سامي العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1890 - 2007 / 4 / 19 - 11:42
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
أُمنية مستحيلة ذكرتُها في مقالٍ قديمٍ لي خاطبتُ العالمَ فيه بالقول :
أيها العالم , لا أُريد منكَ شيئاً سوى أن تجعلني حاكماً عليكَ لمدَّة يومٍ واحدٍ , يومٍ واحدٍ فقط .
وقولي : يوم واحد فقط , يرفع عني صفة الدكتاتور او أنْ أكون من هواة جمع الأوسمة والعروش الأبدية !
وقبل الدخول قليلاً في بعض أوجه العلة أريد أن أُبيّن شيئاً عن الفهم السطحي والهزيل لمعنى الشعر ذكَّرني به واحدٌ من المُتَجهبذين فقد قال أبو فراس الحمداني في قصيدته المعروفة : أراكَ عصيَّ الدمع , قال بيتاً فيه الكثير من الفنية والمداعبة والجمال , البيت هو :
مُعلِّلتي بالوصلِ والموتُ دونهُ
اذا مُتُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ
هنا تستمع لخطيب جامع يستشهد بهذا البيت لما يحسبهُ من أنانية فيه ويعطي في المقابل بيتاً يعتقد أنهُ يناقضهُ قائلاً بحماسٍ وانفعال : أين هذا القول من قول شاعرنا :
فلا نزلتْ عليَّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظم البلادا ؟
يتبيَّنُ لكلِّ متذوِّقٍ للشعر أنَّ قول أبي فراس هنا حافلٌ بالشعر واللطافة في التعبير وأمّا القول الثاني فهو ليس سوى نَظمٍ ركيكٍ يشي بأنَّ قائلَهُ إنسانٌ طيِّب القلب لا أكثر ولا أقلّ فأبسط تعريف للشعر قالهُ القدامى بأنهُ إخراج القول على غير العادة . فأين هو الإخراج غير العادي في القول الثاني عن السحائب والبلاد الخ ...؟
جعلتُ هذا الحديث السريع مدخلاً لقولي بأنك اذا لا تحيط إطاحة كافية بالموضوع الذي تريد التحدُّث فيه فلماذا تورِّط نفسك وتحاول توريط البعض معك ؟
من ناحيتي أردتُ مِراراً الكتابةَ في السياسة اليومية بما تتطلَّبهُ من مباشرة وتقريرية في كثير من الأحيان وبعد عدة محاولات لم أجد في كتابتي تلك ما يعكس روحي فهربتُ منها وتركتُ الحديث عن دوّامة العمل السياسي وهمومها لمَن يجدون فيها صدىً من ذواتهم .
وأردتُ من هذا أنْ أقرّر بأننا ما زلنا ننظر الى جميع المعارف البشرية بذات النظرة المُتحجِّرة والتأويل الغارق في البداوة , وما مَثَلي عن بيت أبي فراس
إلاَّ غيضٌ من غيضٍ لا غيضٌ من فيض .
في هذا العصر الحقير والوضيع حيث لا أحد يعيش وفق فطراتهِ الحية النقية سوى الحيوان , وتحديداً الحيوان في غير البلدان العربية والإسلامية , ليس بوسعك إلاَّ أن تمتليء بالأسى والخيبة لأنَّ الحلَّ جليٌّ وواضحٌ لو تَوفَّرَ لدى إنساننا شيءٌ من العقل وقليلٌ من النزاهة والشرف .
وإذا استطاع الفرد الغربي والروسي والياباني والصيني مثلاً تبريرَ معنى وجودهِ على الأرض دون مِنَّةٍ , على الأقلَّ من جهة التطوُّرِ العلمي والإجتماعي فبأيِّ شيءٍ نستطيع تبريرَ وجودنا نحن ؟
إنَّ الإنسان - ولتأخذْ الغربي مثالاً – تشير كلُّ الحقائق والمعطيات بأنه يكتشف ويخترع ويُنَمّي ويُنتج ويطوِّر وفي حسابه راحةُ الأجيال القادمة فهو في سباقٍ مع الزمن الذي يعرف أنه يتبّدد من بين الأصابع مهما كان حرصُ المرء
ولكنَّ ما يؤلم في هذا الصدد هو انكفاء الفرد عندنا على حاجاته الآنية الفردية قانعاً ومُعلِّلاً نفسه بنعيم ما بعد الموت رغم إدّعائه بعكس ذلك , وأسيادهُ غارقون حتى نخاعهم بالمحظورات التي تُبيحها { الضرورات } ويمارسون تلغيم الحمقى وبدلاً من دفعهم الى معاهد العلم يدفعونهم الى تفجير أجسادهم الغضة بدعوى الشهادة وهؤلاء السادة العبيد ترى أحدهم منسجماً مع عبوديتهِ أيَّما انسجامٍ وراضياً بالتخلُّف الذي يسميه البساطة وبالذلِّ الذي يطلق عليه التواضع وبالبلطجة التي يدعوها الشهامة وبالتملُّق الذي يُسمّيه التقيّة وبالنهب الذي يدعوه العدالة وبالبخل الذي يسميه التوفير وبالعصبية العمياء بحجة الجذور وبقراءة الكفِّ بحجة استشراف المستقبل وبالعنجهية التي يسمِّيها الرِّفعة وبالجبن المعرفي بدعوى أنهُ لا يمكن إدراك كُنْهِ الله , واذا كنا ننعى على الغرب ما نسمِّيه تسيُّبَهُ او انحلال روابط الأُسرة فيه فهو مِهما تجذَّر فلن تمتدَّ جذورُه أعمقَ من جذور انحلالنا العقلي والنفسي وهذا أنكى وأمضُّ , ولو كانت أنظمة البلدان العربية ومعها بعض أنظمة البلدان المستبدة باسم الإسلام تمتلك ما تمتلكهُ أمريكا على سبيل المثال من قدراتٍ نووية تدميرية وأمريكا لا تمتلكها فهل كانت أمريكا ستبقى على سطح الأرض !؟
وهنا أطرح على نفسي سؤالاً طريفاً بعض الأحيان فأقول : تُرى مَن هو الذي يَمُنُّ على العربي والمسلم بالإستمرارية في الحياة في هذا العصر ؟ هنا لا يجد العربي او المسلم نفسه مضطرّاً لطرح هذا السؤال على نفسهِ او للإعتراف ولو في الدوائر المغلقة بأنَّ مِن بين ما يمنع أمريكا من محقهِ هو شفقتُها على حشرةٍ لا تقدّم ولا تؤخِّر , وهكذا حيثما يكون الجهل والقمع والدكتاتورية تُعشِّش الجريمة وتندحر الأخلاق ولا تبقى إلاَّ أدمغة السفهاء وعديمي الحياء .
مَرَّةً روى لي واحدٌ من المخدوعين وهو يدَّعي التديُّن كيف أنه في لندن سرق من أحد الأسواق التجارية مجموعة من الملابس النسائية ثمَّ هربَ بها وظلَّت شرطة المدينة تتعقَّبُهُ وهو ينتقل من قطارٍ الى آخر محاولاً الإفلات منها حتى أمسكتْ به .
كان يشتم الشرطة ولا يحسُّ بالخجل من عملهِ , وحين سألتهُ :
ولماذا فعلتَ ذلك ؟
أجابني : إنَّ في شرعنا ما يبرِّرُ ذلك فهؤلاء يسرقون أموال الشعوب الفقيرة .
فسألتهُ : وبماذا تنفعُ الشعوبَ الفقيرة هذه الملابس ثم ما قيمتها وماذا جنيتَ انت من كلِّ هذه البهذلة ؟
في السابق كان المثقَّف الأوروبي يحرص بالإنتساب الى الثقافة العربية الإسلامية ويتباهى بذلك لأنَّ من أعلامها الذين عكسوا وجهها المشرق كان ابن رشد مثلاً واليوم لا أنسى الإحتفالية والنصر العظيم والفخر الذي عمَّ العديد من الصحف عندنا قبل سنواتٍ والذي وصل الى تبادل برقيات التهاني بمناسبة إعتناق إمرأةٍ فرنسية للدين الإسلامي وقبولها بإرتداء الحجاب !
الى هذه الدرجة يصل تعظيم عقلنا الباطن لكلِّ ما هو غربي في حين أننا ندَّعي كذباً معاداتَنا للغرب , واحتقارنا له , إننا نعاديهم لأننا لا نستطيع اللِّحاق بهم , وآخرُ يصيح بي مُغتَبِطاً بأنَّ عبارة { مات } المتداولة عالمياً في لعبة الشطرنج هي كلمة عربية ! ... الخ وهذا نموذج للتدليل على عمق الشعور بالنقص لدينا ومدى انسحاقنا بحيث لم نَعدْ إلاَّ ألسِنةً صيغتْ للتبجُّح وشخصيّاتٍ صيغَتْ للإزدواجية وهذه إيران في زمن الخميني إذْ كنّا فيها نعيش كلاجئين , كنّا لا تمرُّ ساعةٌ علينا إلاَّ وسألنا أنفسنا : أحقّاً هذا هو الإسلام ؟ لم يكن هناك شيءٌ حلالٌ تقريباً من دون أن يتحوَّل الى حرام ولا شيءٌ مسموحٌ به تقريباً دون أن تعصف به فتوى , هذا ونحن رجالٌ فماذا لو كُنّا نساءاً ؟!
ومن هذا المنطلق حلمتُ وأحلم بألمٍ لو أنني أجد عالماً أكثر معقوليةً ومجتمعاً عربياً تعمُّهُ الحريةُ والمساواة ويرتضي العيش بصدقٍ وُفْقَ فطرته الصافية وعلى توافقٍ مع ضميرهِ على الأقل ما دام لا يستطيع أن يبني وينجز وبالتالي لا يستطيع أن يكون ابنَ عصرهِ بل على العكس فإنَّ وجودَهُ بهذه الشروط ليس أكثرَ من عالةٍ على نفسهِ وعلى عصرهِ ولن يجد ما يفخر به من الآن فصاعداً غير كلمة { مات } العربية في لعبة الشطرنج او كلمة { أدميرال } المشتقة من الإسم العربي القديم أمير البحر وبينما الغربيون تحوَّلوا فعلاً الى أُمراء البحر تحوَّلنا نحن الى قراصنة !
*****************
#سامي_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟