لازالت اشكالية الديموقراطية في الوطن العربي تتمثل في البحث عنها و في أسباب غيابها . فالديموقراطية كمفهوم و تعريف و تجربة معروفة من الناحية النظرية ، لأننا نلاحظها و نشاهد تطبيقاتها في العالم الغربي .. و لكن في العالم العربي ، نواصل البحث عن أسباب غياب امكاناتها و تلكأ السلط و دوائر النفوذ و الهيمنة في استمرارهم في وأد التجارب و المشاريع التي تروم الاستنهاض و تجترح قيم الديموقراطية و الحريات السياسية و حقوق الانسان و المجتمع و مؤسسات الدولة العامة . فلازال الوعي العربي لم يصل الى لحظة التماهي مع الحقيقة الديموقراطية كقيمة وجودية يعيشها كلحظة محايثة للواقع الراهن .
فمن هذه الناحية ، تطرح الديموقراطية على العرب بشكل عام كاشكالية للبحث عنها و لم تصل بعد الى تقييم التجربة الديموقراطية لعدم ترسب الحد الأدنى من الرصيد الصالح للتقييم . و عليه ، تبقى اشكالية الديموقراطية في الوطن العربي هو البحث في مضادتها و حوائلها و ما تأباه ، أي البحث في أسباب التخلف و الوقوف على ظاهرة استبعاد الجسد العربي لقيم الحرية و الديموقراطية و علة الفكر الجماعي العربي في عدم التجاوب الايجابي مع مقتضيات الديموقراطية كما تفهم في الفكر السياسي و الاجتماعي المعاصر .
و هكذا ، تبرز حالة البحث عن غياب الديموقراطية في البلدان العربية السؤال التالي : كيف استطعنا أن نفهم و نعي و نقبل تعريف الديموقراطية ، و نعجز عن تطبيقها ، مما يكشف عن مفارقة عصية و صعبة و هي التعاطى الانفصامي مع مسألة الديموقراطية من حيث النظرية و الممارسة . و لعّل قوة مفهوم الديموقراطية يدرك في قدرته على كشف و فضح التخلف و مواطن الضعف في الوجدان العربي، و عطالة العقل العربي الذي يستطيع أن يدرك ما يعجزعن تطبيقه.
و حتى لا نعالج الموضوع معالجة ميكانكية ، اسقاطية ، أي محاولة تطبيق نظرية جاهزة عند الآخرين ، نحتاج في العالم العربي و منه الجزائر الى الوقوف الملي عند الحوائل و الموانع التي حالت دون تطبيق الديموقراطية كسبيل لزرعها و استنباتها وحصد مآثرها و التمتع بفضاءاتها ، لأن الديموقراطية هي أفضل آلية لتحرير المجالات و القدرات و الأمكانات لتساعد المجتمع و الدولة على التعبير عن الحاجة و السعي الدائم لتلبيتها .
ان العالم العربي لايزال يتلمس طريقه نحو لحظة التفاعل مع قيم الحرية و التقدم بسبب غياب الاطار الديموقراطي الذي يدلل على الطريق السليم للتنمية و الترقية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . و البحث الذي يجري بشأنه هو البحث السوسيولوجي و التاريخي للتخلف و محاولة السيطرة و تحييد آلية التخلف و تليين بنية المجتمعات العربية التي تشكلت زمن تدهور الحضارة العربية الاسلامية ، ثم تكلست زمن الاستعمار الأوروبي و استمرار الحديث عن الثوابت الوطنية في زمن تراجع الايديولوجيات و الأفكار الاطلاقية والمرجعيات الشاملة والخطابات الرسمية الأحادية ، كلها حرمت الوجدان العربي من امتصاص قيم الحرية و الحق ، الديموقراطية ، قيمة الانسان ، مآثر التقدم السليم ، و الوعي بحقيقة التخلف ، و الاستبداد و الطغيان و الفشل و المسؤولية والواجب . و بسبب التقدم الكبير الذي أحرزته شعوب المجتمعات الغربية ، و التطور الهائل الذي شهده الفكر السياسي و الفلسفي الغربي ، أعطى لبقية العالم و منه العربي ، صورة دونية ، و ينظر بزهد الى رصيده و بشىء من عدم الاحفال الى تجاربه الفاشلة في مجال الديموقراطية و دولة القانون ، وان الوعي العربي لم يتحصن بثقافة الديموقراطية ، و أن الجسد العربي ليست له القدرة على المجابهة الحضارية .
و هذا ما يجعلنا اليوم نبحث عن الأسس الشرعية التي تقوّم السلطة السياسية ؟ أي مدى شرعيتها ؟ ففي الجزائر ، كانت مرحلة ما بعد الاستقلال تستند الى الشرعية الثورية ، وهي مرجعية مرنة غير واضحة تماما ، و في أحيان أخرى أدت الى تجاوزات لم توفر السلطة وسائل مقاومتها . وبعد مرحلة الشرعية الثورية دخلت الجزائر بشكل مباغت الى مرحلة الشرعية الدستورية ، التي لم يكتب لصاحبها الرئيس الراحل هواري بومدين متابعة اصلاحاته المؤسساتية التي لا تزول بزوال الرجال . فقد قامت محاولة اعتماد الشرعية الدستورية على شخص الرئيس الذي تماهى مع المؤسسات ، و بغيابه دخلت البلاد في أزمة خطيرة استعصت الى اليوم عن الحل . وهكذا ، يبقى السؤال الشرعي يعاند و يطرح نفسه على النحو التالي : ماهي الشرعية التي يستند اليها النظام السياسي في الجزائر ؟ يمكن تداول مجموعة السندات ، الا سند ارادت الشعب . و عليه فالنظام لازال يبحث عن الشرعية ، و فقدانه لها يؤجل بطبيعة الحال الحديث و تطبيق الديموقراطية .
الديموقراطية مفهوم معياري ، لا يكف عن التقدّم (1) ، لأنه ينطوي على قدرة فائقة على اعادة التشكل و مرونة في استيعاب تعاريف جديدة ، ولأنه يعد آلية و نظرية و وسيلة انجاز. و الديموقراطية من هذه الناحية ، تقتضي أنها تتطور باستمرار و لا تعرف التراجع ، و كل اخفاق يحصل لها هو في التعبير النهائي اخفاق لاطارها الاجتماعي و السياسي . فعندما تسوء أحوال العمّال و الموظفين ، و تزداد نسبة الأمية الأبجدية و التعليمية وتنعدم وسائل الصّحة و الوقاية و العلاج و تتدهور حالة البيئة ، سوف تتراجع الديموقراطية ، لأنها في هذه الحالة هي معيار التقدم أو تخلّف المجتمع والدولة .
وهكذا ، فالأزمة التي عصفت بالجزائر منذ سنوات هي الجزء الظاهر من البناء الفاسد برمته ، الذي افتقر الى الاسمنت المسلح بثقافة الديموقراطية و القناعة الحضارية لنظرية تداول السلطة ، و بسببب ذلك عبرت الأزمة بعنف عن وجود علاقة توتر بين المشروع الديموقراطي و بنية المجتمع السياسي و الاجتماعي ، كما عبّرت عن أن كل محاولة لقسر و اجبار تنفيذ المشروع الديموقراطي في غير محلّه و في غياب امكناته سوف يفضي لا محالة الى الكارثة و الى تدمير عدّة المقاومة و القدرة على المواجهة التي يحتاج اليها المجتمع لكي يخرج من دوامة التخلف و المآزق التي تحل به كما القدرة على الثبات في المنعطفات الكبرى التي تباغته بين لحظة و أخرى . وبتعبير موجز وصريح ، ان الديموقراطية لاتكتفي بذاتها و انما تحتاج الى قدرات فعّالة في وجدان الأمة و المجتمع و الى قوى ايجابية تعزز الطريق السليم لزيادة التنمية و التقدّم . و من هنا فالاخفاق الديموقراطي يرتبط بالجوهر و الأساس بتراجع مؤشرالت الوضع الاجتماعي و الاقتصادي لحالة الامة(2).
منذ أكثر من عقد من الزمن و الجزائر تحاول أن تتلمس طريقا من أجل الخروج من المأزق التي آلت اليه الأوضاع فيها بعد أحداث 5أكتوبر / تشرين أول1988 ثم الغاء مسار الأنتخابات التشريعية جانفي / كانون الثاني 1992، وقد أفرزت هذه الأحداث من التداعيات و النتائج الجسيمة و الخطيرة على حياة الدولة و المجتمع حد التساؤل هل بقى في الامكان الحديث عن مستقبل الديوقراطية في الجزائر ؟
و عليه ، فالباحث اليوم مضطر الى تتبع التطورالذي انتاب مفاصل الدولة وبنية المجتمع)3( خلال هذه الحقبة الزمنية ، و كل شيء يحتاج الى اماطة اللثام عنه ، و تتبع مصادر الفعل السياسي و الاجتماعي و علاقتيهما بالمستوى الذي تحتاجه الديموقراطية . و لا يمكن في هذه الحال الاستباق و اتهام الباحث بالتحيز الحزبي و الذاتية في المعالجة أوبتقصده الطعن في السلطة و نظام الحكم أو أن الباحث يولي أهمية أكثر لهذا الجانب من جوانب المجتمع و الدولة على حساب نواحي أخرى .. لأن تعقد الأزمة و استحكام بنيتها في جميع مستويات و المجالات ، تملي على الباحث العلمي و التاريخي الاحاطة بكل تجليات الظاهرة و محدداتها و كيفية مساهمة الأطراف فيها و نصيب كل واحد فيها ، و لأنها أزمة حقيقية فانه تقتضي اذن بحثا حقيقيا لا يماري و لا يوارب و تشجم مشقة و عناء الموضوعية و الصراحة ، حتى لا يساهم الباحث بدوره في التنكر لها و التظاهر بواسطة أجهزة الأعلام بغيابها مثل ما تفعل السلطة منذ سنوات .
فالمثقف / الباحث له من السلطة و الحياد ما يستطيع به أن ينأى عن مغريات النفوذ السياسي و يستطيع أن يقف خارج هيمنة المال الواصل الى المجال السياسي و القاطع للنسيج الاجتماعي الذي لا ينفك أن يتعرى يوميا من مناعاته الاخلاقية و المعنوية ، و رأسماله الرمزي ، علاوة على مفقدانه المتوالي لثرواته النفطية مادة الآقتصاد الأولى و الوحيدة ، من دون أن يعوض ما تحتاج اليه مقوماته الثقافية و مكونات هويته . ولعل هذا هو الوجه الحقيقي الذى يجب أن نجابه به الأوضاع الحالية في السلطة و المجتمع، لأنه في الوقت الذي تواصل فيه السلطة محاربة الأرهاب و العنف ، لا تكف في ذات الوقت عن هدم محصنات ثقافة السلم و الاستقرار، و كأن قدر السلطة هو العيش مع الأزمة و تسييرها على أساس أنها قدر محتوم!؟
ان المعضلة الجزائرية الراهنة هي تعبير عن مغامرة الشعب و المجتمع نحو بناء مؤسسات الدولة الجزائرية المستقلة . فقد سبق لهذا الشعب و قيادته أن جازف بمصيره في ثورة تحريرية كبرى عام 1954و انتهت الى الاستقلال ، ثم لم يلبث أن دخل في معركة بناء أجهزة الحكم و التسيير لمرافق الدولة على أساس من الديموقراطية .. لكن التجربة باءت الى حد الآن بالاخفاق ، و لا يمكن الاطمئنان الى أوهام السلطة الحالية التي توحي بالحياة العادية أو في أكثر تقدير تعترف بالأزمة و تقيد الجهة المسئولة عليها بصيغة المبني للمجهول .
ان تقييم التجربة السياسية الجزائرية ، سلطة و أحزاب نعتمد فيها على التجربة كلها أي ادراج سنوات الأزمة كلها كتجربة تاريخية ، تتقاسم كل الأطراف فيها المسئولية ، لأنها من صنع الجميع و لم تعد من صنع السلطة فقط . فالديموقراطية التي جاءت بها أحداث 5 أكتوبر / تشرين الأول1988 ذاته ، و من ثم فان اشكالية الديموقراطية لا تعني السلطة فقط بل الأحزاب و القوى الاجتماعية و التنظيمات الشعبية أيضا ، علاوة على فساد سلوك الأفراد في حياتهم اليومية و العامة ، كما أبدوا تقصيرا فاضحا في الحفاظ على الأموال العامة و قدركبير من هدر امكانيات المجتمع و الدولة .
و هكذا ، ان تحليل مسألة الديموقراطية و الاحزاب السياسية في الجزائر تنتهي في نهاية المطاف الى توكيد الصلة بين السلطة و الأحزاب ، و ان هذه الأخيرة لا يمكن دراستها دراسة تاريخية مستقلة ، لأنها لا تتمتع بتاريخها الخاص ، و انما اعتمدت في البداية و السياق و النهاية على مقتضيات السلطة و شروطها و حاجاتها... ولعل مكمن الافلاس الديموقراطي في الجزائر ان الساحة السياسية لم تتشكل منذ البداية بمجالها الثقافي كشرط لازب لأية ممارسة للشأن العام ، و كل ما حدث هو افتراض التعددية في الهوامش و الأطراف مع بناء السلطة الفعلية في المركز و النواة .
فقد انطوت الأحزاب السياسية على قصور واضح ، لم تتعرف عليه منذ البداية لأنها كانت عاجزة عن ادراكه ثقافيا ، كما لم تكن بيدها الوسائل الشرعية للفعل السياسي ، وانتهت تجربة الأحزاب السياسية الى انهاتجارب غير مكتفية بذاتها و لا يمكن بالتالي كتابة تاريخها الخاص كرافد يصب في تاريخ الفكر السياسي الجزائري المعاصر . فاذا كانت معظم الأحزاب من انشاء السلطة ، فان الباقي – عدا حزب القوى الاشتراكية – ساهم بقصوره في تأييد نظام الحكم و بالتالي تفويت فرصة الوصول الى الديموقراطية عبر وصول المعارضة الحقيقية الى السلطة ، الضامن الحقيقي لبداية المسارالديموقراطي السليم و بداية عدّها التصاعدي الذي يرسخ رصيدها التاريخي و يعزز مستقبلها .
و توكيدا لما سبق ، نرى أن الديموقراطية طلبها الجميع وأخفق فيها الجميع أيضا ، و من هنا مكمن المأزق الذي آلت اليه الأوضاع ، و نبهت الجميع الى ضعف ثقافة الدولة و هشاشة الوعي السياسي في مسألة خطيرة و هي زرع الديموقراطية كأسلوب للحكم و ادارة المجتمع . فقد توسلت المعارضة الاسلامية الأسلوب الديموقراطي للوصول الى الحكم ، و التمست السلطة أيضا أسلوب الديموقراطية لصد المعارضة عن الوصول الى الحكم .
و استمر الوضع على ذلك الحال الى اليوم ، و بقتت الديموقراطية كاشكالية تراوح مكانها في الوقت التي تزيد الأوضاع سوء.. بل تراجعت مسألة الديموقراطية من سلم الأولويات و حلّ محلّلها استعادة الأمن و استمرار مؤسسات الدولة ، و البحث عن اسعافات خارجية بسبب الضعف الذي انتاب مفاصل و دواليب نظام الحكم ونفاد مدخراته الذاتية طوال أكثر من عقد من زمن الأزمة .
وثمة أمر آخر على جانب كبير من الخطورة أفرزته أزمة الديموقراطية في الجزائر ، و يتعلق بتقلص فضاء التعبير لؤلائك الذين شاركوا بصورة من الصور في اسعاف و انقاذ السلطة من وصول المعارضة الى الحكم , فقد وظفت قوى سياسية بسبب قلة مصداقيتها و افتقارها الى التجربة الذاتية التي تبرر وجودها في ساحة العمل السياسي ، و فقدت بالتالي حق الكلام و الاقتراح و ادارة الشأن العام. فقد تآكلت أرصدة الأحزاب السياسية في دواليب النظام بالقدر الذي تعرّت فيها نواياها و انطلقاتها الخاطئة ، و صار من الصعب اسناد لها ادارة الشأن العام ، فضلا على أن ليس بوسع السلطة أن تجدد آليات الحكم نحو توسيع قاعدة المشاركة و المسئولية . و هذا بالضبط ما عقّد الأزمة السياسية و كشفت انسداد الخيال في تقديم و تصور الحلول و البدائل بعد نفاد وسائل و امكانات يعوّل عليها في اجتراح عتبة الحل السياسي .
ان السلطة ، كما يرى الباحث الجزائري هوّاري عدّي ، طرحت بعد الاستقلال مباشرة كغاية ، و لم تطرح اطلاقا كوسيلة لترقية العمل السياسي و تكوين طبقة سياسية . فقد شاع تعبير في الأدبيات الفرنسية ، أن ما بعد الاستقلال شهدت الجزائر سعيا لاهثا نحو البحث عن السلطة بكل الوسائل ومهماكانت الطرق ، و صارت السلطة المقصد النهائي و مطاف اللعبة السياسية , و بالفعل فقد تبين أن مشروع الدولة ، في نهاية التحليل السياسي و الاجتماعي ، هو بناء رأسمالية الدولة التي شكلت أربابها و عرّابها ، و صارت الدولة/السلطة مصدر و حامية السلطة . و عليه ، فالاشتراكية كمشروع بناء مؤسسات لا تزول بزوال الرجال ، كما ورد في تصريح بيان 19 جوان / حزيران 1965 ، المتعلّق بالانقلاب الثوري على نظام مابعد 1962، فقد دام هذا المشروع قرابة العشر سنوات فقط ، مّدة بقاء الرئيس هوّاري بومدين في سدّة الحكم أي الىغاية 1978. ثم جاءت مرحلة أطلق عليها مرحلة المراجعة والتراجع عن الخط الاشتراكي و بداية العمل بقانون السوق الذي طال أكثر من عشرين سنة و لم تفلح السلطة الى غاية اليوم في تأسيس و تحرير مجالاته ، و تمكين آلياته و التحكم في دواليبه الاقتصادية و التجارية و المالية و السياسية¸، فقد طالت مدّة البحث عن مجالات السوق و نظامه أكثر من مدّة تطبيق الاشتراكية ، و مع ذلك لازال الجميع تقريبا يكيل تهمة الافلاس السياسي الى التطبيق الاشتراكي . و هذا وجه آخر من وجوه المفارقة التي صنعها الاعلام الرسمي و يتغذاها الرأي العام كتقية لتمديد عمر أزمة الديموقراطية في الجزائر . ولعلّ هذا كفيل بأن يفصح من الناحية السوسيولوجية و السياسية و الثقافية عن غياب أصلي لفكرة مشروع بناء الدولة و مؤسسات الحكم تحايث الواقع و تفرزه بشكل يعبر عن جدلية شرعية بين الواقع التاريخي و فكرة المشروع المراد تحقيقه ، أي أن التخلف كان مرافقا لتصوّر المشروع و ينم عن حقيقة مروّعة لا يمكن الافتئات عليها و تحتاج الى وعي حاد بها قبل كل محاولة تطمح الى بناء الديموقراطية .
فقد كشفت الأزمة الجزائرية الأخيرة عن خلفيتها و ما قبل تاريخها عندما عبرت عن أن السلطة حكم مصادر مستحكم في نواة لا تريد أن تطلق سراحه ، و تخاف من أي محاولات التحرير .. لا بل فقد انطوت السلطة على الخوف من الديموقراطية التي تسعى الى ردم الفجوة السحيقة ما بين السلطة و المجتمع ، أي تحرير التواصل لآليات التمثيل و معايير الاستحقاق و الجدارة التي تثري التجربة الديموقراطية و تزيد من صلابة النواة الحيوية للنظام السياسي .
ان استمرار منطق الشرعية الثورية و الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار ، و انبناء نواة الحكم على مصدر عسكري ، من شأنه أن يبقي الديموقراطية في حكم المؤجل. لأنه ستنتهي كل صور و صيغ التلاعب بحتمية الحل الديموقراطي للأزمة الجزائرية التي تعد في جوهرها تعبير عن الغياب المتواصل لمقتضيات الديموقراطية من الفضّ السلمي للنزاعات الاجتماعية و السياسية، و امكانية تداول المسئوليات العليا و ليس السيطرة على مؤسسات الدولة أو محاولة امتلاكها و الا أخذ النظام السياسي الشكل الاستبدادي . فالسلطة كما يرى الفكر الفرنسي كلود لوفور* غير قابلة للامتلاك، و مجالها فارغ غير قابل الاستحواذ. و بتعبير آخر فالأحزاب الديموقراطية* هي تلك التي تسعى الى الحكم و ليس لمتلاكه. و الدولة بالتعريف هي مؤسسة رمزية يصعب امتلاكها أو استيعابها من قبل حزب واحد أو فرد واحد، لأنها تعني الجميع ، وفكرة الجماعة هي التي تعطي مدلول العمومية التي تمثل الخاصية الجوهرية للدولة . و أفضل طريق لآضفاء الرمزية و المعنوية على الدولة هو الأسلوب الديموقراطي في ادارة الحكم و تسيير الشؤون العامة للمجتمع و الدولة.
جبهة التحرير الوطني : الحزب ، الدولة، الأمة
لامراء أن جبهة التحرير الوطني، هي التي تقدّمت المشهد السياسي و التاريخي للجزائر المعاصرة ، بفعل الثورة التحريرية التي نقلت الجزائر من عهد الاستعمار الى عهد الاستقلال . وقد كان لهذا الفعل قوة ابداع الجزائر ذاتها و غطى على كل المكونات و الجوانب التي لم تكن ظاهرة في الكيان الجزائري ابان الاحتلال الفرنسي له. فسنوات الثورة ثم الاستقلال كانت كافية لكي تستولي جبهة التحرير الوطني على الأداة)الحزب( ثم الموسسات)الدولة ( و الكيان) الأمة(. فقد كانت ثورة التحرير الوطني 1954-1962، ثورة مؤسسة و فاعلة تجاوبت مع مقتضيات العصر الجديد الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية النابذة للاستعمار و الاحتلال ، و المتجهة الى تأسيس الدول على مقومات الأمة و المواطنة، و من هنا استأهلت جبهة التحرير الوطني صفة صانعة المجد التاريخي للجزائر، و صارت على هذا الأساس المثال الذي يحتذى في العالم الثالث .
غطى حدث الثورة على كل المقوّمات الذاتية و المراحل السّابقة للحركة الوطنية1926-1954 و علاقتها بالاستعمار، و لم تعبأ الا بلحظة الثورة، و سيرورتها كفعل كاسح لا يتوقف الا ليحصد من يعترض عليها أو يروم التوقف لاعادة التفكير و تحسس الطريق السليم لمنجازات الثورة . فقد استمر منطق الثورة وافتراض الحرب على الأعداء الجدد لكي تتمكن الجبهة من الاستحواذ على الحزب و الدولة و الأمة طوال فترة الاستقلال في مختلف المراحل ، و لم تعرف كيف تتخلص من هذه المؤسسات و تعيدها الى الجزائر .. لا بل اختزلت الأزمة الجزائرية الراهنة في غياب الديموقراطية المقوّم الأساس في حصول عملية استلام المجتمع لمؤسساته الشرعية من سلطة الثورة ، و هذا ما أبرزته الأنتخابات التشريعية مطلع التسعينيات ، عندما عمدت السلطة السياسية الى الغاء نتائج الأقتراع بسبب هزيمة جبهة التحرير الوطني ، و نبه الجميع الى أن الجبهة لا زالت تملك فعلا الدولة و الأمة ....
ان الانتصار الكبير الذي حققته جبهة التحرير الوطني على قوة استعمارية كبيرة مثل فرنسا ، مثّل أيضا وضعا خطيرا ، لأن عظمة الانتصار لم تماثله و توازيه قوة في الاستعداد لبناء الدولة و مؤسساتها ، فكلما كان الانتصار عظيما كلما جاء التحدي كبيرا أيضا ، خاصة على مستوى وسائل تحقيق مشروع و محتوى الاستقلال الوطني . وقد برز هذا التحدي في سوء الانطلاق نحو تحقيق مؤسسات لا تزول بزوال الرجال ، و نظام حكم غير قابل للامتلاك و كان من مضاعفات هذا الوضع افتقار الدولة لعنصر الشعب عندما قدّم أكثر من ثلات أرباع أصواته الى غير حزب جبهة التحرير الوطني في أوّل انتخابات تشريعية .
ان انتصار الثورة التحريرية غطى على التاريخ الحقيقي للثورة المسلّحة . فقد كان الانتصار كافيا لكي يختزل التاريخ الجزائر الحديث في تاريخ جبهة التحرير الوطني و العناصر الفاعلة فيه . فنشوة الانتصار طالت مدّتها أكثر من اللازم ، و الشرعية الثورية كمرجعية طالت بدورها أكثر مما ينبغي ، و ضاعت علينا بسبب ذلك مسألة مهمة جدا ، و هي البحث التاريخي العلمي و الموضوعي لكي يعاد للثورة معقوليتها و فهم أسبابها وسياق جريانها ، و كيف صارت ممكنة ووجوه الاخفاق و النجاح الذي رافقها ، أي بتعبير واضح ماذا أضافت الثورة المسلّحة و الحركة الوطنية قبلها الى علم التاريخ و التاريخ الجزائرى بشكل خاص، لأن مشكلة تحرير التاريخ الجزائري مازالت معلقة و تعاني من عوائق لم يتيسر للجزائريين سبل تجاوزها كامكانية لظهور مجالات جديدة تعول عليه الديموقراطية عند الشروع فيها . فعلى سبيل المثال ، أن تاريخ الجزائر لازال يكتب بالفرنسية ، رؤية و لغة ، و لم يتحرّر كما تحررت الثورة المسلحة و حصلت على الاستقلال . و وجه الاخفاق في تحرّر التاريخ و امتلاك الذات و الوعي بحقيقة الوطن ، هو الكتابة المناسبتية و الخطابات الرسمية الظرفية و المفرطة في الاحتفالية و التبجيلية ، حيث طمست كل محاولات الكتابة الجادة العلمية التي لا تكتفي بتاريخ جبهة التحرير، و انما تلتفت أيضا الى العناصر التي صنعت التاريخ في كل وجوهه و جعلت الثورة ممكنة . كما يمكن الاشارة الى غياب التاريخ الآخر لجبهة التحرير لكي نؤكد على فقر التاريخ السياسي من جوانب مختلفة لم يعرّف بها كحقائق ، و لم تتمثلها الأجيال اللاحقة على الاستقلال. فقد كان هناك خلاف بين عدة أطراف و فاعلي الحدث السياسي العام قبل و ابان و بعد الثورة : حكومة باريس ضد الوطنيين الجزائريين ، جبهة التحرير الوطني ضد الحركة الوطنية الجزائرية للزعيم مصالي الحاج ، الأوروبيون ضد المسلمين الجزائريين ، المستوطنون و الأقدام السوداء ضد فرنسيي فرنسا ، ثم و ليس أخيرا المنظمة الجيش السرى ضد الجيش النظامي افرنسي ، فضلا على جبهة التحرير كانت تقطعها عدة تيارات و توجهات و ايديولوجيات .
فقد كان لهذا الغياب ، أي عدم اعتراف و عدم اكتراث جبهة التحرير الوطني كحزب في السلطة ، بهذا الخلاف و الاختلاف هو الذي أفضى الى ظهور أزمة الديموقراطية بوجهها الخطير و الذي نعيش آثارها الى اليوم . فقد ولجت الجبهة /الحزب العمل السياسي التعددي بالذهنية الأحادية التي تأباها الحياة الديموقراطية في الأصل و المسعى .
كانت الثورة من مميزات الجبهة ، و عندما جاء الاستقلال عام 1962 كان مشروع الدولة و متطلبات الاستقلال و السلم الاجتماعي و المرحلة الانتقالية و الاجماع الوطني من العوالم التي لم تألفها جبهة التحرير . فقد كان عليها ان تعيد تهيئة النفس لكي تتجاوب مع حياة تختلف كلية عن عهد الحرب و الاحتلال . فوجدت صعوبة كبيرة لأن الاستقلال كان الى حد كبير استمرار للثورة بوسائل أخرى ، و لعل أهمّها غياب المستعمر ذاته ، و استمر الخطاب الثوري يفترض وجود العدو الخارجي سواء عني به الطابور الخامس ، أو الاستعمار الجديد ، أوالمتربصين بالثورة. و لعل هذا ما جعلنا نفهم أكثر لماذا أخفقت جبهة التحرير في تحرير مجالها السياسي المدني ، و انفراد بالتالي القيادة العسكرية أي جيش التحرير الذي استولى – بسبب فوضى أوضاع الاستقلال(4)- على السلطة، و تحولت مع الأعوام الى مؤسسة عسكرية بالقوة و القانون و الفعل ، لها دولة *و تتوكأ على مرجعية تحرير الوطن من المستعمر و تمكنت من الاحتفاظ بنواة السيادة التي تكثف السياسة و الاقتصاد و القوة الردعية و القمعية تجاه الأطراف التي تحاول أن تتموقع خارج اطارها أو تأتي من غير المجال المؤسسة العسكرية . و هذا وجه آخر من وجوه الاخفاق للجبهة في تجربتها مع الديموقراطية ، عندما انفلتت منها السيادة المدنية ، و أعطت بالتالي ثنائية لرأس السلطة أ افصح عن مأزقه عند أوت انتخابات تعددية عام 1991/1992.
جبهة التحرير ، جبهة استوعبت في صفوفها جميع العناصر التي ساهمت بصورة من الصور في الثورة التحريرية ، فقد انطوت منذ البداية على التعددية و الاختلاف لكن داخل اطار الحزب أثناء الجلسات و المؤتمرات . ومن شأن هذا الاختلاف و التعدد أن يحتوي على الطرف و نقيضه ، الاسلامي المناهض أصلا للوطني ، و المناهض بدوره للفرنكو-لائكي ، و المتمثل للنموذج الفرنسي في الجزائر المناقض للعروبي الذي يولي وجهه نحو المشرق العربي و تياراته البعثية و القومية و العروبية .. علاوة علىوجود التيار الكبير من القوى الانتهازية التي ليس لها محل من المشهد السياسي العام و تمثل قوة هلامية ، غير واضحة ، لا تعرف كيف تبدي مواقفها و لا الدفاع عنها ، و ليست على قناعة في شيء سوى مصالحها الضيقة واغتنام الفرص و المناسبات و التأثير على مجريات الانتخابات لصالح ممثل السلطة الفعلية . فقد بقيت الجبهة تتفرّج على الأحداث التي جاءت بعد الغاء الانتخابات مطلع التسعينيات و أنفضح أمرها عندما اكتشف الجميع العجز المضمر في جهاز الحزب و أنه مجر تقية للمؤسسة العسكرية .
أما اللحظة الثانية التي أفصحت عن هلامية حزب جبهة التحرير الوطني زمن التعددية ، فتمثل في لحظة انتخاب السيد ليامين زروال رئيسا للدولة عام 1995، بعد رتّب له حزب جديد من رحم جبهة التحرير التي طالها الموقف الفاسد جراء الغاء الانتخابات التشريعية الأولى . فقد كان الحزب الجديد ، حزب التجمع الوطني ، نباتا طفيليا تخطى جبهة التحرير . ثم تواصلت اللعبة السياسية حصرا في مجال السلطة فقط أي أنها أصبحت شئنا لا يعني الا دوائر السلطة و النفوذ أما الجماهير فلا تأتي الا لتزكي الرئيس المعيّن ، الذي عادة ما يحمل على ضرورة التنصل من أي حزب كشهادة لاثبات بعده عن التلوث الحزبي ، و يسمح له بالتالي الطعن و نقد كل الأحزاب و حتى الشعب ، و تحميلهما مسؤولية فشل و اخفاق البرامج و المشاريع ، و هذا ما تأباه بطبيعة الحال الديموقراطية التي تبحث دائما عن مسؤولية الفشل في حزب الرئيس .
و ما يؤجل الديموقراطية في الحياة الحزبية و منه حزب جبهة التحري ، هو استمرار الاهتمام بالشأن الداخلي للحزب على حساب الحياة السياسية العامة و الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و حياة المواطنين بشكل عام . فالمناضل السياسي يمكن أن يكون عرضة لاجراءات عقابية اذا تنافى سلوكه مع توجيهات الحزب و لوائه الداخلية ، لكن قلّما يكترث الحزب بالاخطاء و التجاوزات و الفشل في تحقيق برامج التنمية عندما يتسبب فيها أعضاؤه في الحكومة . و هكذا ، فالاعتبار الداخلي لصالح الحزب يتفوق على اعتبار المجتمع و الدولة ، فلا وجود للجزائم السياسية و لا يخضع المسؤول السياسي لاجراءات الحق العام لأن السلطة الفعلية التي عيّنته موجودة فوق سلطة الدولة الشرعية .
حزب اسلامي في لعبة الديموقراطية
يمثل حزب مجتمع السلم – الاسلامي سابقا- تجربة لحزب اسلامي حاول أن يتعاطى مع الوضع المؤسساتي الرسمي لدولة حديثة النشأة ، و يكشف أيضا عن مدى قدرة هذا التنظيم القائم على أساس ديني ، ان على المستوى المنطلق أو على مستوى الخطاب و اختيار الممكن في الحياة العامة. فقد كان حزب مجتمع السلم الحزب الوحيد الذي خاض تجربة مع السلطة و ليس ضدّها كرافد لها أنقذها أكثر مما ساعدته على بلورة تصوّرات العمل السياسي الذي يتخذ من الديموقراطية اطارا و منهجا لتوزيع العدل و الثروة في المجتمع . و مهما كان من أمر ، فان تجربة حزب اسلامي في الجزائر هي أساسا قاصرة ، لأنها تمّت في مجتمع متخلف ، يتلمّس طريقه نحو الديموقراطية الحديثة ، و وجه المفارقة في هذه التجربة ، هو محاولة التغاضي عمّا تتطلبه الديموقراطية من مستوى حضاري أو محاولة توريط الديموقراطية في مجتمع لازال يقوم على هياكل اجتماعية و ذهنية منافية لروح الديموقراطية، و منها قيام أحزاب ذات توجه اسلامي التي سوف تسعى الى توكيد الاختلاف الدينى في مجتمع قائم أصلا على مقوّم جوهري هو الدين الاسلامي ، أي بتعبير آخر ، ان انخراط حزب حركة المجتمع الاسلامي مع بقية الأحزاب الأخرى سوف يفضي لا محالة الى تفتيت عرى الوحدة الاجتماعية و الوطنية ، لأن مقومات الوحدة و الهوّية ليست للامتلاك و المزايادات بعد استردادها من المستعمر ، و انما تندرج في النسيج العام لا نسأل عليها الا من خارج السياسية و نسعى الى توكيدها عبر الابداع و الخلق و الانتاج الذي يستلهم الهوّية و مقوّماتها .
وهكذا، فمجتمع السلم لا يختلف كثيرا عن باقي الأحزاب الاسلامية في العالم العربي التي أخفقت في الوصول الى السلطة و التحصّن بمزيد من التجربة الديموقراطية و تكويد رؤية حديثة لفض النزاعات السياسية و ادارة و تسيير الشأن العام دونما خلط لمراحل التاريخ ، مرحلة المطالبة باستعادة الاستقلال و الكفاح المسلح ضد الاستعمار و مرحلة السلم الاجتماعي و الاستقلال الوطني . و تنفرد حركة مجتمع السلم أن سجلها التاريخي يحتفظ به نظام الحكم لأنه هو الذي دعّمها منذ البداية بعد ما استنفذت نفسها في أول انتخابات تشريعية ديسمبر /كانون أول 1991، و لم تعد تقوى على التجديد وتغيير التاكتيك السياسي و لا تعبئة الشعب على يقينيات تتماشى و روح العصر و معطيات الواقع ، خاصة التعاون مع بقية الأحزاب الأخرى في مواجهة السلطة ، كما لم تستطع أن تبلور مواقف سياسية تخدم رصيد الحزب ، علاوة على غياب البرنامج السياسي في كيفية الحكم . و لعّل هذه الأخيرة كانت ملازمة له منذ البداية(5) ، و تمثل في واقع الأمر ثغرة كبيرة لدى جميع الأحزاب السياسية الاسلامية بشكل عام .
دخل حزب حركة مجتمع السّلم المعمعان السياسي دونما استعداد يذكر ، و تحت ضغط أجبره على الانسياق مع ملابسات و تداعيات لحظة الغاء الانتخابات التشريعية التعددية الأولى في تاريخ الجزائر عام1991، و قبلت التعاطي مع الخارطة السياسية الجديدة التي فرضتها السلطة العسكرية .
ثمة حقيقة ، أكدتها التجربة الدموقراطية في الجزائر ، و تنسحب على جميع الأحزاب ذات التوجه الاسلامي ، و هي أنها فعلا أحزاب دينية بالمعنى الدقيق للكلمة ،من حيث التصور و الوسيلة و الغايات المنشودة ، حتى و ان أدعت غير ذلك و قدمت برامج عادية ، وأي تنكّر لذلك ، دليل آخر على عدم مصداقية الحزب و ضعف وجوده السياسي . و لعلّ مقتل الأحزاب الدينية أنها جازفت بمقوّم جوهري في المجتمع الجزائري ودخلت به المعترك السياسي بدل أن تبقيه بمنآى عن التلاعبات السياسية ، و لا تستغله ضدا على الأحزاب العلمانية و الأحزاب الوطنية و غيرها . فقد كان المدخل السياسي لحركة مجتمع السلم يمثل الخطيئة الأصلية التي يصعب معها ترتيب نتائج طيبة ، لأنها ولجت العمل السياسي ليس ضدا على الأحزاب غير الاسلامية و ليس أيضا ضد السلطة ، و أنما ضد أحزاب اسلامية أخرى خاصة الجبهة الاسلامية للانقاذ التي حلها النظام في أعقاب الغاء الانتخابات التشريعية لعام 1991. لأن الأحزاب السياسية ذات التوجه الديني ، كانت منذ البداية قاصرة عن ادراك مجال السياسة ، أي استقلال السياسة بحقلها الخاص و عقلها الذي يحكمه منطق اختيار البدائل الممكنة في التاريخ و ليس بعيدا عنه . و لعل عجز هذه الأحزاب ، ومنها حركة مجتمع السلم / الاسلامي ، عن ادراك المجال السياسي و ما يقتضية من طبيعة العمل و النشاط ، هو الذى أدي الى تشرذم داخل الاسلام ذاته ، و أن الصورة العبثية التي كان يمكن أن تصدر عن أي انتخابات تشريعية لاحقة في حالة أنتصارحزب اسلامي ، هي أن هناك اسلام في السلطة و اسلام في المعارصة ، و تختزل المسألة في : عن أي اسلام نتحدث ؟
كادت أحداث 5 أكتوبر 1988 أن تفضي الى الانهيار العام لولا أن بادرت السلطة الى فتح مجالات جديدة للتعبير السياسي ، و اقرار التعديدية السياسية كمشهد جديد في الحياة العامة في دستور جديد فيفري 1989... و لكن ، و بالرغم من ذلك ، جاءت أول انتخابات تشريعية تعددية ديسمبر / كانون الأول محاولة لخيبة عارمة ، كاشفة عن فقر مدقع بالثقافة الديموقراطية ، و عن حساسية مرضية للجسد السياسي الحاكم من الحريات و نظرية تداول السلطة ، فقلبت الطاولة على الجميع ، وتصدّعت على اثرها هياكل و مؤسسات الدولة و المجتمع بسبب الغاء هذه الانتخابات ، و لانزال تعاني هذا التصدع ، و كل محاولات جبر الكسور و رأب الشقوق باءت بالفشل . و صار الفشل حالة ملازمة لكل هذه المرحلة . و هكذا ، فقد دخل حزب محفوظ نحناح*اللعبة السياسية في ظل هذا الاخفاق الذريع للديموقراطية ، بعد ما تخلى و تنكّر لطبيعة التنظيم الاجتماعي الذي كان يتزعّمه جمعية الاصلاح و الارشاد التي كانت تسعى الى التكافل الاجتماعي و العمل الخيري و النفع العام ، لا تشترط معايير و لا شروط الاستحقاق لخدماتها . فقد تحوّل البرنامج الاجتماعي في لحظة واحدة الى برنامج سياسي ، أدى الى نسف الرصيد الاجماعي و الأخلاقي الديني الذي راكمته جمعية الاصلاح و الارشاد ، و ورّط في معارك مرهقة خاصة مع الجبهة الاسلامية قبل و بعد حلّها من قبل النظام القائم . و على خلاف برنامج حركة المجتمع الاسلامي ، دخلت الجبهة الاسلامية للانقاذ بخطاب اسلامي احتجاجي ضد السلطة و من يناصرها بما في ذلك حماس / حمس ، لا تهادن أحدا ، و من هنا سر اكتساحها الاجتماعي و شعبيتها ، ثم تحقيقها الأغلبية المطلقة في أول انتخابات تشريعية .
لكن بعد الغاء الانتخابات من طرف السلطة العسكرية ، اختير حماس ، لكي يمثل الوجود الاسلامي في دائرة السلطة ، كقوة سياسية تسخّر ضد التيار العلماني المتطرف و في لعبة سياسية تعتمد على بقاء النواة الفعلية للحكم كعراب يملك كل خيوط و أووراق اللعبة خلف الستار . و تمثل هذه الخطوة التي أقدم عليها حماس التورط الثاني في لعبة لا تعرف قواعدها أصلا ، و ذلك عندما قبلت التمثيل السياسي على جثة حزب الجبهة الاسلامية للانقاذ و اشلاء أصواتها التي كانت تعد بالملايين. و كان هذا المصل الذي أتاها من الخارج غير طبيعي ، لأنه لم يتبلور و يتطوّر من داخل التجربة الخاصة . أما ثالت الأثافي الذي أدى الى انكماش الدّور الاسلامي للحزب هو اكتفائه بالتفرّج على الأحداث و قبلوها بشكل سلبي ، و كل الاعتراضات و الاحتجاجات انتهت في نهاية المطاف الى قبول رأي السلطة و الدخول الى صف الطاعة ، على أساس من المساومة القاضية بأن وجود حماس/ حمس يمثل الطرف المسعف لنظام الحكم ، وينتهي وجودها بخروج السلطة من الأزمة ، كما حدث ذلك في انتخابابات الرئاسيات ربيع 1999، و لم يسمح للشيخ محفوظ نحناح بالترشح اليها ، ثم توالت الحركة في التراجع في الانتخابات اللآحقة تشريعيات و محليات .
دخلت حركة حماس/ حمس الى العمل السياسي في اطار محدد لها سلفا ، يحرمها من ممارسة ديموقراطية و حرية المبادرة و امكانية اقتراح .. بل الصورة العبثية التي قدمتها الحركة هي دخولها الحكومة مع بقاء الاحساس بانها غريبة وأنها دائما في المعارضة ، مما نمّ في التحليل النهائي عن افتقار مروّع لفكرة السلطة و فكرة المعارضة ، و عجز عن ادراك مدلول العام / فضلا عن عدم القدرة على الفصل بين الديني و السياسي وماالحد الذي يخدمهما معا .
و عدم اكتفاء حماس / حمس بقدراته و امكاناته ، هي التي جعلته يفقد القدرة أيضا على التحالف مع الأطراف السياسية في الأوقات التي تستدعي ذلك و في ظروف التي تحتاج فيها المعارضة الى حالة من الاستقطاب و التوحد . و هكذا ، فقد تأخّرت عام 1995* عن التوقيع على وثسقة أرضية سانت ايجديو ، مع مجموعة من الأحزاب المعارضة للسلطة القائمة بالقوة الفعلية : مثل جبهة التحرير الوطني بقيادة عبد الحميد مهري ، الذي رضي بالخول في المعارضة بعد أن تراجع حزبه في الانتخابات التشريعية لعام 1991/1992 و ممثلين عن الجبهة الاسلامية للانقاذ و حركة النهضة الاسلامية بقيادة الشيخ عبد الله جاب الله (6) و حزب القوى الاشتراكية وحزب العمل للسيد لويزة حنون .... فبعد أن شاركت حركة الشيخ نحناح في الاجتماعات الأولى ، عدّلت عن التوقيع بايعاز من السلطة ، و انحازت الى معارضة قوى المعارضة و رضيت بموقع مشبوه غير محدد سياسيا .
أما هشاشة الحزب في التصدي و المواجهة ، بسبب الخطيئة الأصلية التي لازمته ، يمكننا أن نذكر على سبيل المثال : اقصاء الشيخ محفوظ نحناح من الترشح الى الانتخابات الرئاسية لعام 1999 ، بعد ما كان قد شارك في انتخابات عام 1996 ، مكتفيا باداء دور الأرنب في المسابقة الانتخابية ، انصياعه لغيير اسم الحزب من حركة مجتمع االاسلامي الى حركة مجتمع السلم أي تصفيتها من الصلة الاسلامية و هو ما يعد اجهازا على بقايا تاريخ الحركة و تمييع لمادتها الدينية .، كما أن حزب نحناح استقل بدور مشارك شكلى و ليس مساهم في صياغة قرارات الدولة و لا يخرج اطلاقا عن التصويت لصالح مشاريع القوانين التي تتقدم بها السلطة الا بالقدر الذي تقدر فيه السلطة أنها لا تحتاج الى صوت حماس داخل البرلمان .
أخيرا و ليس آخرا، ما يؤكد علاقة النزعة الشعبوية لنظام الحكم و النزعة الاسلامية ، هو أن هذه الأخيرة تشكلت من وحي الخطاب الشعبوي و الثقافة الأحدية لجبهة التحرير الوطن طوال حكمها بعد الاستقلال الى غاية بداية التسعينيات (7) , فالخطاب الاسلامي ، و حتى و لئن ادعى أنه معارض للسلطةالقائمة ، فان معاضته ، لا تعدو كونها تنوعا عن طبيعة واحدة ، و لا ترتقي اطلاقا الى الاختلاف في التصور و المنهج و انتاج المعنى المغاير ، كل ما في الأمر أنه خلاف مزاجي عارض و لا يؤسس لما بعده , و يبقى دائما رهينا الطرف الذي يعترض عليه و يتغذى منه ، الى حد يصعب عليه الاستقلال بذاته ، و لعل هذا ما جعل التيار الاسلامي ، من خلال التجربة الأخيرة ، يفتقر الى الأصالة و الثقافة الذاتية . و من هنا نفهم جيدا اقدام النظام على الغاء الانتخابات التشريعية لعام 1991/ 1992 مخافة أن يقوم الحزب الاسلامي الفائز بنفس عمل السلطة أي مصادرة الحريات و الخيارات الممكنة ، و اعاقة الديموقراطية ، لأنه من جنس التيار الأحادي . و على هذا الأساس ، لا يمكن أن نبتعد عن الحقيقة اذا ربطنا الصلة بين التيار الاسلامي و التيار الشعبوي في علاقة صهرية لا يمكن فصم عراها الا عند التحليل و البحث العلمي . أما تاريخيا ، فقد عبرا التياران معا عن مضمون واحد ، الشعبوية و الارتجالية ، غياب النصوص الكبرى ، غياب الوعي التاريخي في انجاز المشاريع.
مستقبل الديموقراطية في الجزائر
(1)
- كانت ثورة التحرير الوطني 1954-1962، ثورة شاملة ، و افصاح متقدم لخلفية تاريخية عن مقومات و هياكل المجتمع الجزائري برمته الى حد لا يصح للأحزاب الدينية و لجبهة التحرير كحجزب أن تتلمس منها الشرعية السياسية . و يبقى المعول الوحيد لهذه الأحزاب و غيرها هو ما الذي تستطيع أن تقدمه زمن السلم الاجتماعي و العمل السياسي القائم على فكرة الاجماع الوطني و القيم الانسانية و العالمية التي يكتب بها التاريخ الانساني الراهن . ان النشاط السياسي الرامي الى الوصول الى السلطة لادارة الشأن العام يحتاج الى الجدارة و الاستحقاق و القدرة على الانخراط في الحياة العامة للاجابة على انشغالات و تساؤلات و مشاكل المواطنين) المواطن الذي له حقوق تبرر وجود الدولة).
و لكن هذا ما لم يستطع أن يحققه حزب حركة مجتمع الاسلامي / السلم ، لأنه بقي يعارض السلطة بنفس المفاهيم و الأفكار و لغة الخطاب الشعبوي ، دون أن يصل الى الاستقلال بفكره الخاص و برنامج يكتفي بذاته ان من حيث النشأة و السيرورة و رسم الغايات .
ان المأزق الذي آلت اليه القوى السياسية في الجزائر ، ومنها خاصة جبهة التحرير الوطني ، أنها دخلت لعبة المزاحمة في من يستحق الشرعية الثورية و التاريخية ، أي ان الكل انصرف الى التماس استحقاق السلطة من زاية البحث في الماضي ، و لم يستطع أن يبلور برنامجه و خطابه و مفردات قاموسه من الواقع الفوري الذي يتجاوب مع الجماهير التي تبقى دائما هي المحك الحقيقي لاستحقاق السلطة . و هكذا استمر حزب جبهة التحرير الوطني محملا بثقل لم يستطع التخلص منه لأنه مثل مبرر وجوده منذ البداية ، و كان عليه أن يفكر تفكيرا حضاريا واعيا لشروط تاريخية جديدة لكي يتجاوز الشرعية الثورية و يؤسس لنفسه مسارا جديدا في زمن الديموقراطية و الشرعية الدستورية . و هذاما لم يحصل ، و ضاعت فرصة تأسيسية التي يستدعى لها جميع القوى السياسية و الاجتماعية لتدشين عصر جديد اسمه عصر التعددية لفائدة الوحدة الوطنية .
ان غياب لحظة لقاء الجميع عطلت الخروج من الأزمة و تمادت السلطة في حبك تاكتيك الحضور و الغياب كلعبة سياسية تسويفية للاحتفاظ أكثر بالحكم . فالنظام هو الذي يحدد الأطراف التي يتعامل معها و التي يقصيها حسب مقتضيات الحالة السياسية و دائما في أفق الاحتفاظ بالحكم . فقد غاب النظام في اللقاء دعت اليه جمعية سانت أجيديو* عام 1995 ، كسبيل لحل الأزمة السياسية ، بعد ما تأكدت من جدية مسعى الجمعية و الحضور الحقيقي للأطراف الفاعلة في ساحة المجتمع الجزائري .
ان مستقبل الديموقراطية في الجزائر مرهون بشكل حثيث بتوفير لحظة لقاء الجميع سلطة و أحزاب ، لأن لعبة النظام المتمثلة في التواري خلف الأحزاب و توظيفهم في الأوقات المناسبة من أجل الاحتفاظ بالسلطة و الثروة و الخطاب الرسمي ، لم تعد تجد بقدر ما صارت تضر و يزيد شرها على الدولة و المجتمع .
(2)
الحديث عن الديموقراطية ، يتم في سياق تطور اقتصادي ، و أوضاع اجتماعية تتحسن . و صارت الديموقراطية تتحدد بوجود نسبة مقبولة من التنمية ، اضافة الى الخدمات التي تقدم الى المواطنين ، علاوة على حسن التدبير السياسي لنظام الحكم مثل مبدا فصل السلطات ، نزاهة الانتخابات ، وجود اجماع عام حقيقي يلتزم به الجميع في الشدائد كما في المسرات . لكن اذا كانت الديموقراطية تقتضي كل ذلك، فانه في حالة الجزائر ، يصعب التنبؤ بتحسن الأوضاع الشرط اللازب لامكانية الحديث عن ديموقراطية تتحسن، لأن الجزائر منذ ان ولجت الأزمة في وجوهها المتعددة ، لا تترى أوضاعها لاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية تتفاقم و تؤجل بالتالي قدوم لحظة اللقاء مع مسار الديموقراطي السليم .
في السنوات الأخيرة حرص التاريخ الجزائري أن يكتب سجله بالكوارث و الأزمات و المآزق و المشاكل الحادة التي تتعقد يوما بعد آخر . كيف يمكن الحديث عن الديموقراطية كمفتاح لحل الأزمة السياسية في الوقت الذي يزيد فيه منسوب الفقر و البطالة و الفساد المالي و التجاري و الاختراق السياسي و القانوني للمؤساسات الدولة . و لم يكفي الجزائر كل ذلك لتضاف اليها الكوارث الطبيعية بسبب الاهمال الأرعن و غياب الشفافية ، كان آخرها الزلزال الذي ضرب مدينتي الجزائر و بومرداس في 21 ماي الفارط ، وأسفر عن مقتل أكثر من 2000 شخصا و آلاف آخرين من الجرحى ، حدث هذا و اثار كارثة الطوفان الذي ألم بحي باب الواد في مدينة الجزائر العام الماضي 10 نوفمبر 2001 ، لا تزال عالقة بالأذهان ، و أسفرت هي أيضا على قرابة الألف من الضحايا ، ناهيك عن الأرهاب و العنف و الاغتيال اليومي الذي تأصل في تلافيف و نسيج المجتمع و الدولة .
و ما يؤشر فعلا على صعوبة ما يواجه الجزائر في المستقبل القريب هو انسداد الأفق و جمود الرؤية المستقبلية بعد ما تكاثرت المصاعب و المعضلات . فقد ظهرت في الآونة الأخيرة أمراض كانت في عداد المنقرضة مثل الطاعون و التيفوئيد ، فضلا على انتشار الأوبئة و التلوث المرعب للبيئة و الفساد العمراني المتواصل كالسرطان الذي شوه المدن و الأرياف ، الغلاء الفاحش للمعيشة في ظروف اقتصادية تتحكم فيها مافيا المال و الأعمال ، التي برهنت على قدرتها على تأسيس الأمبراطوريات المالية و التجارية و هدمها بتصرفات رعناء و اجراءات طائشة غير مسؤولة تسبب دمار اقتصادي و اجتماعي اثاره لا تتوقف اطلاقا .
و هكذا ، يصعب ازدهار الديموقراطية في سياق اجتماعي و سياسي مناوىء لها ، خاصة ، وهنا الخطر القاتل ، أن الرأسمال الرمزي الّذي يعد القاعدة المعيارية التي يتوكؤ عليها المجتمع الجزائري ، تفقد يوميا قيما و خصالا و فضائلا و مزايا من دون أن تعوض بأخرى عدا السلب و النهب و تويهن أواصر النسيج الاجتماعي التي تسبب في ارتفاع معدل الجرائم و حوادث الطرقات و الافلاس الأخلاقي و المعنوي .
و من هنا التوكيد على حقيقة مفزعة و مزعجة للجزائر . فبعض هذه المظاهر السلبية موجودة في العديد من الدول ، و هذا صحيح الى حد كبير ، لكن ما تنفرد به الجزائر التي تعيش فقط على ريع النفط ، هو أن مظاهر الفساد تمثل معطى يومي يجري التعامل معه كأنه قدر محتوم يجب تسييره ، و استمرار قناعة عدم قدرة الدولة على الحل في ما يشبه اعلان ضمني عن اشهار افلاس لنظام يبحث أكثر عن مساعدات خارجية لاسعافه و اعادته الى جادة الطريق الذي سلكته الدول الحديثة .
(3)
العالم من حولنا يتطور و يشهد خطوات عملاقة في مجال تطبيق الديموقراطية الى درجة أنها اجتاحت كافة المجالات و الميادين ، و لم تعد قاصرة على المجال السياسي بل امتدت و طالت المجال الاقتصادي و الاخلاقي و الديني ، فضلا على اتساع رقعة و اطار تطبيق الديموقراطية لتتعدى اطار الدولة / الأمة و تصل الى المجموعات الجهوية الكبرى مثل المجموعة الأوروبية .. اذا لم نقل ان النظام الدولي يرسي قواعد ديموقراطية تفرض على الجميع و تكون قوة الاقتراح فيها الى الدول العريقة في التجربة الديموقراطية و التي كرست مبادىء و قيم الاختلاف ، و الحكم الراشد و فكرة التناوب و المشاركة وفقا لمبدأ و معيار الاستحقاق و الجدارة .
الأهم من ذلك أن المجتمع الدولي ينحو الى ارساء أساليب الحكم الديموقراطي لتكون مثالا و مرآة لكل الأنظمة الدولانية و تستقبلها في انظمتها القانونية الداخلية . وعلى هذا الأساس ، فمن المتوقع ان لا يترك المجال واسعا لنظام الحكم في الجزائر لكي يتمادى في محاصرة مقتضيات الديموقراطية و طمس الحريات العامة ، و فتح و تحرير المجالات و ابرام علاقات مع المجموعات البشرية الجهوية و الدولية بصورة مباشرة ، عبر ما يعرف بالديموقراطية الاسهامية(8) ، التي تقتضي من جملة ما تقتضي الاحتكام ليس الى الهيئات القضائية المحلية فقط .. بل أيضا الى المحاكم و الهيئات الخارجية أيضا .
ان مسار العالم اليوم يسير نحو استبعاد ، بصورة قطعية ، الأنظمة الشمولية ، و أساليب الحكم الجائر التسلطي . و من جملة الآليات التي وظفت لمقاومة الأشكال الاستبدادية ، الحصار الدولي الذي تفرضه الأمم المتحدة و الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها القوة الفعلية في العالم ..أو هيئات فاعلة على الصعيد الدولي و قادرة على تطبيق اجراءات الردع و التعزير و الحصار كأسلوب لتفادي « النمو الوحشي لأنظمة الحكم الفاسدة » و التي تأباها الديموقراطية العالمية(9) .
هل معنى ذلك أن الجزائر سوف تشهد ازدهار الديموقراطية بسبب السياق الدولي الجديد المؤثر على الدول التي تعاني غياب الديموقراطية ، و أن الديموقراطية قادمة فعلا في الجزائر عبر أحزابها . بطبيعة الحال من الصعوبة بمكان الافراط في الثقة و الارتياح الى مثل هذا التوجه لأن آليات استبعاد الديموقراطية و الالتفاف حولها لا تكف هي أيضا من الظهور باشكال مختلفة لأن المستفدين من الأوضاع القائمة التي تغّيب أشكال الحكم الشفاف و الواضح النظيف ، سوف يبقون يتصدون لها ، و يقومون لها بالمرصاد . و مع ذلك أو بالرغم من ذلك سوف تؤدّي العلاقات النوعية للتنظيمات الاجتماعية و الثقافية و المهنية الاقتصادية بين الدول الى تحديد حجم تدخل الدوائر المستفيدة من غياب الديموقراطية .
فالديموقراطية التي سوف تنشأ في الجزائر في الأجل المتوسط على الأقل ، لن تكون لها الألوان المحلية بسبب التأثير الخارجي عليها و لأنها تتلقى الفعل أكثر مما تمارسه عن وعي تتفتق به عبقريتها . فتكتفي بالحد الأدنى النمطي الذي يعرّف الديموقراطية بأنها أسلوب ادارة الشأن العام كما تمليه الأعراف و القوانين الدولية كما جرى للتقاليد الديبلوماسية و البروتوكولات التي يسير عليها المجتمع الدولي .
تقلص النموذج الاسلامي و تراجع فكرة الديموقراطية الاسلامية أو الصورة النمطية التي يتمثلها التيار الاسلامي لادارة الحكم . و يمكن توقع ذلك بسبب افلاس التجربة السياسية للأحزاب الاسلامية في الجزائر و عجزها شبه المطلق في تقديم الحل للأزمة ، ناهيك عن بلورة مفهوم اجرائي لادارة حكم راشد يعطي معنى للديموقراطية حتى و لولم يسميها بنفس الاسم . فقد كان شعار الاسلام هو الحل ، شعارا فارغا من مضمونه و لا يعنى عند التجربة أي معنى و لا يحمل ، و هنا بيت القصيد ، لا يحمل أي مضمون لأنه لم يستخلص من الواقع و التاريخ . فقدم هذا الشعار في عدة مناسبات من الانتخابات و لوّح به ضد الأحزاب الأخرى و ضد السلطة ، ثم تبيّن عدم مصداقيته بسبب عدم استناده الى نصوص اجتهادية فقهية و فكرية و سياسية كبرى وافتقار الحركة الاسلامية في الجزائر الى مرجعية ايديولوجية محكمة .
هذا من جانب التجربة الداخلية التي تفصح عن ضمور مد الاسلام السياسي، و هناك جانب آخر سوف يؤثر على اشكالية الاسلام و السياسة ، هو ما يحدث لتجربة الاسلام في اوروبا ، التي من المحتمل أن تعيد انتاج لعلاقة جديدة بين الدين الاسلامي و الحياة المدنية الحديثة و يتم طرحها في اطار النظام الجمهوري العلماني و مباديء حقوق الانسان و المواطن . و الجزائر التي كان دائما قدرها في العصر الحديث الأخذ من الآخر عندما يعني فرنسا بالذات ، فانه من المتوقع أن تتأثر الحركات الاسلامية و المؤسسات و الفكر السياسي و الاسلامي بما يسفر عنه الجدل القائم اليوم في فرنسا و نوعية تسيير المسلمين الفرنسيين لشؤونهم الدينية ، و كذا الدنياوية ، عندما يوفقون الى رسم الحدود المقبولة بين الدين و مبادىء الجمهورية أي وجود الاسلام و وجود العلمانية ، وهو ما سوف يحد من غلواء الراديكاليين و أنصار الاسلام الاحتجاجي و يعيد لهم الوعي الىضرورة تجاوز الطبيعة الصدامية بين الاسلام و الفكر السياسي الحديث و المعاصر.
الهوامش
(1)- لمزيد من التفصيل ، حول أن الديموقراطية لا تكف عن التقدم ، يمكن العودة الى : Claudine CALEUX, la démocratie moderne ,éd.Cerf, Paris,1997:
(2)- نقصد أن التوظيف غير الملائم للديموقراطية كما حدث في الجزائر ، يفضي الى تدمير المناعة الاجتماعية ، و الحصانة للشخصية القاعدية للأمة ، و يصبح بعد ذلك عاجزا عن توفير شروط الديموقراطية كأسلوب للحكم و الحياة . و لهذانقول ان مشروع الديموقراطية في الجزائر ، انتقل من امكانية تحقيقها الى البحث عن اسباب غيابها و البحث عن امكانات و شروط صلاحية الحديث عنها . و مشروعية هذه الاشكالية هو أن الوقت قد طال لاستعادة مشروع الديموقراطية و هذا ما لم يحدث الى الآن
(3)- أنظر كتاب الأستاذ هوّاري عدّي بالفرنسية Lahouari Addi ,les mutations de la société algérienne, la Découverte,Paris,1999.
(4)- أنظر بعض الكتب الحديثة التي تؤكد على صعوبة الأوضاع التي انطلقت فيها الجزائر عام 1962.Benyoucef Benkhadda , L Algérie à l indépendance , la crise de 1962,éd.Dahleb, Alger,1997 .
Ali Haroun , l été de la discorde , Algérie1962,Casba éditions, Alger,2000.
(5)- هذا ما يلاحظ مثلا في ننشورات حزب مجتمع السلم / الاسلامي منذ تأسيسه عام 1990 الى اليوم. ففي مشروع السياسة العامة الذي قدمه الى المؤتمر الثالث للحزب ، و مشروع القانون التأسيسي ، لا نلاحظ أي بلورة لمفهوم الديموقراطية و لا لتجربة الحزب خلال حقبة العقد الأخير ، كما لا يقدّم أي مساهمة فعّالة لمواقفه في القضايا المتعلقة بالوطن ، فضلا عن غياب التفكير في كيفية الخروج من الأزمة الحالية ؟ أنظر منشورات اللجنة الوطنية لتحضير المؤتمر الثالث ، أفريل 2003.
(6)- أطلق على هذه الوثيقة بالعقد الوطني الذي وقّع عليها 8 تنظيمات حزبية ، تحت رعاية الكنيسة الكاثولكية سانت ايجديو من 8 الى 13 جانفي / كانون الثاني1995. و قد ضمت الوثيقة البيانات التالية – الاطار : القيم و المبادىء .- التدابير التي تسبق المفاوضات .- اقامة السلم .- العودة الى الشرعية الدستورية .- العودة الى السيادة الشعبية .- الضمانات . أنظر النص الكامل للوثيقة في Le monde diplomatique , mars , 1995.
(7)- لمزيد من التفصيل حول صلة الخطاب الاسلامي بايديولوجية جبهة التحرير ، أنظرLahouari Addi , L Algérie et démocratie ,éd. La Découverte,Paris 1994, p.p.97-119.
(8)- حول معنى هذا المعني الجديد للديموقراطية ، يمكن العودة الى Antoine Bevort, pour une démocratie participative, éd.Presses de sciences po., Paris,2002.
(9)- أنظر مدلول و مسار الديموقراطية العالمية في : :Jean-Yves Ollivier, Démocratie mondiale, éd. Chronique sociale,Lyon,1994.
* أستاذ / باحث جامعة الأمير عبد القادر
قسنطينة / الجزائر
___________________________________________
اللقاء السنوي الثالث عشر 30/8/2003 "الديمقراطية داخل الأحزاب في البلاد العربية"
BERNARD SUNLEY ROOM, ST. CATHERINE’S COLLEGE
UNIVERISTY OF OXFORD
MANOR ROAD, OXFORD, UK.