أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الاول من آيار -العلاقة المتبادلة مابين الاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني - حسين عجة - منعطف وواقعة آيار















المزيد.....


منعطف وواقعة آيار


حسين عجة

الحوار المتمدن-العدد: 1902 - 2007 / 5 / 1 - 13:01
المحور: ملف الاول من آيار -العلاقة المتبادلة مابين الاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني
    


مع الأول من آيار وسقوط ضحاياه من الكادحين والعمال دخل العالم، وليس الحركة العمالية-النقابية لوحدها، في
منعطف من المواجهة الصارمة ما بين اولئك الذين كانوا وما زالوا يكافحون بغية إيقاظ شعوب القارات الخمس
على حقيقة أوضاعها المادية المُزرية، وبالتالي جعلها تكتشف عمق الهوة التي تفصلها عن الحياة الكريمة وتشلها عن التطوير المنطقي لممارساتها وعلاقاتها الإبداعية، أي العلاقات التي يمكنها زحزحة جدار الإستلاب اليومي، وتمزيق أقنعته الايديولوجية التي ترسم وتزوق الوهم كبديل للحرية ومواجهة الواقع؛ وبين اولئك الذين يعملون دون كلل، عبر ضخامة وتعقيد ماكنة رأس المال، على إدامة تلك الهوة وتعميقها، وكذلك تنويع أشكال ونماذج الإستلاب الواحد؛ أي لا تعميم الإستلاب على مختلف وجوهه وحسب، بل جعله الشرط الوحيد الحصري، والذي لا بديل عنه لمواصلة ما هو سائد.
ينبغي القول أيضاً بأن مفردة "إيقاظ" هنا لا تعني بالضرورة إيقاظ لوعي كانت قد صنعته أو تصنعه حالياً شريحة
من المنظرين أو الفلاسفة؛ وبالتالي أخذت على عاتقها، كقدر أو "مصير"، واجب نقله بطبق أساليبها الذهبية الإغوائية لمليارات من البشر الذين ترض عوزهم وتطلعهم لمثل ذلك الوعي. كلا. الإيقاظ الذي نتحدث عنه هو بالدقة ما تولدَ عن واقعة الأول من آيار ذاتها التي فتحت آفاقاً لا حصر لها من الفكر والتأمل الخلاق ليشمل الجميع، الكادح والفيلسوف معاً. لكنها، كونها واقعة، كانت قد شطرت العالم إلى شطرين : بين اولئك الذين يَنظَونَ تحت ألق شرارتها، الوفاء لإندفاعتها الثورية، واولئك الذين لا يألون جهداً، بطبيعة الحال، عن إنكار ضربتها المتفردة، وبالتالي إمحاء
أثر أثارها، تنظيف المكان، بالإستخدام الواسع للمفردة، من بقايا بقع دم منْ ساروا في تظاهرات يومها الأول، و تمنيت النفس بالتخلص من مجاميع الناس التي ما زالت تمشي في مظاهراتها الحالية والمستقبلية.
في البدء، كان ما يُطلق عليهم عادة إسم "مثقفي" العالم يقفون برمتهم تقريباً مع واقعة آيار، وكان العديد منهم قد دفع ثمن ذلك الوفاء غالياً. لكن، في مرحلة أو عصر التنصلات الحالي، القرن الذي نعيش فيه حيث تمّ تلويث أكثر المفردات والوقائع نبلاً، سوف لن نُفاجأ إذا ما شملت قائمة التنصل حتى ذكرى آيار الشامخة. على أية حال، من بديهيات الأمور معرفة بأن يوم آيار هو نفسه من خلق ووفر لنا مناسبات شرف الأحتفال به، وليس العكس. إن
كان ذلك في الزمن الذي أعقب صدمته المروعة، أو ما سيعقبها مستقبلاً من أزمنة. لهذا، فإن التحية التي نوجهها لذكرى آيار هي في الحقيقة إشارة نحو جميع منْ يحتفلون به، لمواصلة الدرب الذي عبده أمام محبي الحرية من كل حدب وصوب، وجعل لغات ولهجات تلك القارات الخمس التي بدأنا بها حديثنا تمتزج فيما بينها، وكأنها سمفونية واحدة.
- للرد على الأسئلة التي وجهها لي موقع الحوار المتمدن مشكوراً، لا بد لي من التأكيد على نقطة قد تكون هامشية، لكنها منطقية وضرورية عندي، الاّ وهو القول بأن كاتب هذه الأسطر لا يتحدث، لسوء الحظ، من داخل أية حركة
عمالية، ولا من داخل أي حزب عمالي؛ ولكن كرجل كتابة وقراءة لا يفصله حاجز عن أي من الناس الذين يحلمون بعالم أكثر عدالة وحرية، سيما إذا كانوا من العمال والكادحين، من الشغيلة والفقراء.
تسمية وممارسة : الجواب على السؤال الأول
من "الضروري"، كما أفكر، أن تسمي بعض الأحزاب نفسها بالعمالية، إذا كانت حقاً تدافع عن " حقوق ومصالح" العمال، وذلك لسببين : الأول يكمن في حقيقة أن أي حزب هو، في العمق، سلاح أو أداة نضالية يستخدمه اولئك
الذين يدافعون ليس عن مصالحهم ومطالباتهم الطبقية وحسب، بل وحتى عندما يعبرون بفضله، أي بفضل ذلك السلاح أو الأداة عن مواقفهم "الشخصية" ويكشفون عبر مفرداته عن قناعاتهم الفكرية أيضاً، أو على الأقل "الثقافية" فيما يتعلّق بأمور النضال عموماً، من جهة، وملابسات العيش وتقاسم الحيز أو المجال المشترك مع الآخرين، سواء كان ذلك على صعيد المعمل، الورشة، الجامعة، المدرسة، أو إطر ومكونات "المجتمع المدني"، وحتى العائلة، من جهة ثانية. إن كانوا من الرفاق الذين ينتمون للحزب الذي أنتمي إليه ومن اولئك الذين ينتمون إلى احزاب أو نقابات أخرى غير تلك التي أجد نفسي منتمياً لها تاريخياً، أو اولئك الذين لا ينتمون إلى أي حزب أو نقابة حتى. تلك "ضرورة" وجودية لا يمكن التلاعب بها، وإلا سيكون الثمن الذي ينبغي أن يُدفع هو العنف والأرهاب، القتل والأغتيالات وتقطيع
الرؤوس، مثلما يحدث الآن في أماكن عديدة من العالم، وبصورة إستثنائية ومرعبة في العراق. ذلك لأن تلك
الضرورة الوجودية هي الإسم الثاني للآخر : لا يمكن، في مطلق الأحوال، إلغاء الآخر. أو حتى إبداله وإن بوسائل الإقناع. السبب الثاني الذي يعطي بعض الأحزاب العمالية حق تسمية نفسها بالعمالية يرجع، مثلما يعرف الجميع، إلى بعدها التاريخي. أي نضال تجمعات الشغيلة والكادحين، ومواجهتهم لأشكال القمع، السجون والتعذيب، حتى قبل أن يتجمعوا بنقابة تدافع عن مصالحهم، أو حزب يرتقي بأساليب نضالهم المطلبية إلى مصاف تطلعات شعب أو أمة بكاملها. نحن نتحدث هنا عما تسميه أدبيات النضال، و حتى كراريس المفكرين والفلاسفة بـ "السيرورة" التاريخية. أي أن أكتساب الإسم قد جاء كثمرة "طبيعية" أو شبه طبيعية لكفاح وصمود الطبقة العاملة، إذا كانت موجودة أو
متشكلة إلى حد ما بدءً. بيد أن كل هذا لا يقع في خانة التعريف، التسمية، أو التحديد لوحدها. ذلك لأننا كنا قد خبرنا جميعاً زيف وخيانة ما لا حصر له من الأحزاب البرجوازية التي أشتهت، أو بالأحرى قادها مكرها وجنونها للوصول إلى السلطة أن تطلق على نفسها إسم حزب أو أحزاب "عمالية". لكن ما الذي كانت عليه عاقبة كل ذلك؟ التخريب
من الداخل لا للأحزاب والنقابات العمالية "الحقيقية"، أي تلك التي أختبر العدو قبل الصديق شكيمة نضالها وحسب، بل تمّ كذلك تخريب عقل وروح، ذكاء وحدس شعوب برمتها. لا يكفي، إذن، أن يسمي حزب ما نفسه بالعمالي، ويصرح بدافعه عن حقوق العمال والشغيلة لكي يكون، بخرقة التسمية هذه لوحدها، حزباً عمالياً على أرض الواقع الصعبة والدامية. كان هيغل يتحدث، في "فينومنولوجيا العقل"، عن دخول علم ماعلى المسرح : لا يكفي لعلم أن يصعد على خشبة الواقع غير المرئية ويعلن هكذا عن نفسه بإعتباره "العلم" حتى تمتد جذوره في تربة الواقع وتنمو أغصان شجرته العملية. في لحظة كهذه، لا يكون ذلك العلم سوى واحداً من بين العديد من أشكال العلوم "الدعية"
مثله : لا يكفي للمرء أو الحزب أن يضع على هويته الرسمية إسماً، حتى يتمتع به عن أحقية. ثمة مسافة وعرة
لا بد من وضع تكاليفها في الحسبان!
أمّا فيما يتعلق بمسألة "هل من الضروري وجود حزب عمالي يهتم بقضايا التنظيم والأضرابات ويدفع بالعمال
للخوض في الصراعات السياسية والاجتماعية لرسم مصير المجتمع"، فجوابي هو التالي : نعم ولا. ذلك لأن
الجانب الكبير من القضية يتعلّق أولاً بخصوصية ساحة النضال التي يراد أيجاد ذلك الحزب العمالي على
أرضيتها، لكي يقود ويعبأ حركة عمالها، ليخوضوا تلك "الصراعات". ففي البلدان "المتقدمة"، حتى في زمن
التدويل الحالي، لا أجد نفسي مناحزاً لمثل تلك "الضرورة". بلغة أخرى : يمكن للأفراد، والعمال من ضمنهم،
خوض نضالاتهم، سيما النزول إلى الشارع، كتعبير عن حلبة الصراعات، وطرح مطالبيهم السياسية، وحتى
المطلبية المحضة، من إيماءة قد تأتي من خارج جميع الأحزاب المُعترف بها رسمياً في الموقف، كأن يُلتقط
الخبر من هذا المنبر الأعلامي أو ذاك، عن طريق زميل العمل، أو الحركة العامة التي تستولي على المجتمع
بكامله، في لحظة تاريخية بعينها. بإختصار، يمكن للعمال أن ينظموا أنفسهم بأنفسهم، في البلدان الغربية، وأن
يدفعوا بنضالاتهم المطلبية دون التعكز على حزب، لا يستطيع أن يكون أداة أو سلاحاً نضالياً. تبقى مشكلة
النقابات، إذا ليس ثمة من "نقابة" واحدة في هذه البلدان، فهي متعددة ومختلفة، حتى في حالة أتفاقها على
ذات الأهداف المطلبية، ذلك لأن لكل منها وسيلته حتى لا نقول رؤويته لفهم وإدارة النزول إلى الشارع.
لكن لا بد من القول بأنه حتى في البلدان الغربية يمكن للنقابات مجتمعة أن تُذَوبْ، تُمَيّع، ولربما تقضي على
أي حس نضالي، سياسي ومطلبي، ما أن تستولي عليها نزعة البيروقراطية، أو عندما تتحول إلى قيادات
رأسمالية، بملابس رأسمالية، ولكن بنوع من القفازات العمالية : "بشرة بيضاء بقناع أسود"، كما كان يقول
"فرانسوا فانون". أمّا في بلدان العالم الثالث، وأمريكا اللاتينية، فتظل "ضرورة" قيام الحزب العمالي الموجه
للنضال واحدة من أكبر الإشكاليات وأكثرها تعقيداً، حتى لا نقول مأساويةً.
الأحزاب العمالية ومنظمات "المجتمع المدني" : رد على السؤال الثاني
في جميع المواقف السياسية-التاريخية، سيما في المجتمعات "البرلمانية"، أي ما يطلق عليه عادة بـ "الواقع" الإجتماعي-السياسي، هناك ثلاثة إنماط، أو صياغات للعناصر التي يتكون منها ذلك الموقف : 1- الحاضرون في الموقف والممثلون فيه (العناصر العادية)؛ 2- الممثلون للموقف والغائبون عنه (البرلمانيون-المنتخبون "شرعيا"ً)؛
3- المشمولين في الموقف، ولكنهم غير محسوبين عليه ولا يشملهم تمثيله (الإقليات، المتفردون، ما كان يطلق
عليهم ماركس إسم "المفكرين المعزولين"). علينا أن نتفق بأن تسمية "منظمات المجتمع المدني" تسمية حديثة تماماً، ولم يتمّ بعد تحديد صياغة دقيقة لها، ولم يهظمها الوجدان الجمعي بعد. أما لأنها كانت قائمة، ولكن تحت تسميات أخرى. أو لأنها فُبركت لكي تمسح أثر إسماء أخرى قبلها، النقابة بالدقة، الأحزاب، أو الحركات الثورية على
وجه الخصوص، والشيوعية منها على وجه الدقة والحصر. لكن، حتى ندخل مباشرة في صميم السؤال،
يمكننا القول : يحق للاحزاب السياسية، إذا كان المرء يستخدم مفردات قانونية أو حقوقية، تشكيل "اتحادات"
و"نقابات" و"مجالس عمالية" خاضعة لنهجها وآفاقها السياسية؛ وإلاّ بإسم ماذا يمكن لهذه "الأتحادات" والنقابات التبشر؟ أي خطاب آخر بمستطاعها فبركته وبلورته على الفور، حتى تتمكن، مثلما يقول طارحوا السؤال، "كسب الجماهير"؟ القضية، إذن، لا تكمن هنا في خضوع "منظمات المجتمع المدني" لنهج وآفاق الأحزاب السياسية، بل بالفكر، بالرؤوية، بالإيديولوجية والأهداف العامة التي تريد تلك الأحزاب "العمالية" تحقيقها، أو بلوغها. فإذا كانت هذه الأحزاب لا تتمتع من الفكر الثوري، مثلاً، سوى بفظاظة أو غواغئية الممارسة المحضة، دون أن يكون أفق تفكيرها واضحاً، أو على الأقل مفهوماً؛ آنئذً علينا قلب المشكلة، ومن ثم القول : يحق للأتحادات والنقابات والمجالس العمالية التمرد على قيادات تلك الأحزاب وتغيير سلوكها وتوجهات الفكرية، أي إبداع سلوك وفكر يرتقي إلى نبل وصلابة كلمة "عمالية". هذا بالدقة ما يمكن أن نتفق عليه بحق بإعتباره، على حد تعبير السؤال : "الآثار السلبية".
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، لا أرى أي علاقة ما بين الأحزاب، إن كانت عمالية أو غير عمالية، بما
تطلقون عليه "تنظيمات المجتمعات المدني". فإذا إخذنا مثلاً نقابة المحامين، أو نقابةعمال السكك، يمكننا القول
بأنهما تتحركان، في المقام الأول، أو هكذا يُفترض، من مجموع المشاكل والتحديات التي تصطدمان بها على
أرضية العمل الحقوقي، أو على أرضية المصنع أو الورشة العماليتان. كل ماعدى هذا، يأتي في المقام الثاني أو الأخير. حتى وإن كان يتعلّق بالنظرة السياسية، أو وضع دستوراً وبرنامجاً للحزب أو النقابة. من دون طرح هذا الشرط علانيةً، لن يكون هناك أي شيء غيرالإستحواذ، الهيمنة، البيروقراطية، الستالينية، عبادة الشخصية، الحزب الأوحد، الحزب-الدولة-الأمة، فكر "الطليعة" الرجعية، أو المحافظون "الجدد"، الخ...الخ... ثانية، بإختصار، ليس
من واجب أي كان أن يحدد لهذا الحزب العمالي أو ذاك محدودية أو لا محدودية تأثيره على المجتمع، لكن لا يحق، بالمقابل، لأي حزب عمالي، مهما كانت ثوريته، درجة وطنيته وتفانيه النضالي أن يُلبس المجتمع، كل المجتمع، عويناته الطبية، ولا حتى نظارته الشمسية.
البديل وعكس البديل : جواب على السؤال الثالث
"هل من الممكن أن تكون الأحزاب السياسية بديلاً عن النقابات
ومنظمات المجتمع المدني أو العكس"
قد يُفاجأ ردنا البعض، إذا ما قلنا بأن صياغة السؤال بمثل هذه الطريقة لا تشجع المرء على تقديم إجابة تحليلية
قد تساهم في إنارة موقفاً يتطلب التدخل بغية فرزنة الأطراف وبالتالي تعيين الخطوط المشتركة بينها؛ بتعبير
آخر، بدا لنا هذا السؤال وكأن فبركته قد تمت في اللحظة الأخيرة، لسد حاجة معينة في مواصلة النقاش. إذ من
غير المعقول أن تطرح مسألة الأحزاب السياسية و"منظمات المجتمع المدني"، في الزمن الذي نعيش فيه،
عبر مفردات البديل وعكس البديل. لا لأن صفة التعددية قد أصبحت، أو هي في طريقها إلى أن تكون سمة
الحياة، ولا لأن التفتت والتشظي العام قد تمّ فرضه بلغة النار والحديد وحسب، بل لأن مفردة "بديل" نفسها،
غالباً ما جرى إستخدامها لكي تعني، وأحياناً بصورة مكشوفة وعلانية، إحلال الذات محل الآخروأخذ مكانه، الإستحواذ الكلي أو الإطلاقي على خارطة الفعل السياسي، أو النشاط الثقافي والروحي، تحت ذريعة التماثل ما
بين الرؤوى والتوجهات، أو بالأحرى خشيةً من "تفتح ألف زهرة" في ذات الحقل الواحد. فما يتمّ تبديله، أو
مبادلته أو حتى إحلاله بالقوة، عبر سياسات التسويق العامة التي تتعامل مع الإبداعات السياسية والفكرية
بإعتبارها مجرد أدوات تسلية، أو سد فراغ يمكن أبدالها، في النهاية، بأدوات تسلية أو سد فراغ أخرى لا
تحمل من روحها وزخم عطائها سوى الإسم، ذلك ما يجري أمام أعيننا، ليل نهار وبلا كلل. ذلك لأن شعار
المرحلة الرسمي هو التالي : "لتضبط أفكارك وأفعالك بالشكل الذي لا تعيق به حركة السوق". لهذا، ونحن
نقول ذلك هنا بإختصار كثيف، لا يمكن للأحزاب السياسية أن تكون بديلاً، في مطلق الأحوال، عن النقابات
وعن "منظمات المجتمع"، وكأنها قالب يأتي من الخارج ليركب شكلياً وبصورة كركتيرية على شيء كان
موجوداً في الأصل. على العكس من هذا، ينبغي التأكيد على نقطة مفادها أنه لا يمكن للأحزاب السياسية أن
تؤسس لعلاقة أخرى سوى علاقة الحوار الديموقراطي المستديم، اللاشكلي، اللاإنتهازي واللاستحواذي مع
النقابات، بل وعليها أن تذهب أبعد من ذلك، عن طريق أبداع أشكالاً جديدة وممارسات حية للديمقراطية،
كالمجالس العمالية، الندوات، التجمعات الجماهيرية، المنتديات، وغيرها. بتعبير آخر، تشجيع كل محاولة أو مبادرة من شأنها المساهمة في جعل الموقف السياسي-التاريخي يُدار من قبل اولئك الذين يقومون فعلياً ووقعياً بتحريكه : الأحزاب والنقابات وكذلك أبناء الأحياء والمناطق، المدن والقرى من غير المنتمين لتلك الأحزاب أو النقابات.
حسناً، هل يمكن أن تكون "لمنظمات المجتمع المدني" بديلاً عن الأحزاب؟ هنا أيضاً، نرد بكلا. ذلك لأن تلك المنطمات أما أنها تشكل مادة وروح تلك الأحزاب السياسية، أي أنها ليست بالغريبة عليها ولا تقطن في كوكب
آخر غير ذلك الذي تقطنه الأحزاب والنقابات، أو أن جوهر العلاقة الذي يجب أن يقوم ويسود بينها يرتكز على منطق المساهمة في العمل النضالي المسؤول الذي لن يعثر على مرتكزاته الأساسية إلاّ بفضل توسيع وتمديد حيز
الفاعلية والحوار الديموقراطي، أي "معالجة عيوب وامراض الديموقراطية بمزيد من الديموقراطية"، كما كان
يقول في مطلع القرن العشرين الكاتب المصري الكبيبر سلامة موسى.
عضوية حزب عضوية نقابة : رد على السؤال الرابع
أعتقد أنه من الأساسي التعامل مع هذه النقطة الحساسة بشكل يُبعد أي فهم تقليدي أو بيروقراطي لها : لا ينبغي
أن تعني العضوية الهوية، أو التطابق الواحد المُنغلق للعنصر ذاته، كما في قولنا أ = أ. من ناحية أخرى، سيكون
التفكير بالعضوية بإعتبارها عملية روتينية، تنحصر في دفع بدل الإشتراك لهذا الحزب أو ذاك، لهذه النقابة أو
تلك، تفكيراً كارثياً. فتحرر العضوية من ضيق إطار الهوية وشكلها المُتحجر، لا ينبغي عليه إسقاط العضوية في
حالة من التسيب والإنحلال بحيث تغدو عديمة النفع، لكي لا نقول عبثية وإفتعالية. كذلك لا بد من تجنب خلق
تعارض موهوم ما بين العضوية الحزبية والعضوية النقابية، أو ما بين هذه وعضوية "منظمات المجتمع المدني".
ففقط بواسطة مثل هذا التعارض، سيما إذا كان متولداً عن قرارات فوقية، يمكن لعمليات الضغط والفرض خلق
مناخاً من التوتر والإختناق لن يكون أبداً في صالح أحد. صحيح أن النشاط الحزبي، النقابي، وحتى في مجالات
"المجتمع المدني" يسعى لكسب الآخرين، وبالتالي تشكيل وبلورة مواقف يُفترض بها التعبير وطرح موقف
الأكثرية، بيد أن كل هذا لا ينبغي عليه توهم أن للأغلبية تلك حق التحكم بمنافذ الحياة، على أساس من أنها
"تمتلك" أو تمثل "الحقيقية". بتعبير آخر، على الأحزاب العمالية والنقابات الإبتعاد عن ايديولوجية الوريث
"الشرعي" والأبدي لقضايا النضال اليومية، عبر ذريعة تاريخانية وتسلسلية ذلك الحزب والنقابة. ما عدى
ذلك، لا يمكنني تصور أية عقبة في وجه المرء تحول بين تمتعه بعضوية الحزب والنقابة معاً. على صعيد
آخر، ليس ثمة من ضرر في سلوكية العضو الحزبي أو النقابي إذا ما حاول أحدهم التأثير على آراء ومواقف
الآخر، وحتى تحويرها بصورة راديكالية. أمّا الضغط الذي يتحدث عنه السؤال، فلا أفهم كيف يمكن أن
تُعاد ممارسته بعد كل ما حدث في العالم من ضائح، فضائع، كوارث دموية، حروب وتهجيرات جماعية
بسبب ذلك الضغط، أي الإكراه بالقوة الفيزيائية، أو عن طريق المكر وتكتيكات الأقناع والأغواء، التحايل
وحتى الوصول إلى عمليات بيع وشراء ذمم الناس وضمائرهم. لم يعد من المجدي، وما كان مجدياً في
الماضي "فرض الحزب السياسي عن طريق العضو الحزبي خطة الحزب على النقابات ومنظمات
المجتمع المدني". لقد ولى ذلك الزمن، بدون رجعة، حيث كانت تجري عمليات الفرض تلك. بالمقابل،
لا يحق للنقابات ولا "لمنظمات المجتمع المدني" تزييف فكر وتوجهات الحزب العمالي، أو بدقة أكبر
ليس بمقدورها تزييفها وتمييعها لصالح تكتيكاتها هي بالذات، إذا كان ذلك الحزب عمالياً بالملموس
وأمام أعين الناس.
إيجابية الدور : رد على السؤال الخامس
الإيجابية هنا هي من يمتلك الكلمة الفصل والأخيرة : نعم يمكن للاتحادات والنقابات العمالية و"لمنظمات
المجتمع المدني" التأثير على سياسات الأحزاب، بل من واجبها أن تقوم بذلك، إذا ما كانت تتمتع بمنظور
حالي ومستقبلي أكثر شفافية من منظور تلك الأحزاب، سواء كانت عمالية أو برجوزاية، وكذلك إذا كانت
تتمتع بوسائل نظالية أكثر ديناميكية وقدرة على إبداع ممكنات مواجهة الصراعات اليومية : يمكن للاتحادات،
النقابات، وحتى الأفراد التأثير على سياسات الأحزاب، إذا ما كانت تلك الأتحادات والنقابات والأفراد قادرةً
على خلق ما يمكن تسميته "إشارة الإيعاز"، أو "شعار اللحظة"، ومن دون مصادرته لنفسها، أو التفكير بأنه
حكر على دائرة ممارساتها الضيقة؛ على العكس من هذا، لا بد أن تكون "إشارة الإيعاز" هذه أو "شعار
اللحظة" ذاك قادراً على النفاذ في جسم المجتمع بكامل طبقاته وشرائحه، وكأنه من صنع وأبداع عبقرية
تلك الطبقات والشرائح مجمتعةً. وهذا يعني التالي : ينبغي تجنب أية نظرة تخلق فجوة، أو شرخاً لا يمكن
تخطيه ما بين الأحزاب، سيما العمالية، ومكونات المجتمع الأخرى. أمّا كيف يمكن لهذه الأخيرة التأثير
على سياسات الأولى، أي الأحزاب، لا تكفي مطالبة تلك الأحزاب بإنفتاح أكبر أو بممارسات أكثر
ديموقراطية، إذا يمكن أن تكون تلك المطالبة أو تظل مجرد مطالبة شكلية، فوقية، بطرة، ومع مرور
الأيام تتحول إلى عائق أو عثرة على طريق مواصلة الكفاح أو النضال الذي تخوضه تلك الأحزاب.
نحن لا ننكر أهمية مثل ذلك الإنفتاح وتوسيع دائرة الحوار الديموقراطي من جانب الأحزاب، بيد أن
الإنفتاح والتوسيع لا ينبغي أن يكونا ذريعة للشروع بتفيت وتعهير مسار الحزب العمالي. من ناحية
ثانية، لا تقوم النقابات ولا "منظمات المجتمع المدني" بالمطالبة وحسب، بل هي تمارس عينانياً في
عملية نقل المجتمعات من أوضاعها الحالية، البائسة بشكل عام، نحو مجتمعات أكثر كرامة وثراء
على الصعيد المادي كما على الصعيد الروحي. إن مجاز "السمفونية الواحدة" والمتنوعة بطبيعتها
عليه أن يحتل كامل مكانه : لا الاحزاب العمالية لوحدها مكلفة بقيادة وتوجيه مسيرة الإنتقال إلى
عالم أفضل وأكثر عدالة، أكثر ديموقراطية وأقل عدوانية ما بين مجتمعاته ودوله، ولا النقابات
و"منظمات المجتمع المدني" لوحدها أيضاً، وكأن ثمة نقاط تفتيش تمنع وتحرم عبور أحدهم بإتجاه
الآخر. بلغة أكثر دقة، سينعدم أي تأثير من الأحزاب على النقابات و"منظمات المجتمع المدني"،
وكذلك العكس، إذا ما بقي نمط العلاقة بينهما مؤسساً على التصور الشاقولي، المراتبي، الهرمي،
الستاليني والقمعي، الذي ذقنا ولربما ما زلنا نذوق لليوم جميعنا تبعات ومأسي ميراثه السيئة
والمُهلكة. كان الفيلسوف الفرنسي "دولوز" ورفيق دربه "فلكس غواتري" لا يكفان عن الحديث
عن التمدد الأفقي، الإنتشار البصلي، من تفرع جذور البصل، وتعددية المداخل، بإعتبارها أدوات
نظالية جديدة لا بد لها من أن تترك النموذج الشاقولي، أو الهرمي من خلفها. كذلك كان المفكر
والفيلسوف الكبير "ميشيل فوكو" يتحدث دائماً عن ضرورة خلق، تنويع، مضاعفة بؤر النظال
واخراجها من نفق المركزية الواحدة. أمّا الفيلسوف والمناضل "الآن باديو"، فيتحدث عن ممارسة
للسياسة دون أحزاب، لكن دون الغاء أي أحد. لأن ممارسة السياسية "دون احزاب" تعني : عدم
الإنتظار لتلقي الإيعاز من الخارج، أو تصور أن المبادرة عليها أن تنبثق دائماً من الآخرين، من
اللجنة المركزية مثلاً، أو المكتب السياسي، حتى يشرع المناضل الفرد بالتحرك. على العكس من
هذا تماماً : لا بد للعنصر المناضل من التدخل لخلق الإيعاز المذكور، أو القيام بالمبادرة وكأنها ليست
مجرد فعل ذاتي نرجسي، يعبر لا أدري عن أية بطولة، بلك كونها حدساً ثورياُ يشمل العديد من
الأفراد، أو سيشملهم لاحقاً. نخلص من كل هذا إلى القول التالي : ليست هناك وصفة جاهزة، أو
تكتيك معد سلفاً لتحديد نمط تبادل التأثير ما بين الأحزاب والنقابات، الخ... ليس ثمة من خط واحد،
بل خطوط، مضاعفة تلك الخطوط، تنويعها، توسيع شبكة حركتها وممارستها.
العالم العربي وتدخل الأحزاب : رد على السؤال السادس
أتفق تماماً مع طرحكم القائل بأن تدخل "الاحزاب السياسية" في العالم العربي في عمل "النقابات
والأتحادات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى" قد شكل "نقطة ضعف كبيرة في تاريخ الحركة
العمالية والنقابية". لكن، ومن دون أية مزيادة ثورية، يمكنني القول بأن ذلك التدخل لم يضعفها
وحسب، بل حولها إلى محض أدوات، أو كيانات ملحقة، تثير الشفقة بسبب من تطابقها المطلق
والحتمي مع تكتيكات تلك الأحزاب المرحلية، والتي كشفت لنا الأيام بأنها لم تكن غالباً شيئاً آخر
غير نزاع زعامات الأحزاب وستماتتها في المحافظة على مواقعها القيادية. لقد قتلت تلك الأحزاب،
بحكم عمومية ورخاوة شعاراتها المصلحية مثلما قلنا من جهة، وبحكم لهاثها وراء كراسي الحكم
التي كانت تغويها بها الأحزاب البرجوازية، من ناحية ثانية، نقول قتلت شكيمة واطفأت شرارة
التحركات النقابية المطالبية، ودفعت بالاتحادات، التجمعات والجمعيات نحو التحول إلى محض
واجهات لا زجاجية وحسب حيث يمكن رؤوية ما فيها من الخارج، بل إلى واجهات فولاذية،
منكمشة على نفسها كعجائز شمطاء، وعلى الخارج لأنها تخشى البرد والزكام، أي رياح التحويل.
بإختصار، ليس ثمة من مبالغة، من وجهة نظري، إذا ما وصف المرء تلك العلاقة أو ذلك التدخل
بالمأسوي. من ناحية أخرى، هل هناك فعلاً ما يمكن تسميته بـ "الطبقة العمالية العربية". سؤال
أطرحه بصفاء وبنية حسنة، آملاً أن يرفدني أو يرشدني موقع "الحوار المتمدن" على أجابته.
وشكراً.







#حسين_عجة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنتصار الديمقراطية
- الرجل الأطلسي-لمارغريت دوراس


المزيد.....




- بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من ...
- عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش ...
- فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ ...
- واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
- بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا ...
- إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
- هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
- هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
- -مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال ...
- كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف الاول من آيار -العلاقة المتبادلة مابين الاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني - حسين عجة - منعطف وواقعة آيار