بقلم الدكتور محمد وائل البيطار طرطوس في 27/8/2003
يجري الحديث في سورية عن تغيير حكومي مهم يأتي بحكومة إصلاحية ، على أن يتم اختيار أعضائها بعناية فائقة ، ليكونوا من أهل الخبرة والإدارة والاختصاص .
موضوع الإصلاح في سوريا موضوع قديم ومطروق سابقا ، وقد كان دائما هدفا أساسيا من أهداف السلطة ، لأنه مطلب طبيعي لكل سلطة تود البقاء في الحكم وتريد أن تكون أمور القيادة سلسة وغير معسرة ، ولكن العثرة الكبرى التي كانت دائما تقف بالمرصاد لكل عملية إصلاحية هو وجود خطوط حمراء عديدة موضوعة بعناية تضمن بقاء الطبقة الحاكمة في السلطة وتمنع تهديد مستقبلها السياسي ، أو بمعنى آخر غياب آليات ديمقراطية تكفل حرية النقد والضغط باتجاه الإصلاح المطلوب ومنها على سبيل المثال حجب الثقة عن الحكومة أو عن بعض وزرائها وهذا لم يحصل خلال طوال فترة الحكم الشمولي للحزب الحاكم . لقد وضعت ترتيبات دستورية وقانونية عديدة ومعروفة تضمن الاستمرارية وتمنع التغيير أو ما يسمى ديمقراطيا ( تداول السلطة ) . وفي هذا السياق حددت وظائف الحكومات المتعاقبة في السهر على الاستمرارية وخدمتها . من هنا كانت صلاحيات الوزراء منقوصة وسلطاتهم مهمشة أو يعتدا عليها عند الضرورة أو عند الرغبات الشخصية للقيادات الحزبية أو الأمنية . ونكاد نكون جاحدين إذا نسينا الجهود الكبرى التي بذلتها حكومات متعاقبة في سبيل الإصلاح والتحسين أو في سبيل التطوير والتحديث دون أن يتمكنوا من حل أزمات الوطن المتعاقبة إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه من تخلف في التنمية والمستوى ألمعاشي للسكان .
تاريخيا يمكن أن نلاحظ أن النظام السوري قام بتغيرات عديدة عندما كان يشعر أن هذه التغيرات تخدم مصلحته ومصلحة الطبقة الحاكمة . فقد بدأ النظام بعد الحركة التصحيحية بانفتاح اقتصادي وتعاون عربي . ولكن عندما اشتدت أزمة الثمانينات ، اتخذ قرارات اشتراكية كثيرة ، وأعطيت سلطات تكاد تكون مطلقة لإتحاد العمال واتحاد الفلاحين سعيا وراء تصحيح ميزان القوى آنذاك .
عندما انهارت الشيوعية ، وخاصة عندما انهار نظام تشاوشيسكو سارع النظام السوري إلى الانفتاح الاقتصادي المبرمج والمفصل على قياس المسئولين وأبنائهم ( الرأسماليون الجدد نتاج الاشتراكية السورية ) مما سمح بمتنفس خفيف للسكان ومكنهم من الحصول على بعض السلع الضرورية ، وقد ساعدت هذه الفترة على قيام صناعة وطنية ، وساعدت على زيادة الدخل الوطني . في نهاية التسعينات حصل جمود اقتصادي وتعمق الفساد بشكل مخيف . وكان من أسباب هذا الجمود شلل الحياة السياسية في سورية وتعاظم شخصنة النظام وتوقف المبادرة الفردية وانسداد أفق التطور والخلاص من الحالة القائمة
بعد استلام الدكتور بشار الأسد حصل انفراج سياسي وفكري محدود ومؤقت ، وكانت الحاجة ماسة للخروج من الجمود الحاصل في جميع مناحي الحياة في المجتمع السوري . لقد سعت الدولة لعقد منتديات ومؤتمرات اقتصادية وإدارية وتعليمية وغيرها لدرجة التخمة كما حصلت لقاءات ودراسات من أجل الشراكة الأوربية وقدمت توصيات كثيرة بعضها رفض كليا أو جزئيا لأنها تقود إلى إصلاح سياسي حتمي ، لأن الإصلاح السياسي بقي ضمن دائرة الممنوعات .
لقد أدى التردد في الإصلاح بعد ربيع دمشق القصير إلى نكسة مؤلمة في المجتمع السوري ، وكان التعبير الواضح عن هذه النكسة زيادة عمليات الفساد إلى درجة مقرفة ، فأينما ذهبت وكيفما تحركت ترى الفساد مستشريا . أما ما يحصل على المستويات العليا فأمر لا يمكن تخيله .
اليوم تضاف محاولة إلى محاولات سابقة للإصلاح نتمنى لها النجاح لأن نجاحها حتما سينعكس ايجابيا على حياتنا جميعا ، ولكني لا أعتقد أن أحدا يصدق أن التغيرات الإدارية قادرة على حل الأزمة القائمة أو حتى التأثير فيها .
لقد أثبتت التجارب السابقة أن جميع محاولات الإصلاح والتحديث والتطوير طالما أنها لم تشرك الشعب ومجتمعه المدني إشراكا فعليا في عملية بناء الدولة وإصلاحها لم يكتب لها النجاح .
ومهما درنا ولفينا فالإصلاح لا يمكن أن ينجح إلا إذا كان شاملا ومعالجا للسبب الأول الذي أدى إلى الفساد ألا وهو طغيان الدولة الأمنية على دولة المؤسسات والقانون ، وإلغاء دور الشعب ، وعدم الثقة به ، بل والخوف منه . ماذا يعني حرمان الشعب من التعبير عن ذاته ومنعه من اعتصام سلمي ؟ وماذا يعني منع الناس من التحدث مع بعضهم في لقاءات ومنتديات يبحثون فيها شؤون حياتهم ومستقبلهم ؟ ماذا يعني الاحتفاظ حتى اليوم بالسجناء السياسيين وحرمان المبعدين والمهجرين من العودة إلى وطنهم بكرامتهم ؟ ولماذا يستمر التعتيم في الإعلام وعدم الشفافية في طرح المسائل الوطنية ؟ لماذا على المواطنين السوريين أن يبحثوا عن حقيقة ما يجري في بلدهم من مصادر ملتوية أو غير مرخصة ؟ لماذا السلطة تخاف النور وتحب الظلام الدائم ؟ ثم سؤال واحد في الإصلاح : هل سيستمر الإعلام كما كان ؟ إذا كان الجواب نعم فهذا وحده كاف لإحباط جهود التصحيح .
الإصلاح يحتاج إلى ما يمكن تسميته بتعبئة جماهيرية تبنى على الإيمان بالإصلاح وعلى الثقة بوجود إرادة إصلاحية حقيقية و قوية وغير مقيدة بخطوط حمر. وتعتمد على الصدق الكامل في التعاطي مع الناس ، وعلى الوضوح والشفافية في العملية الإصلاحية . الإصلاح بحاجة إلى دعاية وتسويق ، وأولا وأخيرا يحتاج إلى جو من الحرية التامة التي تعيد للمواطن ثقته بنفسة وثقته بحكومته وثقته بوطنه . هذه الحرية أساس الشعور بالمواطنة وهي التي تسمح باحتكاك الناس مع بعضهم البعض والتعرف على آراء بعضهم مما يخفف من غلواء بعض المتعصبين منهم ويسمح باكتشاف الخير الموجود عند الآخر . الإصلاح يعني التخلي عن مقولة ( حزبي جبهوي مستقل ) ، فعلى الساحة السياسية السورية توجد قوى سياسية أخرى يجب الاعتراف بوجودها والتوقف عن تهميشها و تجاهلها و محاربتها .
الإصلاح أولا وأخيرا إصلاح سياسي يعتمد على الشعب ويكون لصالح الشعب . الحرس المحافظ ( بدل الحرس القديم ) يخاف من أي حراك سياسي ولو كان على مستوى شخص واحد كي لا يفضي إلى حراك جماهيري ، ومن يخاف من الشعب علية أن لا يحكم الشعب ، من لا يثق بشعبه عليه أن لا يتولى أمور شعبه ، من يعتبر أن الشعب أو أي تجمع من الشعب عدوه فهو غير جدير بحكم الشعب ، وهو بهذا المعنى متسلط وغريب عن الشعب .
إذا أوليات الإصلاح هي إصلاح النفوس وإصلاح السلوك وإصلاح النظرة للمواطن وحقوقه واحترامها وعدم السماح حتى في التفكير بتقييدها أو الاعتداء عليها .
حكومة مؤمنة ببرنامج سياسي من هذا النوع سوف تلقى النجاح والدعم والتأييد . هكذا حكومة يجب أن تفكر أولا وقبل كل شيء برفع المظالم عن المظلومين . عليها أن تفك أسر السجناء السياسيين وتنهي ملف المبعدين والمهجرين والمحرومين من جوازات السفر أو من الجنسية السورية وتعيد الاعتبار لهم . عليها فتح ملف المفقودين والتعويض على أهلهم وتضميد جراح الوطن والتكاتف مع أبنائه والشعور بمعاناتهم وتطييب خاطرهم . عندئذ يمكن أن نبني وطن وأن تتفتح أزهار وتتفتح المبادرات والأريحية والوطنية . وماعدا ذلك فهو دوران في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها . حكومة لا تقيم اعتبار لهكذا معايير لن تستطيع حماية الوطن . نطالب الغير ( الأمريكان ) ( بفهم أفضل لحضارة المنطقة ومصلحة وكرامة شعوبها . فهذه الشعوب تشعر أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لا تجسد المساواة والحرية وحقوق الإنسان ) لقد أحسن السيد رئيس الجمهورية القول والتشخيص ، ولكن كما هو مطلوب خارجيا فهو مطلوب داخليا وبأهمية اكبر .
جربوا ولو مرة السلام الأهلي وسوف تربحون ، بل وسوف ترتاحون ، جربوا الثقة بشعبكم وسوف تجدون أنه أهل للثقة . بعضكم يقول إن هذا الطلب مغامرة ونحن لن نغامر . نعم إنها مغامرة ولكن مع الأهل ، مغامرة مع أبناء الوطن الواحد الوحيد القادر على الصفح والنسيان ، الوحيد القادر على سند أخيه الجاحد المتعثر . حكومة موضوعة ضمن قفص لا يمكن أن يكتب لها النجاح ، حكومة ليس لها تصور سياسي كامل حول حدود احترامها لحقوق الإنسان لا يمكن لها أن تحقق التحول المطلوب ، حكومة يجب أن يتمتع أعضاؤها بكرامتهم الكاملة ، وبحقوقهم الوزارية القانونية الغير منتقصة ، عندئذ يمكن أن تعيد للمواطنين كرامتهم . هذا هو الطريق ومادون ذلك هراء بهراء .