|
أنور البني ضحية يوداس قبل أن يكون ضحية بيلاتوس !
ناديا قصار دبج
الحوار المتمدن-العدد: 1898 - 2007 / 4 / 27 - 11:31
المحور:
حقوق الانسان
شكل الحكم الصادر بحق المحامي أنور البني صدمة للكثيرين داخل سوريا وخارجها . فخلال أقل من يومين على صدور الحكم ، كانت وكالات الأنباء تحمل العشرات من بيانات الاستنكار والشجب من مختلف الأوساط والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية . ولم يتأخر جورج بوش نفسه عن ذلك . فهو مصاب بالإكتئاب لما آلت إليه قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا ، لأنه لم يجر حلها على طريقته العراقية !
توحي البيانات الصادرة ، وبغض النظر عن النوايا الطيبة لأصحابها ، بأنهم فوجئوا بالحكم الصادر بحق البني ، كما لو أن الخبر يتعلق بمحاكمة كاتب في إحدى الدول الغربية على مقال كتبه ، أو كما لو أن مئات المعتقلين السوريين لم يتعرضوا للإبادة من قبل في سجون الديكتاتورية السورية ، أو أن المئات لم يرزحوا في الزنازين لعشرات السنين دون أن يعرفوا حتى الآن على وجه الضبط .. لماذا حصل ذلك معهم ! وقد أخبرني أحد الزملاء الذي أتصل بزوجته السيدة راغدة عيسى يوم أمس لإعلان تضامنه معها ، بأنها الإنسان الوحيد ربما الذي لم يصدم بالحكم الصادر ضد زوجها . " وهل كنت تعتقد أن الأمر سيكون أفضل من ذلك ، أو كنت تنتظر أن يصدروا حكم براءة بحقه " !؟ هذا ما قالته ، مع ضحكة مليئة بالسخرية والمرارة !
منذ أن اعتقل المحامي أنور البني وأنا أحاول الكتابة عنه . ولا أخفيكم أن " قرابتي الجغرافية " به باعتبار أن كلينا ينحدر من غيرنيكا سوريا ( حماه) ، ولندع " قرابتنا الدينية " كمسيحيين جانبا ، فكلانا غير منتم دينيا ، كانت الدافع الخفي في اللاوعي للاهتمام به وبأسرته . وفي حالة مثل حالتي ، حيث يشكل لي إعادة اكتشاف المدينة التي غادرتها في مقتل العمر محرضا أقوى ، يختلط الدافع العاطفي الخاص بالموضوعي العام ، ولا يعد بالإمكان فصل الذات عن الآخر .
كان ثمة دافع آخر للاهتمام به وهو الطلب الذي وجهته لي السيدة ليندا مارزوتشيني Linda Marzocchini من أسبوعية Il Nuovoالإيطالية لكتابة تحقيق عن تجربة أسرة البني في سوريا ، على الصعيد الإنساني والسياسي ، باعتبارها عينة نموذجية لمأساة الأسرة السورية في ظل الديكتاتورية . وفي مرحلة من البحث الذي تتطلبه كتابة مقال أو تحقيق عن قضية لم يسبق لك أن عرفتها عن قرب أو عايشتها ، فكرت حتى بإنتاج فيلم وثائقي عن هذه الأسرة ، وهو ميدان عملي الأساسي والمفضل ، وبحثت فعلا عن تمويل للمشروع . ولا زلت . فثمة مادة درامية يمكنك أن تغرف منها بلا حدود ، ومحال أن تستطيع تكثيفها في مقال أو تحقيق . ومع ذلك سأكتفي بـ " مشهد " واحد مما يمكن أن نطلق عليه " تغريبة آل البني " !
أكثر ما لفت انتباهي وأنا أبحث في سيرة هذه العائلة ، وعلى الأخص سيرة أنور ، هو الأصالة . وأنا لا أتحدث هنا عن الأصالة originalità بمعناها الدارج والمبتذل ، وإنما بالمعنى النقيض لمفهوم المحاكاة imitazione . و فقدان الأصالة في جيل المعارضة السورية ما بعد الأسد الأب ربما كان كعب أخيل هذه المعارضة أكثر من شيء آخر . فما إن رحل الأسد الأب ، الذي كان يشكل مصدر رعب يختلط بالقدسية بالنسبة للقطاعات الأوسع من المجتمع السياسي والثقافي السوري ، حتى اندلق إلى ساحة " المعارضة " سيل من البشر الذين لا جذور نضالية لهم ، بل إن معظمهم كان يعيش على مائدة السلطة أو ما يتساقط من فتات تحت أرجلها . وليس نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام إلا التجلي الأوضح لها . فالأمر كان أشبه بسد ترابي ينفجر فجأة بعد طول احتباس وركود ، فيتحول طوفانه إلى سيل من الوحل المشبع بالطحالب والأشنيات ، الذي يصعب استخلاص الماء الصافي منه . يمكن أن تأخذ أي بيان لا على التعيين مما يصدر عن المنظمات والأحزاب السورية التي تكاثرت كما تتكاثر الأرانب ، ومن ضمنها ما صدر بمناسبة الحكم على البني ، لتكتشف هذه الحقيقة الكاريكاتورية المفجعة ، ليس من حيث تعبيرها عن الصدمة وحسب ، بل من حيث ابتذالها الرخيص من ناحية محاججتها الحقوفية والقانونية حول ما إذا كان الحكم متناقضا مع الدستور وقانون العقوبات أم لا !؟ بتعبير آخر : إن الدستور وقانون العقوبات لا غبار عليهما ، ولكن المشكلة في القضاء وتبعيته للسلطة التنفيذية وأجهزة المخابرات . وما إن ترفع السلطة ومخابراتها يديها عن رقبة القضاء ، وتكف عن التدخل في شؤونه ، حتى يصبح الأمر في منتهى " الأبهة " ! ولكن هؤلاء لم يخبرونا ، ولايستطيعون ، كيف ولماذا ترفع السلطة ومخابراتها يديها عن رقبة القضاء ، وإن هما فعلتا ذلك ماذا سيتبقى منهما !؟
هذه النمط من التفكير ليس وليد الانتهازية السياسية وحسب ، ولكنه أيضا إحدى نتائج تعميم الخرافة الهيغلية ـ الغرامشوية المتعلقة بـ " المجتمع المدني " في المجتمع السوري بعد موت مؤسس النظام حافظ الأسد ، والتي يترتب عليها فصل كامل بين السلطة والدولة .. بين النظام ورأسه. وليس من باب المصادفة أبدا أن كل من روج لهذه المقولة ، وبلا استثناء ، كان منخرطا بشكل أو بآخر في عملية الترويج لـ " البرنامج الإصلاحي " للرئيس الوريث . بل إن بعضهم وصل به الخرف إلى حد التعويل على " ضباط المخابرات الإصلاحيين " من أجل إحداث التغيير ! وحدهم الذين كانوا يدركون طبيعة النظام ، وآلية عمله ، لم يسقطوا في هذا "المبغى الثقافي " Bordello della cultura ! ومثلما قاد غرامشي رفاقه إلى الهلاك في أتون الفاشية عبر خرافة " الهيمنة الثقافية " التي يجب إنجازها قبل التفكير بالهيمنة السياسية ، وعبر حكاية " الاستيلاء على الدولة .. قطعة .. قطعة " ، كما لو أنها ماكينة ، على حد التعبير الساخر للوي ألتوسير، قاد رواد " المجتمع المدني " السوريون الناس إلى وهم المنتديات و " ربيع دمشق " . ومرة أخرى ليست مصادفة أن بعض منظري " ربيع دمشق " كان يتخيل له ، بسبب من انتهازيته أو خرفه ، أنه بالإمكان إحداث التغيير الديمقراطي من خلال المساهمة في اللجنة الفكرية لحزب السلطة ، بل وحتى من خلال " الاستيلاء الثقافي" أو " الهيمنة الثقافية " على رئيس فرع المخابرات هذا أو ذاك ! وفي الطريق إلى ذلك ، لا بأس من التنديد ببعض المعارضين " الراديكاليين " الذي تصدوا لهذا الابتذال ، وتهشيم سمعتهم بالشتائم المأجورة من قبل .. ضباط المخابرات " الإصلاحيين " أنفسهم ! كما أنه ليس بمحض المصادفة أن هؤلاء أنفسهم ، وليس غيرهم ، وصل بهم الأمر إلى حد الرهان على زعماء المافيات والقتلة الطائفيين اللبنانيين من أجل ..دعم التغيير الديمقراطي في سوريا !
أنور البني أحد أولئك القلائل الذين لم يسقطوا في هذا الوهم ، أو يتلوثوا بهكذا ابتذال . كان يدرك منذ اللحظة الأولى أن كل ما حصل بعد موت مؤسس النظام من مظاهر " الانفراج" لم يكن أكثر من فقاعة بلا أساس ، من العبث أن يعول عليها . في رسالة إلى موكله نزار نيوف ، المعروف جيدا لدى قراء هذه المجلة (2) ، يقول أنور البني صيف العام 2004" ليس لي أي اعتراض على الطريقة التي تهشم بها وجه السلطة ، ولا على فتح هذه الملفات التي تفتحها . مقالات الشتائم التي ينشرها هؤلاء سببها أنهم أجبن من أن يفكروا بها حتى في غرف نومهم . إنهم حسب تعبيرك الظريف لا يزالون يراهنون على صنع المرتديلا اللذيذة من لحم الجيفة . وسيدفعون ثمن ذلك قبل الآخرين حين تفرغ السلطة من عصرهم إلى آخر نقطة . إنهم يلعبون دور يوداس الإسخريوطي وهم يدرون أو لا يدرون . لكل مسيحية يوداصها الخاص بها ، مع فارق واحد أن يوداس الأصيل كان فيه من الضمير ما جعله ينتحر بعد اكتشاف خيانته ، أما الإسخريوطيون المقلدون فلا ضمائر لهم لتستيقظ . فلا تبتئس يا صديقي " .
إصراره على تبني مواقف موكله والدفاع عنها ، سواء أمام محاكم دمشق أم محاكم باريس ، لم تجلب له غضب السلطة فقط ، بل وغضب مراهقي المجتمع المدني أيضا . هكذا ، وبكل بساطة ، أو وقاحة إذا شئتم ، يوضع ذات يوم بين خيارين لا ثالث لهما من قبل أحد الأصوليين الإسلاميين " المدافعين عن حقوق الإنسان " ( وهذه فانتازيا غير مسبوقة أيضا : أصولي إسلامي أعماه الحقد المذهبي يدافع عن حقوق الإنسان !) : إما أن تتخلى عن موكلك " العلوي " وأسرته وتتنازل عن وكالته لك ، وإما أن تغادر هذه الجمعية .. المدافعة عن حقوق الإنسان !
ليس أنور البني ممن يترددون في الاختيار حين يوضعون أمام خيارات من هذا النوع . ضميره يعمل على مدار الساعة ودون توقف . لا يكل ولا يمل ، مثل نواعير حماه التي يغذيها نهر " عاص" لا يقوى أحد على ترويضه . ولهذا تبع ضميره دون تردد .. وظل يتبعه .. ويتبعه .. ويتبعه ..إلى أن قاده إلى نطع بيلاطس ، فيما حاخامات المجتمع المدني يهتفون : دمه علينا .. دمه علينا !
دمه لنا ، ولن نتبرأ منه . وعلى هذا النوع من الدماء فقط ، وليس على صخرة بطرس الذي أنكر معلمه ثلاثا قبل صياح الديك ، .. نبني كنيسة قيامتنا! (*) ـ إيطالية من أصل سوري نابولي / إيطاليا www.journalist.com www.syriatruth.org ـــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ـ كتب هذا المقال بالإيطالية في الأصل ويصدر في العدد القادم من مجلة الفرع الإيطالي للحركة الراديكالية العالمية Il Nuovo تحت عنوان : Anwar al-Bunni è la vittima di Giuda piuttosto che essere una vittima di Pilatus . وهذه ترجمة منقحة قليلا . (2) ـ إشارة إلى مقابلة أجرتها معه محررة المجلة ليندا مارزوتشيني في العام 2002 تحت عنوان " سلمان رشدي السوري" ، المنشورة على هذا الرابــط http://209.85.129.104/search?q=cache:wmv5ZtX-LtoJ:web.radicalparty.org/pressreview/print_right.php%3Ffunc%3Ddetail%26par%3D2571+Linda+Marzocchini,+nizar+nayouf&hl=fr&ct=clnk&cd=1&gl=fr
#ناديا_قصار_دبج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإخوان المسلمون السوريون : ديماغوجية بلا حدود
-
سوريا : بين ثقافة الأسد وثقافة ميشيل كيلو
-
تعقيب على ما كتبه السيد نزار حسن بصدد بياننا عن قضية النائبي
...
-
الصحفيون السوريون اعتقلوا بسبب تهريب المخدرات !!
-
المعارضة السورية وصناعة الأكاذيب !!
-
فرحان الزعبي يلعن المعارضة السورية من زنزانته الانفرادية ويب
...
-
السلطات السورية تقرر إحالة المحامي أكثم نعيسة إلى محكمة أمن
...
-
ما أحلى الرجوع إليه !!
-
مصدر أمني سوري : اعتقال المحامي أكثم نعيسة كان بسبب حديثه عن
...
-
حين يتلاشى عويل الحقيقة بين نباح-صوت الفّلوجة- و مواء - صوت
...
-
القضاء الفرنسي يرمي الكرة في ملعب المعارضة السورية ومناضلوها
...
-
جبهة الارتزاق في الدفاع عن قضية العراق
-
اللعبة الإيرانية ـ السورية القذرة في العراق : ثلاث أيديولوجي
...
-
بملء إرادتهم أم بملء .. جيوبهم!؟ استدعاءات بالجملة وتعليمات
...
المزيد.....
-
دلالات اصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنيا
...
-
قرار المحكمة الجنائية الدولية: هل يكبّل نتانياهو؟
-
بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه..رئيس الوزراء المجري أوربان يبعث
...
-
مفوضة حقوق الطفل الروسية تعلن إعادة مجموعة أخرى من الأطفال
...
-
هل تواجه إسرائيل عزلة دولية بعد أمر اعتقال نتنياهو وغالانت؟
...
-
دول تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو وزعيم أوروبي يدعوه لزيارت
...
-
قيادي بحماس: هكذا تمنع إسرائيل إغاثة غزة
-
مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت.. إسرائيل تتخبط
-
كيف -أفلت- الأسد من المحكمة الجنائية الدولية؟
-
حماس تدعو للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لجلب نتنياهو و
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|