حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 1893 - 2007 / 4 / 22 - 12:02
المحور:
الادب والفن
سأتناول قضية مستقبل الشعر,راصدا ً تأثيرات العقل التكنولوجي التلفزي الاستهلاكي على فن الشعر
1- العقل التكنولوجي
أخذت التقنية تغزو, و تستعمر الحياة البشرية بتسارع كبير, ابتداء من الثورة الصناعية و حتى العقد الأول من القرن الواحد و العشرين , فالتكنولوجيا أدت إلى تغير نوعي في أنماط حياتنا كبشر و مجتمعات , فظهرت العديد من الفنون الجديدة كالسينما و الدراما التليفزيونية و الفيديو كليب و التصوير الضوئي و التصميم الإعلاني و غيرها, و هذه الفنون ما هي إلا حصيلة اللقاح بين الفنون و العلوم بصياغاتها التكنولوجية, مما أدى إلى تراجع الفنون القديمة الخالصة كفن الشعر و القصة و الرواية و الفن التشكيلي, أي الفنون الغير معتمدة على التكنولوجيا , و لا يحتاج مبدعها إلى أكثر من قلم حبر و ورقة بيضاء.
إن الفنون القديمة و منها فن الشعر هي فنون فردية ذات مزاجية طاغية و خصوصية تحمل بصمات كاتبها و مبدعها , على النقيض من الفنون التكنولوجية فهي حصيلة عمل جماعي و تضافر خبرات كثيرة, و من هنا فإمكانية تطور فن المسرح أو السينما أو الفيديو كليب هي إمكانية أكبر مقارنة بفن الشعر مثلا ً , و المقصود بالتطوير هنا أن يأخذ الفن طرق تعبير جديدة و مفردات و أدوات غير التي اعتاد على استخدامها .
إن الآلة سواء كانت مركبة فضائية أو جهاز هاتف أو إشارة ضوئية أو كومبيوتر أو جهاز تخطيط قلب كهربائي, تميل بطبيعتها إلى القوننة الصارمة, فهناك بنية متكاملة مصممة بدقة لا سبيل إلى تجاهلها أو العبث بها, مما أدى إلى أن تفرض هذه التكنولوجيا الآلية قوانينها على الفنون المتدخلة في عملية إخراجها , فمستخدم الآلة يرى نفسه من حيث لا يدري خاضعا ً لقوانينها و سطوة انضباطها, و شيئا ً فشيئا ً يفقد جزءا من حريته و جزءا ً من خياراته و جزءا من خصوصيته, مما يساهم في إرساء قواعد لحياة منزوعة الشعرية , مفرغة من محتواها الجمالي و ربما الأخلاقي.
- في الجاهلية ما قبل الإسلام كان الإنسان العربي يقف أمام الحجر أو الصنم أو الشجرة متلبسا ً طقوس القداسة معلنا طلب المساعدة من الله راجيا ً البركة.
و إنسان القرن الواحد و العشرين يقف الآن, إن كان عاملا ً أمام الآلة في المصنع مكبّا ً على عملة راجيا الرزق من الله بجريرة الآلة يقف متعبدا ً منصاعا ً لميكانيكيتها, و الملايين من الناس المتفرجين على شاشة التلفيزيون في بيوتهم يكون فؤادهم متعلق به , و يكون نافذتهم إلى العالم و المعرفة و التسلية و كأن التلفيزيون تحول إلى جهاز "صنم" يشاطر الناس مقدسها فتحول المذيع أو النجم ألتلفيزيوني إلى نصف إله و نصف بشر.
- أنا شخصيا ً أحسُّ بحالة قلق لدى نسيان الموبايل في المنزل, و خروجي إلى العمل, هذا القلق يشبه قلق مرتكب الذنب و توقه للسكينة, و باختصار فالتقنية و العلوم التي تنتج التقانة و الآلة و الميكانيك لعبت دورا ً في خلق فنون جديدة و لعبت دورا ً في انحسار فنون قديمة كان الشعر فيها على قمة هرم الخاسرين.
صحيح أن الرواية و المسرحية و القصة قد تراجع دورها و لكن الإمكانات التي تتيحها طبيعة هذه الفنون مختلفة فقد تتحول إلى سيناريوهات و حوارات مما يخفف من شدة هذا الانحسار
- لقد انعكس هذا التصور الموضوعي للعالم و اكتشاف القوانين إلتي تتحكم في علوم الرياضيات و الفيزياء و الحواسيب, إلى نظريات في النقد الأدبي و علوم اللغة و الفلسفة , و إذا كان النقد يبدأ من النصوص اللغوية , فإن سيادة مدارس فكرية و نقدية معينة ولد مناخا ً إبداعيا ,ً مناخا ً يحرض على كتابة نصوص بما تقتضيه هذه النظريات ذات الصرامة العلمية و القوننة ابتداء من الماركسية مرورا بالبنيوية و الفرويدية و اللسانيات و إن كانت هذه النظريات قد فقدت الكثير من بريقها و لكنها ما تزال مؤثرة
2- العقل المعلوماتي :
- إن ثورة الاتصالات و الإنترنت و الموبايل و الفضائيات و سهولة توافر المعلومة بما يوافق ذائقة و مزاج الإنسان, أدى إلى الاستسهال فأصبحت الحياة أكثر سهولة و راحة و رفاهية , و إن كانت ليست بالضرورة أكثر سعادة ؟!
- منذ عشر سنوات كنت مع العائلة أترقب موعد الفلم الأسبوعي الوحيد الذي يعرضه التلفيزيون العربي السوري , التلفيزيون الذي يبدأ بثه الرابعة مساء و ينهي بثه الواحدة ليلا ً , اليوم يوجد عشرات القنوات التي تبث الأفلام ليلا ً و نهارا ً
منذ عشر سنوات كنت أحرص على أن أشترى مجموعة شعرية كل شهر عند نزولي إلى دمشق العاصمة أو أطلب ذلك من أحد الأصدقاء و كأنني على موعد مع اكتشاف جديد! , الآن بقرص مرن واحد تجد موسوعة الشعر العربي قديمه و حديثة مرتبا ً بفهرس للشعراء و فهرس للبلدان و فهرس حسب الكلمات و غيرها ؟
كل هذا أفقدنا شيئا ً من نكهة الشعر و نكهة المعرفة على اعتبار النادر ثمين, و المشاع رخيص اعتدنا الزهد به
- الفنون الحديثة تحتمل نقص الانتباه, بينما الشعر يكاد يكون أكثر الفنون تكثيفا ً و استدعاء للتأمل و التأويل, فلا تستطيع أن تقرأ قصيدة شعرية و أنت تلعب الشطرنج أو تتبادل أطراف الحديث في المقهى مثلا ً
إن ذكاء الإنسان لا يملك هذه الملكات, لمتابعة أكثر من حدث أو أكثر من منبه سمعي أو بصري, و الثورة المعلوماتية و الفضائيات جعلتنا نعيش للآخرين ال24 ساعة في اليوم, و ننسى أنفسنا و ننسى ما يعتري هذا الإنسان الجميل الذي طمسنا معالمه و اعتقلناه طويلا , و شوشنا صورته و شوشنا انتباهه بهذا الكم الكبير من المعلومات الغير منظمة لا بل الغير ضرورية
3- العقل الاستهلاكي:
- نحن نعيش الآن في مجتمع استهلاكي يغلب عليه نمط العيش الأمريكي الذي يستدين من المستقبل ليطعم الحاضر, و يستنفذ طاقاته و إمكاناته حتى الرمق الأخير,بحيث أضحى التسوق متعة ,و أصبحت تقام المهرجانات للتسوق و ثقافة الترويج والاستهلاك.
و لكن هل الشعر كسلعة قادر على دخول سوق المنافسة ؟
و هل الاستثمار في الشعر ممكن كتابة و نشرا ً و توزيعا ً و تسويقا ً , و أنا هنا أتكلم عن القصيدة المنطوقة أو المنشورة كسلعة ؟
و هل للشعر مكان في هذه المنظومة المتعصبة للربح الآني , و للمقارنة مع السينما أو الدراما التلفزيونية أو الأغنية لكونها جميعها تنتمي إلى جنس الفنون .
إن للشعر عوائقا ً ذاتية لا يستطيع بوجودها المنافسة, مما أدى إلى انحساره, و المحاولات الجارية لتسويق الشعر من خلال الإنترنت و الفضائيات و دخوله ككلمات في القصيدة المُغنّاة هي محاولات جديرة و جريئة , و لكن أي شعر سوف يُروج له عبر الفضائيات العربية ؟!
هل شعر محمود درويش و أدونيس و عبد المعطي حجازي و جوزيف حرب؟
أم الشعر النبطي و الشعبي و بعض قصائد منتقاة لنزار قباني و قصائد المديح و التمجيد ؟
و لعل أكثر ما يُحفظ لنزار قباني من الشعر هو ما غنّاه له كاظم الساهر و ماجدة الرومي و غيرهم ,فالشعر في هذه الحالة لم يعد شعرا ً فقط, و لكنه دخل كمكونة في جنس فني آخر
و كذلك هذه العقلية الاستهلاكية تتيح الظهور لنماذج من الشعر الردئ و بخاصة الشعر ألمناسباتي الذي يمدح و يمجد ويرفع و يخفض و يؤله البشر و العقائد ...
و سيبقى الشعر المنتمي إلى الشعر الحقيقي هو الخاسر و تحديدا ً الشعر الحداثي و قصيدة النثر و الشعر الذي يعتريه شيء من الغموض , مما يعرقل عملية التواصل مع المتلقي السلبي البليد الغير مثقف و هو ما يشكل الأغلبية الساحقة من جماهير العرب؟!
- الاستهلاكية تنبذ الشعر و تبقيه مركونا ً في الزوايا المهجورة و خارج مهرجانات التسوق الثقافي, فالعديد من الصحف العربية أسقطت الصفحة الثقافية اليومية و ضاعفت عدد الصفحات الاقتصادية و الرياضية و الفنية, و حتى صحف عربية عريقة تقنّن نشر القصائد الشعرية مقارنة بالمتابعات و الفضائح و النقد الانطباعي ,كونها أي القصيدة الشعرية لا تلبي حاجات السوق .
و الدوريات الثقافية العربية نكاد نخجل من ذكر عدد مبيعاتها إذا استثنينا الاشتراكات الرسمية
و كذلك المواقع الثقافية الشعرية العربية على شبكة الإنترنت , و يمكنك تصفُّح أي موقع شعري. كي ترى عدد القرَّاء مقارنة مع المواقع الدينية و الإباحية و مواقع الدردشة الخ..
و هذه المواقع غالبا ً ما يقوم برعايتها أشخاص مغامرون متحمسون يعتمدون على رؤوس مالهم الخاصة و الزهيد من التبرعات , فهذه المواقع لا تجلب المُعلن و ليس لها مكان في هذه الآلة الجهنمية التي تطحننا
و لذلك إذا كانت الثقافة العربية و ربما غيرها في أزمة , فإن الشعر هو الأكثر تأثرا ً بهذه الأزمة؟!
...........................
و لكن في هذا العصر التكنولوجي ألمعلوماتي الاستهلاكي , هل يموت الشعر؟؟
لن أجيبَ إجابة العارف فلست بالعارف
و لكن من الملاحظ
1- أن عدد كتَّاب الشعر في تزايد, و عدد قراء الشعر في تناقص مستمر حتى ضمن فئة كتّاب الشعر
فالشعراء العرب و حسب خبرتي و تجربتي المتواضعة لا يقرؤون لبعضهم البعض
و لكن كيف نفسر هذه الظاهرة؟
هل كل من يقدم نفسه شاعرا ً و يكتب هو شاعر؟
لن أنصب نفسي ناقدا ً و حكما ً بين الشعر و ما ليس بالشعر , و لكن الملاحظ أن هناك أعداد متزايدة من الناس يرغبون أن يكونوا شعراء أو يشرفهم و يسعدهم أن يُقدموا كشعراء و بل يتجرؤون على نشر نتاجهم الشعري, و هذه بارقة أمل يعتدُّ بها
2- كل إنسان و خاصة في فترة المراهقة و تجربة الحب الأول يخالجه شعور جميل غامض, قد يعبر عنه بلغة تنحرف عما ألفه هو, أو ينحرف عما يستخدمه من الكلام , و هناك من يستمر و ينمي لحظة البرق هذه بتعميق التجربة الشعورية و الجمالية فيتحول إلى شاعر و منهم غير ذلك
ما ألاحظه هنا, هو من أين جاء هذا الشعور؟ و ما الذي يدفعنا كبشر للتعبير عن هذا الشعور مستخدمين لغة تنحرف عن مألوفنا؟
و هذا يدخل في صميم الراهان على بقاء الشعر
3- عدم وجود مرادف نقدي للنتاج الشعري, و تراكم هذا النتاج, خلق فجوة كبيرة بين الشعر و نقد الشعر, من الصعب تجاوزها في المدى المنظور مما يساهم في تدهور نوعية النتاج الشعري المقدم و المتكاثر بفضل ثورة المعلومات و يساهم في خلق غوغاء في عالم الشعر
هذه الفجوة مرشحة للتفاقم , و أتذكر أحد النقاد العرب السورين عندما سئل عن غياب هذا المرافق النقدي للتجارب الشعرية العربية في العقود الأخير؟
أجاب تريدني أن أقرأ عدة ألاف من المجموعات الشعرية حتى أكتشف موهبة أو نصف موهبة !
أنا لا أدافع عن تعجرف الناقد الكبير و لكن هذا الركام يشكل إعاقة و حالة غير صحية ؟
في النهاية
عند الحديث عن مستقبل الشعر يجب أن نحدد عن أي شعر نتكلم
هل هو شعر استهلاكي قد يتابع ازدهاره؟!
أم هو شعر ثقافي قد يتابع انحساره؟!
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟