بيير جون لويزار
باحث في المركز القومي للبحوث العلمية : مجموعة علم اجتماع الأديان والعلمانية
ترجمة د. جواد بشارة / باريس
كانت الحرب على العراق مناسبة لإعادة اكتشاف أمريكا، أول واكبر ديموقراطية في العالم، من قبل الرأي العام الأوروبي الذي غالبا ما كان منذهلا منها.ففي حين أن عملية طغيان النزعة الدنيوية العلمانية على الشعوب الأوروبية ، القديمة بالأساس، تتعاظم كل يوم أكثر فأكثر،إلى درجة جعلت من القارة العجوزة حيزا لامكان فيها للمسيحية الحاكمة، نجد أن الدين مايزال هو الذي يحكم ويتحكم بالسياسة في ما وراء المحيط الأطلسي أي في أمريكا الشمالية. وقد أستولت هذه المسألة على عنوانين الصفحات الأولى من وسائل الإعلام والصحف اليومية والأسبوعية الكبرى في العالم . المقارنة والموازاة قد طرحت بين " جهاد بن لادن " من جهة و " الحملة الصليبية لجورج دبليو بوش " من جهة أخرى . وصرخة " ألله أكبر " أصبحت صدى لجملة " في الله نثق " والتوضيحات حول هذه الـ " أمريكا الجديدة " ، المختلفة جداً عن صورة الديموقراطية ، أتخذت اتجاهات مختلفة ومتناقضة.
فبالنسبة للبعض ، إن الوضع الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية ظرفي ومرتبط بجملة عوامل وظروف مختلفة يعود بعضها إلى التعادل الحاصل لأول مرة بين معسكر المحافظين ومعسكر التقدميين، والتعادل بين الحزبين الكبيرين المتنافسين في أمريكا، الجمهوري والديموقراطي ، أتاح للأقلية المحافظة والرجعية اليمينية في الجنوب الأمريكي الوصول إلى السلطة . وهي حالة قابلة للإنعكاس والتغيير بفعل التناوب على السلطة ،رغم مايشكله ذلك من علامات تنذر بالخطر أو بمثابة أغنية البجع بالنسبة لعنصرية مجتمع الجنوب قبل غرقه بموجة هجرة من أصل أمريكي لاتيني . أما بالنسبة للبعض الآخر فبالعكس ، إن الوضع الحالي يمثل توجه خطير ، موسوم بانبثاق دين جديد حيث ينبغي على أمريكا توسيع ونشر نموذجها وفرضه على العالم كله، حتى لو كان ذلك بواسطة الحرب والقوة.إنه إنتصار لدين مدني حيث تحل الربة الجديدة أو الآلهة الجديدة وهي أمريكا محل الإله المسيحي في الرؤية " الإنقاذية ـ الميسيانية" أو " الخلاصية " لجورج دبليو بوش .
وكما يؤكد سيباستيان فاث أن الشعار الذي يمكن أن ينطقه بوش هو " في المسدس نثق " . إن الدين المدني و الدنيوي لن يكون ناتجاً عن تأثير الكنائس ، كما نعتقد غالبا في فرنسا بالذات، بل بالعكس هو تعبير عن إضعافها التدريجي .ففي الواقع أن أمريكا، ومنذ سنوات الستينات، أقل فأقل تديناً وأكثر فأكثر دنيوية. وفيما عدا الكنيسة الميثودية ،" المنهاجية " الجنوبية الباتستية التي تضم 16 مليون عضو ، ومجموعة من الانجليكيين ، فإن غالبية الكنائس الأمريكية ، بما فيه الكنيسة التي ينتمي إليها الرئيس بوش الإبنالكنيسة الاتحادية الميثوديةأو المنهاجية، كانت مناهضة للحرب .وقد تجاهل الرئيس الأمريكي موقف الكنائس وقد رفض استقبائل ممثليها وهذه سابقة لم تحدث مع رئيس أمريكي سابق في حالة حرب وقد أتخذ أتحاد الكنائس الأمريكية موقفا مناوئا للحرب كذلك. وبذلك أصبح الرئيس الأمريكي نفسه ، بشكل ما ، راعي أو راهب وزعيم كبير لدين جديد رقي إلى مصاف دين الدولة. وفرض هذا الدين المدني على صيغة التقوى الجماعية بإسم الخير الذي يمثله بوش ضد الشر . لقد انفصلت النزعة الانقاذية أو الخلاصية لجورج بوش الإبن عن الصيغة الطائفية المعهودة " فالإله الذي يذكره بوش ليس بإله المسيحية ، بل نموذج المجتمع الأمريكي الذي قدم باعتباره نموذج الألفية الثالثة المقترح على مجمل الكرة الأرضية . وظيفته هي إضافء الشرعية وشد لحمة الأمة الأمريكية وترسيخ ترابطها على نسق من العناية الإلهيةوهذا ما يتجاوز ويتألق فيما يتعدى الطوائف المسيحية التقليدية . لقد سبق لهذه النزعة الخلاصية الميسيانية أن أعلنت في فيلم " يوم الاستقلال" حيث يأتي " الحل أو المخرج المريح للضمير فقط من التكنولوجيا العسكرية المتقنة والمتقدمة جداً " من جانب " شعب مختار من أرض قدر لها أن تكون المنقذ أو منبع الإنقاذ والخلاص للبشرية" ، لذا لايمكن لأمريكا أن تفلت أو تتهرب أو تتملص من مهمتها في بث الحياة والتجديد في أمم مشركة أو كافرة أستبدلت المنقذ بنموذج مجتمع ليبرالي وغازي يريد أن يفرض على العالم نموذج السلام الأمريكي . " أمريكا المنتصرة تقوم مقام عودة المسيح كأفق محرر للبشرية" . من هنا فإن معارضة الحرب ستفسر بأنها خيانة لأمريكا ولأفكار الحرية واليبرالية في مواجهة " محور الشر" .
ألايمكننا الحديث عن " الخروج على الديموقراطية " بعد منع النقاش الديموقراطي حول صحة شن الحرب ومسوغاتها القانونية ؟النقاش بهذا الصدد لم ينته بعد .ولكن يبدو بالرغم من ذلك أن شيئا ما غير قابل للارتداد أو الانعكاس قد حدث في أمريكا : المناهضون للحرب لم يتمكنوا من إسماع أصواتهم بشأن خيار أساسي وجوهري وتم خلق أمر واقع في العراق حيث لايمكننا أن نرى كيف يمكن إصلاح ذات البين بين المجموعة الدولية وواشنطن وإعادة نسج الخيوط التي تربطهما بالرغم من التظاهر الزائف بإضفاء مصداقية على فكرة الإجماع بينهما بعد انتهاء الحرب.لاشيء جديد في هذا الموضوع كما يقال. لو كانت هذه الحرب الأخيرة حربا بالمعنى المتعارف عليه ، فإن الأفكار الانعتاقية والتحريرية كانت دائما المحرك الأيديولوجي للمشاريع والمخططات الاستعمارية. فمنذ حملة نابليون بونابارت في مصر ، في نهاية القرن الثامن عشر ، كان المطروح دائما هو " تحرير" الشعوب الخاضعة للطغاة والأنظمة الاستبدادية وجلب الأنوار والتقدم والنهضة إليها. يمكننا الإشارة أيضاً إلى تبرير وتمجيد جول فيري ،الأب الشرعي للمدرسة العلمانية الفرنسية ، للمشاريع الاستعمارية الجمهوريون لم يكونوا أقل حدة من الرهبان ورجال الكنيسة لاستعمار وتدمير ثقافات الشعوب المستعمرة انطلاقا من حقدهم على الدين على الأغلب.
قام الفرنسيون والانجليز بإعلان مشترك في 8 نوفمبر 1918 ، أعلنا فيه التزامهما في مساعدة شعوب الشرق الأوسط للتحرر من ربقة الحكم العثماني ونيل الاستقلال.ولكن من كان يعلم مسبقاً أن السيد سايكس عن بريطانيا العظمى والسيد بيكو عن فرنسا كان قد أتفقا سرا في آيار مايو 1916 على تقاسم منطقة الشرق الأوسط بينهما كمناطق نفوذ وتأثير تابعة لكل منهما؟ وهكذا تحولت الأفكار الانعتاقية إلى ذرائع لإضفاء الشرعية على مشاريع الهيمنة . ولكن أليست هذه هي سمة العصرنة والحداثة وهي أن تكون غازية ومهيمنة؟ أليس الاستعمار قبل كل شيء عبارة عن صدام بين مجتمعات متطورة وحديثة بمجتمعات أقل منها تطوراً وحداثة؟ ألا يثبت ذلك أن المشاريع الاستعمارية كانت دائما قادمة عموما من الدول " الديموقراطية " أو ماقبل الديموقراطية ، وهل من المنطقي القول والحالة هذه أنه يمكن تصدير الديموقراطية عن طريق الحرب ، علما بأنها مدفوعة دوماً بالنزعة القومانية ؟
3 ـ إضفاء الشرعية من قبل المجموعة الدولية :
في سنة 1920 ، كما في سنة 2003 ، كانت هناك شرعية مسبقة ومضمونة للاحتلال العسكري للعراق من قبل المجموعة الدولية . كان ذلك بموجب قرار عصبة الأمم في 25 نيسا 1920 ، حيث منح حق الانتداب على العراق لبريطانيا العظمى ، و في 22 آيار / مايو 2003 سمح التصويت على القرار 1483 في الأمم المتحدة للولايات المتحدة الأمريكية بإدارة العراق ومصادره وثرواته. قبل عام 1920 لم تكن هناك مجموعة دولية منظمة ، بل مجرد قوى عظمى تخوض حرباً عالمية . وفي نادي المنتصرين كانت تجلس بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية .وكانت هناك عدة مؤتمرات دولية ( في مودروس لوقف إطلاق النار في 30 أكتوبر 1918، وفي باريس في 29 يناير كانون الثاني 1919، وفي فرساي في 28 حزيران 1919، وفي سيفر في 10 آب 1920، وفي سان ريمو في 25 نيسان 1920، وفيس لوزان في 24 تموز 1923) لتنظيم وحل إشكاليات وتبعات فترة مابعد الحرب العالمية وشروط تمزيق الإمبراطورية العثمانية وذلك بفوز الأطماع الاستعمارية لبريطانيا العظمى وفرنسا التي حاولت واشنطن كبحها .بدأت عصبة الأمم نشاطها بسياسة الانتدابات ، فمنحت انتداب لكل القوى العظمى التي دخلت في عملية احتلال فعلي للأراضي التي حصلت على شرعية دولية لاحتلالها . إن سياسة الانتدابات المستوحاة في كثير منها من مباديء الرئيس الأمريكي توماس دبليو ويلسون ونقاطه الأربعة عشر الشهيرة، تستند إلى فكرة أن على الديموقراطيات أن تواكب وترافق الأمم الناشئة على طريق السيادة وحق تقرير المصير. ولكن في سنة 2003 شنت الحرب بالضد من إرادة الأمم المتحدة . بل حتى أسوء من ذلك ، حيث أبعدت الولايات المتحدة المنظمة الدولية من الدول التي احتلتها كأفغانستان والعراق، رافضة حتى عودة المفتشين الدوليين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق أو إنهاء إدارة شؤون النفط العراقي من قبل الأمم المتحدة . فبرنامج " النفط مقابل الغذاء " كان في الحقيقة المجال الوحيد الذي تشرف فيه المجموعة الدولية على العراق.لكن المجموعة الدولية ، بعد أن تعرضت للتحقير والتجاهل والإهانة بل وحتى التكزز والشلل ، بفعل القوة الأمريكية ، أرغمت المجموعة الدولية في نهاية المطاف على منح أمريكا حق إدارة العراق وثرواته لفترة مبدئية مدتها 12 شهراً قابلة للتمديد . وهكذا وبعد مرور أكثر من 80 عاماً لم تنعتق ألمجموعة الدولية أو تتحرر من علاقات القوة السائدة في العالم.
4 ـ إنهيار الحكومة الإسلامية وحلول نظام مابعد الاستعمار:
لكل مقارنة تأريخية حدودها. فالحرب وسقوط نظام صدام حسين قد غير وقلب الرهانات في المسألة العراقية. لأن نهاية النظام العراقي لم يكن مجرد نهاية حكومة ، بل وسم إنهيار الدولة العراقية منذ كما كانت موجودة منذ تأسيسها على يد قوة الانتداب العظمى البريطانية سنة 1920. ففي الاحتلال البريطاني الأول 1914 ـ 1917 كان القصد هو قهر ودحر إمبراطورية مسلمة ذات سيادة، حتى وإن كانت قد أضعفت تدريجياً ووضعت تحت ضربة القوى الأوروبية . ولكن في الوضع الحالية ، فإن نظام صدام حسين هو النهاية القصوى لنظام سياسي تأسس سنة 1920 على يد بريطانيا العظمى.وقد أتاح هذا النظام إمكانية هيمنة بريطانيا على العراق لغاية 1958 ،مع اللازمة الطبيعية المرافقة له ، أي النخب المنبثقة من الأقلية العربية ـ السنية . إن باقء ذلك النظام ، خارج أي منطق ملموس ، يعود إلى إنتصار عامل خارجي في العراق ، ابتداءا من سنوات الثمانينات ، مع أول بداية لسياسة أمريكية تجاه العراق. وعلى عكس الوضع في سنوات 1917 ـ 1920، كان هناك نظام تمتع لوقت طويل بدعم وإسناد واشنطن، حيث قام الأمريكيون أنفسهم بإطاحته. وفي سلسلة الدول العربية التي خلقتها القوى الأوروبية العظمى غداة الحرب العالمية الأولى ، كانت الدولة العراقية هي الحلقة الأضعف بينها. لكن إنهيارها هو أيضاً إنهيار نظام بأكمله نلمس نتائجه وتبعاته في كل مكان ، من الجزائر إلى ساحل العاج، والذي يمكن أن يعلن عن عهد جديد ألا وهو الإنهيار الشامل لكل الأنظمة مابعد الفترة الكولونيالية ـ الاستعمارية.
5 ـ ماهو المشروع الأمريكي للعراق؟
ماهي أسباب تغيّر السياسة الأمريكية تجاه صدام حسين؟ يجيب السيد محمد حسين فضل الله ، المرشد الروحي السابق لحزب الله في لبنان، قائلا:" من عادة الولايات المتحدة الأمريكية أن تساند ديكاتوراً ، ومن ثم إطاحته عندما تنهي مهمته، لفرض ديكتاتور آخر تحت غطاء ديموقراطي" . من وجهة نظر المصالح الأمريكية المفهومة،كانت الحالة السادة في سنوات التسعينات مثالية ونموذجية بالفعل . فبدون أن تكون في الخطوط الأولى، لأنها كانت محمية بقرارات الأمم المتحدة، فرضت أمريكا على العراق وصاية دولية سمحت لها ، بفضل إبقائها لنظام صدام حسين المنهزم في الحكم على عراق مندحر ومدمر ، بإحكام سيطرتها المباشرة على هذا البلد الغني بالوقود والنفط الخام. بعد هزيته سنة 1919 ، ومعرفته بأنه مدين ببقاءه على قيد الحياة هو ونظامه للخيار الأمريكي بتركه في السلطة، قايض صدام حسين وبثمن بخس وبالتدريج أساس سيادة بلده مقابل بقاءه في السلطة، حيث وضع العراق منذ عام 1990 تحت الحظر والحصار الأشد قسوة وضرواة .و سواء في العراق نفسه أو في المنطقة ، كانت فوائد ومردودات واشنطن مدهشة وتكاد تكون ثابتة ودائمية. فلماذا إذن دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب؟ كانت أحداث وتفجيرات 11 أيلول / سبتمبر بالنسبة لأمريكا كلها بمثابة صدمة ، لم تقدر حق قدرها من قبل الرأي العام الأوروبي. فقد أصبحت أمريكا منذ تلك اللحظة في حالة حرب دائمة وعالمية ضد " الإرهاب" .
لقد سمح حدث الحادي عشر من ايلول لآلاف من المحافظين الجدد بالظهور على مقدمة المسرح السياسي الأمريكي ، الأمر الذي كان مستحيلا قبل بضعة شهور سابقة. حتى أن البعض صار يتحدث عن مفاجأة سماوية ومقارنة حدث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر بحريق الرايشتاغ ، ومهما يكن الأمر ، فإن الحرب الوقائية والاستبباقية أصبحت عقيدة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية مع كل ماينطوي على ذلك من دمار وتخريب بالنسبة للقانون الدولي وللمجموعة التي تستند إليه مع كل مايترتب على ذلك من خروج على العقلانية في السباق بلا نهاية نحو القوة والتفوق.المبررات التي قدمها الزعماء الأمريكيون والبريطانيون للدخول في الحرب ضد العراق، كاسلحة الدمار الشامل ، والعلاقات المفترضة لنظام بغداد مع تنظيم بن لادن، لايمكن إلا أن تكون ذرائع بالنسبة للمطلعين على واقع وحقيقة الملفين المذكورين. ولكن في حالة الاستحالة والعجز التام عن مناهضة أمريكا ومناقضتها ، تظاهرت المجموعة الدولية باقتناعها بوجود تهديدات لايصدقها أحد حقاً. تبع ذلك لعبة من الخداع والمفات ، يستطيع أي واحد فبركتها واختلاقها والتي تحولت إلى سباق ديبلوماسي لاينتهي في إطار الأمم المتحدة. وقد وصل الاستخفاف والصلافة إلى حد أن واشنطن أعلنت أنه لايهمها نتيجة عمل المفتشين الدوليين على أسلحة الدمار الشامل العراقية فالحرب أصبحت على اية حال واقعة لامحالة ولايمكن تفاديها.إن هذه اللاعقلانية نفسها افقدت واشنطن إدراك ما كانت تعتبره قبل الحادي عشر من سبتمبر / ايلول بأنه مصالحها الحيوية ووضعت نهاية للوضع السائد في العراق الذي كان قد خدمها جيداً حتى ذلك الحين. ليس لدى واشنطن، التي أصبحت القوة الموكلة والمنتدبة لإدارة العراق، أي مشروع دقيق وملموس لهذا البلد. فالنفط، رغم أهميته ، لم يكن العامل والحافز الأول لحرب واحتلال تقررا في نطاق منطق القوة البحت ليس إلاّ.وفي مثل هذه الظروف أي إعادة بناء سياسي يمكن أن ترى النور تحت نظام الاحتلال الأمريكي للعراق؟
هناك أولا حالة الفوضى التي مددت والتي كانت ربما خيارا مقصودا ومتعمداً من قبل الأمريكيين. لكن انبثاق مقاومة مسلحة فور انتهاء عملية الاحتلال العسكري، أقنعت المسؤولين الأمريكيين في شهر تموز الماضي، بضرورة الإسراع بإعادة البناء السياسي الذي تعمدوا تأجيله لغاية اليوم. وسواء كانت هناك وقاحة واستخفاف أم براءة وسلامة نية : فإن ظهور الوعي المفاجيء بأن الأيام القادمة ستكون صعبة، قادت واشنطن للبحث عن دعم من جانب الأمم المتحدة لكي ترسل هذه الأخيرة إلى العراق قوات من جنسيات أخرى لحفظ الأمن والنظام وبالأخص قوات من فرنسا وألمانيا ، وهما بلدان كانا قد وقفا ضد الحرب على العراق. إن النظام السياسي الذي سيشيده الأمريكيون في العراق، لو كانت لديهم الإمكانية ، ـ وهو أمر غير مؤكد ـ سيكون بالتأكيد محتلف كليا عن ذلك الذي تخيلته مدام غيرترود بيل تحت رعاية السير بيرسي كوكس سنة 1920 إذ توجد اليوم قاعدة لم تكن معرفوة آنذاك من التقارب بين قوة الاحتلال الأمريكية والشيعة . فهؤلاء الشيعة الذين كان رأس الرمح في النضال من أجل استقلال العراق ضد الهيمنة الأوروبية على مدار التاريخ المعاصر للبلاد هم اليوم شركاء مفترضون لأمريكا من أجل إعادة البناء السياسي المعلن . الطابع الحتمي الذي لايمكن تجاوزه أو تفاديه للطائفة الشيعية ، نظراً لثقلها السكاني، وتقاليدها السياسية المتجذرة ، قد فرض نفسه بسهولة على السلطة المؤقتة للاحتلال أكثر مما كان للعرب السنة الذين فقدوا احتكارهم للدولة المنهارة، والذين صاروا يتحدون اليوم سلطة الاحتلال علناً. وبعد فقدانهم للدولة التي تماهوا معها ، استدار العرب السنة بصورة متنامية للإسلام ، متخلين بمجملهم وللمرة الأولى في تاريخهم عن الأيديولوجيات ( القومية العربية) الدنيوية نوعا ما . تبدو السياسة ألأمريكية وكأنها تنحو نحو " لبننة " العراق، وفي هذا الإطار ، منح الشيعة تمثيلية أوسع وأكبر على أسس طائفية. ومن ثم فصل شيعة العراق عن إيران باستخدام حوزة النجف ضد نظام طهران، وهو هدف يبحث عنه الأمريكيون منذ انتصارهم على نظام صدام حسين. وهذا ، بنظرهم ، الشرط الأساسي والضروري لأي شراكة مع بعض الشيعة العراقيين، ونقول " بعض " الشيعة لأن اللعبة مازالت مفتوحة ولم تغلق بعد.
ماهي النتائج السياسية الممكنة في العراق نفسه ، علي الصعيد الإقليمي وعلى المستوى الدولي لمثل سياسة الـ " لبننة" هذه للعراق؟ هل يمكن لشيعة العراق أن يصبحوا حلفاء مفضلين لقوة احتلال غربية بعد أن كانوا الخصوم منذ قرون؟ إن هذا التحول في الوضع الذي جعل العرب السنة يناضلون ضد أمريكا والشيعة يؤيدونها، يستدعي عدة تعليقات وتوةضيحات.
لن يصبح الشيعة العراقيون ابداً معتمدين على قوة محتلة كما كان العرب السنة ، الذين ، وبسبب طابع الأقلية العددية الذي يميزهم، لم يكن لديهم خيار آخر سوى الخضوع التام أو الهروب إلى الأمام في مغمرات عسكرية وقمع داخلي. كانت النخب العربية السنية دائما المدخل المفضل للـاثيرات الغربية بسبب ضعفها. من الصعب علينا تخيل الشيعة يكونون " زبائن " مطيعين كما كان العرب السنة الذين خدموا الانتداب البريطاني.
إن ثقلهم السكاني، وكذلك تقاليدهم السياسية تجعل منهم دائماً المدافعين الغيورين والشامخين عن الاستقلال العراقي.
لماذا لانشهد تحولا في التحالفات على الصعيد الإقليمي : الحركة السلفية أو ألصولية السنية تموضعت اليوم في موضع العدو الرئيسي لأمريكا ، فهل سيصبح الشيعة على صعيد الشرق الأوسط الأقلية الطائفية الموالية والحليفة للأمريكيين؟ إن مثل هذا السيناريو يستند إلى حقيقة أن إيران ، القوة الشيعية الكبرى، هي اليوم بمثابة الاستثناء: في محيط سني حيث المجتمعات معادية لأمريكا والزعماء والحكام موالين لأمريكا ، في حين أن لإيران مجتمعاً متعطشاً للإنفتاح وقادة معادين لأمريكا.