|
بين النرد والشطرنج
عطية مسوح
الحوار المتمدن-العدد: 1887 - 2007 / 4 / 16 - 12:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ سنوات قرأت كتاب (مناهج الألباب المصرية، في مباهج الآداب العصرية) لرفاعة الطهطاوي، وهو آخر كتاب وضعه هذا المفكر الرائد الذي دشّن فكر النهضة العربي في القرن التاسع عشر، فقد صدرت طبعته الأولى عام 1869، أي قبل وفاة مؤلفه بأربع سنوات. ترك ذلك الكتاب أثراً كبيراً في نفسي وعقلي، كغيره من كتابات الطهطاوي ومتابعيه من النهضويين الذين رسموا لوحة الثقافة العربية على امتداد النصف الأول من القرن العشرين، والذين أطلق عليهم بعض الباحثين اسم (أبناء رفاعة) نظراً لاعترافهم جميعاً بريادة الطهطاوي. عدت إلى الكتاب في الخريف الماضي، حين كنت أعدّ بحثاً عن (التيار الليبرالي في فكر النهضة العربية)، وقرأت ـ فيما قرأت ـ مقارنة الطهطاوي بين لعبتي النرد ونحن نسميها (طاولة الزهر) والشطرنج. وتوقفت عند التحليل الطريف، المتقن والعميق، ذي المحتوى الفلسفي والسياسي، لطبيعة كل من اللعبتين وقوانينهما، وما توحي به الفروق بينهما من أفكار تتصل بالموقف من علاقة الإنسان بالقدر. يشير الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى أن من وضع لعبة (النرد) هدفه أن يثبت للإنسان الدور الحاسم للقضاء والقدر، وأن الإنسان ليس له تصرف في أمور نفسه. ومن وضع لعبة الشطرنج هدفه أن يثبت للإنسان أنه قادر بسعيه واجتهاده أن يبلغ المراتب العليا، وأن يتصرف في أمور حياته وفق عقله وقناعته. وقدم الطهطاوي الدليل على استنتاجاته من قوانين الشطرنج ذاته إذ بإمكان البيدق أن يصير بمرتبة الوزير. وأعتقد أن الطهطاوي بتحليل قوانين اللعبتين المذكورتين، وضعنا أمام منحيين شاملين لكل جوانب الحياة. فالناس كلهم لا يخرجون في رؤاهم ومسالكهم خارج هذين المنحنيين. ومن يتوقف عند التربية على مختلف المستويات، يتأكد من ذلك. فالمجتمع بأعرافه وتقاليده والفكر السائد فيه، والأسرة بتعامل أفرادها بعضهم مع بعض وبطريقة الأبوين في تربية الأبناء، والمدرسة في تقديم المعلومات للأطفال وتدريبهم على اختزان المعرفة واستخدامها في السلوك اليومي، والمديرون والمسؤولون في تعاملهم مع شؤون دوائرهم، والحكومات في تعاملها مع الناس، والأحزاب في تعاملها مع الشعب، وقادة الأحزاب في تعاملهم مع أعضاء أحزابهم.. لدى كل هؤلاء وفي كل المستويات المذكورة، لا نجد سوى طريقتي النرد والشطرنج، ولا نجد سوى أسلوبي: التربية على التسليم والقناعة بما يقرّر في المستويات الأعلى، والتربية على الشك واستخدام العقل وتحديد الخيارات بعد تفكير وتمحيص، والوصول إلى القناعات التي يجب ألا تكون ثابتة أو مطلقة أو نهائية. إن الفرق بين المنحيين المذكورين، يقوم على مرتكز أساسي هو الثقة بعقل الإنسان. فالتربية على التسليم، وهذا ما عبّر عنه الطهطاوي بمثال (النرد)، تعني ترقّب ما يأتي من الأعلى، وانتظار قرارات القادة والمديرين والرؤساء على كل مستوى، وفي كل شيء، والتقيد الكامل بهذه القرارات، والانطلاق من صوابيتها المطلقة، ومن عجز المتلقي عن مناقشتها وكشف نقاط ضعفها. إنها كالقدر، الذي نسلّم به ونترقبه ونأمل ألا يكون قاسياً شديد الوطأة. وفي المجال الثقافي، تعني التربية على الاستسلام للتراث والماضي، والشعور بالضعف أمام عملاق اسمه الأوائل. ويأتي هذا كله تحت أسماء متعددة، أهمها ما يطلق عليه اسم القيم والثوابت والأسس وغير ذلك، ولكنه يخفي ثلاثة عناصر رئيسة، أولها: مصلحة القادة والمسؤولين في أن يبقى كل شيء على ما هو، أو أن ينحصر كل فعل بما يرسمونه هم من حدود للتغيير تخدم مصالحهم فقط. وثانيها: اعتياد الناس على هذا النمط من العلاقة بينهم وبين القادة والرؤساء والمسؤولين، النمط القائم على التسليم بما يأتي من فوق، والحذر من مناقشته أو تجاوزه. وثالثها: هو الخطأ الفلسفي القائم على فكرة تقديس الثوابت وإعطائها دوراً أكبر من دور مبدأ حزأحالتغيّر الذي بيّنت تجارب البشر، عبر القرون أنه هو الثابت الوحيد في الحياة. وإذا وضعنا جانباً العنصر الأول وهو (مصالح القادة) فإن التربية التسليمية بعنصريها الآخرين: الاعتياد والخطأ، تعبر عن عدم الثقة بعقل الإنسان وقدرته على الوصول إلى الحقائق، لذلك فإن هذه التربية تحصر مهمة العقل في تنفيذ ما يقرّر ويأتي من فوق هو طريق الصواب، وأن على من هم تحت، أو ليسوا فوق، أن يلجموا عقولهم ويمتنعوا عن الاجتهاد ويعوّدوا ألسنتهم على الترديد الببغائي لما يسمعونه ممن هم أعلى منهم مرتبة قانونية أو إدارية. أما المنحى الآخر، فهو منحى التربية على استخدام العقل، والتسلّح بمبدأ الشك في تناول ما يأتي من فوق، وإخضاعه لمسبار العقل الذي تنمّي التجربة خبرته، ويقوّي التدرّب على الشك طاقاته وملكاته. هذا المنحى النقيض للتربية (النردية) يقوم على الثقة بقدرة العقل الإنساني، وبدور الإنسان الإيجابي الفاعل، لا السلبي المنفذ، وهو منحى ديمقراطي منطلقاً ومآلاً. فهو ديمقراطي منطلقاً، لأنه يعطي الإنسان وعقله دوراً في تحديد سلوكه ومواقفه، وفي تقويم القادة وقراراتهم، ويؤمّن له الصدقية مع ذاته، إذ يفعل ما يعتقد بصحته ويتجنّب فعل ما لا يقبله عقله. وهو ديمقراطي مآلاً لأنه يسهم في بناء أجيال عاقلة مبادرة مفكرة، بعيدة عن الروح التسليمية التي أنهكت مجتمعاتنا ومؤسساتنا السياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية قروناً. ما أكبر الفرق بين أن ننشئ لاعبي نرد وأن ننشئ لاعبي شطرنج. عطية مسوح
#عطية_مسوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخطاء كبيرة في مقالة صغيرة
-
دفاعاً عن العلمانية
-
شافيز وراشيل
-
اللدودان - قصة قصيرة
المزيد.....
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|