محمود الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 1890 - 2007 / 4 / 19 - 11:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الإنسان
ماذا قبل الإنسان ؟ وماذا بعد الإنسان ؟
هل تفكرت في مرة من المرات في مثل هذه الأسئلة التي قد تراود العقل وتلح في التفكير باحثة لها عن إجابة ؟
قد تكون هذه الأجابة فلسفية أو دينية , وقد تكون مستندة علي أدلة خيالية مبنية علي التصور العقلي الخيالي المحض , وقد تكون ملتبسة في الشعور والوجدان الإنساني حينما تشتد بالإنسان الأزمات باحثاً له عن مخرج , أو راغباً في إستكناه المجهول بالنسبة لعقله المحدود في تصوره لحقيقة ماقبل ومابعد الإنسان !!
ماقبل الإنسان هو الغيب , ومابعده أيضاً هو الغيب !!
فالإنسان المفرد بالعقل المفرد يعي هذه الحقيقة والتي قد يكون لم يتطرق له التفكير فيها فهو بين عالمين من الغيب , عالم ماقبل الإنسان , وكذا عالم مابعد الإنسان , وكان لزاماً أن يكون للإنسان فيما بين هذين العالمين المجهولين اللذين يحيطان بواقع الإنسان ويلتصقان بجسده , ويتعلقان بروحه دون أن يدري , أنه له عالم آخر مشهود هو منذ بداية ولادته حتي وفاته , وهذا العالم الجديد الواقعي المعاش , هو فترة الحياة , واقع أيضاً بين مجهولين ماقبل وما بعد الإنسان , وتناولت هذه المرحلة الأساطير والخرافات والملاحم التاريخية , والسحرة والمشعوذين , والمفسرين لقوي الطبيعة الطيبة , والقوي الشريرة , بل وتناولتها الأديان السماوية في نصوصها المقدسة , وفي الأدبيات الدينية المتلازمة لحياة الناس وتنظيم شؤنهم الدنيوية , وحياتهم الآخروية , وكان هدف الأديان وغايتها هو الإنسان !!
فكان الإنسان منذ أن خلقه الله حراً طليقاً من كل قيد يتعرف علي الله في أشياء شتي , ويجده في كل مايحيط به , يستمتع بمراقبته له , وفي تعرفه علي الخير والشر , وفي تفرقته بين الحق والاطل , وفي نضاله للخير ضد الشر , وفي مصاحبته للإصلاح في مقابلة الإفساد , فكان الإنسان هو الإنسان , في حالات قوته , ومراتب ضعفه , وفي مذلته بالعبودية من الغير , وفي عزته التي يحتمي بها من العبودية والإذلال !!
ولكن من الذي غير من طبيعة الإنسان في صفته الإنسانية البشرية التي كانت لاتدرك من متطلبات الحياة سوي أبسط الأشياء التي تقدر لها الحياة في صورة مبسطة بعيدة عن المنافسة وغريزة التسلط , والكراهية وحسد الغير من بني الإنسان !!
فحينما كانت حاجيات الإنسان بسيطة ومتطلباته الدنيوية متوفرة نظراً لبساطتها وتوفرها في أحيان كثيرة في أحضان الطبيعة والغابات والأحراش الطبيعية , وحينما كانت الحياة قائمة علي الصيد والقنص , والحياة بجوار مصادر المياه والأنهار العذبة , كانت تكاليف الحياة والمعيشة تقترب من الصفر إلا في المجهود الذي يبذله الإنسان في الحصول علي طعامه فقط , ولكن تغيرت الأوضاع والحقائق الإنسانية البسيطة مع تغير أنماط الحياة الإنسانية التي أصبحت مستقرة إلي حد بعيد , وأصبح المجتمع يميل إلي الزراعة كبديل عن الحياة الرعوية , ثم تطورت الحياة ومرت بمراحلها المعروفة إلي أن وصلت إلي الحياة العصرية بصورتها المعقدة في الكثير من الأمور , وأصبح الدور الإنساني للسياسات له أبعاد هامة في التربية والتعليم والسلوك العام نظراً لتعدد المفاهيم وسيطرة القوي الإقتصادية المتعددة الجنسية والعابرة للقارات والتي تمثل سياسات دول تبغي السيادة والزعامة علي كافة المستويات السياسية منها والإقتصادية , بل تنتهج مناهج لترغيب الشعوب والدول في العيش علي طريقتها وأسلوب حياتها العام والخاص !!
فكانت الحروب , وكانت الصراعات الفكرية , بل والصراعات الدينية التي كانت تشتعل وتتأجج بين الدول وبعضها بسبب الإنتصار للدين والعقيدة , حسب مفاهيم المصلحة التي كانت توظف الدين أيما توظيف للحصول علي أعلي قدر من المصلحة في علاقة تبادلية نفعية براجماتية توظف الأصولية الدينية للتخديم علي المصالح الدنيوية علي خلفية أن الله هو الآمر بذلك , ومادام الله في المسألة وهذه هي إرادته ومشيئته العليا فلايقدر أي إنسان أن يخالف أو يتقاعس عن تنفيذ مشيئة الله العليا , في حين أن المشيئة لم تكن هي مشيئة الله ولكن المشيئة كانت مشيئة المصلحة الدنيوية اللا مقدسة والتي أراد لها أصحاب المصالح أن تكون مقدسة بقدسية إرادة الله العليا التي لم يتوصل إليها أحد من بني البشر حتي الأن , سوي ماكان من وحي أو رسالة سماوية , أتي بها أنبياء الله ومرسلوه إلي البشر , الذين لايمكن لهم أن يتعرفوا علي إرادة ومشيئة الله المطلقة , لأنهم نسبيون في عالم نسبي , ولايمكن للنسبي أن يتعرف علي المطلق المعرفة الكاملة , فكيف يتم الإدعاء بالمعرفة الكاملة للمشيئة والإرادة الإلهية الكاملة من خلال عقلية الإنسان البشري المحدودة في عالم النسبية ؟!!
وهذا هو الداء الإنساني , أو المرض الإنساني العضال الذي ينشأ من المعرفة بالله وتجهيل الآخرين في التعرف إليه أو عليه , مع أن حقيقة الأمر تكمن في الصراع والتنافس علي تحصيل المصالح , وسيطرة مرض التسلط وشهوة حب السلطة , وكراهية الغير أو الآخر هي التي تكون تلك الأمراض العضال .
ولذلك يري برتراند رسل أن التشخيص السليم للداءهو بالضرورة الخطوة الأولي نحو العلاج , ذاهباً إلي أن المساوئ القائمة في العلاقات الدولية في صميمها هي أسباب نفسية , من دوافع هي جزء من الطبيعة البشرية بحالتها الراهنة .
وأهم هذه الدوافع هي المنافسة والشغف بالسلطةوالحسد , والحسد هنا بمعناه الواسع الذي يشمل الكره الغريزي لفائدة الغير إذا لم تكن مصحوبة بفائدة مساوية علي الأقل لأنفسنا , ويمكن القضاء علي المساوئ الناشئة عن الأسباب الثلاثة عن طريق التعليم ونظام إقتصادي وسياسي أحسن .
ويري برتراند رسل أن المنافسة ليست شراً محضاً بأي حال من الأحوال , فعندما تأخذ صورة التباري في الخدمة العامة أو في إكتشاف الأعمال الفنية أو إنتاجها , قد تصبح باعثاص مفيداً يحث الناس علي بذل جهود منتجة أكثر مما يبذلونه بدونه .
والمنافسة مضرة فقط عندما يكون هدفها إمتلاك عروض محدودة الكمية , بحيث أن مايملكه منها شخص غنما يكون علي حساب شخص آخر .
وعندما تأخذ المنافسة هذه الصورة تكون مصحوبة حتماً بالخوف , ويكاد يكون مستحيلاً ألا ينمو من الخوف قسوة .
ولكن نظاماً إجتماعياً يهئ توزيعاً أكثر عدالة للعروض المادية قد يغلق في وجه المنافسة تلك المسالك التي تجعلها مضرة , ويبعث علي التدفق في مجري يجعلها مفيدة للجنس البشري .
وهذا هو أحد الأسباب الكبري التي يتوقع بناء عليها أن تكون للملكية المشتركة في الأرض , ورأس المال أثر مفيد في الطبيعة البشرية , إذ أن الطبيعة البشرية كما هي في الرجال والنساء البالغين , ليست حقائق ثابتة بأي حال من الأحوال , بل هي وليدة ظروف وتربية وفرص تترك أثرها في فطرة ذاتية قلبلة للتغيير بسهولة .
ويذهب برتراند رسل في كتابه سبل الحرية : إلي أن مايصح عن المنافسة يصح أيضاً عن حب السلطة , فالسلطة بالصورة التي ينشدها الناس عادة الآن هي سلطة الأمر , وسلطة فرض إرادة الشخص علي آخرين بالقوة المستترة أو الظاهرة .
وهذه الصورة من صور السلطة تتكون في جوهرها من التعرض لحرية الآخرين , لأنها لاتمارس إلا عند إرغام الآخرين علي عمل ما لايريدون عمله .
وينبه إلي نوع من السلطة التي تقوم علي الإقناع والتعليم وهداية الناس إلي الحكمة وإدراك ممكنات جديدة للسعادة , وهذا النوع من السلطة الذي يمكن أن يكون كله خير _ فسيبقي قائماً لايمس , وسيجد الكثيرون من ذوي الحيوية , الذين يوجهون جهودهم في عالمنا الراهن إلي السيطرة , طاقتهم الجديدة في مثل ذلك الذي ننشده , نحو خلق خير جديد بدلاً من تدعيم مساوئ قديمة .
ومن الممكن أن يكون لكافة الناس أصحاب التوجهات المتباينة دور في خلق وتعزيز وجود هذا الخير في العالم المعاصر الذي ضيعته الصراعات الدينية والسياسية من خلال منظومات عديدة مبنية علي الطمع والإستئثار بالثروات حيث يوجد الجوع والفقر والمرض في عالم الوفرة , وحيث توجد الحروب والصراعات لأسباب واهية في الأساس , ولكن السيطرة والجموح نحو تحقيق الأحلام المبنية علي خلفيات تاريخية عمادها التميز بل التمايز بين الأجناس البشرية التي تنتسب كلها لمفرد الإنسان الواحد أبو الوجود والذي تعارف الجميع عليه ونسبوا إليه وهو آدم , وأم واحدة هي حواء !!
فلماذا الشعور بالعنصرية والتمايز الجنسي , والإدعاء بنقاء دم علي دم آخر ؟!!
ولماذا يتمايز أصحاب دين من الأديان عاي اصحاب الديانات الأخري علي إدعاءات من العنصرية الدينية المميزة عن الديانات الأخري , وتشتعل الحروب والصراعات الدينية علي أساس الأحقية بالإله , والأحقية المطلقة بالجنة مع حرمان بقية الشعوب والأمم المخالفين في الدين من بني الإنسان من دخول هذه الجنة المحتكر دخولها علي أصحاب دين معين من الأديان , في مواجهة عنصرية حاقدة وكارهة للآخرين تدعي حتي إحتكار النار ولكن ليدخلها ويعذب فيها المخالفين لهم في الدين !!
ولكن لو عمل الجميع لرفاهية الإنسان وإعلاء قدره وشأنه والبحث عن طرق وسبل الخير العالمي لجميع الشعوب والأمم ذات الديانات السماوية أو الديانات الأرضية الوثنية وتم ترك المعتقد وطبيعة الإله ليتصره كل إنسان حسب عقليته وطريقة إيمانه , فما كانت لهذه الصراعات والحروب العنصرية الدينية وجود قائم في عالم الإنسان المأزوم بهذه الصراعات , وماتم تقسيم العالم إلي عالم أول , وثاني , وثالث , لأن حقيقة الإنسان غائبة من إدارة الصراع المبني علي الشر والحسد , والذي يراه برتراند رسل يعتمد في معظم الطبائع علي ذات النوع من التذمر المستأصل الذي ينبثق من الإفتقار إلي النمو الحر , ومن إستحالة تحقيق تلك السعادة التي يتصورها الإنسان .
والحسد أمر لايمكن علاجه عن طريق الوعظ : فأقصي مايستطيع الوعظ بلوغه في هذا الشأن هو أن يغير من مظاهر الحسد وأن يؤدي به إلي غتخاذ صور اكثر مراوغة في التخفي .
وإذا إستثنينا الذين لايحتاجون إلي علاج من ذوي الطبائع النادرة التي يغلب عليها التسامح رغم الظروف , فإن العلاج الوحيد للحسد هو الحرية وبهجة الحياة , ولايمكننا أن نتوقع النظرة المتسامحة والطبيعة الرحيمة فيمن حرموا إلي حد كبير من المسرات الغريزية البسيطة , الفراغ , والحب و والشمس المشرقة , والمروج الخضراء , ويستمر رسل في القول : بأن مثل هؤلاء الناس لاينتظر أن تكون هذه صفاتهم , وحتي القلة المحظوظة عاطلة عن هذه الصفات , لأن تلك تلك القلة تدرك , أياً كان عدم وضوح الإدراك , أنها تجني ثمرة الظلم , وأنها لاتستطيع الإستمرار علي التمتع بحظها الحسن إلا إذا تجاهلت عامدة أولئك الذين لايشاركونها هذا الحظ .
فإذا أريد للتسامح والرحمة أن بشيعا بين الناس , فيجب أن تبذل عناية أكبر بالحاجات الأولية للطبيعة البشرية , وأن يكون هناك إدراك أوسع بأنه من الممكن والضروري , أن تعم السعادة جميع الناس , بإستثناء أولئك الذين يقعوا فريسة لسؤ حظ غير عادي .
إن عالماً يزخر بالسعادة لن يرغب في الحروب , ولن يكون ممتلئاً بذلك العداء الحقود الذي يفرضه الكيان الضيق المقيد علي الطبيعة البشرية العادية .
ويري راسل أنه:
ليس خلق عالم يزخر بالسعادة بعيداً عن متناول القدرة البشرية :
فليست العقبات التي تقيمها الطبيعة البشرية بمستعصية علي الحل .
إن العقبات الحقيقية توجد في قلوب الناس , وعلاجها الأمل الوطيد ينير سبيله الفكر ويدعمه .
ومن الملاحظ أن الأنانية البشرية المتمثلة في شهوة السلطة والحكم , والتي ترغب في التميز بأسلوب حياتها علي مقدرات وسعادة الآخرين بالحقد والحسد والكراهية هي أمراض قد بنيت علي دعائم من العنصرية في الدين , والجنس , وهاتين الدعامتين المفسدتين لأخلاق الإنسان البسيط , والمدمرتان لإنسانيته , يجب أن يجتهد أصحاب الفكر والعلم والثقافة والفن , في توجيه الإنسانية إلي متجهات التسامح والمغفرة لأحداث الماضي التاريخية وبناء مجتمع جديد يعلي من شأن الإنسان وطبيعته البشرية من خلال منظومة عمادها العدل والتسامح وقبول الآخر في الجنس , والدم , وأهمها قبولاً في الدين , فلعلنا نتخلص من الأنانية في المنافسة , والإحتكار , والتسلط في الحكم والإستبداد في الدين والسياسة , وليتنا نستطيع خلق عالم خالي من الحسد والأحقاد , ويترك إله الإنسان لكل إنسان يتصوره ويعتقد به كيف يشاء , دون إحتكار للجنة أو النار , علي خلفية إمتلاك الحقيقة المطلقة والوصاية علي الإنسان , لكي يكون ماقبل الإنسان , وما بعد الإنسان هو سعادته !!
محمود الزهيري
[email protected]
#محمود_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟