|
من دفتر الذكريات - على هامش حركة حسن السريع
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 1897 - 2007 / 4 / 26 - 12:13
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
وجهت حركة 8 شباط (فبراير) 1963 (الانقلاب المعروف بإسم انقلاب 14 رمضان)، ضربة موجعة وقاسية للتنظيم الشيوعي في العراق، فتمزّقت وانهارت معظم تشكيلات الحزب الشيوعي ومنظماته الجماهيرية بسبب حملة القمع والتصفية، التي قام بها " الحرس القومي" وأجهزة الأمن. لكن تلك الحملة التي قامت بها الحركة الانقلابية وجناحها الاساسي " حزب البعث" والحرس القومي، رغم إتسّاعها واستمرارها، لم تكن " ماحقة"، كما أراد لها منفذوّها، فلم تستطع رغم شراستها وانفلاتها من عقالها، القضاء على الحركة الشيوعية. * * * وبادرت نخبة متميزة في العاصمة بغداد ومدن الفرات الاوسط وريفه والجنوب الى إعادة بناء التنظيمات وإعادة ربط وتجميع " الرفاق" المقطوعين والمختفين عن الانظار، في حين إتجهت منظمة الاقليم (فرع كردستان) الى العمل المسلح، وكان هدف الجميع إشعار الرأي العام بأن " المقاومة" السلمية والمسلحة، سواءاً الدفاع عن النفس، أو القيام بعمليات محدودة كما حصل في ريف الفرات ومناطق اخرى، لم تنتهِ. وساعد في إبراز وجود مقاومة وممانعة، الحملة الحكومية الدعائية والعسكرية ضد الحركة الكردية، التي إبتدأت في حزيران (يونيو) 1963، بعد ان إنقطع حبل الوصل، الذي ظل مرتخياً منذ القضاء على حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وتبديد الوعود بإعطاء حقوق الشعب الكردي، خصوصاً بعد طرح مشروع " اللامركزية" الادارية بديلاً عن " الحكم الذاتي"، الذي كانت تطالب به الحركة الكردية وقوى يسارية بما فيها الحزب الشيوعي. ورغم إتسّاع الحملة العالمية للتضامن ضد حكم البعث وممارسات الحرس القومي الدموية، ناهيكم عن تمّزق تحالفته الداخلية وبخاصة مع القوميين العرب والناصريين، الاّ انه لم يتراجع عن مواقفه، بل ازداد عنفاً في التعامل مع الآخرين، وقد ضاقت قاعدته السياسية تدريجياً وبخاصة بعد شنّه هجوماً شديداً ضد التيار القومي العربي الناصري وحركة القوميين العرب وضد شخص القائد العربي جمال عبد الناصر والتجربة الناصرية بشكل عام، خصوصاً بعد اتهام القوميين العرب "بالمؤامرة السطحية"، كما سميّت في حينها، حيث اعتقل العشرات من قياداتهم والمئات من قواعدهم، وأرسل عدداً منهم الى سجن نقرة السلمان الذي كان يضم بضعة آلاف من الشيوعيين، وهكذا بدأت بعض التململات داخل الجيش.
كما شنّ الحكم الانقلابي الجديد هجوماً (في حزيران/يونيو) 1963 اشدّ قسوة ضد الحركة الكردية وقيادتها بزعامة الملاّ مصطفى البارزاني وكان هذا الهجوم الأكثر شراسة، خصوصاً وقد وصف وزير الدفاع في حينها صالح مهدي عماش الحرب ضد الاكراد، بأنها ليست أكثر من "نزهة" وان الحملة ستنتهي بنجاح، وسيتم القضاء على "المتمردين"! ولم تستثنِ الحملة المتلاحقة والمستمرة حتى تيار " الحزب الوطني الديمقراطي" بقيادة كامل الجادرجي، الذي فضّل الصمت والابتعاد عن الاضواء، إذ لم تجدِ الملاحظات والانتقادات التي وجهها مباشرة أو بطريق غير مباشر، الى الحكم أية آذان صاغية! خصوصاً بتعمق نهج الاستئثار والانفراد ومعاداة الديمقراطية.
في ظل هذه الاوضاع حدثت إحدى المفاجآت أو المفارقات أو كليهما حين قاد العريف حسن سريع الشيوعي التوّجه، حركة انقلابية مضادة ضد الحكم الانقلابي في 3 تموز (يوليو) 1963. واستولى في حينها على معسكر الرشيد ومعدّات وأسلحة واعتقل وزراء ومسؤولين عسكريين وحزبيين على مستوى رفيع. * * * كنت آنذاك قد خرجت من المعتقل، حيث إعتقلت في " خان الهنود"، مركز شرطة النجف بعد ثلاثة أيام من الانقلاب، وفيما بعد نقلت الى " الموقف الجديد" تحت الارض، واطلق سراحي بناءاً على توسطات قام بها عمي الدكتور عبد الامير شعبان، لدى الحاكم العسكري العام رشيد مصطلح وناجي طالب الشخصية القومية البارزة وأحد كبار الضباط الاحرار الذين خططوا لثورة 14 تموز (يوليو) 1958، وتوجهت منذ اليوم لاستعادة حريتي للبحث عن خيط يربطني بالحزب ويعيد صلتي، ووجدت ضالتي بجارنا وصديقنا عبد المنعم الجزائري ورفيقه شمسي الكرباسي صديقنا العتيق، الذي هُجّر فيما بعد الى ايران في حملة السبعينات ضد ما سميّ "بالتبعية الايرانية"، وتوفي هناك في أواخر الثمانينات أو أوائل التسعينات. وكنت قد إلتقيته في دمشق في الثمانينات. وكان الجزائري والكرباسي قد اختفيا عن الانظار طيلة أشهر، وظلاّ على ارتباط مع بعضهما ومع رفاق محدودين وبعض الاصدقاء المقرّبين، لنقل بعض الأخبار والمعلومات. كنّا نلتقي ليلاً في دار الجزائري الملاصقة لدارنا وأخوه محمد حسن (صلة الوصل)، ونتبادل الاحاديث والأخبار وأحياناً كنّا نخاطب بعضنا بعضاً من فوق السطوح، رغم الحذر الشديد وفي جنح الظلام، حيث كان يرمي رسالة على سطح المنزل ملفوفة بحجر وأفعل الشيء ذاته لتأمين الاتصال أحياناً. وكان ما يجري بيننا هو محاولة استذكار بعض الاصدقاء والرفاق والبحث عن مكان اختفاء ومعرفة مواقف المعتقلين والسعي للاتصال بمن يطلق سراحه ويكون موقفه جيداً أو غير منهار. وكنت من جانبي أنظمّ صلة خاصة مع المحامي حسن شعبان الذي كان قد أطلق سراحه بعد اعتقال دام بضعة أشهر في الموقف العام في بغداد، حيث كان عضواً في اللجنة التحضيرية لمهرجان هلسنكي للشباب والطلاب 1962، وكان شعبان قد تخرّج لتوّه وافتتح مكتباً للمحاماة، وظل مختفياً في النجف طيلة فترة حكم البعث، في زقاق معروف بإسم " عكد الخمايسي"، حيث كان لعائلته احدى الدور التي تؤجر الى زوار مرقد الامام علي (س) الذين يأتون للتبرك والزيارة، فإنتقلت إحدى المسنّات (العجائز) للسكن معه للتغطية أولاً ولرعايته واستقبال من كانوا يأتون الى زيارته ثانيا رغم ان عددهم لم يتجاوز 3 أشخاص كنت أحدهم. ومن المفارقة ان بيت حسن شعبان (الذي يختفي فيه) كان مقابل بيت الشيخ عباس شعبان والد المناضل المعروف وهاب شعبان وأخيه عبدالاله شعبان، وكانت واحدة من الهموم التي تواجهنا هو كيفية التمويه على مكان الاختفاء، خوفاً من الثرثرة ونقل الأخبار، التي قد تصل الى الطرف الآخر وبخاصة الى الحرس القومي، ورغم استمرار اختفاء حسن شعبان (أبو مضاء) نحو ثمانية أشهر، فانه لم يعرف به أحد حتى من آل شعبان المقابلة بيوتهم لبيوت حسن شعبان أو القريبة منها! كنّا نتبادل الرأي ونقوم بتحرك محدود، وكنّا نراجع مواقف وردود أفعال السلطة والحزب وفيما بعد الحركة الانقلابية. (اي قبل وبعد الانقلاب). وبدأنا نسمع عن اختلافات داخل مجاميع الحكم والحزب. وفي أحد الايام داهمت قوات الحرس القومي بيت عبد المنعم الجزائري واعتقل الجزائري وكاد والدي أن يُقتل، حيث حاول بعض أفراد الحرس القومي أن يوجه رشاشته اليه، لمنعه من محاولة اقتحام الدار، لاعتقاده أنهم جاءوا لاعتقالي مرة أخرى، وليس لإعتقال جارنا الجزائري. وفوجئنا بأن الحرس القومي، تسلّق دورنا وقام بعملية أشبه بالانزال لإعتقال عبد المنعم الجزائري. كهذا تفرقت الحلقة المصغّرة، وبقيت أتصل بحسن شعبان، الذي كاد هو الآخر أن يقع في الفخ، حيث داهم أفراد الحرس القومي داره وفتشوا عنه عدّة مرات، لكنهم لم يعثروا عليه، فقد استطاع عبر السطوح القفز الى سطوح دور متلاصقة وتمكن بعد ذلك من الإختباء في مخبئه الذي أشرت اليه، في " بيت الزوار". وكنا نطلق عليه إسم بيت " الحاج شيخ". ولا أدري من أين جاءت التسمية، ولكن ذلك كان بمثابة إسم سري لمكان اختفاء حسن شعبان!؟ حاولت بعدها الاستفسار عن عبد النبي حسن الدلال، فهو من الشيوعيين المعروفين في المدينة وكان مسؤولاً عن الخط الطلابي، فاضافة الى كونه جارنا، فهو صديقنا أيضاً وكان لفترة قصيرة قد تناوب في الاشراف على خليتنا مع أنيس كاشف الغطاء، وكان المسؤول عن خليتنا رحيم كاطع الغزالي.وكنت أعرف ان الصديق عبدالنبي " ابو فاروق" لم يعتقل، وحاولت الاتصال بأخيه حميد حسن الدلال، الذي زارنا الى المعتقل أكثر من مرّة ونقل لنا الأخبار وكنّا قلقين عليه مع إعجابنا بشجاعته في تلك الظروف، وكان يخبرنا انه مرسلٌ لمعرفة أوضاعنا (حصل ذلك قبل منع المواجهات ومنع استلام الأغذية من خارج التوقيف)، وعرفت ان حميد الدلال اعتقل أيضاً، في حين هرب عبد النبي الى ايران. إتصل بي بعد ذلك أحد الرفاق الذين كنت على صلة بهم، وسبق وأن كنا في خلية واحدة عام 1962. وبعد أن تم جسّ النبض كما يقال، فاتحني للعمل في التنظيم الجديد، الذي قال إنه يعرف أحد " الرفاق"، الذي يريد الاتصال بي، لكنه بسبب عدم وجود معرفة سابقة، فضّل إرساله، وهو على علاقة خيطية كما أبلغني، وكان متحمساً للعمل. ثم جاءني أحد " الرفاق" الذين لم أكن قد تعرفت عليه سابقاً، وأخبرني بأنه مندوب الفرات الاوسط، وأن صلته مع القيادة المتبقية وذلك لغرض تطميني من موضوع إحتمالات الاندساس أو التواطؤ، خصوصاً وإنه لمحّ لي بأن المرجع هو لجنة التنظيم المركزي، ولم أكن أفقه من ذلك سوى " الاسم"! وعرفنا فيما بعد أنه مرسل أو بالتنسيق أو ضمن خطة جمع الرفاق من مركز الفرات الاوسط، الذي كان بقيادة الرفيق " باقر ابراهيم"، وكان بصحبته الرفيقين عدنان عباس وكاظم الجاسم، اضافة الى زكي خيري (الذي كان معاقباً بسبب كتلة الاربعة التي ضمت خيري وعامر عبدالله وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس والاخير استشهد تحت التعذيب عام 1963 ضد سلام عادل، وكان زكي خيري يقضي فترة اعادة التأهيل في لجنة قضاء الشامية، ثم في لجنة الفرات بعد انتقاده لنفسه، كما تقضي التقاليد الحزبية الصارمة آنذاك). وهذا الامر عرفته لاحقاً بالطبع من خلال العلاقة مع بعض الرفاق وكذلك من خلال النشر وبخاصة من خلال: مذكرات زكي خيري وبهاء الدين نوري، وباقر ابراهيم الذي يذكره بالتفصيل مع بعض النوادر والتعليقات المثيرة!! وبالمناسبة فقد حدثني عدنان عباس (عضو اللجنة المركزية سابقاً) عن وجوده في النجف خلال إنقلاب 8 شباط(فبراير) وكان حينهاعضواً في منطقة الفرات الاوسط ومن قياداتها التاريخية، وانه غادر النجف لآخر مرة بعد مرور نحو شهر على الانقلاب، وسار على الاقدام الى ريف الكوفة بصحبة باقر ابراهيم وزكي خيري وكاظم الجاسم، وترك المسؤولية في تنظيم النجف الى محمد موسى، وهو أحد الابطال الشعبيين، الذين لهم مكانة خاصة في النجف وكان يسكن في منطقة الجديدة في بيت حزبي، وفي اليوم نفسه الذي غادر به عدنان عباس (ابو ناديا) البيت الحزبي فجراً، تمّ مداهمة الدار واعتقل محمد موسى بعد أن اعتقلت خالته، وكنت معتقلاً خلال تلك الفترة، ووقع عليّ الخبر وقع الصاعقة للعلاقة التاريخية بالرجل، منذ أن كنت طفلاً ثم فتىً، ولاعتقادي أن هناك حقداً دفيناًضده ومن المحتمل الاّ نراه ثانيةً. وكان محمد موسى قد قاد تظاهرة يوم 8 شباط (فبراير) والقى خطاباً نارياً وتحريضياً ضد الانقلابيين بالقرب من الصحن الحيدري (باب القبلة- مدخل شارع الرسول) واستمر ظهوره في أزقة النجف لنحو ثلاثة أيام، ثم اختفى عن الأنظار وكان معه خلال تلك الفترة رفيقاً من الموصل يدعى فيكتور، ولا ادري أين حلّ به الدهر!!؟ بعد اعتقاله وتعذيبه في النجف، نُقل محمد موسى الى الحلة وهناك تعرض للتعذيب أيضاً، حيث كان سابقاً مسؤولاً حزبياً لقضاء الحلة باشراف من الصديق صاحب الحكيم الشخصية الشيوعية التاريخية في منطقة الفرات الاوسط، مسؤول محلية الحلة، الذي اعتقل عام 1962 في الحلة، ومن الحلّة أرسل محمد موسى الى بغداد واختفى أثره في قصر النهاية. ولدى الباحث دراسة خاصة عن محمد موسى وشهادات لبعض من عرفه، سينشرها قريباً وكنت قد إلتقيت في المعتقل بآخر ثلاث أشخاص كانوا مع محمد موسى، وهم عامل المطبعة الكادر يحيى طربال وعضو اللجنة المحلية مجيد الحلوائي (اخ جاسم الحلوائي) وشخص آخر لا أتذكر إسمه (عضو محلية)، وذلك بعد أسابيع من التحقيق والتعذيب معهم، حيث تم نقلهم الى الموقف الجديد " تحت الارض"، وهناك استفسرت منهم عن آخر تفاصيل اعتقال محمد موسى. وكان محمد الحياوي عامل النسيج والمتفرّغ الحزبي معتقلاً معنا، وهو على معرفة وثيقة مع محمد موسى، ونقل لي كيف استطاع الزوغان عام 1957 من الفخ المنصوب له، وانقاذ ما يمكن انقاذه، كما روى لي كيف تم كبس المطبعة!؟ قبيل هذه الفترة ذاتها تقريباً وصلنا خبر اعدام سلام عادل (أبو ايمان) أمين عام الحزب وحسن عوينه (أبو فلاح) ومحمد حسين أبو العيس، حين أذاع راديو بغداد النبأ يوم 9 آذار (مارس)، وكان هذا الخبر أقرب الى الصاعقة، حيث تبددت الكثير من الآمال، وشعر الكثير منّا بالاحباط، وترافق ذلك بنقل مسؤول السجن (المعتقل) صاحب الحكيم الى جهة مجهولة وتعرّضه للتعذيب في مركز الحلة ثم في بغداد (مركز المأمون). وكان الحكيم مربياً حقيقياً لنا لا ينام الاّ بعد أن ننام، ويسهر على كل صغيرة وكبيرة في المعتقل، اضافة الى مكانته الحزبية كان مهاباً من المعتقلين العاديين، وظل يعمل بصمت وصبر وتواضع طيلة حياته، رغم تعرّضه لإجحاف وإساءات وجحود في الثمانينات! ولا يمكن لباحث منصف كتابة تاريخ النجف الشيوعي، إضافة الى تاريخ الفرات الاوسط، دون أن يخصص حيّزاً مهماً لصاحب جليل الحكيم (وهو من عائلة دينية من سدنة الروضة الحيدرية)، عملت والدته منذ الخمسينات مراسلة حزبية مع سجن نقرة السلمان، واعتقل هو لأول مرة عام 1950، وقد فصل من الدراسة عام 1953 بعد أن اختفى عن الأنظار، وخلال هذه الفترة إحترف العمل الحزبي، وبعد ذلك، اعتقل عدة مرات في العهد الملكي وحُكم عليه بعد انتفاضة العام 1956 لمدة عام، وبعد عام 1958 كان عضواً في محلية النجف ورئيساً لاول اتحاد طلابي منتخب بعد اعادته الى الدراسة، وكان مسؤول اللجنة المحلية يومها محمد حسن مبارك (أبو هشام)، ثم أصبح صاحب الحكيم مسؤولا للمحلية أواخر عام 1959 أو بداية العام 1960، وكانت يومها تضم: د.خليل جميل الجواد (الطبيب المعروف والشخصية الاجتماعية البارزة) عبدالسادة الخباز (أبو لميعة)، محمد موسى، المحامي حسين الرفيعي، علي النوري (من كربلاء)، ساجد حمادة!! (من الديوانية) واستمر في ذلك حتى مطلع العام 1962، حيث سلّم مسؤوليتها الى أنيس عباس ناجي. وانتقل ليكون مسؤولاً عن محلية الحلة(بابل) وقد اعتقل في اواخر العام 1962، ونقل بعدها الى معتقل النجف وهناك إلتقينا به، ومنه بعد الانقلاب الى الحلة ومن الحلة الى بغداد " مركز المأمون" وبعد ذلك الى سجن نقرة السلمان، وأطلق سراحه اواخر العام 1964 حيث عاد الى صفوف الحزب. كان حلقة الوصل بيننا وبين التنظيم الجديد هو عدنان الخزرجي، الذي عرفت إسمه فيما بعد وإلتقيت به أثناء اشراف لي على تنظيم المانيا الطلابي في العام 1973. اعتقل الخزرجي (الذي تخرج من ألمانيا- دكتوراه في الفلسفة) خلال حملة جديدة مكثفة بعد مقتل محمد رضا الشيخ راضي، أحد ابرز المسؤولين البعثيين في النجف والذي اشتهر بقسوته، على أيدي فلاحين شيوعيين أثناء زركة من الحرس القومي على ريف منطقة العباسيات في الكوفة وبحثاً عن المحامي حسين الشعلان، وبعد أن تعرّض للتعذيب في مقر الحرس القومي نقل الى الديوانية، ثم حُكم عليه وأودع في سجن الحلّة الشهير، وترافق ذلك أيضاً مع قيام حركة حسن سريع. * * * شكلنا لجنة للتنظيم الجديد، باسم لجنة النجف- للحزب الشيوعي العراقي وضمت بعض الرفاق من الكوفة وأبو صخر، وكانت امتداداتها واسعة وصلت حسب احصاءات آخر اجتماع لها نحو 60 رفيقاً وصديقاً وجمعنا تبرعات واشتراكات نحو 50 ديناراً آنذاك، حاولنا ارسالنا الى مركز الحزب في الفرات. كانت اللجنة المسؤولة مؤلفة من عدنان الخزرجي ومحسن القهواتي، الذي كان عاملاً في احدى مطابع النجف (لا اتذكر ان كان مطبعة النعمان أو المطبعة الحيدرية). وكان يدرس في المدرسة الاعدادية (المسائية على ما أتذكر) وكفاح سميسم وصادق مطر وعبد الحسين شعبان وانضم الينا علي الخرسان، الذي كان معتقلاً قبل انقلاب شباط (فبراير)، أي منذ أيام عبد الكريم قاسم الأخيرة، واطلق سراحه، وكان السبب في اعتقاله انه قام بتوزيع منشورات للحزب في مقاهي النجف بصورة علنية، كجزء من خطة الحزب آنذاك للفت الانتباه الى مواقفه وبخاصة حركته الجماهيرية قبل سقوط قاسم، وكان علي الخرسان إسمه الحزبي (وائل)، في الخليّة ذاتها التي عملت فيها لبضعة أشهر، وكان فيها قبل ذلك جبار رضا عبدننه (ناهض) وكوثر الواعظ (هيثم) (الدكتور- طبيب الاسنان)، الذي كانت عيادته في السبعينات ملتقىً للشيوعيين واليساريين وكان قد اعتقل عام 1963 في النجف ونقل بعدها الى سجن أم عباسيات وعندما اطلق سراحه أعيد الى الدراسة، ثم أكمل دراسته في الاتحاد السوفييتي، وهو أحد الوجوه الاجتماعية المعروفة، وطارق شكر الذي اعتقل معنا أيضاً، ثم هاجر الى الكويت وعند هروبي عام 1970 بعد صدور أمر بإلقاء القبض عليّ، إلتقيته في الكويت، كما إلتقيت أحد الشيوعيين القدامى واسمه موسى مشكور، الذي كان يعمل كاتباً لدى جديّ في خان شعبان وهرب الى الكويت عام 1963 وبقي هناك، وكان آخر لقاء لي مع طارق شكر في العراق عام 2003 بعد عودتي الى بغداد. وارتبط بهذه اللجنة اعضاء واصدقاء كثيرون اتذكر منهم محمد صادق الكويتي، عبد الامير السبتي، وهاب شعبان، طارق شكر (الصراف) ناجي الدباغ، وعبد علي الشرقي وعبد الامير الغرّّاوي، باسم كمونة، حميد الدباغ (عامل) وعلاء عاتي ورواء مرتضى فرج الله وغيرهم، وكان لدى الشرقي وحده أكثر من 10 أصدقاء او رفاق مقطوعين. كنت قد فصلت من الدراسة بعد اعتقالي، كما فصل آخرون. وكان التحرك الاول للجنتنا هو المطالبة باعادتنا للدراسة او اعتبار فصلنا بمثابة تأجيل سنة لأسباب طبية(صحية) ونجحنا في ذلك عشية الامتحانات النهائية. كما قمنا بفضح عملية تسريب الاسئلة الامتحانية للبكلوريا للجماعات المحسوبة على السلطة آنذاك، والتي كانت فضيحة صارخة، اضطرت السلطة والاتحاد الوطني المحسوب عليها الى الاعتراف، بها ولكنها حاولت إلصاق التهمة بالشيوعيين والعناصر المندّسة حسبما جاء في بيان رسمي حول سرقة الاسئلة الامتحانية. كنّا بشكل عام وهذا ما عرفناه نتلقى التعليمات من مركز باقر ابراهيم، أو شيء اسمه " منطقة الفرات الاوسط"، أو هكذا ركب الاسم في رؤوسنا، وكسبنا بعض الاصدقاء الجدد وأعدنا علاقات بعض المنقطعين بمن فيهم عامل الكهرباء عبد الحسين الشيباني، الذي كان يعيد كتابة البيانات بخطه الجميل. وكانت تحذيرات المركز بضرورة المحافظة على النفس واليقظة ازاء الاندساس. وأعتقد أنها كانت تمتاز ببعد نظر في تلك الفترة العصيبة وتحدّ من اندفاعاتنا، ولعل بعضها يقترب من التهوّر أحياناً. عقدنا 4 اجتماعات اثنان منها في بيت عبدالله الشمرتي صديقنا ورفيقنا، الذي فضّل تقديم جميع التسهيلات لنا دون أن يكون عضواً في الحزب (المقصود التنظيم الجديد) وظل على موقفه هذا، لكنه تعرّض فيما بعد للاعتقال وكاد أن يُرمى في السجن ويُقدّم الى المحاكمة، حيث جلب لنا بيانات ووثائق من الحزب الشيوعي السوري، وألقي عليه القبض في الحدود، وأقتيد مخفوراً ولولا تدخلات أحمد الشمرتي المعروف بعلاقاته الواسعة لأودع السجن. وكان أنذاك يتردد على دمشق للتسجيل في كلية الحقوق. لا أتذكر ان كان آخرون قد انضموا الى اللجنة ولكنني أتذكر اننا كنّا في حالة توسع شديد. وعقدنا اجتماعاً في الكوفة في جامع الكوفة الشهير تمويهاً لرجال الحرس القومي وآخر في منطقة الجسر في بستان لاحد الفلاحين من اصدقائنا بواسطة تسهيلات من رفيقنا محمد الكويتي.
كانت حملة الاعتقالات سريعة ومكثفة، فقد اعتقل الخزرجي وبعده اعتقل محسن القهواتي، كما اعتقل كمونة وآخرون. واضطررنا الى قطع الاتصالات والهرب حسب إتفاق كان بيننا، خصوصاً بعد أن عرفنا بواسطة رفيقنا علي الخرسان، عن طريق الحلاّق خضير الجزائري، الذي نقل له رزاق كشكول عضو قيادة منظمة البعث والحرس القومي اكتشافهم لحلقات من التنظيم الجديد واعتقالهم لبعض العناصر، وان الحملة ستكون مركزة وخاطفة. * * * هربت الى بغداد، التي كنّا نقضي فيها أوقاتاً طويلة ولدينا فيها الكثير من البيوت والعلاقات والأقارب والأصدقاء. إستأجر والدي سيارة تاكسي(أجرة). وكنت قد ذهبت مشياً على الاقدام الى خارج المدينة وبعد نقطة التفتيش، التي هي في حي السعد، ركبت من هناك في السيارة، وكنت قد بت ليلة خارج البيت احتراساً من احتمالات الاعتقال. وفي بغداد اتصلت بلجنة الكاظمية أو بقاياها ومع بعض الاصدقاء والرفاق. وكان آخر تشكيلة لها بقيادة محمد أمين الاسدي (المحامي فيما بعد) الذي بادر مع نخبة لاعادة تشكيل التنظيم الجديد، لكنه اضطر الى الهرب الى ايران بعد انكشاف حركتها. وبواسطة صديق خياط يدعى صادق وصيدلي إسمه عبد الامير السعدي (كان طالباً آنذاك) وهما يسكنان في منطقة النواب حصلنا على صحيفة " طريق الشعب"، التي صدرت في حزيران (يونيو) 1963، وحررها في حينها عبد الجبار وهبي " ابو سعيد" وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي، قبل إلقاء القبض عليهم واعدامهم في تموز (يوليو) 1963، أي بعد شهر تقريباً من صدور أول عدد من صحيفة طريق الشعب، التي انعشت الكثير من الآمال، لكن تسارع الاحداث وفشل حركة سريع وفيما بعد اعدام العبلي والحيدري وابو سعيد، سبب بعض ردود الفعل السلبية وبخاصة في الجوانب المعنوية. كنت " أختفي" أو هكذا يخيّل إليّ في منطقة الانباريين في الكاظمية في بيت عمي شوقي شعبان، الذي كان معتقلاً في النادي الاولمبي وقبلها في الكاظمية واستقرّ به المقام في الموقف العام ببغداد (القلعة الخامسة). وأتحرك بين بيت جدي التاجر المعروف الحاج حمود شعبان، في منطقة سوق حمّد (تانكي الماء)، الذي دوهم بيته في ايام الانقلاب حيث كانت المقاومة في المدرسة المقابلة له، وأصيب بعدها بأيام بجلطة قلبية وصاحبه مرض القلب، بضعة شهور لم تمهله طويلاً، وعلى أثرها توفي في بيروت آب (أغسطس) 1963، وكذلك في الاسواق التجارية حيث الكثير من اقاربي ووالدي يعملون في تجارة الاقمشة، وكانت السوق التجارية أرضاً خصبة لسماع الاخبار، من جهة ولمعرفة بعض توجهات الحكم وخفاياه من جهة اخرى، حيث كانت ترد الكثير من المعلومات التي أسمعها وأدققها وأنقلها الى الموقف العام عند زيارة عمي شوقي. ونقلت لهم في إناء خاص صحيفة الشعب بعد تمويهات كثيرة وكانت عمتي أمينة هي التي حملت " البريد" مع الكثير من المأكولات والحلويات دون أن تدري حقيقة ما يتضمنه. نقلت لهم بعد أول مواجهة في ذلك الصيف الساخن والملتهب تداعيات حركة حسن سريع، وكان الرأي السائد عندهم وفي الشارع المؤيد للشيوعيين هو خطأ الانتظار طالما كانوا قد بدأوا بالتنفيذ، ولذلك كان لا بدّ من "تصفية" القيادات السياسية والعسكرية، التي وقعت في الفخ واعتقلت أثناء وصولها الى معسكر الرشيد، لأن الأمر اقترب من التردد وهو ما أوقع الحركة في عدم الحسم والحزم ازاء الخصم، في لحظة إقتضت اتخاذ قرار حازم وسريع والمبادرة لحسم المعركة، لأن الانتظار سيعني تمكين الطرف الآخر من تجميع صفوفه ومن ثم الانقضاض وهو الطرف الاقوى وهذا ما قاد الحركة الى الفشل والى المزيد من التنكيل بالشيوعيين. ولعل حادثة قطار الموت قد تمت بعد هذا التاريخ، حيث اقتيد بضعة مئات من الشيوعيين معظمهم من العسكريين في قطار خاص بالحمولة وفي ظروف مناخية سيئة وكانت ارضه عارية الاّ من الاسفلت وبدرجة حرارية عالية في صيف قائض، حين انعدمت التهوية بعد اغلاق الابواب وكاد الجميع يموتون، لولا السرعة الفائقة التي قاد بها سائق القطار" عبد العباس المفرجي" وهو والد الصديق مظهر، ووجود أطباء في القطار نفسه اضافة الى اسعاف أهالي السماوة . ومن الطريف بالذكر ان عبد العباس المفرجي، الذي أنقذ المعتقلين اعتقل هو الآخر، ونقل معهم الى سجن نقرة السلمان. كما إن عدم توزيع السلاح والتنسيق مع قطعات عسكرية أخرى وتنظيمات أخرى ساهم في تقوقع الحركة وانتهائها، رغم البطولة والشجاعة، التي تحلّى بها حسن السريع وزملائه سواءاً عند الاقدام أو في المحاكمة فيما بعد وتحمّل التعذيب ومواجهة الموت ببسالة وثقة. وهنا اريد أن أتوقف قليلاً فيما ساد في أوساطنا من ارهاصات وارتباكات وردود فعل سواءاً كانت تنظيمية أو شبه تنظيمية أو فردية على شكل اجتهادات او حالات من الجزع وعدم الصبر. وحتى هذا التاريخ لم أقرأ دراسة أو بحثاًً عن حركة السريع، باستثناء كتاب الصديق د. علي كريم، الذي ظل يدور في اطار كتابه الخاص بتدوين مذكرات طالب شبيب، والذي صدر بعنوان: من حوار المفاهيم الى حوار الدم، ولعل هذا الحدث وأحداث اخرى لم يسلّط عليها الضوء الكافي لنقدها وبحثها من زاوية موضوعية، فالبطولة شيء والحدث ما ترّتب عليه وطريقة التفكير شيء آخر!! قبل هروبي من النجف بأيام وصلنا ما يسمى بالانذار" ج"، تشبثاً بالانذارات العسكرية. وكان الامر محصوراً كما قيل لنا بعدد محدود من الكوادر، ولا ندري ما هو دورنا وتأثيرنا لكي نبّلغ بمثل هكذا سر خطير (إنْ وجد)، اذ لا بدّ من الاستعداد لأحداث مهمة قد تجري سريعاً، وعلينا مراقبة الموقف والتهيؤ لأية إحتمالات. ولم نكن ندرك حقيقة الامر، فنحن مجموعة قليلة اولاً وصغيرة السن ثانيا وتجربتنا بسيطة آنذاك ثالثا،ً ومعرفتنا وثقافتنا محدودة وبخاصة في الجوانب العملية والحياتية رابعاً، وخامساً ولم يكن لأي منّا معرفة في الامور الخاصة بالدولة والحكومة والجيش. فما معنى الانذار "ج"؟ كان السؤال الذي راودني كثيراً وأعتقد أنه راود الزملاء الآخرين " وماذا بعد!؟ " بعد يوم أو يومين ألغي الانذار، ثم تكرر الأمر مرة أخرى وأخرى. وفي بغداد تكرّر الأمر كذلك وهو ما تكرّر على نحو أشد وأوضح بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. ربما كانت بروفات لإعادة الثقة بالنفس وقد تكون بصفتها توجهات فردية، ولكن رد الفعل كان عكسياً معي، فبعد مرّة او مرتين بدأت أهمل هذه الانذارات " الخلبيّة" كما سميّت فيما بعد. أما الهدف وبخاصة بعد الانقلاب الثاني بقيادة العقيد (المشير) عبد السلام عارف فقد كان يسعى الى بعث الثقة في النفس وشحذ الهّمة والروح الجهادية واختبار درجة الاستعداد والجاهزية. قد يكون الأمر من باب رفع المعنويات أو حتى المبالغات في القدرات الذاتية أو شيئا من الاجتهادات الشخصية او العلاقة مع بعض العسكريين. ولكن الأمر لم يكن يخلو من مفارقات. كنا نسهر احيانا أنا وعلي الخرسان بعد استكمال بناء بيتنا الجديد في حي السعد، في الحديقة أحياناً وفي السطح أحياناً وبجوارنا الراديو وننتظر حتى نمّل وتأتينا بعد أيام بعض الاخبار " المقنعة" وغير المقنعة، بأن أمراً ما كاد أن يحدث، لكن الظروف استوجبت التأجيل. وأخذ الامر بُعداً آخر بعد العام 1965 ايام ما سمّي " بالعمل الحاسم". وهذا حصل بعد انهيارات كثيرة في المعنويات وفكّ ارتباط وزعل على الحزب بسبب خط آب في حينها، وضمن مستوى الوعي والادراك السائد آنذاك، إضافة الى نزعات التشدد و" التياسر" والارادوية، التي كانت سائدة وظلّت الى حدود غير قليلة في أوساط الحزب، ناهيكم عن الذكريات المؤلمة للفترة السابقة. لكنني بكل صراحة وأقولها للتاريخ لم أكن ادرك حقيقة ما يجري فعلياً رغم ان قناعتي كانت ان الحزب لا يستطيع أن يعمل شيئاً قبل أن يضمد جراحاته العميقة ويعيد لحمة ما تبقى ويصحح نهجه السياسي ويتخلص من تردده وحركته البندولية، وهي سمة ظلّت ملازمة لقيادته مع الاسف الشديد. أتذكر مرة وكنا ما نزال في المعتقل، كان هناك من يحاول أن يبعث الامل في نفوس البعض، عن طريق أخبار يبّثها بإحتمال قيام حركة مضادة للبعث وان فلان وفلان من الرفاق لم يعتقلا وان الفرع الكردي يستعد للتحرك واذا جرى التنسيق مع قيادة البارتي (بزعامة البارزاني) سيكون الامر مضمونا تماماً وان الحركة الانقلابية بدأت تتآكل وربما تنهار، وعندما سمع انفجاراً حدث، وسمعنا دوّيه في يوم مولد النبي محمد (ص)، في احتفالية في الميدان الرئيسي للمدينة، حيث يوجد " خان الهنود" هتف قائلاً انه الانذار "ج". وسترون من يكون في الواجهة!؟ وأخذ يذكر إسم العقيد غضبان السعد وسعيد مطر وآخرين. واتضح ان القضية هي مجرد سقوط كراسي حديدية وربما انفجار قنينة غاز، هاج على إثرها الجمع وردد الفلاحون هوستهم الشهيرة " مليوصة يا حسين الصافي "، حيث كان متصرفاً (محافظاً) للواء الديوانية (القادسية) وجلب الفلاحين في سيارات كبيرة للمشاركة في الاحتفال المذكور، الذي إنفض بفضيحة، ظلّ الجميع يتندرون بها. وحيث كنّا في " خان الهنود" استجلينا الامر من كاكه حمه الشرطي المكلف بحراسة غرفتنا، بما حصل وعرفنا الحقيقة، واذا بصاحبنا ينطفئ فقد كانت حماسته تعويضاً عن شعور بالمرارة من جهة وتشبثاً بالامل من جهة أخرى، وغالباً ما كانت تحدث قضايا ومواقف مماثلة ومتناقضة من هذا القبيل!! * * * كنت أتوجه بسيارة خالي ومعي والدي وأحد أقاربنا الى بغداد من الكاظمية وعبرنا جسر الاعظمية(جسر الأئمة) واذا بالحرس القومي يوقف سيارتنا في نقطة التفتيش. وطلبوا هوياتنا وعرفنا منهم او هكذا قالوا: ان انقلابا شيوعياً " أبكَعاً " قد حدث ولكنه فشل. وكنت يومها أحمل " طريق الشعب" في جيبي (وهي مطبوعة على الآلة الكاتبة ومعها نسخة أو نسختين بخط اليد). وكاد يغمى عليّ خصوصاً بأخبار "الانقلاب الفاشل" وقبلها "انتفاضة معسكر الرشيد" واحتمال اكتشاف امري. بعد لحظات تنفسّت الصعداء فقد سمحوا لنا بالمرور وحمدت الله على انهم لم يفتشوا جيوبنا والاّ سيكون مصيري في كف عفريت. فمن يدري ماذا سيكون رد الفعل المباشر؟ بعد وصولنا الى سوق المرادية وفي خان شعبان الذي كان لجدي الحاج حمود شعبان، أطلعت نعمان شعبان على الجريدة، التي قرأها بخوف شديد فوق سطح الخان، ثم قمت برمي ما عندي في أطراف شارع المتنبي بعد ذلك وبالقرب من نقابة المحامين، ونعمان الذي توفي في اوائل التسعينات هو صديقي وأقاربي وكنت صلته بالحزب، وقد مثلّ الحزب في الجمعية العراقية للعلوم السياسية عام 1969 في قائمة مشتركة مع حزب البعث والحركة الكردية والحركة الاشتراكية العربية، وكان ذلك من التحالفات الاولى بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) بين الشيوعيين والبعثيين، كما كان عضواً في لجنة طلابية سابقة ضمّت حكمت سليمان(من الموصل) وعطية فاضل (الدكتورة في الاقتصاد لاحقاً) وعبد الامير صالح السعدي (انتمى الى الحزب الحاكم لاحقاً وهو غير الذي ورد ذكره ) وزميل كان محسوباً على ملاك القيادة المركزية سابقاً إسمه (حسن). عدنا الى البيت سريعاً حيث كان الجو يميل الى منع التجول واتصلت بأصدقائي والحلقة المصغرة في الكاظمية، لأستجلي الامر منهم وانتظر فيما اذا كانت هناك اية معلومات أو اخبار. واتفقنا على ضرورة اليقظة والحذر من الاندساس وانكار علاقتنا مع بعضنا في حالة اعتقال أحدنا. علمت بان بقايا الحزب أو بعض منظماته المتقطعة، لم يكونوا يحبذوا قيام حركة في هذا الوقت بالذات ضمن وعينا آنذاك. ثم تأكد لي هذا الامر بعد حوارات مع " أبو خولة" – باقر ابراهيم أحد قادة الحزب التاريخيين وعضو المكتب السياسي لسنوات طويلة والمسؤول عن منطقة الفرات الاوسط خلال احداث 1963، الذي علّق على مذكرات زكي خيري (عضو المكتب السياسي) ومقترحاته في حينها (عام 1963)، حول المبادرة بالهجوم على حامية النجف (العسكرية) أو ركوب القطار المتوّجه من الديوانية الى بغداد والزحف ببضعة مسلحين من الفلاحين من هناك، وهي آراء كثيراً ما كانت تتردد من باب رد الفعل وربما اليأس او عدم الصبر أو بمكابرات " ثورية"، وهو ما دوّنه باقر ابراهيم في مذكراته. ولعل في هذا الجزء من مذكرات باقر ابراهيم ملء لي العديد من الفراغات في معلوماتي وفي ذاكرتي أيضاً. ومثل تلك الفنطاريات الثورية والمغامرات كانت تتردد بين بعض أفراد مجموعتنا الصغيرة، وكانت تلاقي صدىً وتُشمّر السواعد لجمع السلاح او الاعلان عن فشل العمل السياسي او غير ذلك. واعتقد ان نظرة باقر ابراهيم كانت أكثر بعداً وواقعية من مثل تلك الاطروحات الصبيانية المغامرة، وحمداً لله لم يبادر البعض بتوريطنا مغبة اندفاعات غير محسوبة. عرفت ان " أبو سلام" الشخص الذي كان اسمه يتردد في المحكمة، التي انعقدت سريعاً لمحاكمة حسن سريع، ورفاقه ظل مجهولاً وربما ظلّت تلك احدى ابرز الحلقات المفقودة في حركة حسن سريع وبخاصة علاقة التنظيم المدني بالتنظيم العسكري كان الصديق طلال شاكر " أبو ميلاد" قد حدثني عن جوانب خفية من علاقة حسن السريع ببعض تنظيمات الحزب. وعلاقة بعض رفاق وتشكيلات بقايا الحزب بالحركة، خصوصاً وان هناك تجمعات غير قليلة وتشكيلات مستقلة عن بعضها عملت باسم الحزب الشيوعي آنذاك قبل تجميعه فيما بعد وبخاصة بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 الذي أطاح بحكم البعث. وقد حدثني الرفيق عباس قاسم (بولس مراد) الذي عمل معي في جمعية الطلبة في براغ عندما كنت رئيساً لها، وكان متهماً بأحداث الموصل وسجن في حينها، ولكن اطلق سراحه عشية انقلاب 8 شباط (فبراير)، بأنه ساهم في تلك التشكيلات وكان على رأس بعضها وربما اعتقد أنه المسؤول الاول، اذ لم يكن يعرف بأن هناك تشكيلات أخرى. وكان ذلك اثناء وجوده في براغ في السبعينات وبعد خروجه من بغداد في اواخر العام 1965 وهذا الامر حصل معنا أيضاً، فقد اعتقدنا اننا الوحيدون الذين يمسكون بتلابيب التنظيم، ولكن حسبما اعتقد وكما اتضح الامر بعد سقوط حكم 8 شباط (فبراير) كانت مجاميع اخرى وربما تنظيمات أخرى، وهذا ما حصل في بغداد ومدن أخرى أيضاً. وبخصوص التنظيم الجديد عدت الى النجف بعد انقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) وحاولنا اعادة تشكيل هيئة جديدة للنجف مؤلفة من شقيق عبد الرزاق السبيّس (لا اتذكر اسمه) وعباس فيروز (خياط) وحسون (عامل في مقهى) وعلي الخرسان ورفيق آخر نسيت اسمه وكاتب هذه السطور (طلاّب أعيدوا للدراسة). ثم جرى اتصال بيننا وبين منظمة العاصمة بواسطة بريد لا اعرف أو لا أتذكر كيف وصلنا، واتضح اننا نواة لما سميّ باللجنة الثورية ووزعنا بياناتها وبخاصة من قبل عبد الحسين الشيباني(عامل الكهرباء) وعلي الخرسان، وكنا نعيد كتابة البيانات في فندق يعود الى السيد هادي الخرسان (شقيق علي الخرسان)، ولكننا عرفنا ان مركز الحزب استعاد نشاطه ووصلتنا ادبيات وبيانات، واتصل بنا بعض الرفاق القدامى الذين نعرفهم ونثق بهم، مما أدى الى انقطاع اتصالنا مع ما سمي باللجنة الثورية أو مجموعة ثورية متمردة على القيادة (لم أعد اتذكر ذلك)، أو بالاحرى لم أكن اميّز ذلك كثيراً لاعتقاد بعضنا أن نهجاً جديداً ثورياً قد بدأ بأسماء ثورية أو هكذا تصوّرنا ويعود الامر الى قلة تجربتنا ، ولظروف العمل السري القاسية وانعدام الحريات. ولا ادري ان كان ذلك نواة للجنة الثورية التي قادها سليم الفخري الضابط الشيوعي ومدير الاذاعة والتلفزيون في زمن قاسم ام جهة أخرى؟ وبالمناسبة فقد استدرج الفخري ورفاقه خلال تخطيطهم لحركة انقلابية ليقعوا في الفخ ويحكم عليهم بأحكام ثقيلة، ولم يطلق سراحهم الاّ بعد عام 1968 ومات سليم الفخري في لندن عام 1990 وحضرت حفل تأبينه، وظل في السنوات الاخيرة من حياته داعية لحقوق الانسان وكانت له علاقات متميّزة وواسعة مع الكثير من الشخصيات الوطنية العراقية . لم نكن نفكّر رغم قلة تجربتنا بشيء أبعد من الحزب أو بديلاً عنه أو بارتباط خارجه رغم سخطنا على بعض توجهات القيادة ومرارتنا بسبب النكسة التي حلّت بالحزب وتمزق شمله، خصوصاً وان الكثير من الاسئلة بدأت تواجهنا وتراود عقولنا وشكلت تلك ارهاصات اولية لاختلافات فكرية ونظرية وعملية فيما بعد. بعد هرب صلتنا (السبيس) الى البادية (منطقة عرعر) حسبما أتذكر، انفرطت علاقاتنا التنظيمية. واتضح لنا وجود تنظيمات اخرى في الفرات والنجف. كما قمت بمحاولة تنظيم اتصالات جديدة لمجموعتنا مع منظمة بغداد عن طريق أحمد سنجر الموظف في احدى سفارات الدول الاشتراكية. ثم ارتحلت عن النجف كليّاً حين إلتحقت بعد ذلك بجامعة بغداد (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) وداهمنا يومها خط آب، الذي صدمنا ورفضت تنظيمات النجف توزيع البيان الشهير، كما تم إتلاف حوالي 100 نسخة من صحيفة طريق الشعب، التي روّجت لخط آب الذي وصف " بالتصفوي والذيلي والانتهازي"، في محاكاته لسلطة عبد السلام عارف والسعي لتخفيض شعارات الحزب والدعوة المستترة والمعلنة لحل تنظيماته والانضواء في " الاتحاد الاشتراكي". ولم يكن ذلك بمعزل عن السياسة السوفيتيية، التي روّجت لفكرة "طريق التطور اللارأسمالي" وإمكان تحقيق التحول الاشتراكي عبر سلطة "الديمقراطيين الثوريين"، وهو ما جرى الحديث عنه في وقت لاحق خلال فترة التحالف مع حزب البعث في السبعينات، لكن رفض ومعارضة خالد بكداش لفكرة التطور اللارأسمالي وموضوع حل الاحزاب الشيوعية، مثلما حصل في مصر والجزائر، كان كفيلاً بإحداث نوع من الحراك في التيار الشيوعي العربي ورغم ما يقال عن خالد بكداش من تبعية لموسكو، الاّ أن موقفه عام 1964 من هاتين المسألتين، كان شجاعاً ومبدئياً، رغم أن البعض يعتبر ذلك خطوة خارج السياق. ولعلّ في تنصّل معظم قادة واركان خط آب في الدفاع عنه فيما بعد خير دليل على فشله وعدم واقعيته، اذ ليس من الممكن في أجواء الصراع وبخاصة بعد حركة حسن السريع، طرح مثل هذا الخط السياسي والفكري دون وجود مقدمات وتمهيدات، فضلاً عن مبررات موضوعية كافية، فقد كان غبار المعارك ما يزال يغطي الكثير الكثير من الزوايا، وأسئلة الضحايا كانت ما تزال تستفهم وتطالب بالعدالة، واذا كان بعض أقطاب خط آب قد اتجه الى فكرة " العمل الحاسم" النقيضة، فإن باقر ابراهيم كان، استثناءً، حيث ظلّ أميناً لمواقفه وهي مسألة تبعث على الاحترام بشأن الدفاع عن الرأي والثبات على المواقف، رغم الاختلاف في وجهات النظر في تقييم الحدث، وقراءة المستجدات التي أعقبته ، بما فيها المتغيّرات والتطورات وما أفرزته الحياة ذاتها! أعتقد أنه آن الآوان لإجراء مراجعة انتقادية للتجرية بما لها وما عليها، خصوصاً ونحن نتعاطى معها الآن باعتبارها ماضياً لا يمكن استعادته، وليس من باب التنديد او التمجيد، بقدر ما هي تجربة علينا إعادة قراءتها بالارتباط مع مجمل تاريخ الحركة الشيوعية، بما فيها ممارساتها السلبية والخاطئة وردود فعل الآخرين إزاءها، وبخاصة المجازر التي ارتكبت عام 1959 في الموصل وفيما بعد في كركوك، وتشجيعنا وحثنا على إعدام العديد من القيادات القومية والبعثية، بمن فيهم من الضباط الاحرار الذين شاركوا في ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وفي المقدمة منهم: رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي وغيرهما!! إضافة الى محاولة الاستحواذ على الشارع وعزل وإبعاد الآخرين شركاء الأمس في جبهة الاتحاد الوطني، وما خلّف ذلك من احتكاكات بين تيارين متقاربين، لكنهما دفعا ثمن منافستهما غير المبدئية وغير الديمقراطية ومحاولات إلغاء كل منهما الآخر وهو الأمر الذي جلب الكثير من الكوارث على العراق، في العقود الاربعة الماضية، خصوصاً بتهميش الطبقة الوسطى وازدراء تيار الوسط الديمقراطي والسعي للاستئثار بالحكم وتصفية الهوامش الديمقراطية وتمجيد عبادة الفرد!!
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيستاني أو ولاية الفقيه غير المعلنة!
-
الحديقة السوداء في محطّات شوكت خزندار - الشيوعية - !
-
الحكم الصالح والتنمية المستدامة
-
الحكم الصالح (الراشد) والتنمية المستدامة
-
حكومة المالكي عاجزة عن حل الميليشيات ومهددة بالانهيار
-
احتمالات الحرب الاهلية في العراق
-
خيارات الرئيس بوش في العراق
-
الائتلاف والاختلاف في ستراتيجيات وتاكتيكات المقاومة العربية!
...
-
الازمات والنزاعات الاقليمية وأثرها على عملية التغيير والاصلا
...
-
عام بريمر العراقي في الميزان
-
المحكمة الجنائية الدولية
-
هل سيتمكن المالكي من حل المليشيات ؟
-
ما بعد العدوان الاسرائيلي
-
العراق وتحديات المستقبل
-
الطبعة السيستانية لولاية الفقيه
-
الائتلاف والاختلاف في ستراتيجيات وتاكتيكات المقاومة العربية
-
الدكتورعبدالحسين شعبان دعم امريكا لاسرائيل لايشجع على الثقة
...
-
التسامح والاسلام
-
حرية التعبير
-
بول بريمر العراقي في الميزان
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|