إن الخطابات الدينية المتطرفة في العالم الإسلامي قد ظهرت في سياقات سياسية واقتصادية جد مختلفة. وعلى الرغم مما بينها من تشابهات واضحة، فمن الخطإ اعتبار هذه الظاهرة حركة وحيدة ومتجانسة. فالنزاعات المحلية وأصداؤها في الوسائط الإعلامية، والتحولات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية، والمراجع الأجنبية، تسهم كلها في تكييف حركات إسلامية متعددة الأشكال مختلفة الاتجاهات. إلا أنه رغم هذه التباينات، فإن الأصوليين الإسلاميين تجتمع كلمتهم على مسألتين مرتبطتين وثيق الارتباط وهما البحث عن الهوية، ووضعية المرأة. فلعجزهم عن تحديد وتطوير سياسة ونظام اقتصادي بديلين تكون لهما صبغة إسلامية نوعية ومتميزة، لم يشخص الأصوليون الإسلاميون إلا مجالا واحدا يحمل في نظرهم جوهر الهوية الإسلامية: ألا وهو قضية المرأة. فالمطالبة بارتداء النساء الحجاب الإسلامي هو المحور الأساسي لكل سياستهم تجاه المرأة التي يعتبرونها لا صلاح لها الا بوصاية الرجل عليها الى الابد بل ولكل إيديولوجيتهم. إلا أن قراءة تحليلية سريعة لخطاباتهم تكشف لنا أن الحجاب هو التعبير المكتمل لتقليدية المنظومة الانتروبولوجية، والتشريعية، والثقافية والسياسية للحركات الأصولية.
وعلى ضوء هذه القراءة يتبين لنا أن المناداة باتخاذ هذا اللباس ليست سوى الجزء الضئيل الظاهر من جبل الجليد، وأن ما يختفي وراء ذلك هو أبعد بكثير وأعمق أثرا. فالحجاب الإسلامي بقطع النظر عن الاشكال والمتغيرات الاجتماعية الثقافية التي يظهر فيها، يتجاوز مغزاه إلى حد بعيد ظاهره المتمثل في زيّ يفترض أنه يصون جسد المرأة من عيون الرجال ورغباتهم الملتهبة . فوراء الحجاب يختفي تأويلهم الرجعي للشريعة، وتتستر بالخصوص قواعد اللامساواة الجوهرانية الثلاث التي تميز هذا التأويل، ألا وهي: عدم المساواة بين الرجل والمرأة، وعدم المساواة بين المسلم وغير المسلم، وعدم المساواة بين الرجل الحر والعبد. وبذلك، فإن الحجاب يصبح رسالة دينية تقتضي التفسير والتأويل، ويتكشف عن مفاهيم رجعية تتوارى بحكم "التقية" التي يلجؤون إليها في الأحاديث والتصريحات الرسمية والتي تتسم بالمجاملة وملاطفة المشاعر، ومن تلك المفاهيم: تفوق المسلم على الكافرواغتيال المفكرين الاحرار باسم الردة و هضم حقوق المراة و الطفل باسم الشريعة و حضر الابداع والفن والشعرو البحت العلمي باسم فقه العصور الوسطى، ونبذ التسامح، واعتماد تعدد الزوجات، والطلاق التعسفي، والرجم. فالخطاب الذي ينقله حجاب الاسلاميين هو إذن خطاب رافض، يرفض الذات، ويرفض استقلاليتها وحريتها، ويرفض المساواة بين الرجل والمرأة، والاختلاط بين الجنسين، كما يرفض لائكية الفضاء العمومي، ولا يقبل بحقوق الإنسان وبالقيم الديمقراطية.
وينبغي للمثقفين الذين يدافعون عن الحجاب الإسلامي ويعتبرونه رمزا محايدا باعتمادهم أسلوب الشك النسبوي وإضفائهم صبغة القدسية على البحث عن النسبوية التي تغرق القيم الكونية و الحقوق الطبيعية وعلى إجلال الحق في التخلف لا الحق في الاختلاف، هؤلاء المثقفون ينبغي لهم أن يأخذوا بالاعتبار الحقائق التالية:
- إن لفظ الحجاب قد ورد ثماني مرات في القرآن الكريم في السور التالية : 7 الأعراف، و17 الإسراء، و19 مريم، و38 ص، و41 فصلت، و42 الشورى، و83 المطففين، و33 الأحزاب. ولم يأت في أي سورة من هذه السور للدلالة على اللباس الذي تغطي به المرأة رأسها. والآيتان الوحيدتان اللتان تضمنتا توصيات بخصوص اللباس أو بشأن الحياء هما الآية 30 والآية 31 من سورة النور (عددها 24). وكذلك في الآية 59 من السورة عدد 33 (الأحزاب) وفيها يوصي الله نساء الرسول بأن يدنين عليهن من جلابيبهن لكي يعرفن. فالأمر لا يتعلق إذن بلباس إضافي، وإنما بطريقة جديدة في لباس الثياب المعهودة، مع التميز في مستوى الحركات.وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الآية تتعلق فعلا بالنساء، لكنها لا تتعلق بكل النساء، بل هي تشير بوضوح إلى أزواج النبي وهن أمهات المؤمنين، اللاتي يتوجب على المؤمن احترامهن، ولا يمكن له أن يتزوجهن بعد ترملهن أو طلاقهن، بما أن القرآن الكريم قد منحهن صفة الأمهات لكل المؤمنين. وقد بين بعض المفسرين أن الاختلاف في المعاملة فيما يخص عدم إمكانبة التزوج ثانية، الوارد في نفس الآية التي ورد فيها ذكر الحجاب، ومضاعفة العذاب أو مضاعفة الجزاء لهن دون غيرهن، يؤكد أن الأمر لا يتعلق بقاعدة عامة، بل بقاعدة خصوصية متصلة بسياق معين، وإنها تنطبق على نساء النبي دون غيرهن.
وإن ما ذهب إليه بعض المفسرين اعتباطا، من اعتبار أن لهذه الآية صبغة عامة، اي أنها غير مرتبطة بزمان ما وأنها شاملة وصالحة لكل الأوضاع، هو مخالف للمقتضيات المأثورة والصحيحة لدى المفسرين والداعية إلى الأخذ بأسباب النزول.
وهذا الخداع هو الذي يعتمده بالأساس، أصحاب المواقف الرجعية من المتشددين الإسلاميين ومن الأوساط المحافظة الذين غلبوا النصية المتعصبة على فقه الراي و التاويل و القراءة التاريخية و النسبية للنص المقدس .
- وقد ذهب العلماء المسلمون إلى أن الحجاب الإسلامي واجب على المرأة الحرة دون سواها. ويرى فقهاء المذاهب السنية الأربعة، المذهب المالكي، والمذهب الحنفي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، أن الأمة، باعتبارها خارجة عن محيط الزوجات، وغير داخلة في النسب، لا يجب عليها الحجاب، وأن عورتها – أي ما يجب ستره من جسدها – مماثلة لعورة الرجل، وذلك لتيسير سريان البضائع الادمية وحماية المصالح التجارية. وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب يوقع العقاب الشديد بالأمة التي تتبرقع لأنها تدخل الاضطراب على نظام التمييز و على المراتبية القائمة بين المرأة الحرة وبين المراة الأمة.
- وفي كل العصور، كان الحجاب موضع رفض وتفنيد في العالم الإسلامي بالذات، بدءا بحفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و سليلة البيت النبوي سكينة بنت الحسين التي كانت ترفض الحجاب بإصرار. وقد كانت عائشة بنت طلحة، حفيدة أبي بكر الصديق، وهو من أكبر صحابة الرسول وأول الخلفاء الراشدين، تقول إذا كان الله قد وهبها الحسن، فلا داعي لستره وراء حجاب.
ومنذ ذلك العهد، ما فتئت الحركات التقدمية والنسوية ترفض الحجاب وتنازع في شرعيته.
- في بعض البلدان الإسلامية، يفرض الحجاب كذلك على النساء غير المسلمات. وهو ما يكشف عما يختفي وراءه من رهانات حقيقية تتمثل في تغييب المراة دورا و جسدا و صوتا و في تلك الرهبة من الأنوثة، وإنكار الاختلاف و التعدد بين الأجناس بل وإنكار للاختلاف ذاته، هذا الاختلاف الذي يثير الجدل و يزعزع اليقين الاعمى و يعادي احتكار الحقيقة .
واليوم، فمن الواضح الجلي أن الحجاب الإسلامي يظهر لنا كعلامة سياسية وكأداة للتميز الديني. وهو يبلور جملة من المقتضيات المفروضة على المرأة المسلمة: وهي الاستقالة والتخلي عن كونها فكرا حرا في جسد أصبحت تتحكم فيه. وذلك باعتبار أنه عندما jتوصل اليات المراقبة و المعاقبة المعممة إلى اقتحام الحياة اليومية و الحميمية لمحاصرة وتجديب الجسد، والرغبة، والحس الجمالي، وبعبارة وجيزة، ما جبل عليه الانسان من استعداد فطري للتمتع بالحياة، فكل الانحرافات الكليانية تغدو ممكنة. لماﺬا? لان تعطيل هﺬه النزعات تثبت الفرد و تجمده في حالة طفلانوية لامتناهية و في مراحل جنسية ما قبل اوديبية و تجعله ينخرط في الأطوار الفمية و السادية المازوشية للإثارة الجنسية. وهي أطوار تتلاءم مع وضعيات الفتنة و التماهي و مع علاقات الطاعة و التبعية و الخضوع المازوشي التي ينسجها التابع مع الزعيم و مع القائد.هﺫا القائد الذي ينتصب في موقع مثال الأنا و يلعب دور الأب الروحي الاجتماعي و يلبي رغبة عتيقة تقبع في أعماق الإنسان و تلازمه من المهد إلى اللحد وهي الرغبة في نيل حب و حماية أب ودود و قوي . لا بد لنا أن نقر أن مجتمعاتنا العربية الإسلامية تصنع، من خلال لعبة القمع و المحظورات من كل الأنواع وأساليب الاستغلال والسيطرة المختلفة، الكبت بأنواعه. كما أنها لا تكف عن إنتاج الكدر الإنساني ورعايته، ولا سيما هذا البؤس الجنسي الذي نشاهد تجلياته من خلال عودة المكبوت الانفعالي في شكل تدفقات عدوانية أو هوس ديني. هذا الهوس الديني الذي يمجد الألم والخنوع ويحقر اللذة ومباهج الحياة ويعظم التضحية وغريزة الموت.
و لعله من الضروري أن نؤكد أن مقومات المشروع التوتاليتاري تقود إلى غريزة الموت و تعادي طبيعة الحياة فهي تعتمد أساسا على إدانة الحب وعلى فرض الأخلاق القمعية على اضطهاد الثقافة و المثقفين و أن السياسة الحقيقية تبدأ عند النواة الأكثر أولية للضمير الأخلاقي التي تقاوم الكذب و الظلم و تجعلنا لا نسمح أن يتحقق هدا المشروع.
وفي اطار عذا النضال ضد هذه النزعات التوتالتارية، وهذا الصراع من أجل الحريات والكرامة الانسانية، فإننا نعتقد بأن الخط الفاصل بين طرفي النزاع لا يمر بالضرورة بين الشرق والغرب ولا بين الشمال والجنوب، بل بين العقلانيين في كل مكان والأصوليين في كل البلدان، بين النزعات السلطوية وبين الديمقراطية، بين من يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، وبين الذين يقدرون على الشك. ومن هذا المنظور، فإن الحجاب لن يقيم بمقاييس الحداثة أو الخصوصية الثقافية، بل سيحكم عليه بالمعيار التقييمي الوحيد الجدير بالاعتبار: ألا وهو إنسانية الإنسان.