محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1905 - 2007 / 5 / 4 - 11:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كثيرة هي الدراسات التاريخية والسياسية التي تناولت جذور الصراع العربي الصهيوني , خلصت في مجملها إلى صعوبة التقارب والتطبيع مع هذا العدو الدموي الغادر, من خلال الحلول السياسية على وجه التحديد , والتي لم تراعي في مجمل طرحها البعد النفسي والإيديولوجي لهذا الصراع , وذلك كمثير لتراكمات ايديوبوليتيكية تاريخية عميقة وحساسة جدا , قد زاد من اتساعها تراكمات مستمرة من مشاعر الخوف والسخط والكراهية المتبادلة من قبل الطرفين , كما غذتها ولا زالت إلى يومنا هذا مشاهد الإرهاب والقمع الصهيوني للشعب الفلسطيني الأعزل , وزادت من عمق جراحها ضعف الإرادة السياسية العربية التي لم تحل دون تهجير أصحاب الأرض وطردهم من وطنهم , على يد من سلب أرضهم أمام أعينهم , ليتحول بعدها هذا الصراع إلى قضية وجود وسيادة , وليس قضية حدود و أطروحات سياسية يمكن لها أن تحل عمق الخلاف الأصلي لهذا الصراع , وهو ما أشار إليه إسحاق ابشتاين في المؤتمر الصهيوني في عام 1905 م , حيث قال ( هل يمكن للمطرودين من أرضهم أن يلوذوا بالصمت , ويقبلوا بهدوء ما يتعرضون إليه , ألن يقوموا في نهاية المطاف ليسترجعوا بالقوة الجسدية ما قد حرموا منه بقوة الذهب ) 0
لذا فان فلسفة الصراع العربي الإسرائيلي اكبر بكثير من مجرد محاولات سياسية أحادية او متبادلة للتنازل او للتطبيع , يتوقع منها بان تؤدي في نهاية المطاف إلى تقبل كل من الفلسطينيين والاسرائيلين لفكرة التعايش والجوار جنبا إلى جنب , لأنه ومن وجهة نظر التجربة الايديوبوليتيكية التاريخية , ثبت أن ما قد يكون ممكنا من الناحية الجغرافية , فانه من الناحية الأيديولوجية والنفسية اقرب إلى المستحيل منه إلى الممكن , وما قد يستساغ إنسانيا على مضض , فانه قد يرفض سياسيا وبكل شده , وذلك في حال لم يكن هناك عقلانية في الطرح , او عدالة في الرؤية والمضمون , وعليه فان قضية الصراع العربي الإسرائيلي و بجميع أبعادها الفلسفية أشبه بمحاولات إعادة كاس مكسور إلى سابق عهده , فنظريا هناك إمكانية لذلك , ولكن تبقى الحقيقة أن ألكاس المكسور يستحيل إعادته إلى سابق عهده , فعمليا قد تناثرت أجزاءه في الهواء , وبعضها قد اختلط بمكونات المكان الذي وقع فيه 0
وهكذا تبقى هوة الخلافات الأيديولوجية تزداد فتق مع الزمن , وذلك بسبب إشكالية البعد السياسي نفسه الذي يحاول الجميع البحث عن حلول من خلاله , وبالطبع فانه ليس من السهل أن ترتق السياسة ما فتقته الايدولوجيا , وخصوصا أذا كانت السياسة هي من أهم عوامل إشعال فتيل هذه الأزمة وهذا الصـراع التاريخي , لذالك فإننا ومن خلال هذا الطرح سنحاول اختصار الواقع التاريخي , والحقيقة الأيديولوجية والنفسية لفلسفة الصراع العربي الإسرائيلي ككل , والفلسطيني الإسرائيلي على وجه التحديد , من خلال استقراء الحقيقة السياسية الصهيونية لتأسيس فكرة إنشاء وطن لليهود في ارض الرسالات والطهر فلسطين , وقولبتها في حقيقة هذا الصراع الأيديولوجي الراهن , متحاشين وضع العراقيل أمام وجهة النظر المخالفة لهذا الواقع الذي تفرض عليه الايدولوجيا السياسية رؤيتها ومضمونها , والتي تدعي في اغلبها إلى إمكانية التعايش والتطبيع السياسي بين قطبين هما اقرب إلى طابع التنافر منه إلى طابع التقارب والتجاذب , وليس ذلك بسبب الخلافات التي يمكن أن يتوقع للسياسة أن تقرب فيها بين وجهات النظر , او من وجهة النظر الإنسانية التي تفرض على جل الشعوب والأمم في مختلف أرجاء الأرض , الاعتراف بحق الآخر في الاستقرار والحياة , ولكن بسبب الخلافات السياسية التاريخية التي قد باعدت في وجهات النظر, في وقت يتصور فيه الكثيرون بإمكانية التقارب من خلال تلك الحلول السياسية المطروحة 0
وبداية فانه لابد من استعادة بعض الأحداث التاريخية التي تفرض نفسها , والتي من خلالها سنقدر على معرفة حقيقة جذور هذا الصراع السياسي في الأصل , وان تطور فيما بعد إلى ابعد من ذلك بكثير , وهي ما نكتشفه من خلال كتاب " الدولة اليهودية , اقتراح لحل حديث للقضية اليهودية " لثيودور هرتزل , وهو المؤسس الأول للصهيونية الحديثة , والذي وضعه بعد قضية درايفوس مباشرة , ونشره سنة 1896 م , حيث حاول فيه هرتزل تقديم مخططا لحل سياسي محض للمشاكل التي تواجه الجماعات اليهودية في أوربا , ولو انه في حقيقة الأمر هو حل للمشاكل التي تسبب بها اليهود لأوربا بشكل عام ولبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الاميريكة بشكل خاص , حيث يقول ( إن المسالة اليهودية موجودة أينما عاش اليهود , ولو بأعداد قليلة , وحيث لا نجدها يحملها اليهود معهم في هجرتهم , 000 وهذا هو الحال في كل البلدان , وستبقى هكذا , حتى في أكثر البلدان تحضرا - مثل فرنسا - إلى أن تجد المسالة اليهودية حلا لها على أساس سياسي ) 0
وهكذا بدا حلم تأسيس الدولة الصهيونية السياسية التي اقترح وجودها هرتزل , وهو ما يطالعنا به قوله في نفس الكتاب السابق ( إن خلق دولة جديدة ليس امرأ مضحكا او مستحيلا , فلتعطى لنا السيادة على جزء من هذا الكوكب , يكون واسع بما يكفي لسد المتطلبات المحقة لأمة من الأمم , وأما الباقي فسنتدبره بأنفسنا ) , وقد كانت فلسطين والأرجنتين الخيار الأول لقيام هذه البذرة , وفي هذا السياق يقول ( هل نختار فلسطين أم الأرجنتين ؟ علينا أن نأخذ ما يعطى لنا وما يختاره الرأي العام اليهودي , وهو ما ستقرره الجمعية الصهيونية ) , وبالطبع فان ذلك الاختيار لم يكن محض الصدفة , بل هو اختيار قائم على عوامل اقتصادية وديموغرافية وأيديولوجية كثيرة , يمكن الاطلاع عليها من خلال الاطلاع على ذلك الكتاب 0
وعليه فقد نظم هرتزل مؤتمرا صهيونيا في بالي في أغسطس من العام 1897 م , وهي السنة التي نعدها الانطلاقة الأولى لجذور هذا الصراع الايديوبوليتيكي بين العرب والصهاينة في قالبه التاريخي , وذلك بهدف اختيار الدولة الحلم للشعب الصهيوني , وقد حضره 200 يهودي من كل أوربا , وقد عد هذا المؤتمر من أهم وابرز المؤتمرات في تاريخ الحركة الصهيونية الحديثة , لأنه وبكل اختصار قد أعاد خلق اليهود كأمة سياسية , كما يشير إلى ذلك المؤرخ دايفيد فيتال 0
وقد استمرت رحلة التخطيط السياسية لإنشاء الوطن الصهيوني في فلسطين منذ تلك الفترة , وحتى العام 1916م , وهي السنة الفعلية التي قامت من خلالها تلك الحركة بعملية نفث سموم ذلك المخطط الإرهابي الآثم على ارض الواقع , وذلك برسم من قائدها التاريخي الثاني وهو حاييم وايتزمان , والذي عرض على اللورد بلفور فكرة إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين , وبالفعل فقد تم تنفيذ ذلك المخطط بإصدار الحكومة البريطانية في نوفمبر من العام 1917 م لوعد بلفور الشهير , تبعه بعد ذلك العديد من المؤامرات والمخططات الصهيوني المتوالية على ارض الرسالات والطهر فلسطين العربي المسلم , بداية بقرار التقسيم الظالم للوطن الفلسطيني بتاريخ 29 / نوفمبر / 1947 م , وليس انتهاء باتفاقيات مدريد و أوسلو , وغيرها من المؤتمرات التي لم ينل منها العرب بشكل عام , والفلسطينيين على وجه التحديد سوى خيبة الأمل 0
وهكذا يتضح لنا بان جذور هذا الصراع هي في حقيقة الأمر جذور ايديوبوليتيكية وسيكولوجية بالدراجة الأولى , نشأت من رغبة الصهيونية السياسية في إنشاء وطن لهم بعد سنوات الشتات التي كانت مؤامراتهم وحيلهم القذرة ودسائسهم سبب فيها , وقد كانت فلسطين وشعبها المسلم العربي الضحية في ذلك المخطط الذي تعاون العالم بوجه عام , و الغرب الانجلواميركي على تنفيذه على وجه التحديد , كما يوجز ذلك المفكر العربي الفلسطيني ادوارد سعيد , وهو أستاذ الآداب المقارنة في جامعة كولومبيا الاميريكة حيث يقول ( بان العالم هو الذي جعل نجاح الصهيونية ممكنا , وان الحس الصهيوني بان العالم هو سند ومتفرج هو الذي لعب دور عمليا في النضال لأجل فلسطين ) 0
وختاما فان حلحلة هذا الملف من خلال بعض الأفكار والرؤى السياسية الدائرة حول محاولات التقارب والتطبيع السياسي , ستصطدم دائما بجدار المعطيات السياسية التاريخية الصهيونية المتمسكة بإنشاء وطن قومي صهيوني لا يمكن تجزئته او التغاضي عن بعض منه , وخصوصا إذا ما غذيت بالهرطقيات الدينية الإسرائيلية , واستغل فيها البعد الديني والعقائدي لخدمة الصهيونية القومية السياسية , وذلك بهدف بث روح التمسك بالأرض , والدفاع عنها بكل الوسائل التي نعلمها لدى الأذرع اليهودية المنتشرة في كل أنحاء العالم , وفي الولايات المتحدة الاميريكة على وجه التحديد , وهو ما يؤكده ديفيد بن غوريون صراحة فيما يتعلق برؤيته إلى قضية الخلاف والصدام ما بين الشعبين بشكل خاص , والنزاع العربي الإسرائيلي بوجه عام , حيث يقول أن الجميع يرى أن ( ثمة صعوبة في مسالة العلاقات بين العرب واليهود , ولكن ليسوا كلهم قادرين على أن يروا انه ليس من حل لهذه المسالة , ليس من حل , هناك هاوية , وما من احد قادر على ملئها , وحدها السفسطة يمكنها أن تحل النزاع بين المصالح اليهودية والعربية , فانا لا اعرف أي بلد عربي سيوافق على أن تصبح فلسطين ملكا لليهود , فنحن كأمة نريد أن يكون هذا البلد لنا , والعرب كأمة يريدون أن يكون هذا البلد لهم ) 0
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟