|
الادب الملتزم
الحركة التلاميذية
الحوار المتمدن-العدد: 1889 - 2007 / 4 / 18 - 12:42
المحور:
الادب والفن
الأدب ومصدره إن تناول الظاهرة الأدبية باعتبارها ظاهرة اجتماعية تنتمي للبناء الفوقي للمجتمع، يقودنا للحديث عن عنصر الوعي الاجتماعي، الذي يتشكل عبر صيرورة تاريخية وفي شرط اجتماعي محدد يقول كارل ماركس "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
هذه الرؤية الفلسفية هي التي وجهت التناول الماركسي للأدب،وللإنتاج الفكري البشري بشكل عام.
وبالتالي فدراسة أي ظاهرة تقتضي بالضرورة علمية التناول من أجل فهمها وتحليلها تحليلا علميا بعيدا عن الأهواء الشخصية، والتنميقات الايديولوجية، وتقتضي كذلك ربطها بالواقع الاجتماعي والشرط التاريخي الذي أنتجها.
إذن عندما نتناول الأدب باعتباره ظاهرة لها استقلالها النسبي ارتبطت "بالكائن الواعي" نكون مرغمين بالضرورة للعودة إلى التاريخ في رحلة نكشف من خلالها مجموعة من الحقائق التاريخية والفنية التي ارتبطت بالوعي الانساني وتشكله عبر التاريخ في صيرورة لعب العمل البشري فيها دور الناظم والصانع للإنسان ووعيه.
يقول الماديون " إن العمل هو الذي صنع الإنسان"،وحينما يقولون ذلك فإنهم يعنون وعيه الذي تطور هو الآخر في ارتباط مع تطور القوى المنتجة في المجتمع (أدوات العمل...).يقول كارل ماركس: أن الانسانية جزء لا ينفصل وأن وعينا ليس إلا إنعكاسا عقليا لنشاطنا العملي في تغيير العالم (...) وهو يعمل على أن يعكس الصراع الذي لا ينقطع للإنسانية لكي تسيطر على قوى الطبيعة ، فالعمل الفني بالنسبة للماركسية كأي ناتج من نواتج العمل يخلق جمهورا واعيا بجماله الخاص وقادرا على الاستمتاع به.
يقال أن التفكير بالمفاهيم كان تعبيرا عن واقع سيطرت عليه أدوات العمل، بينما التفكير بالرموز كان تعبيرا عن واقع لم تسيطر عليه بعد وسائل العمل، أي عن واقع قصرت عن تحقيقه، تلك الأدوات والعلاقات في المجتمع.
ويذهب الدكتور عبد المنعم تليمة إلى أن الفن ولد من العمل ولم ينفصل عنه في يوم من الأيام، فتطور (الجميل) من النافع، ولم يتناقض معه عبر تاريخ الفن والانسان، فقد كان الرمز بالنقش والرسم والنحت إرتقاءا لأدوات العمل وتطورا لصلة الإنسان بعالمه الطبيعي وخاماته
أما أداة الأدب – اللغة- فهي أعظم أدوات الإنسان في تعامله مع عالمه وفي السيطرة عليه،لكنها ليست أداة عمل كأدوات الإنتاج إنما هي أداة أعم،تقف وراء العمل الاجتماعي كله ووجودها شرط ضروري لقيام المجتمع، وهي ليست نتاجا طبيعيا، بل هي نتاج إجتماعي يمثل تطور صلة الإنسان بعالمه الاجتماعي وعلاقاته.
إذن فالمفهوم المجرد هو وليد الحاجة العملية،والخبرة البشرية فهو إذن أداة راقية يدرك بها الإنسان عالمه ويلم بها شتات واقعه، فالتفكير بالرموز عموما معناه إمكانية صوغ العالم حسب ما وصلت إليه معرفة أصحاب اللغة بهذا العالم، وحسب خبرتهم العملية فيه،وهذه الإمكانية معناها نضج البعد الفني للغة اداة الأدب، فهذا المفهوم المجرد أو الرمز يتشكل ويشكل الوعي الإنساني أو لنقل الفكر بكل أشكاله، والثقافة بكل صورها ومنها الفن والأدب كما سبق انعكاس للعالم واللغة ناقلة لهذا الإنعكاس لكنه ليس انعكاسا ميكانيكيا كما يذهب لذلك بعض الدارسين التجريبيين، بل هو انعكاس لانعكاس العالم في مخيلة الأديب كما ذهب إلى ذلك الدكتور فيصل دراج، وتبقى اللغة هي التي تحمل وعي الإنسان بعالمه. لذلك فأدب كل جماعة، أو لنقل كل مجتمع إنما يعكس بشكل خاص علاقة هذه الجماعة بعالمها الخارجي بما تتضمنه هذه العلاقة من عمل إجتماعي،وتجربة روحية ومثل أخلاقي أعلى.
وما دامت لكل جماعة طرائقها الخاصة في تمثيل عالمها،فإن لكل لغة طريقتها في تصوير هذا العالم.
إن الفن –الأدب- شكل عبر تاريخه، أحد مميزات الكائن البشري الذي يختلف عن الحيوان بفاعلية العقل، لهذا الأخير الذي من خلاله يستطيع الإنسان ممارسة أنشطته الفنية والجمالية المتنوعة. إلا أن النشاط الفني الأدبي يختلف عن هذه التعبيرات لكونه يعبر من خلال الكلمة.وكما يقال في البدء كانت الكلمة، بمعنى آخر أن الكلمة –الأدب- كانت أولى هذه التعبيرات،التي رافقت الإنسان منذ عصره الأول،أي منذ المجتمع البدائي ولا زالت إلى حدود عصرنا هذا مرافقة الإنسان وحاملة وعيه.
وبما أن الأدب إرتبط بالإنسان –العاقل، المفكر،الموجود –الذي لا زال يستعصي على الفهم بشكل مطلق إلى يومنا هذا، فإن الأدب كذلك لازمه شيئ من ذلك الغموض أحيانا، مما يجعل الدارس يقف محتارا أمام تعريفات تدعي الموضوعية،إلا أنها لا تنفلت من تقييمات إيديولوجية لطالما حكمت ليس الأدب وحده،بل الفكر الانساني بشكل عام على اعتبار أن الباحث في الانتاج الفكري البشري سيجده موزعا بين نهجين، نهج مثالي ونهج مادي.يحاول الأول من خلال تحليله للظواهر الإجتماعية فصل هذه الأخيرة عن أساسها المادي وتربتها الموضوعية،أي أنه يفسر هذه الظواهر (بالأفكار).يفسر الفكر بالفكر والمفاهيم بالمفاهيم، مما يجعل تفسيره خارجيا متعسفا جزئي ومغلق على ذاته. بينما في المقابل فالنهج المادي العلمي يصوغ موضوعية العلاقة بين الانسان وعالمه،كما يصوغ معنا شاملا للواقع يتضمن المادي والإنساني،أي يتضمن علاقة الإنسان بالعالم، ثم علاقة الانسان بالإنسان فتبدو الظواهر في هذه الصياغة متشابكة ومتداخلة ومترابطة ومتبادلة التأثير والتأثر.وفي هذه الصياغة تتبدى كل ظاهرة في خصوصيتها كما تتبدى في علاقتها بغيرها من الظواهر. ويتبدى المبدأ الجمالي- في تفسير الظاهرة الفنية- في تاريخيته واجتماعيته.
من هنا فالفهم الصحيح والعلمي للتاريخ وقوانين تطور الأدب،يبدأ من الربط العلمي بين الظواهر الثقافية والإجتماعية وواقعها المادي الذي أفرزها. لقد تبلورت مجموعة من المدارس التعبيرية والسريالية ذات نزعة مثالية، تنكر علاقة الفن- الأدب، بالواقع الموضوعي . فكثيرا ما يتردد الزعم: "بأن هناك نموذجا كليا شاملا للنص ينصب الأعمال القصصية المفردة وهو نموذج لا يثأثر بالفنان الفرد أو الإختلاف الطبقي، أو التغيير التاريخي فتلك الصياغة القصصية تقترب من المثل الأفلاطونية" فالأدب عند أصحاب هذه النزعية جوهر نهائي يتميز بصياغة باطنة فيه وكأنه نوع خاص من سلع الاستهلاك الترفي، فالتصور المثالي بصورة عامة ينكر الوجود الموضوعي ويجعله (تصورا ذهنيا) ويجعل الوجود الحق من خلق (الوعي)،أي يجعل الذاتي خالقا للموضوعي. فالنظر المثالي منهج عام في ثقافات المجتمعات الطبقية، وذلك لأن المجتمع الطبقي ينهض على الاستغلال وعلى التقسيم غير الإنساني للعمل،وعلى الفصل بين الواقع التجريبي والفكر وبالتالي يعجز الفكر المثالي عن إدراك القوانين الموضوعية في حركة التاريخ والمجتمع . وبالتالي فمختلف المدارس الأدبية ذات النظرية المثالية ستكون عاجزة بالضرورة عن رؤية الواقع،مما يجعل صياغتها الأدبية تكون مفارقة لواقعها، وبعيدة كل البعد عن الصياغة العلمية التي تضع نصب عينيها (موضوعية) العلاقة بين الإنسان وعالمه، هذا العالم الذي تعتبره وجود فعلي خارج الوعي وسابق عليه والوعي يشكل انعكاسا لهذا الوجود هذا الانعكاس الذي يتحول إلى صيغ فكرية تحتوي خبرتنا ومعرفتنا حول هذا العالم الذي نعيش فيه،معرفة تبقى مرتبطة بمستوى تقدم وسائلنا التكنيكية وكذا طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان بالإنسان.
من هذا المنطلق تكون الرؤية الفلسفية-الجمالية التي ينطلق منها التصور المادي، تختلف عن التصور المثالي،وبالتالي منطقيا ستكون الأعمال الأدبية المستنيرة بهذه النظرية تختلف عن سابقاتها،مما يجعلنا أمام أعمال أو مدرسة أدبية تجعل من معطيات الواقع غذاء لعالمها القصصي ومادتها الأدبية.
فالظاهرة الأدبية بالنسبة للمدرسة الماركسية لها أصل وهذا الأصل هو الواقع الاجتماعي، وليعذرني القارئ هنا على اقتطاف هذه الفقرة من الباحثة يمنى العيد التي تقول:" لو أردنا أن نخطو خطوة أقل بساطة في فهم الواقعية للأدب،لقلنا إن الكلام الذي ينتظم في نسق ويتكرس في لغة لها نظامها فيخول صلاحية العشق والتواصل... هذا الكلام ليس مخلوقا مجهول الهوية،أو ليس من أصل نوراني. ليس كائنا توكل إليه مهمة ولادته لإنسان مختار هو أيضا من أصل نوراني أو على الأقل من طينة البشر،بهذا المعنى فإن المنطوق اللغوي الناهض في كيانه الخاص والحاضر في ذاكرة الناس والآتي إلى لسانهم من هذه الذاكرة،لا يأتي إلى هذه الأرض من فضاء يعلوها وكأن الأرض سطح هو "التحت" والفضاء سطح آخر هو "الفوق" العلوي، الروح، الشفافية ... إلخ فكأن الأرض في طبيعتها هذه زمن، مؤقت، ولون مظلم وكأن الفضاء في طبيعته تلك زمن أزلي ولون نوراني مشرق".
لقد كشفت الماركسية علاقة الفكر بالواقع، حيث أكدت ومن خلال ما أكدته في نفس السياق يمنى العيد أن هذا الوعي –الأدب- ليس قادما من خارج علوي ثابت لا صلة للإنسان به، بل وعي يولد من هذه الأرض أو في هذا المجتمع،وليس النظر في هذه العلاقة إلا تبسيطا لعلاقة أكثر تعقيدا حددتها الماركسية بالعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية في المجتمع. هكذا إذن نجد أنفسنا في دائرة الواقعية،وواقعية الأدب في كلام بسيط إنتماؤه للواقع الإجتماعي ونسبته إليه وفي حدود هذه البساطة، قد يصبح الكلام على واقعية الأدب، كلاما على الواقع المادي، أو العلاقات المادية فيه. فالكلام على الظاهرة ربما لا يفيد إلا في ضوء الكلام على مرجعها،وهكذا إدن قد يؤدي الكلام على الأدب إلى الكلام على مرجعه بل أكثر من ذالك، فقد يصير كل الكلام على الأدب كلاما على مرجعه لا غير، الذي هو أصله والذي هو الأصل لجميع الظاهرات. من خلال هذا إذن يمكن فهم لمذا قام لينين قائد الثورة البلشفية عند محاولته قراءة أدب الكاتب الروسي الكبير "تولتستوي"،العودة إلى تلك الحقبة التاريخية التي عاش فيها الكاتب للتعرف عن قرب على واقع تلك المرحلة من التاريخ الإجتماعي،الإقتصادي والسياسي وكذا الفني. إن الكلام عن الأدب قد يصير كلاما عن مرجعه،حقيقة تاريخية لطالما أكدها العديد من الدارسين والباحثين في مجال الأدب، يقول سعيد يقطين:" كيف يمكن أن نتصور إنتاجا أدبيا ما دون أن يكون هذا الانتاج متصلا اتصالا وثيقا بالمسألة الثقافية ودون أن يكون على ارتباط بالمجتمع في مختلف صوره واشكاله أي دون أن يكون "مؤسسا" على تصور، ما للإنتاج الفني والأدبي أو على صلة بالمجتمع في واقعه وصيرورته ؟ وكيف يمكن لنا أن نتخيل هذا "التصور" الفني أو الأدبي بدون أن يكون له "تاريخ الذي هو جزء من تاريخ المجتمع الذي ينتمي إليه ؟" . نفس الشيء أكده الدكتور فيصل دراج الذي يقول:" بأن الأدب ممارسة إيديولوجية مشروطة بزمانها، وتم تطبيقها في حقل اجتماعي –إيديولوجي محدد، فالأدب لا يظهر من العدم فهو مشروط بسياق سوسيو- تاريخي محدد على مستوى الكتابة بالأدوات والتقنيات والتراث الأدبي – التصوري الذي يجده الكاتب كمنهج دهني امامه. ـ الأدب الملتزم إن مقاربة موضوع الأدب الملتزم مقاربة موضوعية تسعى إلى الكشف والسؤال عن ماهية هذا الأدب وعلاقته بالمجتمع،لا تستقيم دون تناول ومساءلة الانتاج الفكري الانساني،الهادف إلى التغيير وتحويل العالم وفق رؤية فلسفية منسجمة لها منطلقات واقعية ونظرية تحتمي في صراعها ضد رؤى أخرى مخالفة لها، بعلمية التناول وحتمية التاريخ والمشروعية الإجتماعية. فتناول هذا الموضوع يرغمنا لا محالة على طرح مجموعة من الاشكاليات التي يبدو لنا طرحها ضروري من أجل فهم عميق لخلفية هذا الطرح الأدبي وكذا لأساليب تعبيره وتوصيله لرسالته الفنية والتغييرية، هذا ومن جهة أخرى لمعرفة ماهية الأهداف التي يهدف الأدب الملتزم إلى تحقيقها – سواء فيما يتعلق بواقع المجتمع أو بواقع الأدب والفن ثم الفكر البشري بشكل أعم. وكما أكدنا ذلك في المبحث الأول إن الفن –الأدب- يتأثر بالواقع الذي اختاره الكاتب في بنية ثقافية معينة،وكذا المنطلقات الفكرية والسياسية التي توجه عمله الثقافي، بمعنى أن الكتابة تحمل وعي صاحبها وتكشف رؤيته للواقع لذلك فالكاتب أو لنقل كما قالت ذلك الباحثة يمنى العيد: " إن القول الأدبي هو الذي يمعن في الصياغة ليخلق العبارة، وهو الذي بالتالي يبتعد عن التركيب، وهو الذي يمعن في الصياغة يمعن أيضا في الإيديولوجيا ويبالغ في حرف الكلام في انزياحه باحثا عن "الواقع" .
فالأدب إذن شكل من أشكال التعبير اللإيديولوجي، ومحاولة فصل الأدب عن الإيديولجيا محاولة خادعة ويائسة في نفس الوقت، إن أي عمل أدبي كيفما كان نوعه هو أولا وقبل كل شيء عملية اختيار لجزء أو رقعة أو ظاهرة ما للحياة المجتمعية.
وعملية الاختيار هاته ليست بريئة ومعزولة عن الصراعات والتناقضات التي تخترق المجتمع، وتدفع سيرورة تطوره. أي أن الاختيار موقف في حد ذاته تمليه رؤية محددة لهذا الواقع المجتمعي –الحياتي واستيعاب له وطموح نحو الفعل فيه. هكذا إذن يجد الباحث في مجال الأدب نفسه، بصدد أديب أدبيين –إن صح التعبير- "الأدب الرسمي" الرصين أو ماسمى بأدب المؤسسة، ثم ما يمكن أن نسميه " بالأدب الهامشي" (أدب الأطفال، أدب النساء، أدب السجون..) هذا الأدب الذي غالبا ما يعبر عن الفئات الاجتماعية المسحوقة، أي أنه يصور حياتها وينقل معاناقها ألا مها وكذا أمالها، لذالك فهذا الأدب لكونه دعوة صريحة إلى تغيير الواقع فهو يتعرض للتهميش والنبد، لكونه لا يخدم ويشوه صورة المؤسة الرسمية التي تسعى بكل قواها للحفاظ على الوضع القائم الذي هو لصالحها، من هذا المنطلق ستخلق مثقفيها وتدعم أدبها أي الأدب الرسمي موفرة له كافة أشكال الدعاية والترويج،وهو أدب يحمل في طياته إيديولوجية الطبقات المسيطرة والسائدة ويترجم تطلعاتها ورؤيتها للعالم. لكن الذي نود التأكيد عليه هو دور العامل السياسي في سيادة أدب دون آخر،أي أن السيطرة على المستوى السياسي التي تنتج بدورها من السيطرة على المستوى الاقتصادي تنتج بالضرورة سيطرة على المستوى الثقافي.هذا وقد سبق أن ناقشنا كيف أن كل أشكال الوعي الاجتماعي ترتبط بشرط تاريخي محدد وظروف إجتماعية محددة، أي ما خلص إليه التحليل الماركسي أن البنية الفوقية للمجتمع (الأفكار، القوانين، الآداب، الفلسفة، المؤسسات...) تحددها البنية التحتية لهذا المجتمع. غير أن السؤال الذي ربما يفرض ذاته هنا هل يمكن أن نسمي كل أدب "هامشي"، أدب ملتزم؟ فما معنى الالتزام الأدبي؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، بالإضافة إلى أسئلة أخرى قد تجد لها إجابة في تناولنا لهذا الموضوع، لابأس أو لا أن ندرج مجموعة من المقاربات التعريفية للظاهرة الأدبية،لعلها قد تساعدنا في التقرب أكثر من الظاهرة "الأدب أحد الفنون الجميلة السبع إلى جانب الموسيقى، الرقص، الرسم، النحت، المسرح، السينما، فهو يعبر تعبيرا جميلا مؤثرا في حنايا النفس البشرية، وما يختلج فيه من عواطف وأفكار ورؤى" . "الأدب بناء جمالي بالكلام، يبدعه الإنسان في القطاع العقلاني ويجسده بألفاظ اللغة المتصفة بصفة فنية، إيحابية في مفرداتها، وتراكيبها ومضامينها المعنوية هوالإنسان الفنان المبدع القادر على التعبير عن جوهر كيانه ببناء لغوي مؤثر، جميل شكلا ومحتوى".
"الأدب صياغة فنية لتجربة بشرية، والتجربة البشرية لا تعني التجربة الشخصية فقط، أي التجربة التي يعيشها الأديب في حياته فقط،بل تضاف إليها تجارب أخرى، كالتجربة التاريخية، أي أن يختار من أحداث التاريخ وشخصياته ما يشاء، ويصبغ عليها صبغة إنسانية عامة تصلح لأي كان، في كل زمان ومكان، أي الاكتفاء من التاريخ بالخطوط العامة أو القيم الانسانية الثابتة، والتجربة الاسطورية ترتبط دائما بتجارب الإنسان البدائية، وهي تنظم العلاقة بين الانسان وقوى الطبيعة، والقوى الميتافيزيقية، التي يرهبها الإنسان، لأنه يجهل كنهها، وهو يتخذ من رموزها هياكل لأدبه بشرط أن يكون خياله قويا بحيث يستطيع تجسيدها وإحالتها إلى كائنات بشرية تفكر، وتحس، وتتألم، وأن يصور التجربة وينفعل معها، ويفكر من خلالها. والتجربة الاجتماعية التي يستمدها الأديب من مجتمعه وهو في تصويره لحقيقة المجتمع لا يعتمد على الواقع فقط بل يستعين بالخيال لتعميق ذلك الواقع والتجربة الخيالية أي المدخرة في نفس الأديب حيث يعبر من خلالها عن التجارب التي تمكنه ظروف الحياة من أن يعيشها، فيعيشها في الخيال ويصبها في القالب الأدبي".
بعد هذه اللمحة التعريفية العجولة لمعنى الأدب نعبر إلى السؤال الأهم في هذا المبحث الذي يتعلق بالإلتزام.
الأدب الملتزم تسمية خرج بها الأديب والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، هذا الأخير الذي يعتبر الإلتزام، يجب أن يكون غاية كل أدب، ومن بين الأهداف التي يرمي إليهامن وراء نظريته الإلتزامية هي أن الأدب صورة حية للمجتمع، الذي ينتسب إليه فعلى الأديب أن يتصل بما حوله وأن يكون قريبا من الناس، وأن يصهر كل عواطفه وكل جوارحه في بوثقة مشاعرهم وحاجتهم .
إن هذا الإطار الموضوعي للأدب الملتزم، يبدو أن كلا من الوجودية والشيوعية تشتركان فيه، فهما الاثنتان تدعوان إليه إلا أنهما تختلفان في التسمية، فهو عند الشيوعيين أدب إشتراكي وعند الوجوديين أدب ملتزم. لكن السؤال الذي قد يطرح هنا هل الاختلاف يقتصر فقط على الشكل، أي التسمية؟ إن الاختلاف يتجاوز ما هو شكلي إلى ما هو مضموني أي الموضوع، فسارتر يتفق مع الماركسيين في المقدمات إلا انه يختلف معهم في النتائج كيف ذلك ؟
إن جان بول سارتر يقول لكي يكون الأدب ملتزما لابد له من أن يتنفس الحرية بملئ رئتيه، ولابد من حرية الكاتب فيما يكتب، ولابد من حرية القارئ فيما يقرأ، ليتحقق ذلك الهدف المثالي لمبدأ الإلتزام، وحرية الكاتب تتوفر له بعد التخلص من الخضوع لأي تيار حزبي معين، يملي عليه ما يتفق ووجهة نظره من آراء وأفكار، وحرية القارئ تتمثل في عدم إرغامه على قبول لون من الإنتاج الأدبي الذي يتجه إلى غاية محددة وهدف مرسوم . فحرية الكاتب فيما يكتب وحرية القارئ فيما يقرأ شرطان أساسيان في نظرية الأدب الملتزم عند سارتر فهو يقول مادام القراء والكتاب مقيدين بنظم سياسة خاصة تفرض عليهم أن يقرءوا هذا ويتركوا ذلك فهم عبيد والأدب الحر الملتزم لا يمكن أن يخاطب العبيد، فالكاتب الوجودي يرى أن النظام يلغي حرية الفرد في التفكير والتعبير وهذا ما يبدو واضحا من خلال إيماء زعيم الوجودية (سارتر)"أن الأدب الحر الملتزم لا يمكنه أن يعيش في ظل نظم ديكتاتورية" هذا إذن فيما يخص النظرة الوجودية للادب الملتزم، فماذا عن الرؤية الماركسية للفن الأدبي؟ وكيف يكون الأدب أدبا ملتزم؟
ترى الماركسية "أن الحياة الواقعية هي التي تجبر الفنان على اختيار مجال رؤيته للعالم، أي تجبره على اختيار صوته الخاص،ولونه الخاص،هكذا تتشكل الطبيعة النفسية للفنان ومفهومه الخاص للعالم وفقا لمعرفة الحياة حسب قول ماركس."
إن العمل الفني الحقيقي. يحتفظ بدلالته بمقدار ما يظل الصدق الموضوعي الذي يتضمنه قادرا على مواصلة الحياة. لأنه يربط بين الوعي وبين الواقع بآلاف الخيوط وبالكثير من تدرجات اللون.
وحتى يكون الفن في خدمة المجتمع أي حتى يكون ملتزما يقول لينين: "إن الأمر الكبير الأهمية، ليس هو ما نعتقده أنفسناعن الفن وماذا يعني الفن عند بضع مئات أو آلاف في أمة ما، كأمتنا المكونة من ملايين كثيرة، إن الفن ينتمي إلى الشعب، ويجب أن تمتد جذوره إلى أعماق جماهير الشعب. ويجب أن يكون قابلا للفهم من جانب تلك الجماهير وأن تستوعبه وتحبه، كما يجب أن يوحد انفعالات الجماهير وأفكارها و إرادتها وأن يرفع الجماهير إلى أعلى مستوى. كما يجب أن يوقظ الفنانين الكامنين في الجماهير وأن يكفل تطورهم."
يقول مكسيم غوركي عن الفن:" أن نبتكر، بمعنى أن نستخلص من واقع معين، بكل تعقيداته تلك الفكرة الرئيسية وأن نجسدها في الصور وما نصل إليه بذلك هو الواقعية. ولكن إذا أضفنا إلى الفكرة التي استخلصناها... عناصر مما نتوق إليه، وما يعد به الواقع من إمكان، بإكمال الصورة وتنميتها، فإننا نصل إلى تلك الرومانسية ذات...الجدوى الكبيرة، فهي تشير إلى موقف ثوري من الواقع موقف يعمل على تغيير العالم بطريقة ثورية عملية". من هذا المنطلق ستعارض الماركسية ذلك الشكل الأدبي الذي يتخذ أحيانا صفة واقعية مزيفة ومن هذا يمكن أن نفهم كذلك تصديها لدعاة مقولة " الفن من أجل الفن" الذين يؤكدون على أن الفن هدف في حد ذاته، فالماركسية تطرح في تناولها للفن سؤالا مهما هو: ما جدوى الفن إن لم يكن في خدمة المجتمع ؟
مما يجعلنا نصل إلى خلاصة مفادها أن الرسالة الالتزامية للأدب عند الماركسيين، تنطلق من رؤية التغيير وطرح البديل وليس التصوير المرآوي للواقع بطريقة جافة. يقول محمود آمين العالم: "و الواقعية في الأدب لا تعني ذلك المفهوم الذي سعى البعض في معركتهم الايديولوجية ضد الواقعية،أن يشوهوه بإعطائه معنى الإستنساخ الآلي أو المراوي للواقع أو التقريرية الجافة، أو العقلانية، أو الشعارية إلى غير ذلك. والواقعية في الأدب لا تعني كذلك فرض أسلوب معين أو نهج محدد للتعبير والإبانة بل تتنوع فيها الأساليب وأشكال التعبير تنوعا لا حد له، فقد تستخدم الرموز والأساطير والأحلام إلى غير ذلك، إنما المهم في الواقعية أساسا وهي مستويات مختلفة هو الحس بحيوية الواقع وصراعيته والتعبير عنه أدبيا في الأدب، أي بلغة الأدب لا بلغة الواقع المباشر".
إذن إذا كانت النظرية الماركسية للأدب تؤكد الصلة القوية جدا بين الأدب والواقع، وإذا كان الأدب بالفعل شكلا خاصا لانعكاس الواقع الموضوعي، فهي ترى أنه من المهم جدا أن يستوعب هذا الواقع، وعرضه كما هو فعلا، وأن لا يقتصر هذا التعبير على ما يبدو مباشرة، وبالتالي حتى يكون الكاتب واقعيا فعلا (ملتزما) فإن عليه مراعاة مسألة الشمولية الموضوعية للواقع على اعتبار أنها تلعب دورا حاسما. إن عالم الإنسان بالنسبة للماركسية ليس بناء قائما على علاقات ذهنية مطلقة، بل هو قائم على علاقات اجتماعية متغيرة، لذلك فما هو (جمالي) إنما يتحدد في مصدره وتطوره بما هو اجتماعي كما يتحدد في ماهيته ومهمته بذلك الاجتماعي .
الأدب بالنسبة للماركسية صورة حية من صور الوعي الاجتماعي وسلاح يستعان به في الحرب الطبقية من أجل القضاء على مجتمع الضرورة، وبناء مجتمع الحرية البديل.
وما دامت الماركسية تنبني على فكرة ماركس الشهيرة والثورية: " لقد اكتفى كل الفلاسفة الذين سبقوني بتفسير العالم في حين يجب تغييره " ،فإن كل اهتمامها سينصب على سؤال هو كيف سنغير العالم وبالتالي سيكون كل النشاط الإنساني مسخرا لهذه الغاية، مما يجعل الفن كنشاط فكري يأخذ نفس المنحى أي كيف نستطيع بواسطة الفن – الأدب – خدمة الثورة والتغيير.
ولعل ما ميز "مكسيم غوركي" عن معاصريه من كبار الواقعيين هو أنه لم يكتف بتقديم الصورة العارية للمجتمع الرأسمالي وما ينهار فيه من قيم، بل لقد عمد على صياغة ما ينهار وكيف ينهار وبأي كفاح يتم القضاء عليه. فهو يصوغ كيف تتقظ حركة العمال الثورية وانتفاضة الشعب وكيف نطور الإنسان ونجعل حياته أكثر سعادة.
من خلال كل ما سبق،يظهر أن النظرية الماركسية تطبق معيارا مزودجا لتقييم الفن، فهي في المحل الأول تدرك العمل المعين على أساس من معيار نسبي خاص مشروط بفترته والطبقة التي يعكس نظرتها إلى العالم، ثم تطبق على ذلك العمل معيارا آخر أوسع مدى من النسبية الاجتماعية التاريخية، فهي تخضع العمل الفني لاختبار، ذي طابع مطلق حينما تتضمن القيمة النسبية للعمل نواة من الحقيقة الموضوعية. رغم التباين النسبي بين كل من الماركسية و الوجودية في رؤيتهما للأدب الملتزم، فإن الذي يوحد بينهما هو اتفاقهما حول حقيقة فنية وجمالية وتأكيدهما المشترك عليها،و هي أن الأدب يجب أن يتنفس الحرية، ويرتبط بالواقع والمجتمع .
لكن التساؤلات التي قد تجد مبرراتها الآن هي لماذا تناولنا في هذا الفصل مفهوم الأدب الملتزم ؟ وهل أدب السجون الذي نحن بصدد مقاربة بعض نماذجه، يمكن إدراجه ضمن خانة هذا الأدب بناءا على ما ورد في النظرية الالتزامية للأدب ؟ ثم هل الإنتاج الأدبي العربي والمغربي على وجه الخصوص في مستوى الأدب الملتزم ؟.
مادام في كل إبداع هاجسا سياسيا سواء كان معلنا أو مبطنا، ومادام واقع الفنون الأدبية الرئيسية في واقعنا العربي الراهن(القصيدة، الرواية، القصة القصيرة...) من حيث اعتمادها على الكلمة المقروءة،وما دمنا في مجتمع ما تزال عيونه تعاني من رمد الأمية الألفبائية وابتعاد هذه الفنون، تبعا لذلك عن متناول الشعب ودائرة إمكانياته، فإن النظرة الألتزامية، للأدب تجد مبرراتها في هذا الواقع، الهزيل والمتفسخ، وإذا كان يقال ولا زلنا نقول أن الأدب الصادق هو ذلك الذي ينتج في ظروف القهر والحرمان.
#الحركة_التلاميذية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|