|
محطات من انفال به هدينان – المحطة السابعة عشرة
ناظم ختاري
الحوار المتمدن-العدد: 1894 - 2007 / 4 / 23 - 12:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان ذلك في 1- 10- 1988 عندما وجدنا أنفسنا وسط مدينة الموصل التي كانت تزدحم شوارعها بالمارة والسيارات وتلفها أبنية وعمارات لم نراها منذ فترة طويلة ولم يكن قسم منها موجودا عندما كنا نتردد إلى المدينة في الظروف الطبيعية ، كنا ننظر إلى وجوه المارة سريعا لم يكن وضعنا مساعدا أو وقتنا كافيا لكي أقرأ في هذه الوجوه ولكن رغم ذلك كانت الكثير من الأشياء تلفت نظري فيها ، فهناك من كان يدفع بعربة محملة يحاول جاهدا عبور الشارع من أي مكان كان دون أن يجد له فرصة العبور فقد كان يتصبب عرقا ويزداد غضبا ويطلق السباب لسواق السيارات ، وكان هنالك متسولون يمدون يدهم للمارة كان بينهم من يدفع له ومن يتمتم بكلمات لا يفهما المتسول ، وكان سقاة مشروبعرق السوس يجوبون الأرصفة المضللة ويروجون لمشروبهم اللذيذ ، كم تمنيت أن أشرب كأسا منه ، ولكنه كان علينا أن نتصرف بسرعة ، وكان هناك باعة صغار يبيعون علب السيكائر والعلك وبعض أنواع المعجنات في صناديق مزودة بأحزمة تساعدهم على حملها على شكل دروع على صدورهم وتتعالى أصواتهم الناعمة للترويج لبضاعتهم فحتى بيع سيكارة بالمفرد كان يزيدهم حماسا في الصياح ويدخل الفرح إلى قلوبهم . بين كل هذا الزحام و انتظارنا توقفت سيارة تاكسي أمام إشارة يد أحدنا وقال لنا سائقها ما هي وجهتكم ، فأبلغناه إنها كراج سنجار، قال توكلت على الله ، في الطريق إلى هناك لم ينقطع نظرنا عن الحركة النشطة في مثل هذا الوقت في شوارع مدينة الموصل ولا انقطعت عن النظر إلى كل ما كان جديدا بالنسبة لنا ، فمنذ سنين طويلة لم نرى فيها المدينة ، وها نحن على شوراعها وبين أبنيتها الشاهقة وبين سكانها وزوارها الذين (لا يشبهوننا ) ، تذكرت عندها حكاية للعم مراد من قرية كابارا كان يرويها لنا عندما كنا نذهب إلى قريتهم ونحل ضيوفا عليهم في بيتهم قبل هذا الوقت وقبل أن تدمر كابارا في بدايات هذه الحملة وتهجير سكانها إلى مجمعات سكنية قسرية ، حيث كان يقول لنا (عندما أجدكم وأنتم تحملون أسلحتكم وتتجولون بكل شجاعة وتخوضون المعارك وتتحدثون إلينا أشعر إنكم قادرون على إسقاط النظام بين ليلة وضحاها وهذا ما يشعرني بفرح غامر في الحقيقة حتى أقول في دواخلي بأنني سأنهض في صبيحة اليوم التالي وأول ما سأستمع إليه هو البيان رقم (1) يٌعلن فيه إسقاط النظام ، ولكنني عندما أسافر إلى مدينة الموصل وأشاهد نقاط التفتيش الرهيبة التي تطوق المدينة وتقع عيناي على قوات الشرطة التي تتجول في المدينة وعندما أشعر بالكم الهائل من عناصر الأمن والإستخبارات وهي تراقب الناس في صغيرها وكبيرها وعندما أجد هذه الأبنية الشاهقة التي لا أستطيع رؤية نهايتها وعندما أجد قوافل الجيش تتحرك من المدينة نحو وجهة معينة أشعر بخيبة أمل وبمرارة وأقول في دواخلي كيف لهؤلاء البيشمه ركه وهم لايملكون غير أسلحة خفيفة وأيمانهم بقضيتهم وإرادتهم أن يسقطوا هذا النظام ويقضوا على جيشه وأمنه و إستخباراته وأن يدمروا كل هذه الأبنية الشاهقة وووووو الكثير من الأسئلة .؟؟؟ ) . مر الوقت سريعا .. فوصلنا إلى كراج سنجار وأخذ السائق أٌجرته ، واندفعنا بهدوء إلى داخله واحدا تلو الآخر ، سألت عن السيارات الذاهبة إلى ناحية الشمال (سنونى) ، أشار أحدهم إلى سيارة برازيلي مركونة في مكان من الكراج توجهت إليها وقاطعت صوت السائق العالي وهو يصيح ( سنونى ... سنونى ) فقلت له أنا من يسافر إلى هناك ، قال أنتظر إذن لكي يكتمل العدد وسرعان ما جاء من بعدي احد رفيقاي وثم جاء الثاني فقال السائق علينا أن ننتظر مسافرا آخرا ... قلت له طيب ولكن بعد فترة أخرى من الصياح أكدتٌ له إن الوقت يتأخر ومن المحتمل أن لا يأتي المسافر الرابع أبدا .. فقال إذا كنت مستعدا أو مستعدون أنتم على دفع أجرة المسافر الرابع ، فسنتحرك على الفور وهذا أفضل بالنسبة لي ، إذ سأصل إلى بيتي في وقت مبكر .. فقلت له أنا مستعد ولكن أسأل الآخرين ، وافق رفيقاي الاثنان في الحال بعدما سألهما . وهكذا سارت الأمور ، فتحرك السائق منطلقا من الكراج عبر شوارع مدينة الموصل التي كنت أجهل أسماءها أو أسماء الأحياء التي كنا نمر عبرها وحتى أشكالها ولكن الدكتور حجي كان يعرف المدينة بشكل جيد ، وكان ينبغي أن لا يشعر السائق بأننا مجموعة واحدة أو إن وجهتنا هي واحدة ، ولذلك حاول الدكتور الإيحاء إلى أسماء هذه الشوارع والأحياء بشكل لا يثير فضول السائق أو يسأل ما إذا كنا مجموعة واحدة . ولما كان الحديث باللغة العربية أكثر أمنا من أن نتحدث باللغة الكوردية وبلهجتين ، جرى الإتفاق على تجنب التحدث بالكوردية عندما يسال أحدنا الآخر عن أمر ما والتظاهر بأننا لا نعرف البعض أبدا ، فكوران يتحدث اللهجة الكوردية السورانية وهو من أهالي أربيل والدكتور حجي يتحدث اللهجة الكوردية البه هدينية ولكن طريقة تلفظه للكلمات سرعان ما تٌعرف مستمعه بمنشأه ، وكان الإتفاق أن لايعرف أحدا إننا ضمن مجموعة واحدة لكي نتجنب المخاطر بشكل جماعي إن تعرض أحدنا لشبهة ما في نقاط التفتيش أو أي مكان آخر، كانت السيارة تسير بنا بسرعة وكنت فرحا أن أستطيع رؤية ما لم أستطيع رؤيته في أيام الجبل ، فهناك في الجبال وفي القرى النائية لم نكن نستطيع رؤية السيارات إلا القليل وبموديلات قديمة وجبلية فغالبا ما كان يجري استخدامها في نقل المحاصيل الزراعية إلى المدينة ، وكثيرا ما كان يتحدث بعض الرفاق والملتحقين الجدد عن موديلات السيارات التي كانت تصل إلى العراق ويتحدثون عن مواصفاتها و سرعتها وغير ذلك من الأمور ، وكنت استمع إليهم مندهشا ، هل استطاع هؤلاء رؤية هذه السيارات العجيبة وربما استخدموها في السفر.. ؟؟ ولذلك أثناء هذا المرور السريع في المدينة أردت أن أعوض عن ما فاتني من رؤية هذه السيارات ومعها كل ما كان موجودا في المدينة ، فكل شيء كان بالنسبة لي جديدا ، ولذلك أشبعت عيناي برؤية كل الأشياء . ومرة أخرى شعرت أن الوقت يمر سريعا عندما لاحظت أمامي لافتة تقول ( قف نقطة تفتيش ) كانت هذه أول نقطة تفتيش نلتقيها في رحلتنا هذه ، فحبست أنفاسي وشعرت إن رفيقاي أيضا استعدا لهذه المعركة التي تحتاج إلى الكثير من رباطة جأش وضبط النفس والتعامل بشكل طبيعي مع إجراءات التفتيش المحتملة وغيرها ، وفي الواقع لم يكن من السهولة بمكان أن يستطيع المرء منا السيطرة الكاملة على مخاوفه وخصوصا إنها المرة الأولى التي نواجه فيها نقطة تفتيش طيلة فترة البيشمه ركايه تى ، وأعتقد إن أداء أي عمل بدقة يحتاج إلى شيء من الممارسة ، فكيف بنا ونحن من أخطر الأشخاص بالنسبة إلى السلطات الأمنية وأمام نقطة التفتيش هذه من غير تجربة سابقة ، نحن الآن بينهم ولا ينقذنا أي شيء في حالة حصول شك لدى الشرطي الذي يقوم بعملية تفتيش ، بين هذه المخاوف ومحاولة مقاومتها بما كان أمامنا من مهمة إنقاذ أكبر عدد من الأنصار ، والتي كانت تتغلب بالنسبة لي طيلة تأديتي لهذه المهمة على نقاط ضعفي وخوفي وقلقي ، تراءت لي هيأة الشرطي ( الانضباط ) المخيفة على بعد أمتار وهو يقف وسط الشارع وبين حواجز اصطناعية يوقف السيارات أو يؤشر لها بالمرور ، أعددت في دواخلى العديد من الأجوبة على أسئلته المفترضة والمخيفة ، كانت بعضها مرتبكة وأخرى متماسكة وشعرت إنني أمام امتحان عسير وسيتقرر مصيري في نقطة التفتيش هذه ، أما بقية الرفاق في الكند والجبل والذين ينتظرون عودتي ونجاحي في تنفيذ المهمة سيصابون بخيبة أمل وربما سيتعرضون إلى الكثير من المصاعب قد تؤدي بحياتهم ، ولكنه رغم كل هذا السيناريو فإنه ( الشرطي) لم يسأل ولو سؤالا واحدا ولا عانيت مشقة الإجابة عليها ، فعندما اقتربنا منه وجدته يؤشر لسائق سيارتنا بالمواصلة بعد أن خفف من سرعته كثيرا استعدادا للوقوف ، أشعرتني إشارته بالمرور دون توقف أو تفتيش بسعادة عظيمة وبنشوة حقيقية وشعور بالنجاح وخففت من مخاوفي شخصيا ، رغم ما كان أمامنا بعدُ من المخاوف ما يكفي . ارتسم على قسمات وجوهنا شيء من البهجة وتسللت إلى دواخلنا حالة من الإنشراح والإنبساط لم نعلنها ولكننا حاولنا التعبير عنها بالحديث عن أشياء تؤكد هذه الحالة . كثيرا ما كنا نتحدث إلى السائق بعد أن تكونت بيننا وبينه علاقات الرفقة بوجهة مشتركة ، ففي الدقائق الأولى كانت الأسئلة تطرح من قبل طرفينا بشكل رسمي وهكذا مثٌلنا الدور فيما بيننا بإتقان كاف ، وهذا ما يحدث عادة في بداية أية علاقة كانت . وبعدها تحولت إلى علاقة طبيعية يتخللها شيء من المزاح والحديث أصبح سلسا عن المواضيع التي كنا نتناولها ، ولكن رغم ذلك كان علينا أن نتوخى الحذر ونتواصل الدقة في التحدث والتظاهر أمام السائق وكأننا تعرفنا على البعض في سيارته فقط ولذلك كنا نسأل بعضنا الآخر أسئلة معينة ، ونجيب عليها بقصص معينة . فكل واحد منا كانت له قصته.. نسجها من خياله بسبب حاجتنا لها ولكي يرويها في ساعات سفره للآخرين كما في هذه الحالة ، يشرح فيها عن مكان قدومه ولماذا يسافر إلى سنونى .. ويتحدث عن تحصيله الدراسي وعن عمله وغيرها من الأشياء التي تجعل من كل واحد منا مسافرا اعتياديا (لا تشوبه شائبة) كأي مسافر آخر . ضغط السائق على دواسة البنزين وأنطلق بسرعة وكانت سيارات البرازيلى أنذاك من السيارات المرغوبة جدا بسبب سعرها المنخفض و ربما الجانب الإقتصادي فيها ( قلة صرف البنزين ) وكانت هذه السيارات قد دخلت إلى العراق جديدا ، شعرت إنها تسير بسرعة لم أعتدها في السابق ، وخصوصا كل السيارات التي استخدمتها في التنقل قبل التحاقي كانت عبارة عن منشآت نقل الركاب أو سيارات أجرة قديمة أو سياراتا تعمل على الطرق الترابية بين أريافنا ومدينة الموصل ، وإنها لم تكن تعرف السرعة التي تسير بها السيارات في الوقت الحاضر . كان الشارع الذي يربط الموصل بسنجار مبلطا بشكل جيد والمسافة طويلة ، لم يكن من السهولة قضاءها دون نخوض في أحاديث بيننا كركاب وبين السائق ولكن رغم ذلك شعرت شخصيا بملل من طول الوقت ، بعد أن تكللت التجربة الثانية من هذه الرحلة بالنجاح أيضا ، حيث أجتزنا نقطة تفتيش بادوش دون أن نتوقف فيها بعدما سمح لنا أحد أفراد الشرطة بالمرور بين الحواجز الاصطناعية دون توقف وهو جالس على كرسي وتحت ظلال بناية مشيدة من الطابوق الأسمنتي تحيطها عدة بنايات أخرى صغيرة المساحة تغطيها قطع من صفائح الألمنيوم ( الجينكو). كانت الحرارة في مثل هذه الأيام الخريفية لازالت قادرة على غرق أجسادنا ونحن محصورين في بطن سيارة صغيرة بالعرق الذي يتصبب في كل مكان منها ، وهذا ما كان يدفعنا لتنزيل زجاج السيارة إلى آخره بين الحين والآخر لغرض التخفيف من الحرارة الموجودة في داخل السيارة ، ولكن الريح التي كانت تدخل إلينا كانت تزعجنا أحيانا بسبب لفحاتها الحارة إضافة إلى إحداثها للكثير من الأصوات التي كانت تقطع أحاديثنا حيث كنا نخوضها بهدف التخفيف من وطأة طول الطريق . عرفت بكل تأكيد إن السائق لم يشعر أبدا بأي تصرف غريب بادر من عندنا ( كاكتشاف قلقنا الداخلي مثلا) ولا شعر إن ركابه من أخطر الممنوعات في العراق ، حيث كنا على حد وصف السلطات من مرتزقة ومخربي الحزب الشيوعي العراقي العميل فلم تكن هناك أية فرصة للحياة لمن يقع من أمثالنا بين مخالب رجالات أجهزتها الأمنية ، وهذا ما كان واضحا لدينا نحن ولكن السائق كان يجهل من نكون نحن ، فكل ما كان في باله إنه سيصل إلى عائلته في وقت أبكر من الأيام الأخرى ولذلك كنت تجده سعيدا بيومه هذا ، وربما كان يتمنى أن يأتيه مسافرون مثلنا في كل يوم وخصوصا إن جرت الأمور فيما تبقى من الطريق بشكل طبيعي ، ولكنه لو أكتشف أمرنا عندما نتعرض لخطر ما في نقطة تفتيش ونحن في سيارته لأختلف الأمر لديه . بعد ما يقارب الساعتين من السير تخللتها أسئلة كثيرة كانت تمر كسيل جارف في مخيلتي ، أغلبها كانت قلقة ترسم لي ولرفيقاي مصيرا مأساويا سيتقرر بعد أن نصل إلى سيطرة أم الشبابيك وهي من نقاط التفتيش المتشددة مع المارة في إجراءاتها باعتبارها آخر نقطة تفتيش تقع بين مدينة الموصل وناحية سنونى الحدودية الواقعة في شمال مدينة سنجار . ورغم كل ذلك كانت هناك بعض الأسئلة تظهر ما بين كل هذا القلق ترسم لنا لوحة من الأمل ، نصل بها إلى غرب الثلوج والبرد نتدثر فيه بغربتنا وأحلامنا ، هكذا بدأت الشمس تنحدر نحو الغروب حتى أصبح قرصها الذي كان شبيها بكتلة نار حمراء معلقا في جهة من السماء ، مقتربا من الأرض من جهة الغرب لا يفصل بينهما إلا مسافة قصيرة تحتاج إلى دقائق قليلة لكي يختفي القرص تماما إلا أشعته الحمراء التي تنتشر خيوطها على شكل دائرة واسعة ابتلعت ظلمة الأرض نصفها والنصف الآخر كان يعلو ارتفاعها إلى فضاءات شاسعة و تصل إلى سماء عالية متسللة بين الغيوم التي تظهر من فوق جهة بعيدة من الغرب الآمن وتحولها إلى تموجات تختلط بين اللون الأحمر الغامق واللون الأسود مشكلة بذلك منظرا جميلا يمكنه أن يكون مصدرا ملهما للحالمين والعشاق والأدباء لكي يحلموا أو يتغزلوا بحبيباتهم أو عشيقاتهم أو ينظموا أشعارهم وقصصهم ورواياتهم حبهم برقة تلك الدقائق والدفء الصادر مابين نهاية تلك النقطة من الأرض والتي تحتضن الشمس بحركة شبيهة بلقاء عاشقين يتبادلان الحب ، يستمر المنظر على قدر تخيل المرء ، مقاوما عتمة الظلام القادم ، الذي كان يحمل معه ولما يزل في أصقاع من أرضنا على شاكلة بلادنا قدرا كبيرا من الرعب حينما كانت جيوش الطاغية تتحرك صوب أعداءها الموهومين وهم من البشر وتجبلوا من هذه الأرض الطيبة ومن طينتها ، يريدون حبا وخيرا وأمنا وسلاما ، وهي تتقدم لكي تتحرى عن أسرارهم في مخادع الأطفال والنساء والشيوخ وتدمر قراهم ومزارعهم ، وعندما كانت قطعان جلاوزة القمع تنطلق باحثة عن بشر يحلمون وعن بشر يكتبون وعن بشر يحبون وعن بشر يرفضون منتهكين بذلك كل الحرمات يستبيحون المدن والقرى وكل الأشياء وعندما كانت تنصب المشانق في سباق مع الليل قبل حلول النهار وتنفذ قرارات الموت فجرا و تبدأ عمليات إعدام هؤلاء الأعداء ( الخونة ) وما كان أكثرهم في بلادنا وفق نظرية السلطة ، فكل من كان مخالفا حتى في أحلامه مع أحلام الدكتاتور كان خائنا ولم يكن جائزا تركه في هذه البلاد حرا وطليقا بل كان ينبغي موته وطرق الموت ووسائله الجديدة كانت تبتكر في كل لحظة من لحظات وطننا ، هذه كانت بلادنا إذ كانت تتمرغ في دماء أبناءها النازفة دون توقف سواءا في الحروب أو في الأقبية والسجون ، أما الأوطان الأخرى في الغرب والشمال والقارات البعيدة فكان ليلها مزيدا من الوقت لمواطنيها للرقص والغناء والطرب والحب . وأنا أتابع هذا المنظر الجميل والذي تعودت أن أخصص له وقتي في مثل هذا الدقائق كلما كان ذلك ممكنا ، إذ اتكأ على صخرة ما و أتابع نهاية رحلة الشمس اليومية التي تكون في بعض الأحيان وراء جبل كارة أو جبل مامه ند أو جبل قنديل أو جبل متين أو سلسلة الجبال التي تمتد من شيخان وتعبر باعذرة وألقوش لكي تصل إلى داكا وجامبور بالقرب من فايدة أو أي جبل آخر ، فكل جبال كوردستان كانت تشيع الشمس في مثل هذه النهاية الجميلة وكل نهاية كانت تحيك قصة ربما تكون جميلة بين عاشقين أو محزنة يرحل فيها لنا رفيقا أو صديقا عزيزا ، وهذه المرة كان المقعد الأمامي لسيارة البرازيلي يسند ظهري وأنا أودع الشمس في طقوس خاصة أمارسها كما في كل المرات التي لا تستطيع الغيوم حجب الشمس عن الرؤية أو أن لا يكون هناك مخبأ يمنعني من الوقوف أمامها في مكان ما من الأرض ، وأنا مندمج في طقوسي الوداعية وفي الدقائق الأخيرة منها وجدت إن بداية سلسلة جبل سنجار بدأت تتسلل مابين تلك الخيوط الذهبية المتوهجة من شمسنا الحمراء التي تقاوم الغروب حتى شعرت إنها تأبى الغروب وتنتظر بعناد عبورنا نقطة التفتيش فهي قلقة كما قلقي في طقوسي من أجلها في غروبها .. وما بين خيوط الظلام التي بدأت تنتشر من سطح كرتنا الأرضية الطيبة ، وجدت إن كل الأشياء الواقعة في أسفلها تظهر واضحة للعيان .. أبنية تتناثر في المكان .. لمعان السقوف المصنوعة من ألواح الألمنيوم ( الجينكو ) وهي تبعث بتلك الأشعة الحمراء التي تسرقها من الشمس تخدع المرء وكأنه أمام مياه بحر .. وأحيانا كانت أضواء السيارات المارة عبر نقطة التفتيش تتراقص خاطفة .. و يلاحظ المرء من هذا المكان الذي نسير عليه إن هناك خطان يزدادان لمعانا ، يعانقان السلسلة الجبلية وهما مفترق شارعين أحدهما يستمر لكي يصل إلى مدينة سنجار ، تلك المدينة التي قذفتني إليها الأقدار لكي أواصل فيها دراستي عندما كنت تلميذا في الصف الثاني المتوسط ، حينها ضاقت بنا الأحوال بسبب الأحداث المؤسفة التي وقعت بين حزبنا الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكوردستاني في بداية السبعينيات من القرن الماضي جرى فيها حرق منزلنا في قرية حتارة وتشرد أهلي من القرية وعاشوا في دوغاتا سنين طويلة ، وبسبب الظروف المعيشية السيئة أضطر أهلي على الموافقة لكي أذهب إلى سنجار وأدرس في ثانوية المدينة ، إذ كان مسئول منظمة الحزب فيها حينذاك من أهالي قريتنا وكانت تربطه علاقات وثيقة بالعائلة كلها وقد عاش بيننا كفرد من العائلة . هناك في سنجار واصلت دراستي لمدة سنتين ، مر شريط ذكرياتها سريعا أمام عيني وجدت فيه أصدقائي وهم من عوائل شيوعية مرموقة ، قدمت الكثير ضمن مسيرة الحزب الكفاحية ، كان بينهم ثائر ابن الشيوعي المعروف في المدينة المرحوم سليمان صولبه ند .. وكان هناك نبيل ومحمد وعواطف ، كان والدهم الشيوعي إبراهيم ( أبو نبيل ) كاتبا في قائمقامية المدينة منفيا من الجنوب ( الناصرية ) إليها .. تذكرت أول اجتماع لنا بقيادة الرفيق فارس أبن سليمان صولبه ند الأكبر.. وجدت في شريطي سعيد شيخ جوز ، وجدت قوال ، وجدت العديد من الشيوعيين كانوا يحضرون الاجتماعات الحزبية في البيت الذي أسكن فيه ، مرت في خيالي صور أول اجتماع للشبيبة حضرته في سنجار عقد في بيت سليمان صولبه ند وفي غرفة معزولة كانت تقع في طرف من البيت تستخدم لحفظ ما هو قديم .. تذكرت إن رجلا كان يعرفني أرشد شرطيا من أمن سنجار على مكان كنت أبتاع منه بعض الحاجيات ، حيث اقتادني من هناك إلى دائرتهم ، وهناك قرأوا عليً لائحة تتضمن كل المعلومات عني وقال أحدهم إنك شيوعي ، فقلت له هذا ليس بسر وأنا أقر بذلك ، فحصلتٌ من أحدهم على مكافأة كان قدرها الكثير من الضرب المبرح والتهديد بتعليقي في مروحة سقفية حتى صعُب عليً بعد حوالي ساعتين من الاستجواب والضرب العودة إلى البيت .. وتذكرت أيضا عندما تجمع حوالينا أنا وصديق طفولتي كامل حسين في أحد شوارع المدينة وأمام أنظار الشرطة أكثر من عشرون طالبا من أعضاء ما كان يسمى بالإتحاد الوطني ومن نفس المدرسة وأدموا كل بقعة من جسدنا ، بعدها تركونا أن نذهب إلى البيت ، كان هناك شيوعيا من سنجار هو الآخر تعرض إلى ضرب شديد أصابت عدة أماكن من جسده بجروح عميقة ، لم يرغب أمامنا أنا وكامل أن يعترف إن ضرب البعثثين هو سبب جروحه التي لم تندمل بعد ، فقد كان يقول إنني وقعت من الدرج فأصبت بما تشاهدون ، ولكننا عندما دخلنا البيت ورآنا نحن في مثل حالته صفق وقال ضاحكا أنا لست وحدي ، ها أصبح لي صديقان في نفس المحنة . وهكذا عرفت إن منظمات البعث في سنجار كانت قد نظمت حملة واسعة للنيل من رفاق حزبنا ، إذ إنها لم تكتفي بالضرب والتهديد ، بل مارست القتل الفعلي إذ راح ضحية هذه الأعمال الإرهابية شقيقين من رفاقنا شهداءأ أثر معركة غير متكافئة كان رفاقنا فيها عزل عن السلاح . وسط كل هذه الذكريات وجدت شرطيا واضعا بيريته الحمراء تحت كتافيته اليمنى وواضعا يده اليمنى على قمرة سيارتنا مقربا رأسه عبر نافذة السائق وهو يقول ( وين رايحين الشباب ) أجابه السائق ، إلى سنونى ، فرد تفضلوا . كانت لحظات سريعة لم تترك لي الوقت أن اشعر بالقلق بخلاف نقاط التفتيش التي سبقتها ، بالتأكيد كان لشريط ذكرياتي في سنجار الدور الأهم في ذلك وعدم فسح المجال للخضوع لمسلسل الخوف من نقطة التفتيش هذه ، في الواقع كان لعبورنا هذه السيطرة الأثر العميق على ارتفاع معنوياتنا وظهر هذا واضحا على ملامحنا نحن الثلاثة ، ولكنه رغم ذلك لم نعبرعن هذه الحالة بكلمات معينة خشية من السائق الذي لا يعرف عنا أي شيء لحد الآن وهو يتصور بأننا سنرافقه فعلا إلى سنونى ولكنه فجأة وبعد مسيرة استغرقت وقتا معينا طلبت منه أن يتوقف أمام أحدى المجمعات السكنية ، فقال ولكنكم كنتم تقولون إن وجهتنا هي سنونى نفسها ، فقلت له ها نحن قريبون من منها علينا زيارة بعض المعارف هنا ، لم يقل أكثر من هذا وسط نظرات استغراب حين وجد إننا مجموعة واحدة ، لم يستطع معرفة ذلك طوال الطريق ، فذهب قائلا الله معاكم . كان عليّ بعد هذا أن أجد محطتنا السرية وهي عبارة عن بيت لأحد رفاقنا من منظمة الحزب في سنجار ، لم أكن أعرف البيت ولا شاهدت المجمع في السابق ولكنني كنت حافظا في ذاكرتي خريطة دقيقة عن موقع البيت رسمها لي الرفيق من سنجار بشكل جيد ورغم ذلك وربما الفرح أو القلق أو شيء آخر كان سببا لأن نسير عكس ما كان في الخريطة حتى أدركت هذا الأمر في وقت ما مما اضطرنا الدخول إلى المجمع وسألنا بعض الناس عن اسم هذه العائلة فنفوا علمهم بمعرفتها ، أدركت إننا في ورطة فقد كان من الممكن أن نلتق بناس يتعاونون مع السلطات الأمنية ، لذلك قررنا العودة سريعا إلى خارج المجمع لئلا يكتشف أمرنا ، كان الظلام حالكا والرؤية غير واضحة ، وجدنا أنفسنا أمام مجرى شقته مياه الأمطار كان عمقه قريبا لقامة رجل ، طلبت من رفيقاي البقاء في هذا المكان لفترة محددة ، لكي اذهب للبحث عن محطتنا السرية بعد أن أعدتُ حساباتي قررتُ العودة إلى مكان ترجلنا من السيارة لكي استعيد تفاصيل الخريطة بدقة وأتعرف على ملامح الأرض التي ستوصلني إلى المحطة ، ومن هذا المكان فعلا تحركت وفق مخطط الخريطة ، فوجدت نفسي أمام العلامة الأخيرة التي تقابلها المحطة ، اقتربت من البيت وبعد التفافي يمينا ويسارا طرقت الباب سمعت صوتا يقول من الطارق أعطيته كلمة السر ، فسرعان ما فتح الباب ، لم أكن قد ألتقيته من قبل ولكنني عرفته في الحال لأنه كثيرا ما كان عمه يحدثني عنه ، كان شابا حسنا الهندام أبدى قدرا كبيرا من الاحترام في استقباله لي ، وقال إذن أنت ناظم ، أجبته بنعم ، كان الرجل هادئا متمالكا أعصابه ، يتصرف بشكل دقيق ، وقال لماذا أنت وحدك ،؟ قلت له لست وحدي ولكنني أريد بسرعة التحدث إلى عمك ، فأدخلني إلى غرفة ما ، وقال سأذهب لمناداة عمي ولا تقلق كثيرا ، إنه لن يتأخر كثير ، خرج الشاب وجاء والده مرحبا بي بحرارة ، وبدأنا نتحدث عن هذه الأوضاع المعقدة وسأل عن رفاقي ، وكيف يمكن لهم التخلص من هذا الحصار المحكم ، أجبته نحن نعمل المستحيل على كسر طوق الحصار ولنا الثقة في إننا سننجح في مساعينا ونفشل مخططات السلطة مهما امتلكت من إمكانيات ، وفي هذه الأثناء دخل رفيقنا من سنجار حائرا يسأل عن رفيقاي ، قلت له لا تقلق أنهما قريبان من هذا المكان وتحدثت له سريعا عن ما حدث لنا من خطأ في الاتجاه ، فقال هل ستتعرف على المكان ..؟ قلت له بالتأكيد ، قال إذن أستعد في الحال لكي نذهب إليهما ، خرجنا من المنزل بهدوء واتجهنا نحو مكان تواجد الرفيقين ، ولحسن الحظ لم أخطأ في إيجاد المكان إذا وجته بسهولة ، لذلك عدنا سريعا إلى المنزل ، ثم سألت عن إمكانية العودة في نفس الليلة ، عرفت إن ذلك مستحيلا بعد أن أكد لي الرفيق عدم وجود سيارات في مثل هذا الوقت تتوجه إلى الموصل ، ثم إن نقاط التفتيش ليست سهلة في الليل وقال أين ستقضي بقية الليل عندما تصل إلى الموصل .؟ ولذلك غضيت النظر عن العودة في نفس الليلة . ولازال للحديث بقية
#ناظم_ختاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المجتمع الأيزيدي يتعرض إلى مخطط خطير: ماهي مسؤولية الحكومة ا
...
-
ما بعد أحداث شيخان ...لايجوز الإبقاء على ما قبلها ...حلول ..
...
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة السادسة عشرة
-
محطات من انفال به هدينان - المحطة الخامسة عشرة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة الرابعة عشرة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة الثالثة عشرة
-
محطات من أنفال به دينان - المحطة الثانية عشرة
-
ماذا عن الميليشيات ..! أليست إرهابية ..؟
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة الحادية عشرة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة العاشرة
-
أبا فؤاد يوارى الثرى
-
المحطة التاسعة - محطات من أنفال به هدينان
-
الممنوع الجديد في العراق الجديد ..!!
-
!..حربكم قذرة .. الوطن يحترق بنيرانها .. أنتم تتحملون مسؤولي
...
-
محطات من أنفال به هدينان- المحطة الثامنة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة السابعة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة السادسة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة الخامسة
-
محطات من أنفال به هدينان - المحطة الرابعة
-
محطات من أنفال به هدينان- المحطة الثالثة
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|