة إعادة خلق الطقس من جديد ولايندمجون في الحدث والشخصية وانما يرونه ويكملونه اثناء اعادة تمثيل الطقس ، وبالرغم من وجود مشاهد تفترض الاندماج في الشخصية كنتيجة طبيعية للمسرحيات الدينية ، إلا انهم يعرضونها وخاصة الممثلين الذين يؤدون شخصية من الاعداء ، ولهذا فانهم يؤكدون في حوارهم على قال فلان ..وعمل فلان ويقصد " الشخصية" . أي ان الممثل يذكر الشخصية ويمثلها ، الا انه يلعنها (اذا كانت من الاعداء ) ويبدأ تمثيل دوره . وبهذا فان الممثل يضع مسافة بينه وبين الشخصية لانه لايريد ان يتطابق او يندمج بشخصية غير مقدسة ومرفوضة اجتماعيا وتاريخيا.
و بالرغم من ان الممثلين هواة الا اننا يمكن ان نكتشف حالة من "التغريب البدائي "في أداءهم، فالممثل (وخاصة رئيسة الكورس) يعلق على الحدث او يدعوا الجمهور الى المشاركة الوجدانية عندما يموت احد الابطال " إيمائيا" ، او ينبههم حوارا او غناءا الى بشاعة الجريمة او الحدث ، وبالرغم من ان تمثيل دور السيدة زينب من قبل ممثل رجل، تفرضه ظروف اجتماعية الا انه يؤكد ميزة مؤثر التغريب البدائي ايضا في الطقس.
اما الجمهور فانه يعرف الحدث والرموز والقصة ونهايتها المأساوية ويحفظ الخطب والحوارات والشعر والاغاني ، ويعي جيدا بان الذي يراه هو اعادة تمثيل وتشبيه الحدث التاريخي . وبالرغم من دوافعها الدينية الا انها تحفز الانسان على التفكير بواقعه وهذا مايؤكده برخت عندما يتحدث عن التغريب بمفهوم التأرخة (أي تصوير الحوادث والاشخاص كحالة تاريخية تخص الماضي . وان المتفرج لن يعود يرى الناس ثابتين ، انما يرى : هذا الانسان على هذه الشاكلة لان هذه الظروف على هذه الشاكلة . وان هذه الظروف على هذه الشاكلة لان الانسان على هذه الشاكلة . ان المتفرج في التعزية يندهش للحدث التاريخي الذي يراه امامه ان يكون قد حدث على هذه الشاكلة ، انه يندهش ويرفض هذا الممثل الذي يمثل ويتشبه بشخصية عدو غير مقد س ، ويرفض الشخصية التاريخية أيضا في انها وقفت ومارست موقفها التارخي ضد بطله المقدس . ومن جانب اخر فانه يندهش و لا يصدق بان هذا الممثل المعاصر يمكن ان يتشبه ويمثل الشخصية المقدسة .لانه يؤمن بعدم وجود انسان يشبه بطله المقدس بالرغم ان تمثيل شخصية الحسين تحتم احيانا ان يؤديها رجل دين تقي مشهود بنزاهته . اذن فجمهور التعزية يتغرب واقعيا عن الممثل وكذلك عن الشخصية .
ضمن هذا المفهوم فانهم يرمزون لقتل البطل بخروج جواد ابيض مزين بألوان مختلفة وفوق ظهره ما يرمز لعمامة الامام الحسين " ع" وسيفه ويدورون به أمام جمهور الندب ويحدث نوع من الشعائر البدائية تؤكد ايمان الجمهور المطلق بالرمز الذي يستبدل البطل المقدس "بشئ" مرموز له ، يفترضه الممثل والجمهور . ان هذه العلاقة التغريبة البدائية هي نقطة متفردة في دراسة طقوس التعازي وهذا يدفعنا الى الاستنتاج بان التكنيك المسرحي لعرض" التشابيه " يعتبر طقسا دراميا و تراجيديا ، يعتمد الخطب والشعر والادوات والديكورات الشرطية . ويستوجب الغناء والطبول والموسيقى الصاخبة ايقاعا عنيفا وكذلك الحركة والملابس والادوات والالوان ماهي إلا وسائل خاصة بهذا الطقس تميزه عن أي طقس آخر .
5 _ كم تغيرت طقوس ترانيم نظرتك للمسرح العربي بعد انغماسك اليومي في عوالم المسرح في الغرب ؟ إن مشروعي المسرحي عموما (تأليفا وإخراجا وبحثا أكاديميا) ينطلق من الأسئلة التي أقلقتني منذ التطورات التي حدثت في العالم العربي، والعالم عموما، في ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، سواء سياسيا أو فنيا. وبالتأكيد أن أسئلتي وقلقي الإبداعي ستختلف عن أسئلة المبدعين من الأجيال السابقة وذلك لاختلاف الزمن . ولهذا فإنني أؤمن بأن هدف الفن والمسرح خصوصا هو إمكانية البحث في تلك البؤر الغامضة من وجود الإنسان والأسئلة التي تساعده في محنته المصيرية، إضافة إلى البحث في خلق الجمال لجعل عالمنا أقل عنفا وأكثر تقبلا. وهذا يدفعني إلى أن أضع الإنسان الآخر ( خارجي ) وذاتي الأخرى ( داخلي ) في معادلة جديدة هي علاقة الإنسان بالآخر وعلاقته بذاته ، وبمعنى انعكاس قلق الفنان المبدع من أجل فهم عالمه وغموض الكون المحيط به، ومن ثم انعكاسها على الآخر الأكثر غموضا لأنه يهمني أيضا. وبما أننا نعاني من وحشية الآلة ومن عزلة خانقة تشكل حساسية جوهرية للفنان في زمن العولمة جراء التطور التكنولوجي،مما يؤدي بالفنان المعاصر إلى المعاناة من اغترابه الذي تخلقه الآلة و الثورة التكنولوجية .وعزلته المضاعفة جراء عدم تمثل إبداعه من قبل الآخر الذي لايفهمه، مما يؤدي إلى عدم تكاملية منجزه الفني ،و يؤدي ـ أيضا ـ إلى عدم تكامل مفردات لغته الفنية لعدم امتلاكه قدرة التعبير المطلقة عن أسرار الحياة والوجود . وبالتأكيد فإن هذا يعمق الهوة بين الفنان والعالم الآخر،وينسحب هذا الاغتراب،أيضا، على مجالات ثقافية أخرى ، مما يضع المثقف والعالم في زمن العولمة ، أمام أزمة فكرية و معرفية تثير الكثير من الالتباس والغموض . ومما يعمق هذا الاغتراب والعزلة وهستيريا الروح المعاصرة هو: وجود الفوضى الكونية المنظمة التي تبدو حضارتنا من خلالها وكأنها تنحدر نحو هاوية النهاية وليس غريبا أن يفنى كل شئ ويعود الإنسان إلى الغابة . وبالرغم من أن العولمة منحتنا حق الشك في كل اليقينيات من جديد، بما فيها الطواطم المقدسة ،إلا أن ما يزيد عمق الأزمة المعاصرة في الثقافة و المسرح العربيان هو العمل ،وبقصدية ،على استلاب الإنسان الثقافي، ومحاولة محو أي اختلاف فكري عن طريق سلطة العنف والقمع . وبما ان المسرح مرتبط اساسا في المدينة الحضارية المعاصرة ولا يمكن ان يكون الا اذا توفرت الديقراطية والاستقرار الاقتصادي ن ولهذا فان هنالك الكثيرمن الاسباب التي تمنع المسرح ان يكون ضرورة لعطلة نهاية الاسبوع بالنسبة الى الانسان العربي. لكن بالتاكيد فان الفنان العربي وبالرغم من هذا فانه يمتلك مشروعه الفني الذي يحاول دائما ان يضفي حب الجمال وتنقية التفكير لدى الجمهور . وبالتاكيد فان ماذكرته من اسباب اجابة على سؤالك السابق حول مقومات النهوض بدراما المسرح العربي ، لها اهميتها هنا.
6 _ تنقلت بين الاخراج والتمثيل والكتابة للصحف والبحث والنقد .. ترى في اي إناء وردي وجدت ذاتك المبدعة تذوب ؟
إن هذا يدعوني إلى تناول تفصيلا بعض مفاهيم ماادعوا له ومااسميه بالبعد الرابع ومعمارية السرد الرؤيوي في الإخراج البصري وكذلك عن كتابة النص البصري، لان موت المسرح المعاصر يكمن في حيثيات سوق العرض والطلب التجاري والمباشرة وهامشية معالجاته لمشاكل الذات والمجتمع ،وكذلك سذاجة اهدافه التي تتحول دائما في المسرح العربي ( ماعدا بعض الاستثناءآت) من افكار وقيم انسانية عالية الرقي والمستوى الانساني الى خدمات إعلامية ، والمشكلة الاخرى هي سيطرة اللغة الأدبية السردية الثرثارة في العرض المسرحي .أما مستقبله فيكمن في لغة النص،وفي علامات العرض البصرية وأسرارها ،والمساهمة في إغناء الوعي الجمالي للمتفرج المتفاعل . ولكن أية لغة هذه التي من المفترض أن تؤثر على البصر والبصيرة ؟ يرتكز النص البصري الذي ينبئنا بمستقبل العرض البصري على ركيزتين أساسيتين هما : اللغة الأدبية البصرية (البعد البصري والمادي للكلمة ودلالاتها التأويلية )،ولغة التداعي البصري للأنساق البصرية في الفضاء الإبداعي ( أي الحوار بين ذاكرة الجسد وتداعيات الفضاء بما فيها ذاكرة الأشياء والأنساق الأخرى ، وبين الفنان البصري ـ المخرج والممثل ـ و المتفرج). إن هذين الجانبين، اللغة الأدبية البصرية والتداعي البصري للأنساق،هما اللذان يعيدان خلق اللغة الفنية بصريا، سواء أكان ذلك في النص أو كان في العرض ، فمن خلالهما يمكن أن نعيد الكلمة وأبعادها الأدبية السردية والحوارية إلى كينونتها التأويلية والدلالية والبصرية في زمن جديد هو زمن العرض البصري . إنني هنا أدعو ا إلى نص بصري، وعرض بصري، وجمهور متفاعل، أي مبدأ التفاعلية في المشاهدة التي ادعو لها بدلا من النص الأدبي والعرض التقليدي والمتفرج الهامشي. وفي الطقس المسرحي البصري الذي ، يتحول الزمن الواقعي فيه إلى زمن فني يشكل بعدا ميتافيزيقيا ، أي زمن الرؤية والحلم والواقع اللامرئي في حركته الديناميكية . وهذا يعني الطاقة السرية الإبداعية للفكر والخيال واللاوعي لتحقيق مفهوم البعد الرابع للزمن والفضاء في العرض المسرحي . فإذا كان الزمن الواقعي يتشكل من الماضي والحاضر والمستقبل، فإن الزمن الإبداعي يشكل بعدا رابعا. فالماضي في العرض ( الطقس ) المسرحي هو ماضي الأحداث والشخصيات المنجزة من قبل المؤلف،يعرضها الممثل والمخرج لمناقشة مأزقها وسؤالها المصيري ،ومتابعة مصائرها وقدرها أمام المتفاعل( الجمهور ) من أجل إغناء روحه، وكشف تلك الحقائق اللامرئية في الحياة والوجود وتاريخ البشر . والحاضر هو آنية وجود (وماهية ) الممثل ( الإنسان ) على خشبة المسرح غير أن لحظة تقريب وتلاحم هذه الأزمنة الثلاث تشكل تلامسها، وهذا يعني تشكيل الرؤيا الإبداعية والتأليف الرؤيوي والفكر الإخراجي،أي أن عمل المخرج الإبداعي يتجسد في تقريب هذه الأزمنة الثلاث فيما بينها في التلامس من أجل خلق بعد رابع هو البعد الإبداعي الشعري الذي يكون رؤية الفنان البصرية . وهذا التلامس هو الذي يخلق العرض الجديد . بهذه الوسائل ـ فقط ـ يقوم المخرج بإعادة كتابة وبناء النص ( البصري ) أصلا من جديد . ومن هنا فإن هذا النص يجب أن يكون ضد الأدب في مفهومنا البصري، بمعنى أن يكتب للمشاهدة وليس للقراءة لتحقيق الطقس المسرحي في فضاء المدينة المعاصرة. وبهذا فإن النص في الطقس المسرحي البصري، ضمن مفهوم بصريات النص، والبعد الرابع، يجب أن يكتب بوعي بصري ورؤيوي منذ بذرته الأولى . أي أن حجم ومستقبل الفعل والحدث و الحركة و المادة والصمت المتوتر والرموز والإشارات، لها كثافتها وحجمها و ديناميكيتها وأبعادها ضمن الزمن والفضاء الإبداعي على خشبة المسرح، وليس على الورق. لأن المؤلف المسرحي صاحب الرؤية الأدبية ، عادة لا يهتم ، بل غير قادر على امتلاك الإحساس بأبعاد الفضاء المسرحي وديناميكية الإيقاع، وحجم الأحداث، والفعل والتكوين في العرض المسرحي(أي على خشبة المسرح )، بل يعتبره خارج اختصاصه، وإنما يهتم بالدرجة الأولى بالجوانب اللغوية والبناء المعماري الأدبي للنص، وبناء الشخصيات وفرض قوانين الأدب . ولهذا فإننا يمكن أن ندعو النص المسرحي غير البصري ، بالنص الأدبي المغلق، النص الميت، لأنه ذلك النص الذي يتحدث بالوسائل الأدبية عن كل الأجوبة حد الثرثرة، ولا يتعامل مع فضاء العرض البصري، وإنما يكتب بلغة الأدب. إن مؤلف النص الأدبي المغلق في المسرح، يعمق اغتراب نص العرض والفضاء الإبداعي ومهمات المسرح، عموما، أمام المتفرج المتفاعل ، لذلك فمثل هذا النص هو اغتراب لآنية العرض البصري و للمتفرج في ذات الوقت . لأنه كتب ضمن انشغالات تهدف إلى تحديد وتركيز وهيمنة الأطر الأدبية على فضاء العرض ،وإهمال الوسائل البصرية وجعلها ثانوية ، أو جعلها تخدم البعد التفسيري للصياغات الأدبية وثرثرة المضامين الواقعية والنفسية المقيتة ، وبهذا فإن النص المغلق هنا، لا يسمح بالإمكانيات البصرية للمخرج والممثل، بل يحدد أفق خيالهما،وخاصة القدرات التعبيرية للممثل التي تعتمد على أطلاق الأسرار الإبداعية لذاكرته الجسدية المطلقة ، والتي لا يتكامل إبداعها إلا في فضاء ديناميكية العرض البصري. ومن جانب آخر، فإن النص الأدبي، والعرض التقليدي غير البصري ، يخلقان الاغتراب أيضا في وعي وروح المتفرج، ولا ينسجمان مع طبيعة الحوار الذي يتم بين العرض البصري والمتفرج المتفاعل، وبذلك يفقدان الاتصال فيما بينهما. وهنا تصبح مهمة المؤلف المسرحي مزدوجة، فبالإضافة إلى قدرته على فهم الصنعة الأدبية، عليه أن يمتلك حساسية وفهما دقيقا لقوانين العرض المسرحي بحيث تتحول الكلمة والصور الشعرية ـ الأدبية، وكل رموز العرض إلى رؤيا بصرية.وهذا ما يحقق مفهوم النص البصري وتداعيات الذاكرة المطلقة لجسد الممثل. إن وجود الممثل في الفضاء في علاقة ديناميكية مع المادة، أو الشئ هو من أجل إنتاج معنى محدد وصورة . ويمتلك جسد الممثل طاقة إبداعية سرية يمكن تحقيقها من خلال مفاهيم "انتونين أرتو" و"غروتوفسكي" و "مايرهولد" ، وطقوس الوجد الصوفي الإسلامي . و لهذا فإن فضاء الطقس المسرحي يمكن أن يكون معبرا ـ فقط ـ من خلال لغة الهذيان الإبداعي للجسد، وارتباطه بالمادة التي يتعامل معها. حيث أن المادة ، أو الشئ في الفضاء الطقسي، أصبح لهما وجودهما المستقل والمعبر، وأن الجسد هو مادة وشكل وصورة له وجوده وإيقاعه الخاص في فضاء الطقس . فمن خلال الإيماءة، والحركة المعبرة، وعلاقتها بالمادة، يمكن اكتشاف لغة تعبير، وهذه اللغة تحقق بعدا جديدا للزمن والفضاء في الطقس المسرحي. ولا تعني دعوتي لكتابة النص البصري إلى إلغاء الكلمة، أو إلغاء الوسائل اللغوية الأخرى عموما، وإنما على العكس، فإن الكلمة تصبح إحدى الوسائل البصرية المهمة لتحقيق النص البصري إذا أحسن انتقائها ، وإذا استطاع المؤلف أن يحولها من كلمة أدبية إلى بصرية تصبح جزء من تحقيق المشهدية البصرية في العرض . وهذا كله يفرض أسس كتابة النص البصري في زمن مابعد الحداثة، ويوحي، بل يفرض، أيضا بعدا رابعا للزمن والفضاء البصري في العرض المسرحي .ومجموع هذه الوسائل تحقق ما أطلق عليه بالبعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي البصري..إذن، أنا أدعو إلى تحقيق البعد الرابع في زمن وفضاء العرض المسرحي الذي يجدد جميع المكونات والأنساق الإبداعية لفضاء المسرح. في المسرح البصري يشكل الجسد وذاكرته المطلقة ،والأنساق الأخرى التي تحقق البصريات ، تشكل لغة تواصل فيها الكثير من التأويلية و الشاعرية والتفرد .لهذا يمكن الحديث عن ذاكرة جسد الممثل، وذاكرة الأشياء، وإعطاء غير المرئي الكامن في الشئ شكلا مرئيا ووظيفة بصرية أخرى. إذن،فجسد الممثل هو وجود وكينونة وطاقة مشبعة بالدلالات والرموز البصرية والسميولوجية . وكما يمكن التواصل بالكلمة،كذلك يمكن تحويل الجسد إلى لغة تعبيرية من خلالها يمكن التواصل مع الجمهور بمفردات لغوية رؤيوية وبصرية غير أدبية .فالصمت المعبر له مكانته كلغة للممثل للتعبير عن شعرية الفضاء، وكذلك الحال مع الرموز والإحالات التي لها أبعادها الفلسفية، والتي تصل إلى وعي وأحاسيس المتفاعل بكل تكثيف، وبدون ثرثرة أو ضجيج فائض. ومن هذا المنطلق، فإن المخرج هو راء متفرد نتيجة لرؤيته الإبداعية الخاصة التي تتشكل في زمن مأزوم دائما.ومثل هذا المخرج الرائي في مفهوم ما نطلق عليه بالبعد الرابع، يكون كالشاعر الرائي، حيث هو الذي يستشف بكل حواسه وكيانه ما وراء الأشياء ، وهو الذي يضع يده على الجوهر الخفي في كل مظهر من مظاهر الوجود بما فيه الواقع المرئي واللامرئي . وأستطيع أن أؤكد ،بلا حرج، أن بحث المخرج، من أجل تكامل لغته، يكمن في ما وراء النص وما وراء الإيماءة ، ما وراء الميزانسين ، وما وراء الفعل والحدث ،وما وراء سينوغرافيا العرض ، ما وراء الصورة ، ما وراء الفضاء المسرحي وزمنه . فمن الضروري أن يتحرر المسرح والدراما ـ بشكل عام ـ من الغموض والالتباس السيكولوجي والعواطف الثرثارة ، ومن أجل هذا، يعمد المخرج إلى التأليف بالجسد،وبالحركة، وبالصورة،وبالسينوغرافيا، واللون والضوء والرائحة وسينوغرافيا الفضاء. إن الكثير من المخرجين يتعاملون مع جسد الممثل بوظيفته الحياتية اليومية، وكذلك يفعل الممثلون في المسرح التقليدي حيث لا يتعاملون مع أجسادهم كذاكرة جسدية إبداعية، وإنما كتاريخ حياتي يومي، وهنا يكمن جوهر الاختلاف.وهنا لا يمكن عزل جسد الممثل في الفضاء الإبداعي عن الأشياء التي تفرض وجودها في الإبداع. وتحققت ذاكرة الأشياء، وديناميكية الذاكرة الجسدية الممثل ـ مثلا ـ في مسرحية "الرحلة الضوئية ) على مسرح تيرا نوفا تياتر في "كوبنهاغن"، وهي طقس رؤيوي عن وجد الفنان "فان كوخ "حيث تحول حوض الاستحمام منذ البداية إلى تابوت وقبر عندما يشاهد الجمهور "فان كوخ" ميتا فيه ، ومن خلال طقوس تقديم زهور عباد الشمس وطقوس اللطم الجسدي، يقوم "فان كوخ" من موته ليبدأ تقديم أسرار وجده أمام مرضى المصحة النفسية التي سجن فيها وأمام الجمهور، إنها القيامة التي تكشف عن السر، وتعلن عن خلود الفنان.ومن خلال طقوس الحضور المكثف الذي تقوم به المرأة المليئة بالأسرار لمساعدته على إنجاز رحلته الضوئية المصيرية ـ حتي يريد أن يحول اللون الأصفر إلى نور ـ وهدفها أن يصبح ملكها في النهاية حتى تعبث بمصيره ما تشاء وكأنها الموت ،لكن بهذا بالذات،امتلك "فان كوخ" خطوته الضوئية للعبور نحو المستحيل، أو اللمبو، أو الفردوس الإبداعي. ومن جانب آخر فإن المرأة الأخرى.. المرأة الملاك عندما تقوم بعملية تطهيره حتى تتوسع رؤياه في رحلته الضوئية، ليرى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والأرض، فإنها تعمد إلى تطهيره بالضوء، و بزهور عباد الشمس المنقوع بالماء المقدس …الماء الزلال.. الماء الذي هو جوهر الحياة الذي يحيل ظلام البصيرة إلى رؤيا. وبمعنى آخر، إن الحوض فقد وظيفته الواقعية عندما تعامل الممثل معه تعاملا مختلفا أنتج معنى جديدا، وكذلك الحال مع زهور عباد الشمس.وأيضا فإن شخصيات ـ مثل صديقه "غوغان"، وأخاه "ثيو"ـ كانت تماثيل حجرية لها توترها و وجودها في فضاء العرض . ولكن تعامل الممثل "فان كوخ " معها منحها حياة وحيوية في ذاكرة ووعي الجمهور بمساعدة ذاكرة الأشياء وجسد الممثل. أما المرايا التي استخدمت في زمنها الميتافيزيقي الإبداعي، فإنها لم تعكس وجه الإنسان ، وإنما عكست دواخله وذاته أيضا ،أي أنها عكست القناع الحقيقي للإنسان .من خلال ارتباطها بالكلمة الإيحائية ذات الدلالة الشعرية . و عكست تلك الهوة بين الإنسان ومرآته الداخلية .
7 _ وانت تلامس مرايا جراح الغربة .. كم يلزمك حبر لتلامس جدران حنينك المتينة للوطن ؟ بالرغم من هذا الخراب الذي تحول الى موت يومي في العراق فانني انتظر تلك اللحظة التي استطيع فيها ان اعيد تماسك الذات والذاكرة ، وبالرغم من انني في محطة نائية الا انني متيقن بان القطار النازل الى بغداد سيقلني في يوم ما ، فمنذ 29 عام وبغداد تاتيني في احلامي نظيفة وجميلة تحتفل مع دجلة والفرات في انسيابهما الازلي . ان هذا الخراب هو اللعنة العراقية تشيع الموت وقتيا ، لكنها تحتم على الفنان ان يمتلك مشروعه المستقبلي . اذا ان الحنين الى الوطن يعني نقاء المشروع الابداعي ومعاصرته . ولهذا الامر يتطلب بناء مسرح الامة العراقية على اسس خلق الجمال في داخل الانسان العراقي .فاذا كان المسرح العراقي قد غبن في الماضي وخاصة في عهد الدكتاتورية والحروب فان الامر يتطلب الان النهوض من الرماد . هل يمتلك الفنان والمسرح العراقي هذه القدرة ، بالتاكيد سيكون هذا اذا ارتبط الفن عموما والثقافة بمصائر الناس ، واذا اعطت الحكمة العراقية ، مكانة للثقافة والفن في بناء وعي وروح الانسان العراقي ، بهذا فقط سنبتعد عن خراب الروح الذي يعني العدم .
#عادل_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|