في العالم الغربي تمر الديمقراطية بأزمة نمو أو أزمة تحول (إقرأ عدد الاثنين الماضي) أما في العالم العربي فالديمقراطية تلمع بغيابها، لكن شبحها بدأ يحوم حول القصور العربية وسط ترحيب النخب والفئات الشعبية المستنيرة في الداخل وضغوط الدبلوماسية الدولية والمجتمع المدني العالمي والإعلام العالمي في الخارج، توطينها يبدو إذن - في السيناريو المتفائل - مسألة وقت.
دور النخبة ليس تحويل الديمقراطية من إشكالية إلي شعار سهل بل طرح العوائق الفعلية التي تعيق دخولها إلي المجتمعات العربية التي لم تعرف ثقافتها السياسية الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية، القضائية والتشريعية، كما لم تعرف تداول النخب والأجيال السلمي علي الحكم ولم تعرف الفصل بين الديني والسياسي التي تشكل معا العمود الفقري للديمقراطية.
واقع ان المجتمعات العربية لم تعرف حتي الآن بداية تجربة ديمقراطية جدية واحدة هو في حد ذاته مؤشر علي كثرة العوائق السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية وخصوصا الدينية التي تناضل ضد توطين الديمقراطية، لكن يوجد في المقابل، عامل أهم يناضل لصالحها هو الحداثة التي بدأت تتغلغل في وعي النساء والشباب بسرعة غير مسبوقة منذ سقوط جدار برلين دون حرب وقد يزيد توغلها سرعة سقوط بغداد دون قتال.
الديمقراطية، كالحداثة، مشروع لا يكتمل فهي إذن مسار تدريجي. في مسقط رأسها، الغرب، لم تولد كاملة بل مرت ولا تزال بتطورات متلاحقة تتدرج بها في كل مرحلة من الأدني إلي الأعلي، الديمقراطية البريطانية لم تبلغ الدرجة التي تعطيها الشرعية الديمقراطية إلا في 1918 عندما انتقلت من اقتراع الأغنياء (حوالي 3% من السكان) إلي الاقتراع العام والديمقراطية الفرنسية لم تبلغها إلا في 1944 عندما اعترفت للمرأة بحق التصويت والديمقراطية الأميركية لم تبلغها إلا في 1962 عندما اعترفت لمواطنيها السود بحقوقهم المدنية... ومع ذلك فمازال الطريق طويلا أمام هذه الديمقراطية العريقة لتدارك نقائصها والخروج سالمة من أزماتها بحل تناقضاتها الاجتماعية - السياسية.
لاشيء إذن يتطلب من المجتمعات العربية الانطلاق من الدرجة التي وصلتها الديمقراطيات العريقة بل حسبها استلهام التجارب الديمقراطية الفتية في جنوب شرقي آسيا وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وبعض البلدان الافريقية كالسنغال، تجد النخب والأحزاب المطالبة بالديمقراطية صنعا لو انها تنكب علي دراسة كيفية تذليل هذه التجارب الديمقراطية للعوائق التي اعترضت طريقها عسي أن نستفيد منها هي في تذليل عوائق الديمقراطية في مجتمعاتها التي لم تعرف منذ خمسة عشر منها إلا شيخ القبيلة والخليفة اللذين لا يعزلهما إلا الموت، هذا العائق من الرسوخ إلي درجة انه مازال مستمرا بقوة حتي الآن، التداول ليس غائبا في الدول وحسب بل أيضا في أحزاب المعارضة التي تطالب به أناء الليل وأطراف النهار دون أن نقدم دليلا حيا علي امكانية هذا التداول داخل مؤسساتها الخاصة.
العوائق الاقتصادية والاجتماعية:الديمقراطية لم تقطع دابر التداول العنيف علي الحكم ولم تقلص العنف السياسي الجماهيري إلي أدني تعبيراته إلا بفعل الحداثة الاقتصادية أي تفوق معدلات النمو الاقتصادي علي معدلات النمو الديمغرافي ، بدوره يشكل الفقر عائقا.
معظم سكان البلدان العربية الكبري، أكثر من 50%، يعيشون تحت خط الفقر، الفقراء تعاملوا حتي الآن مع الانتخابات الديمقراطية اما بالاستنكاف عن التصويت (مصر) واما ببيع اصواتهم (المغرب) واما بالتصويت الاحتجاجي لأكثر الحركات ديمانموجية وعنفا (الجزائر)، الديمقراطية لا تتأصل إلا في مجتمعات الوفرة إلي درجة أن رئيس البنك الدولي يقدر ان بلوغ متوسط الدخل الفردي السنوي عشرة آلاف دولار هو الشرط المناسب لتوطين الديمقراطية. عندئذ تتضاءل امكانية التصويت الاحتجاجي والعنف السياسي ويختفي بيع الأصوات. الفقراء هم عادة في معظهم ضحايا الأمية والجهل وهذا لا يساعدهم علي وعي أهمية الديمقراطية كعامل استقرار سياسي يساعد علي التنمية الاقتصادية باستقطاب الاستثمارات الخارجية وباقناع الرساميل الداخلية بعدم الفرار، ولا يساعدهم فضلا عن ذلك علي وعي أهمية حقوقهم المدنية هم الذين لم يترك مطلب توفير لقمة العيش في رؤوسهم مكانا لأي مطلب سواه.
العوائق الثقافية: ثقافة الاجماع العشائرية الملازمة للذهنية التقليدية التي تعيق ظهور ثقافة الاختلاف الديمقراطي، النقاش المتعارض ضعيف في صحافة الأحزاب الديمقراطية وغائب في صحافة الحركات الدينية، عبادة البطل المنقذ، المعبر عن أسطورة المهدي المنتظر الدينية، الذي يحول بقدرة قادر عجز الشعوب الي قدرة سحرية تجترح بها المعجزات يعيق استبطان منطق المؤسسات التي لا تعترف بالابطال بل بالادوار والتي تقيم علي انقاض العلاقات الشخصية بين الحاكم والمحكوم علاقة المواطن بالمؤسسة، رُهاب النقد المستفحل في النخبتين السياسية والفكرية والموروث عن تربية عائلية مؤنبة ومذنبة تزرع في رؤوس ضحاياها الرعب من الوقوع في الخطأ الذي انجر عنه دائما في الأسرة فقدان حب الأبوين لطفلهما الخاطيء. يسقط هذا الطفل راشدا صورة الأبوين علي الرأي العام، هكذا. يغدو رهينة لصورته في مرآه الرأي العام حسبه أن تتراءي له سالبة حتي يرد بمردود انفعالي، بما أن الثقافة، الديمقراطية ثقافة معارضة ونقد، فالوعي العربي الإسلامي الهش يخشاها خشية الموت خاصة وان الثقافة السائدة مازالت تماهي التحليل الموضوعي للاخطاء السياسية أو الثقافية بالهجاء بما هو تسقط للمثالب الشخصية وترد عليه بالعنف.
العوائق الدينية: عوائق ثلاثة تتغذي من بعضها البعض التعليم والإعلام الدينيان والحركات الدينية. يتجلي عائق التعليم في المناهج الدينية المعادية للعقل وبالتالي للحداثة مؤسسات وقيماً والذي يجد امتداده في الإعلام الديني بما فيه الرسمي الذي هو في الواقع مدرسة بدون جدران. والتعليم والإعلام يتآزران علي قطع الطريق علي مؤسسات وقيم ومباديء الحداثة السياسية.
في الديموقراطية البرلمان هو مصدر الشرعية اما التعليم والإعلام فيعلمان جمهورهما بأن شريعة العقوبات البدنية هي مصدر الشرعية، الديموقراطية تفترض المساواة بين جميع المواطنين بينما التعليم والإعلام يؤكدان بأن المرأة غير مساوية للرجل، القوَّام عليها، وبأن غير المسلم غير مساو للمسلم، سليل خير أمة أخرجت للناس، الحداثة السياسية (الديموقراطية وحقوق الإنسان) تقدس الحرية، حرية الضمير والاعتقاد والتعبير والتفكير فيما الإعلام والتعليم الدينيان الرسميان يعتبرانها ردة عن الإسلام عقابها دق العنق، والديموقراطية. حكم الأغلبية فيما التعليم والإعلام يعلمان ضحاياهما بأن الطريق إلي الحقيقة السياسية ليس تصويت الأغلبية بل الدليل الشرعي الذي يقيمه أهل الحل والعقد: الفقهاء. لا ديمقراطية من دون احترام حقوق الإنسان الأساسية أما التعليم والإعلام إياهما فيوصيان ضحاياهما بأن انتهاك حقوق الإنسان، من الحق في الحياة إلي الحق في المساواة بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم، واجب شرعي يساعد علي احترام حقوق اللَّه علي الإنسان من العبادات إلي إقامة الحدود. الحركات الدينية تمثل في الواقع مدرسة موازية للإعلام والتعليم الدينيين تعمل ربما بحمية أقوي علي تعميم أحكام فقه القرون الوسطي علي أوسع نطاق، ترفض الحداثة مؤسسات وعلوما وقيما لأن سبب وجودها ذاته هو محاولة قطع الطريق علي دخول الحداثة إلي أرض الإسلام. الحجج التي تبرر بها هذا الرفض مستمدة جميعا من ترسانة الفقه الإسلامي القديم. ترفض الديموقراطية لأنها حكم الأغلبية والشريعة لا تقيم وزنا إلا للدليل الشرعي الأقلوي عادة، الديموقراطية تقليد للكفار والحال ان مخالفتهم واجب ديني فالنرجسية الدينية لخير أمة أخرجت للناس تأبي أن تقلد أهل الجحيم ، لأن النظام الديموقراطي يتعارض مع معايير وبنية النظام الإسلامي القروسطي ولأن الانتخابات بدعة لم تعرفها الشريعة الإسلامية.
يقول الشهير علي بن حاج في بحث له بعنوان الدمغة القوية في نسف عقيدة الديموقراطية (نرفض الديموقراطية) لأنها تقوم علي رأي الأغلبية (.....) اما نحن معشر أهل السنة والجماعة فنري ان الحق انما يعرف بالأدلة الشرعية لا بكثرة والفاعلين أو بكثرة الأصوات الغوغائية، ومن هنا كان اتباع الرسل قلة واتباع الطواغيت كثر كاثرة (...) ننبذ الديموقراطية لأن مخالفة الكفار من القواعد الشرعية التي غفل عنها جمهور المسلمين. (القاعدة) هي مخالفة اليهود والنصاري والأدلة الشرعية علي صحة هذه القاعدة أكثر من ان تعرف (...) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم مخالفة أهل الجحيم (0000) ان مخالفة اليهود والنصاري من أصول ديننا (000) ثم هو (النبي) نهي عن التّلقي من غير اللَّه ومنهجه الخاص (000) ونهي عن الهزيمة الداخلية وهي التي تندس في النفس لنقلد هذا المجتمع المعين والجماعة الإسلامية قامت لتكون مكان القيادة للبشرية فينبغي لها ان تستمد تقاليدها كما تستمد عقيدتها من المصدر الذي اختارها للقيادة والمسلمون هم الأعلون وهم الأمة الوسط وهم خير أمة اخرجت للناس (الانقاذ 2 صفر 1411) راشد الفتوشي لا يقول شيئا آخر: مطلوب ان نعتمد في فكرنا المستقبلي مبدأ إسلاميا أصيلا طالما تغافلنا عنه وهو اعتبار مخالفة الكفار أي أمة اليهود والنصاري أصلا من أصول فكرنا وتنظيم حياتنا باعتبار ان ذلك مقصد من مقاصد الشريعة كما أكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ويقول أيضاً الترشح لمنصب من مناصب الدولة سبب كاف للحرمان منه (000) ومن ثم فلا مجال في المجتمع الإسلامي للحملات الانتخابية يخوضها الزعماء، فلا تزكوا أنفسكم، وإنما الأمة هي التي تزكي وترشح من تراه كفؤاً لها (مقالات، دار الكروان، ص84 باريس).
هذه المواقف التي تحاول قطع الطريق علي توطين الديموقراطية في المجتمعات العربية يؤطرها جميعا عائق استبداد النخب السائدة التي تطبق في تعليمها وإعلامها وتشريعاتها ودساتيرها برامج الحركات الإسلامية الظلامية، وفي الوقت ذاته تنتهك القانون وحقوق الإنسان في اضطهادها لقادة وكوادر هذه الحركات محولة إياهم إلي شهداء جديرين بالعطف!
كيف يمكن تذليل هذه العوائق؟ بإعادة صياغة الوعي الإسلامي بالقيم الديمقراطية الإنسانية عبر إنشاء إعلام بديل يعلم الجمهور بالمشاكل الفعلية وبالمشاريع المتنافسة لحلها، وهكذا فصحيفة أو إذاعة واحدة مستقلة أجدي للديموقراطية من الاعتراف بمائة حزب معارض، وعبر تعليم حديث بالمقاييس الدولية وتعليم ديني تنويري يلغي تدريس الجهاد والاستشهاد والعقوبات الشرعية الدموية والتحريض علي كراهية الكفار وعداء المرأة والعقل وتعويضها جميعا بتدريس حقوق الإنسان المؤسسة لثقافة اللاعنف المتسلحة بقوة الحجة لا بحجة القوة في العلاقات بين الأفراد والمجموعات والمجتمعات، وعبر تحديث قوانين الأموال الشخصية علي غرار قوانين الأحوال الشخصية التونسية، وتعديل الدساتير حتي لا تتضمن مواد مناقضة للديموقراطية وحقوق الإنسان وتضمن حقوق المواطنة لجميع المواطنين بقطع النظر عن الجنس والدين والطائفة والقومية.. كيف يمكن التقدم إلي الديموقراطية في القرن الحادي والعشرين والنساء وغير المسلمين أنصاف مواطنين وفي بعض البلدان وأصفار مواطنين في البعض الآخر؟!
هذه معالم في الطريق: طريق التقدم التدريجي لكن الحقيقي إلي توطين الحداثة والديموقراطية في العالم العربي.
الراية القطرية
كاتب ومفكر عربي