لقد قضت سنوات برفقة أبراهام السرفاتي سواء بمعتقل درب مولاي الشريف أو السجن المدني بالدار البيضاء (غبيلة ) أو السجن المركزي بالقنيطرة...جالسته..تحدثت معه بل غشت معه بين أربعة جدران خلف باب حديدي سميك.
بعد فك الحصار: حصار العزلة المنزوع نزعا بفضل الإضراب عن الطعام الذي دام أكثر من أربعين يوما والتي استشهدت خلاله وفي خضمه المناضلة سعيدة المنبهي.عرفته قبل الاعتقال كما عرفته إبان الاعتقال في ساعات الجلد والتنكيل والتعذيب مؤيدا...منصورا...فرحا...مستبشرا .
مازلت أذكر أيام المحاكمة الماراطونية..ويمكن أن يؤكد ما سأذكره كل مناضلي طنجة مثل السيدة الفتوح وزوجها السريفي وآخرون...قاعة مكتظة بالمتهمين الجالسين والعائلات والصحافة والمحامين الواقفين، وأقارب وأصدقاء ومتعاطفين متحلقين حول باب القاعة المملوءة عن أخرها، والكل مطوق بسلسلة بشرية متكونة من أناس مختلفين عن كل الحاضرين، يرتدون لباسا رماديا قاتما موحدا لم يكن يستسيغه أحد إبان السنوات المظلمة التي مرت ببلادنا.
أحد الحاضرين لفت أنظاري وكل الأنظار، ليس لكونه يمتهن مهنة الدفاع عن الحق والقانون ومؤازرة المتهمين، وليس لكونه كان أجنبيا، وليس لكونه كان عربيا، ولكن لكونه كان يؤازر مناضلي فتح وأبناء فلسطين في كل أنحاء العالم: إنه الأستاذ المجدلاني الذي حضر إلى المغرب خصوصا وخصيصا لمؤازرة أبراهام السرفاتي ورفاقه..صورة الأستاذ المجدلاني تأبى أن تفارقني... فوجوده آنذاك أحدث مفارقة غريبة حيث أن صناع الاتهام ومبدعي صكه لوحوا أكثر من مرة بعبارة الصهيونية وكان مجرد وجود الأستاذ المجدلاني، حتى دون نبس ولو كلمة في الموضوع، شرط كفاية لإظهار الأكذوبة والكشف عن البهتان...وكم بدا المنظر كاريكاتوريا بالنسبة للبعض ومخجلا بالنسبة للبعض الآخر...اتضحت اللعبة وانكشفت المهزلة واتضحت خيوط المسرحية الروتينية التي طالما تكررت آنذاك والتي كان دائما عنوانها: المحاكمة الصورية.
..مرت المحاكمة وهذه قضية تستحق وقفة خاصة بها.
إذن كانت آخر جلسة..ميعاد النطق بالحكم. كانت القاعة غاصة بالحضور..كانت تغص بالأقلام، بالقلوب، بالعيون، أقلام تنتظر القرار للإخبار والتوثيق، وقلوب تأمل الرحمة وعيون لا تبالي منتظرة لأن اللعبة كانت واضحة والأمر أصبح روتينيا.
وسط تلك الأقلام والقلوب...كانت صدور الجالسين في قفص للاتهام ( والقاعة كانت قفصا للاتهام نظرا لكثرتهم) مفتوحة لتلقي أية طعنة انتقامية لأنهم حولوا وغيروا المواقع، فحاكموا من أرادوا أن يحاكموهم، ولم يبق أمام هؤلاء المهزومين إلا السعي وراء طي الملف بسرعة وإحالة القضية على النسيان آملين تفتير الزمن الفائر داخليا وخارجيا آنذاك.
في هذا الجو عرفت كذلك أبراهام السرفاتي عن قرب وكانت معرفتي به قد زادت بزنزانة السجن
فعلاوة على روح النضالية العالية وتضحياته ونكران الذات وتعاليه عن المساومة وتقززه من الانتهازية والاستغلال ـ فهذا قد دونه له التاريخ.. وما لفت انتباهي هو توفره على موهبة تعبيرية أصيلة قائمة على أساس فطري، وإصراره القوي على تنميتها بالتعليم والتحصيل والبحث والتنقيب المتواصلين، وهذا ما مكنه من التعبير عن ذاته وأفكاره وقناعاته تعبيرا صادقا، لا لف فيه ولا دوران.
فخلال المدة التي قضيتها بجانبه وبرفقته لاحظت غرامه وشغفه بالرحلة في سبر أغوار الغامض للوصول إلى الحقيقة لأنه كان دائم اليقين أن الحقيقة توضح وتكشف تلاعب المتلاعبين وانتهازية الانتهازيين سواء في السر أو العلانية.
فلم تكن قوة تعبيره قائمة على بريق الكلمات ونماقة العبارات، بل تكمن في قوة إيمانه بمدلول الكلمات وما وراء المدلول، وتصميمه الحاسم على تحويل الكلمة المنطوقة أو المكتوبة إلى حركة حية، والمعنى المعبر عنه إلى واقع ملموس للمساهمة في الدفع بالواقع إلى الأمام، ما زلت أذكر عبارة كانت عزيزة عليه، ما زالت عالقة بذهني:" الكلمة التي تفجر العقل " وكان ينطقها بالإنجليزية بعبارة واحدة.
إن معاشرتي له جعلتني أعاين عن قرب لين قلبه ودرجة تواضعه إلى اعتبار نفسه دائما أصغر مقاما من الآخرين وأقل منهم، فقد كان يعفو عن الإساءة المعنوية أو المادية وهو قادر كل القدرة على ردها، ويكفيه استغلالها لحث المسيء في حقه لإعادة التفكير والمراجعة الذاتية وغالبا ما كانت تلك الإساءة منطلقا للسعي بالنسبة للمسيء وراء التقرب أكثر من أبراهام.
لقد كان بسيطا في مظهره عميقا في أفكاره وبعيد المدى في مراميه. فما زالت صورته مطبوعة في مخيلتي ونحن نتأهب كل مساء لولوج الزنازن الفردية بالسجن المركزي بالقنيطرة وهو يسرع في إلقاء نكتة أو حدوثة أو ذكرى من ذكرياته..كما أنني ما زلت أتذكر خطه بالحروف اللاتينية والذي كان يرهقني ويقلقني لصغر حجمه وتداخل حروفه فيما بينها كأنها صف نمل يرى من بعيد خلافا لما كان عليه خطه بالعربية واضحا بحروف أكبر حجما بكثير من حروف خطه بالحروف اللاتينية.
لقد عرفته لا يطيق صور الحرمان والتخلف الاجتماعي والثقافي والظلم وفساد القوانين مهما اختلفت أنواعها ومهما تباينت أساليبها وغاياتها، مما جعل استمرارية البحث والتنقيب عادته الدائمة. إنه مغرم بالقراءة وتجذير الأفكار عبر مقارعته بالواقع، كنت أقضي الليالي في سؤال عن قضية شغلتني كثيرا وهي: تاريخ ووضعية اليهود المغاربة، وسأحاول تذكر ما قطفت من شجرة عرفانه بالموضوع.
وأول ما أشير إليه هو دحضه للاعتقاد الذي ظل سائدا لمدة والمتعلق بكون الصهيونية ، ظاهرة مرتبطة بالعنصر الديني فقط، وقد بين لي ذلك عندما حدثتني طويلا عن وضعية اليهود المغاربة في الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي ، زمن ازدهار الجماعات اليهودية ، وحيويتها محبكا وصفه بأمثلة عن أجواء حفلات ملاح " فاس والرباط وسلا وصفرو ومدن عريقة أخرى ، وتعايش اليهود المغاربة ضمن قبائل الأطلس والجنوب وذلك بالرغم من دسائس الاستعمار الرامية إلى التفرقة ، والتي لم توفر أي جهد على امتداد قرن من الزمن.
كما حدثني بإسهاب ذات ليلة عن الكذبة الاستعمارية والصهيونية والكذابين الذين تشبثوا بأهدابهما، وأطلعني على مضامين مؤلفات " أندري شوراقي" الكاتب العام للرابطة الإسرائيلية العالمية، والذي اهتم بدراسة يهود شمال إفريقيا ومن ضمنهم اليهود المغاربة. وفي مجرى حديثه لفت اهتمامي إلى حدث كنت أجهله آنذاك وهو الدور الذي قام به " أ. شوراقي" المذكور في تمكين الجريدة الصهيونية " نوار" الصادرة آنذاك، من تسميم عقول الشباب المغاربة اليهود في الفترة الممتدة من 1945 إلى 1952.
كان أبراهام يسهب في الحديث عن روح التعايش والتواصل والتفاهم العضوي التي سادت بين اليهود والمسلمين المغاربة في المجتمع البدوي في سوس والأطلس الكبير وتافيلالت . وبين الفينة والأخرى كان يقف عند بعض المحطات المعبرة كتوضيح مثلا " صلاة بيصاح" وكيف تم استغلالها من طرف الصهاينة أو حديثه المسهب عن "رسول " من " رسل" الصهيونية وأحد أبرز مؤطريها بالمغرب آنذاك " بروسبير كوهن" الذي دعا اليهود للتخلي عن الأمل في المسيح والبشرية.
كما حدثني كذلك عن مساهمة اليهود المغاربة الحرفيين في تسليح جنود عبد الكريم الخطابي.
وكانت أحاديثه مجتمعة حول هذه القضية تبين أن الرأسمالية الأوربية، عندما ولجت المرحلة الإمبريالية منذ فكرت في السيطرة على العالم العربي راهنت على بث التفرقة بين اليهود والمسلمين، مع تعزيز هذا البيان بأمثلة وأحداث تاريخية كثيرة مازلت أذكر بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر: في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عمل الاستعمار على تنظيم وإرساء دعائم التفرقة بمنح دور هام لأكبر المصرفيين اليهود ( أصحاب الأبناك). ألم يؤسس " آدموند دو رولتشيد" أول مؤسسة استعمارية بفلسطين مع إحياء بصيغة عصرية جديدة، ترحيل الرقيق بالقيام ب " استيراد" 5000 يهودي من روسيا آنذاك، وبتمويل تأسيس أول المؤسسات التعليمية التي أحدثتها الرابطة الإسرائيلية العالمية بحوض البحر الأبيض المتوسط ( خصوصا بالمغرب).
وأختم ذكرى لحظاتي مع أبراهام السرفاتي بحديثه لي عن " النخبة " اليهودية بالمغرب. لقد بين لي أنه تم استئصال جذور هذه الفئة من واقعها المغربي منذ البداية وذلك بدمجها عبر نمط عيشها وربط مصالحها بالثقافة الغربية، لذا فإنها لم تستطع بلورة أي تصور " وطني" فعلي لجماهير اليهود المغاربة بل وجهتها في اتجاه واحد، أحادي النظرة: الصهيونية، لاسيما وأنه في ظل بنية اجتماعية طبعت بالانعزال الثقافي استفردت " النخبة" لوحدها بالتأثير على جموع اليهود المغاربة، فحتى اليهود المغاربة الذين ساهموا فعليا في حركة الكفاح الوطني لم يواجهوا تلك " النخبة " وتركوا جماهير اليهود المغاربة معرضين لتأثيراتها، ودام هذا الحال أزيد من ربع قرن إلى أن توصلت " النخبة" إلى مبتغاها، وأدى ذلك إلى النتائج التي يعرفها الجميع في بداية الستينات.
هذه بعض الذكريات مع أبراهام السرفاتي، جزء من كل، أتمنى أن يسعفني القلم على تدوين مجملها.