محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1893 - 2007 / 4 / 22 - 09:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعتمد الحكومات الناضجة في كل إنحاء العالم قبل إصدار واتخاذ أي قرار من شانه المساس بالسياسة الداخلية أو الخارجية لذلك البلد على أسس وقواعد متعارف عليها منذ القديم , وذلك من اجل الوصول إلى القرار السليم المبني على رؤية صحيحة نابعة من إحساس بالمسؤولية وإدراك بالمحيط الإقليمي والدولي من حيث المتغيرات العالمية والظواهر الخارجية وتأثيرها الداخلي أو الدولي على المحيط المعني , وابرز تلك الخطوات والأسس والقواعد التي لابد من اللجوء إليها قبل اتخاذ القرار المنشود هي البدء بتحليل المعطيات السياسية المبدئية - أي - تحليل الجوانب السلبية والايجابية لذلك القرار وتأثيره المستقبلي على المحيط الداخلي " الشعب - فيما يسمى بالسياسة الداخلية للدولة " والخارجي " دول الجوار والأصدقاء - السياسة الخارجية " وما يمكن أن يترتب عليه من اثأر عكسية , أكانت تلك الآثار سلبية أو ايجابية .
وبالتالي فان فن التحليل السياسي هو الخطوة الأولى لاتخاذ أي قرار حكومي من شانه المساس بالسياسة الداخلية أو الخارجية للدولة , وينطلق هذا الفن الرئيسي من مبدأ النضوج السياسي للدول والحكومات التي تريد أن تواكب المتغيرات الدولية المعاصرة دون أخطاء أو جوانب عكسية لقراراتها المتخذة , يمكن أن تؤثر على علاقاتها مع الآخرين , وكما سبق ووضحنا في عدد من المقالات السابقة على ضرورة إيجاد مراكز للدراسات السياسية المعنية بهذا العلم والفن السياسي الرئيسي , فانه لابد من توفير العقول الناضجة والأشخاص المسئولين عن وضع وتحليل الظواهر السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية .. وغيرها من جوانب الحياة بالشكل الحيادي ودون ضغوطات داخلية أو خارجية , وذلك من اجل إعطاء ذلك القرار مصداقية وموضوعية واضحة لا تنزوي وراء مخاوف أو ضغوطات على المحلل السياسي , وبالتالي فان وجود الأشخاص والأفراد القادرين والمؤهلين بالخبرة والدراسة والموضوعية في مراكز القرار أو في إعلامنا المرئي أو المسموع أو المقروء , او في أي بقعة من ذلك البلد , ضروري جدا لأي دولة حديثة وناضجة تصبوا لمواكبة المتغيرات الدولية المتسارعة , وخصوصا في عالم أصبح لا يؤمن بأخلاقيات السياسة الدولية أو مفاهيمها السياسة التقليدية القديمة , حيث أن العالم اليوم أصبح يسير بعكس التيارات السياسية المتوقعة , حيث أن ما يحدث اليوم من متغيرات لم يحسب لها أي حسبان قبل عقود قد اثر كثيرا على الكثير من الدول والحكومات في مختلف دول العالم , بحيث انه لم تعد أي دولة بمعزل عما يحدث بعيدا عنها من ظواهر كالإرهاب والعولمة وغيرها من المصطلحات والمفاهيم السياسية الحديثة المعقدة. وعليه فإننا سنتناول من خلال هذا الطرح أهمية التحليل السياسي وضرورته لأي دولة او حكومة تريد أن تواكب المتغيرات السياسية الراهنة دون أخطاء او بأقل أخطاء ممكنة, وقيمة المحلل السياسي الناضج والخبير لتوفير البيئة المناسبة لاتخاذ العديد من القرارات ذات الأهمية والحساسية , وضرورة الاهتمام الإقليمي بشكل خاص بكل ما من شانه إيجاد وخلق تلك البيئة السياسية السليمة , بداية من مد يد العون لكل الشباب القادر على التحليل السياسي او الاقتصادي او في أي جانب من جوانب الحياة , ومساعدتهم على التطوير والتحسين من الأداء وتوفير الفرص الممكنة والأجواء المناسبة لهم للإبداع , وضرورة تهيئة الأماكن المناسبة لتحسين ذلك الأداء , أكان ذلك بتوفير المراكز المناسبة لذلك كمراكز الدراسات المعنية او لدى مراكز القرار التشريعي او التنفيذي في تلك الدول , او من خلال وجودهم في الصحف او الدوريات او في أي موقع من المواقع الإعلامية. وبداية فان فن التحليل السياسي بشكل عام لا يختلف من حيث المبدأ النظري عن أي علم تحليلي آخر , فكما يقوم الطبيب بتحليل المرض وذلك من خلال التشخيص وسؤال المريض عما يشكو منه من أعراض جانبية ثم يقول بفحصه بمختلف الوسائل التكنولوجية الحديثة المتوفرة , ومن ثم يختار الدواء المناسب او ربما القريب لذلك المرض في محاولة منه لتخفيف الألم او تسكينه فكذلك المحلل الاقتصادي الذي يدرس حالة السوق الداخلي او الدولي وإشكاليات الظواهر الاقتصادية التي وفرت الأسباب لارتفاع الأسعار او انخفاضها وخلافه , او أي قضية اقتصادية أخرى , وما هي الإعراض الجانبية الاقتصادية التي يمكن أن تحدث بسبب تلك الظاهرة وتأثيرها على الداخل الإقليمي او الخارج الدولي , وكذلك المحلل السياسي الناضج الذي يقوم بنفس التشخيص , ولكن بطريقة مهنية خاصة تكمن في مجال اختصاصه السياسي وذلك بدارسة الظواهر السياسية المعنية وتحليلها , وباختصار فان فن التحليل السياسي هو (عملية إدراك الموضوع، وتفكيكه لتحديد المؤثرات والأسباب بغرض الوصول لفهم واضح ونتيجة تعي المتغيرات , وقد قسم العديد من الأساتذة والمفكرين هذا الفن إلى عدد من الأقسام والمراحل وأولها إدراك القضية وتعريفها ومن ثم تفكيك القضية وتحديد الأسباب الرئيسية وأخيرا تحقيق الترابط ضمن رؤية وصولا لرأي أو نتيجة ). وقد ظهر هذا العلم الأساسي في السياسة الدولية منذ القديم , بحيث أننا لا نستطيع أن نعزوه لجيل ما او فرد بعينه , ولكن ما نستطيع أن نشير هنا إليه هو إبداعات البعض وإخفاقات الآخرين على مستوى هذا العلم من حيث الأشخاص او الدول , فهذا الفن على سبيل المثال عرفه الإغريق والرومان وغيرهم من الإمبراطوريات القديمة , كما أبدع فيه عدد من الأشخاص في ذلك العهد كأفلاطون وأرسطو وزرادشت على سبيل المثال لا الحصر , بحيث استطاع أولئك العباقرة في فن التحليل بشكل عام والسياسي بشكل خاص من أن يؤسسوا لهذا الفن مدارسه الخاصة به , أما في العهود المعاصرة الوسطى فقد كان لجان جاك روسو و جون لوك ونيقولو ميكيافللي وغستاف لوبون وغيرهم , وهم من ابرز عمالقة هذا الفن وكان لهم الدور الأساسي والأول في وضع حجر الأساس لهذا العلم في زماننا هذا , كما قامت العديد من دول العالم حديثا بالاهتمام بهذا العلم بشكل خاص لما له من أهمية قصوى وبارزة في خلق وإيجاد وتوفير البيئة المناسبة والسليمة لاتخاذ القرارات السياسية والخطط الإستراتيجية الداخلية او الخارجية كالولايات المتحدة الاميريكية وأوربا وبعض الدول الآسيوية و العربية , كما أبدع فيه العديد من الأساتذة والعباقرة الذين أسسوا ووضعوا القواعد الأساسية لفن وعلم التحليل السياسي بشكله الحديث , ليس من حيث المبدأ فالمبدأ واحد ولكن من حيث التطوير والتحسين كغراهام والاس و السير الفرد زيمرن وهو احد الآباء المؤسسين لدراسة العلاقات الدولية البريطانية ورودولف ويلدنمان وهو أستاذ العلوم السياسية في مانهايم بألمانيا , و الفرنسي اندريه سيغفريد والروسي ليونارد شابيرو الاميريكي جون هوبسون و بريجنسكي وغيرهم الكثير. كما عرف المسلمون هذا العلم منذ القديم وأطلقوا عليه اسم " الاجتهاد السياسي " بحيث أصبح هذا العلم من أهم وابرز العلوم الأساسية التي لابد أن يتعلمها المسلم بشكل عام والسياسي المسلم بشكل خاص فـ ( صنع القرار السياسي في الرؤية الإسلامية عملية - بحكم مقاصدها ومرجعيتها- ترتبط في تفاعلاتها بمفهوم "التدبير" الذي يعني التفكير العميق والدراسة الواعية للأمور، وحسن التقدير لمآلاتها وعواقبها، وعلى هذا فإن عملية صنع القرار ـ وكما سبق القول ـ ترتبط بالمفهوم اللغوي للسياسة الذي يعني "القيام على الأمر بما يصلحه"، وهذا القيام ليس سوى تدبير الأمور في الأمة تدبيرا يصلحها في الدنيا والآخرة، إذ إن التدبير أحد الدلالات اللغوية للسياسة ومقوم رئيس لها، وكما قال الإمام السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر: إن "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة).
وقد برز في هذا العلم العديد من العلماء المسلمين كالإمام الغزالي وابن خلدون والسيوطي والشاطبي وأحمد ابن العباس ابن رشيد ابن حماد ابن فضلان وهو عالم إسلامي من القرن العاشر الميلادي ويعتبره العديد من المؤرخين من أهم وابرز المحللين السياسيين المسلمين في ذلك الوقت وغيرهم الكثير , بحيث أننا نستطيع وبكل فخر أن نقول بأن لعلماء المسلمين في هذا المجال الأثر البالغ في وضع الأسس الأساسية لهذا العلم الذي بات يدرس في كل دول العالم وخصوصا في أوربا , كما اهتم الإسلام منذ بدايته بهؤلاء الأشخاص اهتماما بالغ - أي بالمحلل السياسي المسلم - بحيث أولاه الأهمية والمكانة اللائقة به ومكنه من البحث والإبداع , ويسرت له معظم الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة كل ما من شانه توفير البيئة المناسبة له للإبداع والتجرد الفكري السياسي , وكما تفرع حديثا من هذا الفن العديد من الفروع والمجالات السياسية في الدول الغربية , فقد تفرع منه - أي - من علم التحليل السياسي في ديننا الإسلامي وخصوصا في علم الاجتهاد السياسي العديد من العلوم السياسية كان أبرزها " فقه الواقع " فـ ( فقه الواقع والعلم به في جميع عناصره ومكوناته وما ينطوي عليه من مصالح ومفاسد لا يقل أهمية في عملية صنع القرار السياسي عن فقه النصوص والأحكام وما تتغياه من مصالح ثاوية فيها، وضرورة تزامن هذين النوعين من الفقه في جميع مراحل عملية صنع القرار، وهذا يكشف عن أهمية عنصر الخبرة العلمية والفنية والوسائل والأدوات المعرفية والمنهجية التي تساعد في فهم الواقع وتفسيره، وهذا يشمل كافة العلوم الإنسانية والكونية) .
وختاما فإننا نود بان ننوه على ضرورة إعادة إحياء هذا العلم بالشكل العلمي والموضوعي اللائق به , وخصوصا في دولنا العربية التي باتت تفتقد إلى مثل تلك الكوادر التحليلية السياسية الناضجة , والإسراع بتوفير العقول المثقفة والمدربة على استخلاص ووضع التحليلات المناسبة والدراسات المعنية بكل ما من شانه توفير الأسس الصحيحة والعلمية لاتخاذ القرارات السياسية السليمة لواضعي القرار السياسي في دولنا العربية , وخصوصا في ظل المتغيرات الدولية الراهنة , والتي بات العالم من خلالها حقل صغير يتأثر بكل شاردة وواردة , وإلا فان النهاية ستكون عالم من الفوضى لا يدرك فيه الاستقرار والأمان , مع تمكينهم ديمقراطيا من إبداء آراءهم وتحليلاتهم دون ضغوطات داخلية او خارجية عليهم - أي توفير حرية العمل البحثي لهم - , ومد يد العون لهم بكل ما من شأنه رفع كفاءتهم وقدراتهم العقلية والنفسية والأكاديمية من دورات و تطوير, وتوفير الأماكن والمراكز المتخصصة لذلك او حتى من خلال مواقع صنع القرار السياسي في تلك الدول 0
كاتب وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
سلطنة عمان
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟