د. جواد بشارة
كان حلماً مدفوناً في عالم المستحيل أن تكون لي يوما ما فرصة للخروج من عالم المنفى القسري الذي وضعتني فيه الظروف السياسية التي يعيشها بلدي منذ مايزيد على الأربعين عاما ، وبالتحديد منذ سيطرة المد البعثي على الحياة السياسية في العراق في عام 1963، وكانت بداية دموية لمستقبل اكثر دموية ينتظر العراقيين بكل فئاتهم وتنوعاتهم الإثنية والقومية والطائفية والدينية.
لقد تعودنا على كابوس المنفى وصرنا كالمازوشيين نتلذذ بألم الغربة والحنين رغم قساوتها ، هذا على الأقل فيما يتعلق بي شخصيا. فلقد خلقت لي في المنفى الباريسي عالما جميلا من العمل والإبداع والنشاط الفني والثقافي والسياسي بالطبع. وبدا لي كأنه عالم لن ينتهي وسيستمر إلى أجيال إن لم نقل قرون فالأوضاع بالعراق كانت تشير إلى وراثة جمهورية من الأب إلى ألإبن إلى الحفيد.
لكن القدر شاء أمراً آخر وتسارعت الأمور بسرعة لاتصدق وأصبح المستحيل ممكنناً وتهاوت سلطة الطاغية بأسرع من البرق. وفي طرفة عين تغير كل شيء وأنقلبت الموازين وثار الإعصار في العراق وبزغ فجر الأمل فلم أعد أتحمل الانتظار ولا للحظة واحدة . كان كل شيء يدفعني للمغادرة مهما كلف الأمر وبأي ثمن كان رغم أنها كانت مغامرة غير محمودة العواقب خاصة بعد غياب دام ثلاثين عاماً . بدأ سيل من التساؤلات والمخاوف ينهمر على رأسي ويغرق تفكيري . ترى هل سأتحمل واقع العراق الجديد وهل سأتكيف مع المتغيرات العميقة التي حلت بالمجتمع العراقي ؟ وماذا أستطيع أن أفعل أمام هذا الكم الهائل من المجهول الذي ينتظرني ؟ ولكن ، وبلا تفكير، أتخذت قراري بالمغادرة والـ " العودة " إلى أرض الوطن مع وفد فرنسي وكأنني في اللاشعور بحاجة إلى الحماية من خطر يتربص بي وأن الأجنبي يمكن أن يكون درعا يحميني كما أصبح الأجنبي الأمريكي القوة التي أسقطت الطاغية المستبد بعد أن ثبت عجزي وعجز المعارضة العراقية عن تحقيق مثل هذا الإنجاز الكبير.
لم أكن أفكر بالعواقب وما يمكن أن تجره الحرب من ويلات وانعكاسات مأساوية على حياة الناس ولم أكن أكترث بالثمن الذي يمكن أن ندفعه . كل ما كنت أريده هو التخلص من رمز الاستبداد وإنهاء حالة العنف وإطاحة الديكتاتورية.
في الطائرة التي تقلني إلى عمان شغلت نفسي بمشاهدة فيلم سخيف من افلام العنف والقتل والمغامرات الأمريكية دون أن أنتبه إلى مضمونه . وكان ذلك بمثابة صفعة لي أنا السينمائي الذي تعود أن يشاهد التحف الفنية لكبار عملاقة السينما في العالم ويكتب عنها الدراسات ويحللها جماليا .
أجتازت سيارة الجي أم سي الحدود العراقي وأنا لم أنتبه لذلك فكنت محلقا في حلمي الجميل بلقاء الأهل والأحبة والأصدقاء والأقارب والرفاق والزملاء الذي انقطعت عنهم ثلاثين عاماً. ياترى هل سأتعرف عليهم ، وهل سيتذكرونني ؟
سمعت صوت آلان دو شالفرون رئيس الوفد الفرنسي المرافق يقول : هل تعرف أنك في العراق الآن ؟ كانت جملته بمثابة إعصار أنفجر في رأسي ألتفت إلى الوراء فوجدت جندياً أمريكيا مستلقيا على ظهره ومتكيء على دبابته تحت الشمس الحارقة وهو يؤشر لنا بيده بلا مبالاة ليعطي لنا الإذن بالعبور .
وبعد لحظات أخترقني حرارة لا أعرف مصدرها لفت جسدي كله وشعرت بحمى قوية تسير في عروقي وتصرخ بي أنزل إلى أرضك . طلبت من السائق أن يوقف السيارة وكان المصور التلفزيوني يسجل كل شاردة وواردة وأنا لم أنتبه له ولا لأي أحد من الذين يرافقونني . نزلت من السيارة ووضعت قدمي لأول مرة على الأرض المحرمة التي حرمت منها ثلاثين عاماً. وخارقت قواي ولم تعد ركبتاي تقويان على حملي فخررت ساجداً على الأرض وقبلتها بحرارة وبصدق كما يقبل الحبيب محبوبته البعيدة عنه منذ سنوات طوال كأنها القرون. أنهمر الدمع من عيني وكانت لحظة ضعف لم يستسغها الكثير من الرفاق المنفيين الذين شاهدوا هذه اللحظات الأليمة .. كانت حقاً قاسية جداً ومؤلمة إلى حد اللعنة .. رجعت إلى السيارة وأنا أتساءل هل وصلنا فجاءني صوت رئيس الوفد أمامك 550 كيلومتر لتصل إلى بغداد. كنت ثراثارا لم أتوقف عن الكلام مع السائق أبو عمار من الجنوب العراقي من العمارة. وكان صدره رحبا وبشوشاً تحمل كل مضايقاتي وتساؤلاتي .. كنت اسأل عن كل شيء وعن أتفه الأمور وعن التفاصيل المملة وهو يجيب بصبر عجيب. ونحن نجتاز المنطقة الصحراوية الخالية والخطرة من الحدود العراقية ـ ألأردنية إلى بغداد في طريق بري طويل جداً وعريض يذكرني بالطرق الأوروبية الخارجية السريعة لكن الفرق أن يخلو من الاستراحات وتتبرص بزبائنه عصابات قطاع الطرق والسلب والنهب المسلحة .
لاحت عن بعد أولى بشائر الحياة العراقية والنخيل والحقول المزروعة عندما أقتربنا من مشارف الرمادي وبدأت أشاهد حطام الدبابات والآليات العسكرية والسيارات المحروقة على جانبي الطريق من آثار معارك طاحنة دارت في هذه المنطقة .
الشارع مليء بالأطفال والمراهقين الذين يقفون في وسط الطريق السريعة يبعيون البنزين في السوق السوداء باضعاف سعره الرسمي ، حيث أصبح بالنسبة للكثير منهم وسيلة للكسب وتوفير لقمة العيش. وهم يتوسلون بالسائقين لكي يتوقفوا ويشتروا منهم الجيريكانات أو البيدونات المملوء بالبنزين ، فقلت للسائق لماذا لاتشتري منهم أجابني لأنها معظمها مغشوشة وغالية جداً أستطيع أن أجد أرخص منها وأنظف.
وصلنا مع الساعة العاشرة صباحاً إلى بغداد وبدت لي وكأنها مدينة أشباح. مدينة خارجة من ديكور أفلام الخيال العلمي الأمريكي بعد نشوب الحرب الكونية الثالثة وتحول البشر إلى وحوش كاسرة وانتشار شريعة الغاب والبقاء للأقوى وسط كم هائل من الخراب والدمار على غرار ديكور فيلم ماد ماكس. سرنا في شارع الرشيد المغلق كليا والذي تعلوه القمامة والواجهات المدمرة .. أين الحياة في هذا الشارع التاريخي ؟ كان مشهداً محزناً أبكاني من الداخل . وصلنا إلى الفندق فدخلنا عالماً آخر منفصلا عن العراق فهو فندق من الدرجة الأولى يتوفر فيه كل شيء وكل وسائل الراحة والتكييف على الطريق الغربية . وبالكاد وضعت حقائبي وقلت للمرافقين لي من أعضاء الوفد أريد أن أتجول في بغداد فوافقوا جميعاً وخرجنا إلى شارع السعدون نبض الحياة التجارية في بغداد في الماضي القريب ، كانت فيه بعض الحركة لكنها متوترة وتنذر بالخطر . هذا هو الشعور الذي طغى علي وأنا أتجول بين الناس وفجأة سمعنا إطلاقات رشاشات كلاشنيكوف من أحد الشوارع الفرعية التي تصب في شارع السعدون وتفرق الناس راكضين في كل الاتجاهات . وعلى بعد عشرة أمتار منّا سقطت أول ضحية من المدنيين أمامي برصاصة طائشة . وقد أختبأنا في محل لبيع الساعات نصف مغلق سبق أن تعرض للسرق والحرق من قبل العصابات التي يسميها العراقيون " علي بابا" . وفي غضون دقائق جاءت قوات أمريكية مدرعة وسيارات محملة بالجنود طوقت المكان حاولت أن أستفسر عمّا حدث فجاءني سيل من الأجوبة من كل صوب وهم يقولون هذا أمر معتاد ويحصل عدة مرات في اليوم وفي كل مكان في العراق فلماذا تستغرب؟ وفجأة تنبه أحدهم وقال .. لقد فهمت أنت من الخارج ؟ أنت من المدللين ، مالذي أتى بك إلى هذا الجحيم ؟ هل جئت لتتفرج علينا؟ فقلت له لا ياأخي جئت لزيارة بلدي الذي حرمت منه ثلاثة عقود. فرد علي بامتعاض " ولماذا لم تتذكره إلاّ اليوم؟ لماذا لم تزره عندما كانت في خضم المحنة أيام النظام البائد؟ فأجبته بخجل لأني لم أكن أستطيع ذلك لكوني محكوم بالإعدام من قبل النظام السابق فلا يمكنني أن أزور العراق كما أفعل الآن في أول فرصة توفرت لي ، فقال لي أتمنى لك طيب الإقامة في هذا الجحيم ولكن انتبه من علي بابا فهو في كل مكان وقد يكون أخوك أو ابن عمك أو صديقك فلا تأمن أحداً.
عدت إلى الفندق محبطاً وخائفا مما تخبئه لي الأيام القادمة وكنت قلقاً من موضوع اللقاء مع الأهل وبالأخص مع الوالدة الحبيبة وأخاف من وصولي متأخرا ولا أجدها على قيد الحياة. كان ذلك كابوساً يلاحقني طيلة الرحلة .
قررت البقاء أسبوعاً كاملا في بغداد قبل تحقيق اللقاء بالأهل وقمت بجولات عديدة في كافة أنحاء بغداد وأحياءها وشوارعها وبالأخص جسورها التي كان يحلو لي التجول فوقها وأنا أنظر إلى دجلة في مختلف الأوقات ، في الفجر ، وفي الغروب ثم زرت مدينة الثورة التي سماها صدام بإسمه وسماها الناس بإسم مدينة الصدر اليوم وهي ضاحية من ضواحي بغداد المكدسة بالسكان حيث يتجاوز عدد ساكنيها المليوني شخص جلهم من الشيعة الذين نزحوا من الأرياف للبحث عن لقمة العيش في العاصمة، وهي بؤرة مناوئة لنظام البعث البائد ، وتشكل اليوم أخطر منطقة في بغداد حيث يتحكم بها أنصار مقتدى الصدر إبن آية الله الشهيد محمد صادق الصدر الذي أغتالته مخابرات النظام الديكتاتوري السابق سنة 1999 . كانت الخطب النارية لوكلاء مقتدى الصدر من الملالي الشباب من أمثال الشيخ الفرطوسي الذين لايتجاوز عمر أكبرهم الثلاثين عاما كما هو عمر مقتدى الصدر، تبث الرعب في قلوب الناس وخاصة الأجانب ووسائل الإعلام ، وبالذات الفئة العلمانية من الشعب العراقي التي تطمح للحرية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية وحرية التعبير وإعادة بناء المجتمع المدني المتطور ، بينما يدعو خطباء الجمعة من تيار مقتدى الصدر إلى دولة إسلامية تطبق الشريعة وتفرض الممنوعات والمحرمات بالقوة على الشعب العراقي وتصادر الحريات الشخصية وتفرض الحجاب على النساء وغلق دور السينما والنوادي المختلطة ومنع المرأة من العمل الخ ..
لمست لمس اليد حالة التذمر القصوى لدى الفئات المتضررة من سقوط النظام وخاصة أفراد الجيش العراقي الذين طردهم الأمريكيون من مراكزهم وصفى وزارة الدفاع وجعلهم جيشاً من العاطلين لايعرفون مصيرهم فصاروا يتوعدون بالويل والثبور وتحويل ارض العراق إلى جحيم تحت اقدام الأمريكيين والمتعاونين معهم وبدأوا بالفعل بالتنسيق مع فلول النظام المنهار الذي مازال يعمل بالسر ويمتلك الأموال الطائلة بالمليارات ، والأسلحة المتنوعة حتى الثقيلة منها، ولديه الكثير من العناصر المدربة والمستعدة لنشر الخراب والفوضى وخلق أجواء تنذر باندلاع حرب أهلية شعواء ومدمرة. الخوف مازال مسيطرا على الشارع العراقي من عودة النظام المقبور . والعمليات العسكرية مستمرة يومياً ضد القوات الأمريكية وضد مؤسسات البلد وخاصة الحيوية منها مثل محطات الكهرباء والماء والوقود بغية خلق حالة من الفوضى ونشر شعور بأن الأمريكيين غير قادرين على توفير الأمن والاستقرار للمواطن العراقي .
صعقت بالمستوى الثقافي والتعليمي المتردي في العراق اليوم والجهل المنتشر بين فئات كثيرة من الناس خاصة الشباب منهم بعد عزلة مقصودة فرضها النظام السابق عليهم طيلة 35 عاما حيث كل شيء ممنوع كامتلاك تلفزيونات الستلايات الفضائية والاستماع إلى المحطات الأجنبية والاحتكاك بالأجانب الخ ..
شاهدت الفقر المدقع واختفاء الطبقة الوسطى من الحياة العامة حيث تحول الناس، إما إلى أقلية فاحشة الثراء أوأغلبية ساحقة فقيرة لاتكاد تجد طعامها اليومي . الغالبية العظمى تحقد على النظام السابق عدا المستفيدين منه وهم أقلية، لكن معظم العراقيين لايثقون بالبديل الذي تفرضه عليهم الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
مر أسبوع عل وصولي إلى العراق وأنا في دوامة المشاكل والريبورتاجات التلفزيونية حيث نلاحق الحدث في كل لحظة ونتنقل من مكان لآخر ونسمع مشاكل الناس ومعاناتهم ولا نقوى على عمل شيء لهم سوى تسجيل شكاويهم وتذمرهم ونفاذ صبرهم .
قررت أخيرا أن استجمع شجاعتي وأذهب لزيارة مسقط رأسي في بابل لملاقاة الأهل وألأقرباء والأصدقاء الذين لايعرفون بوصولي إلى العراق. اقتربت السيارة وفيها الفريق التلفزيوني الفرنسي ، من مشارف مدينة الحلة وهم يسألوني ماهو شعورك وهل تتعرف على ملامح المدينة ومناطقها ولا أجد جواباً إذا لم أعد أتعرف على أي شيء . شعرت وكأنني أدخل إلى مدينة غريبة لأول مرة في حياتي. الحلة التي تركتها قبل ثلاثة عقود لم تعد موجودة ولا علاقة لما أراه اليوم بما تركته بالأمس البعيد .
صرنا ندور تائهين في شوارع المدينة الخربة ساعة كاملة وأنا ابحث عن كيفية الوصول إلى بيت أهلي شعرت بالعار والنقمة على نفسي فلايمكنني أن أسال أحد عن عنوان بيتي لأن ذلك أكبر من طاقتي، وصرت ابكي بحرقة لأني ضعت في مدينتي بعد كل هذا العمر . ثم تطوع سائق السيارة بالسؤال نيابة عني عن إسم الشارع الذي نسكنه وكيف نصل إليه ، مررت أمام سينما الجمهورية التي لي فيها ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب وشاهدت فيها العديد من الأفلام السينمائية التي ماتزال محفورة في ذاكرتي لكنها بانت لي حزينة ومدمرة ومهملة وكل ماحولها تغير واصبح ركاما وتشوهت معالم المكان ولم أعد استطيع التعرف على أي شيء حولها ثم وصلت إلى بداية الزقاق الذي نسكنه فتطوع أحد الجيران للذهاب إلى الأهل وإخبارهم بوصولي ومنعني من الذهاب إليهم بشكل مفاجيء لأن من شأن ذلك أن يصيب الوالدة بسكتة قلبية . فعرفت منه في هذه اللحظة بالذات أن الوالدة الحبيبة ماتزال على قيد الحياة . وبعد دقائق قليلة تحلق حولي المئات من الناس من الشباب والأطفال والنساء وهم فرحون ويقبلونني ويحضنوني وأنا لا اعرف من هؤلاء ثم جاءت شقيقتي الأصغر مني بعباءتها السوداء وهي مدرسة بيولوجيا في الثانوية لتقودني إلى بيت الأهل وأنا أمطرها بعشرات الأسئلة. امتلأ فناء البيت الصغير في محلة التعيس مسقط رأسي بالناس وغص بهم المكان الضيق، جاء الجيران من كل صوب والوالدة تبكي من الفرح وتصرخ بأعلى صوتها شاتمة صدام ونظامه الذي حرمها مني وأطبق على بيتها بكابوس من التهديد والمنغصات ضدها وضد أفراد عائلتي وخاصة أخي الصغير الذي تركته ولم يدخل المدرسة الابتدائية بعد.
في اليوم التالي ذهبت لزيارة بقايا مديرية الأمن والمخابرات التي كانت تلاحقني وتتقصى الأخبار والمعلومات عني واسترجعت ملفي الأمني وفيه رسائلي وصوري وصور زوجتي وأولادي ومختلف التقارير عني حيث وسموني بالشيوعي الهارب.
سمعت آلاف القصص والروايات عن فترة السجن الكبير الذي أحكم طوقه على رقبة الشعب العراقي والذي دام خمسة وثلاثون عاماً منذ مجيء البعث مرة أخرى إلى السلطة سنة 1968 ولغاية 9 نيسان 2003 ، حيث سجلت الذاكرة الجماعية للعراقيين مئات الآلاف من المآسي والجرائم التي يقشعر لها البدن ولايمكن لأي إنسان سوي أن يتخيلها ولا يوجد أحد من الأجانب قادر على تصديقها لأنها تتجاوز حدود الخيال والمعقول " سجون واعتقالات وتعذيب وقبور جماعية ووشايات وملاحقات لاتعد ولاتحصى .
بقيت ليلتين كاملتين بلا نوم أستمع للأهل ولأحاديثهم التي لاتنتهي سيل من الرويات والقصص خليقة بحكايات شهرزاد وشهريار في ألف ليلة وليلة. أحوالهم أزدادت سوءاً عما تركتهم عليه قبل ثلاثة عقود ولا طاقة لي على مساعدتهم اليوم وانتشالهم من الفقر فحتى عودتي إليهم كانت مبرمجة وبمساعدة التلفزيون الفرنسي ولولاه لما تمكنت من العودة.
عاد الوفد الفرنسي بعد يومين لنقلي إلى بغداد فاتفقنا على زيارة آثار بابل تلبية لرغبة ليزا مونتيرة الفريق لكن الأمريكيين منعونا من زيارة الآثار ولم يذكروا لنا الأسباب بالرغم من توسلات وتدخل الفريق التلفزيوني الفرنسي فأنفجرت غاضبا وصرت أشتم واصرخ بوجه الجنود الأمريكيين لأنهم منعوني من زيارة أطلال قضيت بقربها جل أيام طفولتي ومذاكراتي للامتحانات أيام دراستي الثانوية فبأي حق يمنعوني من زيارة هذا الإرث الإنساني وهو ليس بالمنطقة العسكرية بل مجرد منطقة سياحية لا أكثر ؟ وهددت باقتحام المكان حتى لو أطلقوا النار علي وكانوا على وشك القيام بذلك وكان يمكن أن يكون موتاً بالتصوير المباشر لأن مصور القناة الثانية الفرنسية كان يصور المشهد بحذافيره والآخرين يتوسلون بي لترك المكان والعودة إلى بغداد لكنني كنتا مصمماً على الحصول على تفسير وإجابة مقنعة لهذا المنع وإلا فسوف أدخل مهما كلفني ذلك . وجاءني الرد في المساء من نفس اليوم وهو أن طائرة هليكوبتر أمريكية سقطت في النهر قرب الأطلال جراء تعرضها لهجوم بالقذائف والمنطقة خطرة ولايمكن للأمريكيين تأمين الحماية لنا ولايريدون أن يكونوا مسؤولين عمّا سيحصل لنا لو دخلنا خاصة وأن الحدث لم يكن قد تناقلته وسائل الإعلام بعد. وبعد أيام قليلة من وصولي إلى بابل تلقيت النبأ الفاجعة عن صديق الطفولة الكاتب والصحافي عقيل الجنابي الذي أسس جريدة الفيحاء في الحلة وهي أول جريدة محلية معارضة في محافظة بابل بعد سقوط النظام البعثي وبعد صدور العدد الأول من الصحيفة تسللت يد الغدر في جنح الظلام وقامت بتقطيع الكاتب عقيل الجانبي بالسيوف والسكاكين وكتب على الجدران في بيته بدمه هذا هو رد فرسان صدام.وعند عودتي إلى بغداد علمت بأن جماعات متطرفة مؤلفة من ألفي شخص قامت بتدمير ثمانية معامل لصنع الكحول الطبي و مشروب العرق وكلفة كل معمل 25 مليون دولار وهي ملكية لمسيحيين كانوا مرتبطين بامبراطورية عدي صدام حسين التجارية والصناعية في العراق .إلى جانب إنتشار ظاهرة مصادرة بيوت المسؤولين السابقين في الدولة ومقرات ومباني وسيارات الدولة وتحويلها إلى مقرات لأحزاب المعارضة العائدة من المنفى دون رادع .والأخطر من ذلك انتشار ظاهرة خطف النساء وبيعهن في سوق النخاسة السرية حيث بلغ عدد النساء المخطوفات 600 إمرأة من مختلف الأعمار بعضهن لم يتجاوزن سن الـ 16 سنة . وكذلك انتشار ظاهرة سرقة السيارات في وضح النهار وخاصة على الطرق السريعة والخارجية الأوتوسترات التي تربط العراق بالدول المجاورة . هذا هو الجانب الاجتماعي ومظاهر الحياة اليومية الكابوسية السائدة في العراق والتي شهدتها منذ اليوم الأول لوصولي ومازالت سائدة إلى يوم الناس هذا. أما الجانب السياسي للبلد فليس بالأفضل فقوى المعارضة لم تتمكن من الاتفاق على برنامج الحد الأدنى لمدة ثلاثة أشهر بعد سقوط النظام في التاسع من أيلول / سبتمبر مع إصرار قوات الاحتلال الأمريكي على عدم تسليم مسؤولية إدارة شؤون العراق إلى العراقيين وعدم السماح لهم بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة ذات صلاحيات واسعة تسد فراغ السلطة الخطير الذي يشجع على العصيان المدني والتمرد والفوضى وتجاوز القانون .
آفاق المستقبل كما رأيتها بأم عيني في العراق خلال ثلاثة أشهر لاتبشر بخير وتبدو داكنة رغم تفاؤلي الكبير بتحسن الأوضاع مع مرور الزمن ، ذلك لأن الأمريكيين لايعرفون كيف يتصرفون بعقلانية ومرونة في العراق ويتبعون أسلوب أو منهج التجريب العشوائي " يتخذون قراراً اعتباطيا في أي مجال من المجالات وينتظرون ردة الفعل العراقية عليه . فإذا كانت لاأبالية أو غير مهتمة يمررون القرار ويصبح بمثابة قانون ساري المفعول حتى لو جاء بالضد من مصالح الشعب العراقي أما إذا كانت ردة الفعل على القرار سلبية وعنيفة فتراهم يتراجعون فوراً ويسحبون القرار ويقومون بحملة استشارات بين الزعماء ووجهاء المدن لأخذ النصيحة وتعديل القرار أو الحد من سلبياته.
البلد في حالة فوضى وأنتظار وترقب وشبه يأس من حدوث تغيير ملموس في الأوضاع الحياتية واليومية والكل ينتظر الحكومة ـ المعجزة التي ستقوم بضربة عصا سحرية بتحويل العراق من جحيم إلى جنة على الأرض وهذا مستحيل .