من هي الطبقة الثالثة، الدنيا؟
إنها شرائح عريضة من المجتمع المغربي وتشكل أغلبية السكان وهي لا تملك شيئا سوى قوة عملها، فلكي تتمكن من ضمان معيشتها عليها أن تبيع هذه القوة في سوق الشغل لأرباب العمل على اختلاف طبقاتهم وفي إطار هذه العلاقة تتعرض لاستغلال فاحش مقابل أجر زهيد لا ينفعها سوى في تجديد قوة عملها لتبيعه من جديد. كما تضم هذه الطبقة جموع المواطنين الذين يشتغلون في حرف تافهة لا تكفيهم لإشباع حاجياتهم الأساسية، إضافة إلى المعطلين عن العمل سواء بشكل ظرفي أو دائم وإن كان بعضهم ينتمي للطبقة الوسطى (حاملي الشهادات المعطلين) بشكل يجعلهم يعيشون على إعانات أسرهم.
وتختلف تشكيلة هذه الطبقة بحسب طبيعتها فقد تشكلت البروليتارية العاملة عبر تطور تاريخي طويل خضعت فيه للاستغلال والنهب من طرف الطبقات العليا أو بعض شرائح الطبقة الوسطى وتكرس هذا الاستغلال مع انتشار نمط الإنتاج الرأسمالي الذي عمق وضعيتها المزرية بشكل فضيع، بينما تشكلت البروليتاريا المعطلة مع تعميق نمط الإنتاج الرأسمالي وتكريس الليبرالية المتوحشة بحيث ينتمي إليها في نفس الوقت أبناء البروليتاريا العاملة وكذا أبناء البرجوازية المتوسطة والصغرى. وبهذا التحديد فإن الطبقة الثالثة تضم شرائح من الأيدي العاملة النشيطة في مجال التجارة والصناعة والخدمات (البروليتاريا العاملة) أو المشتغلة في أعمال هامشية (البروليتارية العاملة في القطاع غير الرسمي أو المشردة) أو الأيدي العاملة العاطلة (البروليتاريا المعطلة: الجيش الاحتياطي للعمل).
وفيما يلي إطلالة سريعة على هذه المكونات الثلاثة.
أولا: البروليتاريا العاملة في القطاعات الاقتصادية الرئيسية
لم تنشأ طبقة العمال في المغرب بفعل التطور الداخلي للمجتمع، وإنما نشأت في ظل السيطرة الاستعمارية الفرنسية على المغرب، ومع ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي حيث لعبت الهجرة القروية لفئات الفلاحين المعدمين أو المحرومين من الأراضي أو الذين فقدوا أراضيهم نتيجة محاصرتهم من طرف ذوي النفوذ والسلطة دورا في تكوين هذه الطبقة كما تحول العديد من حرفي المدن إلى أجراء نتيجة تحطيم قدراتهم الإنتاجية في مواجهة منافسة السلع الرأسمالية المستوردة .
وقد كرس وجود هذه الطبقة حاجة المحتل الفرنسي لخدمة أهدافه الاستعمارية ومصالح المعمرين الأجانب عبر بناء الطرق والسكك الحديدية وإنشاء الموانئ، وتأسيس شركات النقل ودعم الصناعة التحويلية والاستخراجية وتطوير صناعة البناء وغيرها. فقد شكلت هذه الطبقة يد عاملة رخيصة، قابلة لممارسة الأعمال الشاقة وغيرها من الأعمال اليدوية التي تعتمد على القوة البدنية، ولا تحتاج إلى مهارات فنية خاصة.
ويشكل الفلاحون الذين هاجروا من قواعدهم في البادية نحو المدن الكبرى بفعل الجفاف وتدهور أحوالهم المعيشية أو هربا من ضغط واستغلال الفلاحين الكبار والسلطة وأصحاب النفوذ، سعيا وراء رزق أفضل، القسم الأكبر من العمال الحضريين. كما شجعهم على ذلك النمو الهائل الذي شهدته مدينة الدار البيضاء، وسائر المدن الساحلية ومنها الرباط والقنيطرة ، بسبب تمركز الأنشطة الاقتصادية الرأسمالية فيها.
وقد شكل الجنوب المغربي أهم مصدر مغذي لليد العاملة بالمهاجرين، بحيث طغى العنصر البربري على التركيبة الجغرافية لليد العاملة المغربية، وجعله منتشرا في كل مكان في المغرب يتوفر فيه نشاط صناعي أو ورشات بناء وطرق وسكك حديد وأشغال التنقيب عن المياه، ومصانع أبحاث واستغلالات منجمية وغيرها. وشكلت النساء نسبة لا بأس بها من العمالة، فإحصاء عام 1931 للعمال أشار إلى أن عددهن في مناجم الفوسفاط بلغ 3083 امرأة مقابل 6500 رجلا و2451 طفلا. وفي سنة 1937 بلغ عدد العاملات في مصانع تصبير السمك في القنيطرة وفضالة والدار البيضاء، وآسفي وآكادير 6782 امرأة مقابل 967 عاملا أوروبيا .
وقد توسعت الفئة العمالية الحضرية ونمت بسرعة منذ سنة 1956 نتيجة توسع الأنشطة الرأسمالية التي شملت مختلف الفروع الاقتصادية . وتقوم أهم العوامل التي ساعدت على تغذية هذا التوسع وتدعيمه على ما يلي:
1 - تسارع رسملة الاقتصاد المغربي بمختلف فروعه؛
2 - مغربة الإدارة والنهوض بالقطاعين العمومي والخاص في الميادين التجارية والصناعية؛
3 - صدور القوانين المشجعة للاستثمارات المحلية والأجنبية؛
4 - زيادة الاستثمار في البنيات التحتية؛
5 - خلق فرص عمل كثيرة في إطار المخططات الاقتصادية المعتمدة خلال عقدي الستينات والسبعينات؛
6 - انتشار الأنشطة الاقتصادية الرأسمالية (الصناعة والخدمات) في المدن المغربية، وبخاصة الساحلية منها؛
7 - استمرار تدفق المهاجرين من البادية إلى المدن؛
8 - اضطرار جمهور الحرفيين الذين تدهورت أحوالهم من جراء مزاحمة الصناعات الرأسمالية وإنشاء المصانع الجديدة، والمنافسة الأوروبية لمنتجاتهم، إلى التخلي عن منشآتهم التقليدية والعمل كأجراء؛
9 - دخول المرأة ميدان العمل المأجور في مختلف قطاعات الإنتاج الرأسمالي؛ ففي ظل نتائج التطور الرأسمالي التبعي وارتفاع تكاليف المعيشة أصبح من المتعذر على رب الأسرة الأجير أن يوفر المتطلبات الضرورية بمفرده مما يضطره إلى دفع زوجه وبناته إلى سوق العمل.
وبذلك تضخمت الفئة العمالية الحضرية بسرعة، وأخذت تكتسب وضعا مميزا في البناء الطبقي الجديد. وتنتشر حاليا في شركات القطاع الخاص الوطنية والأجنبية. وقد تسارع التدهور الذي وصلت إليه أوضاع الطبقة العاملة الحضرية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين بشكل ملحوظ خصوصا من جراء اعتماد برامج التقويم الهيكلي. فالشطر الأعظم من الكلفة الحقيقية لتنفيذ تلك البرامج، يقع على كاهل العمال. فحينما يعترف صندوق النقد الدولي بأن للإصلاح الاقتصادي تكلفة اجتماعية فإنه يقصد بأن تلك التكلفة سوف يتحملها العمال ومحدودي الدخل. فالصندوق، عند صياغته لهذه البرامج، يحرص على أن لا تقع كلفة التثبيت والتقويم الهيكلي على الطبقات العليا، لأن هذه الأخيرة هي التي تتعاون معه في تصميم البرامج وتنفيذها، وهي عادة النخب التي بيدها مواقع السلطة واتخاذ القرار.
ويعاني عمال المدن من انخفاض أجورهم الحقيقية نظرا للزيادة الكبيرة التي تحدث في أسعار السلع نتيجة تراجع دعم صندوق الموازنة للمواد التموينية، وزيادة أسعار منتجات القطاع العمومي وإطلاق عنان آليات العرض والطلب في سائر أسواق السلع والخدمات وسيطرة الشركات الأجنبية متعددة الاستيطان على بعض المرافق العمومية التي تمت خوصصتها. وقد أضرت زيادة أسعار الكهرباء والماء والطاقة والمواصلات وزيادة الضرائب غير المباشرة، ضررا كبيرا بالأحوال المعيشية للعمال، وهذا في الوقت الذي ضلت فيه الأجور مجمدة. وحتى في الحالات التي تتزايد فيها الأجور النقدية، فإنها تزيد بمعدلات أقل بكثير من معدلات الأسعار. ولهذا تميل الأجور الحقيقية نحو التدهور باستمرار.
ويعاني العمال أيضا من انخفاض نفقات الميزانية العامة الموجهة للخدمات الاجتماعية الضرورية، كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والسكن الاقتصادي. وفي الوقت نفسه ترتفع أسعار ورسوم هذه الخدمات ارتفاعا كبيرا. وتصبح الأمور أكثر سوءا عندما تنتقل المرافق العمومية المسؤولة عن أداء جانب من هذه الخدمات إلى القطاع الخاص الذي ينتهز الفرصة للمغالاة في الأسعار. وكل ذلك يحرم العمال من الكثير من الخدمات الضرورية، فتتفشى الأمية بين صفوف العمال وأبنائهم وتتدهور صحتهم ومستوى معيشتهم، ومن ثم إنتاجيتهم .
نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع في عدد من البلاد العربية
حسب تقديرات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة 1980-1990
بالنسب المائوية
البلد الاجمالي البوادي المدن
تونس 17 15 20
سوريا …… 14 …….
الأردن 16 17 14
الجزائر 23 25 20
مصر 23 25 21
المغرب 37 45 28
اليمن ….. 30 ….
السودان …. 85 ….
الصومال 60 70 ….
(….) غير متاحة
المصدر: البرنامج الانمائي للأمم المتحدة - تقرير التنمية البشرية لعام 1994، الطبعة العربية، ص 164-165.
وقد ألحقت الخوصصة ضررا شديدا بقطاعات واسعة من العمال المشتغلين في قطاعات الإنتاج والخدمات. فمع انتقال ملكية بعض المقاولات العمومية إلى القطاع الخاص الوطني والأجنبي، بدأ اللجوء إلى طرد اليد العاملة الفائضة، وتخفيض أجور العمال، علما بأن جيش العمال الاحتياطي العاطل يمكنهم من ذلك، فيتم حرمانهم من كثير من المزايا والحقوق التي اكتسبوها عبر نضالات طويلة كالحد الأدنى للأجور وعدم الفصل التعسفي والتأمينات الاجتماعية والإجازات والرعاية الصحية ..الخ . وليس من قبيل الصدفة أنه مع تصاعد موجة الخوصصة والدعاية الديماغوجية لها، بدأت تتصاعد شكوى وتذمر رجال الأعمال من قوانين العمل التي كفلت للعمال في الماضي الكثير من حقوقهم، ويطالبون بإلغائها لإعطائهم الفرصة في تحديد درجة استغلال عنصر العمل .
ثانيا: البروليتاريا العاملة في القطاع غير الرسمي والمشردة:
ان أهم تطور ذي مغزى حصل في المغرب هو نشوء وتطور طبقة عمالية هامشية متنامية ومنزوعة ومغتربة عن أراضيها الأصلية ومعزولة في أسفل السلم الطبقي، ومجبرة على التكيف مع الظروف الاقتصادية الجديدة. ويشكل أفراد هذه المجموعة نسبة لا بأس بها تراوحت عام 1995 بين 14,7% بالنسبة للرجال و20,3 % بالنسبة للنساء من مجموع القوى العاملة ، ويتألفون غالبا من عمال غير مهرة يمارسون أشق الأعمال وأقذرها، ولافتقارهم إلى التأهيل المهني لم يتمكن معظمهم من الحصول على عمل دائم، والمحظوظون منهم يشتغلون عمالا يوميين في أوراش البناء والأشغال العمومية، وفي المصانع. أما الآخرون فإنهم يؤدون بصورة متقطعة أعمالا صغيرة وثانوية كحمالين أو حراسا أو ماسحي أحذية، أو بائعي جرائد وأوراق يانصيب أو باعة خضار جوالين وغيرهم ممن يزاولون الحرف التافهة.
ويتميز أفراد هذه الطبقة بخصائص كثيرة لعل أهمها يتمثل في الآتي:
1 - انحدارهم من أصول قروية، ونزوحهم حديثا الى المدن؛
2 - نظرا لتفشي الأمية في صفوفهم وافتقارهم إلى المؤهلات الفنية اللازمة، لم يستطع معظمهم الحصول على عمل دائم.
3 - إن انخفاض مستوى مداخيلهم لا يسمح لهم ولأفراد أسرهم إشباع حاجياتهم الحيوية. لذلك نجدهم يسكنون أحياء الصفيح ويعيشون في حالة فقر مدقع، ويتعرضون لمختلف الأمراض التي تنشأ عن سوء التغذية والسكن.
فهناك عدد كبير من المشتغلين بالقطاع غير الرسمي الذي يعج بألوان عديدة من الأنشطة التافهة، المولدة للرزق . ونجد أن هؤلاء وعددهم يسير نحو التزايد بسبب استفحال الهجرة القروية يتكدسون بالمدن الرئيسية. ويشتغل أفرادها إما لحساب أنفسهم، وإما كمأجورين خاصة في الأوراش والحرف الصغيرة والصناعات اليدوية. وقد اتسع هذا القطاع ليشمل عمل الرجال والأطفال والنساء، بل وحتى المعدمين من كبار السن. والدخل المكتسب في هذا القطاع منخفض وغير مأمون. وأصبح المشتغلون فيه يمثلون أغلبية فقراء المدن. وغالبا لا يحتاج مزاولة العمل في هذا القطاع إلى رأس المال أو أصول إنتاجية سوى قوة العمل المبذولة.
ويغلب على هذا القطاع نمط منشآت الشخص الواحد وأرباب الأعمال الصغار الذين يستخدمون عددا محدودا من الصبية المتمرنون، عادة ما يكونون من الأقارب والمعارف. وأغلب الأنشطة لا تخضع لقانون الشغل، وليست هناك قيود تذكر على مزاولتها، وان كان الكثير ممن يعملون فيها يدفعون الضرائب والرسوم كرسوم ترخيص الأوراش الصغيرة والباعة المتجولين.
وتعتبر الأنشطة في هذا القطاع على درجة عالية من التنوع . فهي تضم بيع السلع الاستهلاكية على أرصفة الشوارع، كالأطعمة والملابس ولعب الأطفال والسجائر والسلع المستعملة، وأعمال التشييد والبناء والصيانة، وخدمات النقل، وجمع القمامة وفرزها، وتنظيف السيارات، وأعمال الحراسة، وورش تصليح السيارات، وأعمال السباكة والحدادة والنجارة وكي الملابس، والخدمة بالمنازل، والباعة المتجولين ...الخ. ويمكن إضافة أعمال الشحاذة والبغاء والنشل.
وقد تأثر العاملون في القطاع غير الرسمي بالإجراءات والسياسات التي انطوت عليها برامج التقويم الهيكلي. فارتفاع أسعار شراء المواد الغذائية بعد تراجع مستوى الدعم وتزايد الأسعار، خلق مصاعب شديدة في تأمين القوت الضروري للعاملين في هذا القطاع. كما أدى خفض الإنفاق الحكومي الموجه للخدمات الاجتماعية الضرورية كالتعليم والصحة والمرافق العامة والسكن الاقتصادي ..الخ، إلى تدهور مستوى معيشة هذه الفئة الاجتماعية. كما أن زيادة أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي والبنزين والمواد الخام وأسعار النقل والضرائب على المبيعات، أضرت هي الأخرى بالمئات من المنشآت الصغيرة التي تعمل في مجال الصناعات اليدوية والحرفية، في الوقت الذي انخفض فيه الدخل الحقيقي للفئات ذات الدخل المتوسط بالمدن، وهي الفئات التي تستهلك بشكل رئيسي خدمات هذا القطاع. من هنا، فإن قدرة هذا القطاع على تحميل المستهلك النهائي عبء هذه التكاليف أصبحت محدودة جدا. أضف إلى ذلك، أنه لدى سعي السلطات العمومية إلى زيادة الضرائب والرسوم، حسبما جاء به الإصلاح الجبائي واقتضته برامج التثبيت والتقويم الهيكلي، زاد العبء الضريبي على المشتغلين في هذا القطاع وانخفض الدخل الصافي لديهم، كما زادت القواعد التنظيمية التي يتعين أن يخضع لها المشتغلون في انشطته.
ومع الكساد الذي نجم عن هذه البرامج، انخفض الطلب الحضري عموما على خدمات هذا القطاع، وأصبح من العسير على كثير من المشتغلين فيه تأمين رزقهم الضروري. ولهذا أصبح الكثيرون منهم عاطلين ومتسولين، ونمت بين صفوفهم ميول العنف والتطرف وارتكاب الجريمة كالسرقة وتجارة المخدرات ...الخ. وفي بعض الأحيان، اضطر عدد من المشتغلين في أنشطة هذا القطاع، الذين كانوا قد هاجروا من البادية إلى المدن، إلى العودة إلى قراهم، الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم الجيش الاحتياطي للبطالة بالبادية أيضا في ظل ما تعانيه البادية المغربية من إهمال وجفاف مزمن. وباختصار يمكن القول، أن فقراء المدن، ممن يعملون في هذا القطاع هم أكثر ضحايا برامج التقويم الهيكلي.
ثالثا: البروليتاريا المعطلة
هناك فئة أخرى متميزة من البروليتاريا المؤهلة للعمل لكنها محرومة منه، فإلى جانب مئات الآلاف من الأيدي العاملة غير المؤهلة التي تشكل جيش العمل الاحتياطي والتي تعرض قدرتها على العمل في سوق الشغل بمبالغ زهيدة جدا ولا تجده، نجد شرائح من الأيدي العاملة المؤهلة الحاملة لأعلى الشواهد الجامعية في مختلف التخصصات العلمية والتقنية والأدبية. ورغم انتماء أغلب هؤلاء الحاملين للشواهد إلى شرائح الطبقة الثانية، الوسطى، فإنها نتيجة طول مدة عطالتها وعدم قدرتها على تلبية حاجياتها الأساسية واعتمادها كلية على مساعدة أسرها أصبحت تنتمي للطبقة الثالثة الدنيا. غير أن ميزتها الأساسية أنها شريحة مثقفة وما إن يتمكن بعضها من العمل حتى ينتقل إلى الطبقة الوسطى، كما يمكنها أن تشكل طليعة الثوريين المحترفين المتجذرين في قلب الطبقة الثالثة، الدنيا.
وقد بدأت فلول حاملي الشواهد المعطلين منذ أواخر عقد الثمانينات من القرن العشرين تنتظم في جمعيات للدفاع عن حقها في الشغل. ومن بين أقدم هذه الجمعيات هناك الجمعية الوطنية لحملة الشهادات والتي تضم كل حاملي شهادات الإجازة في المغرب. وقد خاضت هذه الجمعية التي لم يتم لحد الآن الاعتراف بوجودها القانوني عدة معارك نضالية كالإضرابات عن الطعام والاعتصامات أمام مباني البرلمان ووزارة حقوق الإنسان والعمالات... الخ. إلى جانب هذه الجمعية هناك جمعيات أخرى من حملة الشهادات المعطلين كالمجموعة الموحدة لحملة دبلوم الدراسات العليا وكجمعيات حاملي الدكتوراه المعطلين أو جمعية المهندسين والمهندسين الزراعيين المعطلين ... الخ. إن حالة العطالة التي يعاني منها حاملي الشهادات لا تنعكس عليهم فقط بل تنعكس أيضا على أحوال معيشة أسرهم فتزيدها سوءا وتدهورا.
إن العنف الاقتصادي المسلط على شرائح الأيدي العاملة المعطلة تكرسه التدابير المعتمدة في إطار برامج التقويم الهيكلي. فمئات الآلاف من العاطلين عن العمل يتساءلون يوميا عن كيفية تخلصهم من واقع عطالتهم التي تجعلهم غير قادرين على العيش بكرامة، وهذا بحده يشكل دافعا لهم للجوء إلى مختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة للتخلص من العطالة. فهناك من يبحث عن الهروب نحو الفردوس الأوروبي في إطار ما يسمى بعمليات "الحريك"، بينما يكتفي البعض الآخر باحتراف بعض الأعمال التافهة كباعة متجولين أو المتاجرة في بعض المواد الممنوعة بل أن بعض هؤلاء هددوا بإحراق ذواتهم يوم 25 شتنبر 2002 أي يومين قبل الانتخابات التشريعية ل 27 شتنبر لولا تدخل عدة إطارات مناضلة (شبكة دعم الحركات الاجتماعية) دفعت بالمسؤولين إلى تقديم وعود بتشغيل بعضهم مما حال دون وقوع المأساة. وتدفع الأوضاع المزرية ببعض العاطلين للانخراط بحماس في الحركات السياسية الثورية أو الالتصاق ببعض التيارات السياسية الانتهازية.
رابعا: خصائص الطبقة الثالثة، الدنيا
هناك خصائص عديدة تتميز بها الطبقة الثالثة، الدنيا نكتفي بالاشارة إلى بعضها دون الدخول في الكثير من التفاصيل:
1 –إن البروليتاريا العاملة في المراكز الحضرية لا تشكل فئة منسجمة لأسباب كثيرة نذكر منها:
أ – تشتتهم وتوزيعهم على قطاعات اقتصادية مختلفة؛
ب – اختلاف مستوى تأهيلهم المهني؛
ج – اختلاف أصولهم العرقية والجغرافية؛
د – ضعف الوعي الطبقي عندهم.
2 – تعتبر الطبقة الثالثة، الدنيا، أوسع الطبقات الاجتماعية في المغرب على الإطلاق نظرا لتشكيلها لأعلى نسبة من الشغيلة المغربية. ففي دراسة لروبرت سكاليه تراوحت نسبة العمالة الحضرية سنة 1971 ما بين 80,5 % و82,2 % من مجموع اليد العاملة النشيطة. وتنقسم البروليتارية العاملة لدى روبرت اسكاليه إلى ثلاث فئات ، تشكل الفئة الأولى التي يعتبرها فئة قابلة للانتقال إلى الطبقة الوسطى ما بين 13,8% إلى 15 % وتتكون أساسا من العمال المهرة الذين يعملون في المصانع الحديثة والحرفيين الذين يمارسون الصيانة والتعليم كمصلحي السيارات والدراجات ومصلحي الآلات الكهربائية ومصلحي الساعات وسائقي السيارات وغيرهم والتجار وصغار المستخدمين في الادارات العمومية (الحجاب والمقدمين والمخزنيين). وتتمثل خصائص هذه الفئة في:
أ – تمتعهم بمستوى معيشي مقبول؛
ب – إلمام عدد كبير منهم بالقراءة والكتابة سمح لهم بالحصول على شهادة قيادة وسائل النقل، والعمل في الادارات العمومية والخاصة؛
ج – الفئة القادمة من البادية من هذه الشريحة استقرت قديما في المدن، وتكيفت نسبيا مع أساليب الحياة الحضرية؛
د – إن طبيعة عمل كثير منهم، وإلمامهم بالقراءة والكتابة، ومستوى معيشتهم وأسلوب معيشتهم كل ذلك قربهم من الفئة الوسطى الحضرية.
أما الفئة الثانية والتي تضم مجموعتان حسب سكاليه فهما المجموعة التقليدية والمجموعة السفلى وتشكل ما بين 43,2 % و47,2% وتتكون من العمال الذين يشتغلون في الورشات الحرفية التي تستخدم الوسائل التقليدية في الانتاج والبائعين المتجولين وخدم المنازل والحمالين والحراس وعمال التنظيف والفقهاء أي المدرسين في الكتاتيب والفنانين الشعبيين وغيرهم. وتتمثل خصائص هذه الفئة في:
أ – أصولهم القروية؛
ب – مداخيلهم لا تكفيهم في سد حاجياتهم الضرورية من مأكل وملبس ورعاية صحية؛
ج – تفشي الأمية بين صفوفهم، وافتقارهم إلى التأهيل المهني؛
د – عدم الاستقرار المهني، وتعرضهم للبطالة بين الحين والآخر؛
هـ - سوء ظروف العمل وضعف الإنتاجية؛
و – إقامتهم في الأحياء المتخلفة.
أما الفئة الثالثة التي يشير إليها سكاليه فهي الهامشية، وتشكل ما بين 18,3 % و25,2 % من مجموع القوى العاملة. وتتألف في الغالب من عمال غير مهرة يمارسون أشق الأعمال وأقذرها، ولافتقارهم إلى التأهيل المهني لم يتمكن معظمهم من الحصول على عمل دائم، والمحظوظون منهم يشتغلون عمالا يوميين في ورش البناء والأشغال العمومية، وفي المصانع.
أما الآخرون فإنهم يؤدون بصورة منقطعة أعمالا صغيرة وثانوية حمالين أو حراسا أو ماسحي أحذية، أو بائعي جرائد وأوراق يانصيب، أو باعة خضار جوالين وغيرهم ممن يزاولون الحرف التافهة.
ومن خصائص هذه الفئة نجد ما يلي:
أ – أنهم من أصول بدوية وحديثي الالتحاق بالمدن؛
ب – لا يتمكن معظمهم من الحصول على العمل نظرا لتفشي الأمية بين صفوفهم وافتقارهم إلى المؤهلات الفنية اللازمة؛
ج – لا يتمكنون من إشباع حاجياتهم الأساسية نظرا لإنخفاظ مستوى مداخيلهم، فنجدهم يسكنون أحياء الصفيح، ويعيشون في حالة فقر مدقع، ويتعرضون لمختلف الأمراض التي تنشأ عن سوء التغذية والسكن؛
3 – يبين التوزيع الجغرافي للمؤسسات الصناعية والعاملين فيها أن أكثر المؤسسات الصناعية تتمركز في الوسط الحضري وخاصة في المدن الساحلية الأطلسية، حيث استقطبت مدينة الدار البيضاء أزيــد من 50% من مجموع عدد المؤسسات الصناعية بالمغرب، ووفرت العمل لحوالي 51,4 % من مجموع عدد العمال. أما المدن الساحلية الأطلسية الأخرى، فقد ضمت عام 1972 نحو 7 % من المؤسسات الصناعية وإستخدمت 9,5 % من العمال . أما في المدن الداخلية حيث يضعف النشاط الصناعي فإنها لا تستقطب سوى نسبة طفيفة من العمال الصناعيين.
4 – إذا كانت العلاقة الاجتماعية التي تجمع بين الطبقة الثالثة، الدنيا، والطبقة العليا على الخصوص تتراوح بين الخضوع الأعمى والصراع المطلق بحسب شكل الاستغلال الممارس إن كان رحيما أو وحشيا، فإن مظاهر صراع أخرى تنشأ داخل هذه الطبقة نفسها. فهناك صراع بين المهاجرين من البادية وزملائهم من مواطني المدن، وتتجلى هذه المظاهر بكل بساطة في الحسد والغيرة والتنافس في مواقع العمل وتفاوت الأجور، وما يستهدف العامل البدوي في أولى مراحل الهجرة من سخرية وتحقير وتهكم من جانب عمال المدينة.
وتبدوا أهمية هذه الظاهرة في عدم الانسجام الذي يمكن أن يميز تعاضد هذه الطبقة في مواجهتها لاستغلال الطبقة العليا.
5 – يلجأ أفراد هذه الطبقة إلى السكن في أحياء معينة تعكس الأصول الاجتماعية لأعضائها وترمز أيضا إلى اختلاف مستواهم الاجتماعي، فمن الطبيعي أن يرتبط المسكن أشد الارتباط بدخل الفرد، فكلما انخفض مستوى الدخل، زادت نسبة المصروف على المأكل ودفع ذلك إلى نقص ملحوظ في نسبة أوجه الصرف الأخرى، وفي المقدمة السكن. لذلك فإن مساكن هذه الطبقة تتوزع بين الأحياء التقليدية القديمة والمنتشرة في أغلب المدن الكبيرة و التي تضم في نفس الوقت جزء من الطبقة الوسطى وعدد من العمال المهرة أو شبه المهرة وفي الأحياء العمالية التي تنشئها الدولة أو شركات خاصة والتي سميت في بعض المدن بديور المخزن، وتقطنها فئات متعددة من الطبقة الكادحة، ثم أحياء الصفيح التي تعرف نسبة عالية من التزاحم السكاني، قدرها البعض سنة 1980 ب 4,08 شخص في الغرفة الواحدة . وتقطن مدن الصفيح أغلبية البروليتارية العاملة في القطاع غير رسمي والبروليتاريا المشردة وتعيش في ظروف قاسية جدا.
6 – تعاني الطبقة الدنيا من انخفاض مستواها التعليمي وتفشي الأمية حيث لا زالت معدلات هذه الظاهرة تتجاوز 55 % من السكان. ومن بين الأسباب الأساسية لانتشار الأمية، الطبيعة الطبقية للنظام السياسي المغربي وغياب سياسات تعليمية شعبية وانتشار الفقر. وتتجاوز نسبة أمية الإناث مثيلتها لدى الرجال حيث لا تحض البنات بنفس العناية التي تمنح للذكور.
خامسا: البعد السياسي للطبقة الثالثة، الدنيا
تتفاوت نضالية الطبقة الثالثة الدنيا بحسب وضعها الاجتماعي والاقتصادي وبحسب مستوى الوحدة النقابية داخلها، وكذا بحسب مستوى الوعي النقابي والسياسي الذي يتحقق لها مع مرور الزمن. فإذا كانت البروليتاريا العاملة تتواجد في إطار مؤسسات عمالية كبيرة، فإنها تناضل في إطارات نقابية من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية. لكن انتشار عدد كبير من النقابات داخل المؤسسة الواحدة يعرض نضالية العمال للفشل. كما أن انتشار الوعي السياسي لدى العمال يجعلهم أكثر تأهيلا لكسب معاركهم النقابية.
وتتميز البروليتاريا المعطلة الحاملة للشواهد بكونها أكثر شرائح الطبقة الثالثة وعيا وتنظيما بالنظر إلى مستويات تأهيلها، وقد تميزت خلال السنوات الأخيرة بقتالية مواقفها النضالية مما جعل صيتها يتجاوز حدود التراب الوطني، كما جعلت العديد من التيارات السياسية تتودد إليها من أجل كسبها إلى جانبها كورقة انتخابية.
وتشكل الطبقة الثالثة عموما محل مزايدات إنتخابوية ظرفية للأحزاب الإدارية والانتهازية، سواء على مستوى الانتخابات التشريعية أو الجماعية. فلشراء أصوات هذه الطبقة تلتجئ الأحزاب الإدارية وغيرها إلى مختلف الوعود المعسولة لإغرائها بمستقبل أفضل. لكن الواقع هو غير ذلك، فمنذ الاستقلال لم تزدد أوضاع الطبقة الكادحة إلا تدهورا، ويعود السبب إلى أن المحترف السياسي المنتخب ليس بيده فعل أي شيء لهذه الطبقة بسبب مركزة سلطة القرار في قمة هرم السلطة وارتباط ذلك بالمراكز الرأسمالية الكبرى عبر العالم، وكذلك لأن السوق وقانون العرض والطلب هو المتحكم الحقيقي في معيشة الناس والذي لا يزيدها إلا تدهورا في الوقت الذي يعمل على مضاعفة ثروات الطبقة العليا الأولى.
و بقدر ما تنمو رؤوس أموال الطبقة الأولى، العليا التي تتضاءل أعدادها، تنمو أحجام شرائح الطبقة الثالثة، الدنيا، أي طبقة العمال والبروليتاريا المعطلة، والتي لا يمكنها العيش إلا إذا وجدت عملا. و لا يمكنها أن تجد عملا إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال. فهؤلاء العمال المُكرهون على بيع أنفسهم قطعة قطعة هم سلعة كأي صنف تجاري آخر، لذا فهم معرضون لكل صنوف المزاحمة، و لكل تقلبات السوق . والعمل اليدوي كلما تطـلب قدرا أقل من المهارة و القسوة، أي كلما تقدمت الصناعة الحديثة، ازداد إحلال عمل النساء محلّ عمل الرجال. فالفروق في الجنس و السن لم يعد لها شأن مجتمعيّ بالنسبة إلى الطبقة العاملة، لم يعد هناك سوى أدوات عمل تختلف كلفتها باختلاف السن والجنس.
و العامل، ما أن يستغلّه صاحب العمل، و ما أن يدفع له أجره، حتى تنقضّ عليه القطاعات الأخرى من البرجوازية: مالك البيت و البـقّـال و المرتهن وشركات السلف والعلاج وحاجيات الأبناء... الخ.
و المراتب الدنيا من الطبقات الوسطى، المكونة من صغار الصناعيين و التجار و أصحاب الرّيع و الحرفيون والفلاحون ... الخ تنحدر نحو الطبقة الدنيا لأن رأسمالها الصغير لا يكفيها للانتقال إلى الصناعة الكبيرة، فتندثر أمام مزاحمة كبار الرأسماليين، من جهة، ونظرا لأن الأساليب الجديدة للإنتاج تحطّ من قيمة كفاءاتها من جهة أخرى.
لكن مع تقدم الصناعة لا تتسع الطبقة الثالثة فقط، بل تحتشد في حشود كبيرة و تنمو قوتها، وتعي هذه الطبقة قوتها وعيا أفضل. فالمصالح والأوضاع المعيشية داخل الطبقة الدنيا تتماثل مع مرور الزمن، بقدر ما تمحو الآلة الفوارق في العمل، وتنخفض الأجور، في كل مكان تقريبا، إلى مستوى مُتماثل في الانخفاض. كما أن المضاربة المتعاظمة بين البرجوازيين أنفسهم، والأزمات التجارية الناتجة عنها، تجعل أجور العمال أكثر تقلبا باستمرار. والتحسين المتسارع المتنامي، و المتواصل للآلة، يزعزع باستمرار الوضع المعيشي للعمال. والمصادمات بين العامل الفرد والبرجوازي الفرد، تتخذ أكثر فأكثر طابع مُصادمات بين طبقتين. و عندئذ يبدأ العمّال في الانخراط في اتحادات نقابية ضد البرجوازيين؛ و يتكاتفون للحفاظ على أجر عملهم. وهنا وهناك، ينتقل النضال من الشغب الى الاحتجاج المنظم.
ومن وقت إلى آخر ينتصر العمال لكن انتصارهم يضل مؤقتا. و النتيجة اللاحقة لنضالاتهم لا تتلخص في النجاح المباشر بل في إتحاد العمال المتعاظم باستمرار. و هذا الاتحاد يعززه نمو وسائل الاتصال الحديثة، و التي تربط بين عمّال مختلف المناطق. فهذه الروابط تجعل من النضالات المحليّة والمتعددة، ذات الطابع الواحد في كل مكان، تتمركز في نضال وطني، في نضال طبقيّ. علما بأن كل نضال طبقي يصبح نضالا سياسيا.
ثم إن انتظام البروليتاريين في طبقة ثالثة، و بالتالي في حزب سياسي للطبقة الكادحة، تحاول نسفه دائما وفي كل لحظة المزاحمة بين العمال أنفسهم واختراقات الأحزاب والنقابات والقوى الرجعية؛ لكنه ينهض مرارا و تكرارا قوي و أمتن وأشدّ بأسا، و يستفيد من الانقسامات في صفوف البرجوازية، فينتزع الاعتراف القانوني ببعض المصالح الاقتصادية للعمال.
ونظرا لأن أقساما بكاملها تنحدر بفعل السياسات الليبرالية المتوحشة وبرامج التقويم الهيكلي من الطبقتين الأولى والثانية، نحو الطبقة الثالثة أو تتعرض أوضاعها المعيشية للتهديد على الأقل كما يحدث حاليا بالنسبة لمجموعات حملة الشهادات المعطلين. نجد أن هذه الأقسام تمدّ الطبقة الثالثة بطائفة من العناصر التـثـقيـفية، إلى درجة أن قسما صغيرا من الطبقة العليا والوسطى يَنسلخ عنها للانضمام إلى الطبقة الثورية، أي إلى الطبقة الثالثة التي تحمل بين يديها المستقبل.