|
رحلة إلى الجنة المؤنفلة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1885 - 2007 / 4 / 14 - 08:11
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
1 باليسان 1987 . إنه إسمُ مكان وتاريخه ؛ إسمٌ مجهول تقريباً ، مع ما تصرّف عنه من مقدمة لأحد أكثر الأفعال همجية ً ، في تاريخنا المعاصر : مكانٌ مسحورٌ ، كرديّ في نسبه ؛ وزمنٌ مدحورٌ ، عروبيّ النسب . من هنا إذاً ، أبتدِهَتْ حملة " الأنفال " ، سيئة الصيت ، التي شاءَ التكريتيّ وإبن عمه ، الكيماويّ ، أن تكون فاتحة إبادة عنصرية ، شاملة ، متسترة تحت جنح ظلمة الحرب مع إيران . هنا أيضاً ، أضحى أحدُ العلوم ، الأكثر إيثاراً في عصر الحضارة الإسلامية ، لقباً لمجرم عتيّ ، شبه أمّي . وكذا هوَ أمرُ إحدى السور القرآنية ، الكريمة ، التي جعلها المستبدّ المسوخُ عنواناً للحملة تلك ، المنتمية لعصر التوحّش البشريّ . من سورة الأنفال إلى سورة الكيمياء ، مرّ التاريخُ عاصفاً على سيرة أسلاف الكاردوخ ؛ أهلُ الجبل الكريم ، هذا . ما كان لوليّ الأمر ـ كذا ، أن يتبصّر آنذاك في مدى أفعاله الإجرامية ، وما يمكن أن تعكسه على مستقبل العلاقات بين الشعبيْن ، الجارَيْن ، في موطن الرافدين . ولكن بحسب معتقد الصوفية ، فالله لا يتخذ ولياً جاهلاً ، إلا عبرة ً حسب . لذلك ما كان للطاغية ـ على ما هوَ عليه آنئذٍ من جهالة ، موصوفة ـ سوى أن يحسبنّ الزمنَ وقد تسمّر في موضع مقبرته ، الجماعية : ما كان يخطر لغروره قط ، أنّ الزمن سيدور في دورته ، المعتادة ، مبتزغاً منه الربيع القيامة ؛ وأنّ ذلك الموضع القبر ، تحديداً ، سيصير لاحقا مستقرَ مصير نظامه المستبد ، المحتوم .
2 إتفاقا ولا ريب ، قدّر لسعود حظي أن يكون الربيعُ موعداً لرحلتي الأولى ، الكردستانية . كان ذلك في نيسان ، من العام الفائت ؛ الشهر الموافق لإنتهاء رأس السنة الكردية ، والمصاقب لمبتدأ السنة الرافدية ؛ الشهر البهيّ ، الجامع لأعياد العراقيين على إختلاف مللهم ونحلهم ، وخصوصاً عيد تحرير بلادهم من حكم الطاغية في التاسع منه . من شرفة حجرتي ، الحجرية المزخرفة ، في فندق " برج أربيل " ، كان يمكن بيسر إجتلاء مشهد القلعة ، المهيبة ، المتركنة على أعلى هضبة في عاصمة الإقليم . إنه مشهدٌ رائع ، خصوصاً في بكورة الفجر ، حينما تشعل شمسُ كردستان ، الألقة ، الألوانَ المستلقية في رخاء خضرة منحدر تلك الهضبة ؛ ألوانَ زهور الشقائق ، الحمر ، المكتنفة بأصفر النرجس وأبيض الزنبق . الهضبة نفسها ، كان لا بدّ أن تذكرني بالجبال العصية ، التي أسحقتْ بعيداً ، والمترائية على كل حال من شرفتي ـ كغيمات تائهة . في اليوم الثالث لحلولي هنا ، كانت مصادفة لقائنا بأحد الفنانين الكرد ، السوريين ، فرصة ثمينة لا تفوّت ، للخوض عبرَ تلك الجبال ، التي أمستْ بالأسطورة أشبه ، على مرّ القرون والحقب . من جهتي ، كنت بأشدّ الشوق إلى إرتياد الطبيعة البكر ، هرباً من كآبة " أربيل " ؛ أو " هَولير " ، كما يدعوها السكان : إنها العاصمة العشوائية الطابع ، الأقرب صفة ً للقرية الكبيرة منها للمدينة . إنها علاوة على ذلك ، مكان منذورٌ للمحافظة والتزمت والعقلية العشائرية ، عموماً . ومنظر " أربيل " ينطبق عليه وصف إبن جبير ، الرحالة الأندلسي من القرن الثاني عشر للميلاد ، حينما كتب في تذكرته عن إحدى شقيقاتها ، الكرديات : " وأما المدينة فللبداوة بها إعتناء ، وللحضارة عنها إستغناء ، لا سور يحصّنها ، ولا دور أنيقة البناء تحسّنها ، قد ضحيتْ في صحرائها كأنها عوذة لبطحائها " .
3 إلتقينا إذاً بالفنان سعيد غاباري ، المطرب المعروف من كردستان سورية ، وكان خارجاً للتوّ من مبنى " قصر الفن " ؛ أحد الصروح الثقافية ، المميزة ، في عاصمة الإقليم . مطربنا هذا ، كان وقتذاك يعمل في فضائية التلفزيون المحليّ ، مقدماً لبرنامج فلكلوريّ ، غنائيّ ، ذي شعبية مشهودة في عموم البلاد . إنّ شعبيته مدهشة بحق ، ولحظتها بنفسي خلال الطريق الطويل ، الجبليّ ، حينما كان الأهالي ـ بما فيهم عناصر " البيشمرغة " ، على الحواجز الحصينة ـ يوقفون سيارتنا للطلب من الفنان إلتقاط صور تذكارية معه . فضلاً عن موهبته الفنية ، كان الرجلُ شخصاً ودود المعشر ، ذكيّ الفؤاد ، تكاد لا تشعر بصحبته أنه محروم من حاسّة البصر . أصرّ فناننا على دعوتي إلى الغداء في مطعم ، قال عنه أنه أجود من يقدّم وجبة الشواء على الفحم . أخذنا حديث التعارف بعيداً إلى الوطن ، لأنتبه على حين فجأة أننا نتوغل خارج المدينة ، على الاوتستراد الحديث المؤدي إلى " مصيف صلاح الدين " . كان لديّ في كافيتريا الفندق ، الأربيلي ، موعد ضروريّ مع صديق من الكتاب . ولكن هيهات أن تجدَ أذناً صاغية : " قربان ! أعطني رقم صديقك هذا ، وسأعتذر له بنفسي نيابة عنك " ، خاطبني " الغاباري " فيما أصابعه تعبث بجهاز الخليوي ، منتظراً الرقم المطلوب . عرفتُ من السائق المرح ، وكان إيزيدياً من أهالي بلدة " سنجار " ، أننا في الطريق إلى " شقلاوة " ، التي تبعد قرابة الساعة عن عاصمة الإقليم .
4 ما أن إجتزنا " المصيف " ، حتى راحت مركبتنا الصغيرة في الصعود هوناً ، متسلقة الطريق الجبلية ، الشديدة الوعورة . كان الوقت ظهيرة يوم مشمس ، والطبيعة معيّدة حولنا . في هذا الصحو الدافيء ، تدفقت على مرّ البصر صورُ القرى المتناثرة في سفوح الوديان أو على الاكام الحالقة . هنا وهناك ، كانت البيوت جميعاً حديثة العهد بالبناء نسبياً ، مشغولة بقطع الطوب أو البلوك الإسمنتي . فيما الدروب إسفلتية ، غالباً . ولا تخلو أي قرية من مسجد دقيق الحجم ، ذي مأذنة نحيلة . لون مساجد تلك القرى وطرازها المعماري ، ينبينا بأنه ثمة شركة ما ـ قيل أنها خليجية ـ تتعهد بناءها في عموم الإقليم : من هنا إذاً ، مرّت سورة " الأنفال " ، البعثية ، على جثث الأهلين وبيوتهم وحقولهم وينابيعهم .. ومساجدهم أيضاً ! فالقرى كلها ، بلا إستثناء ، تمت تسويتها بالأرض في تلك الحملة ، المسعورة ؛ وهيَ ذي تنهضُ من جديد مع ذكرياتها . ما أن أشرفنا على " شقلاوة " ، حتى بدأت عربتنا رحلة إنحدار حادة على الطريق الجبلية تلك . تقع البلدة في جيرة جبل ضئيل القامة ، إذا ما قورن بالجيران الجبابرة ، المحدقين بها من كل جانب ؛ وأعني بذلك سلسلة جبال " سبيلك " ، ويليها " قنديل " . كأنما هذه البلدة ، الساحرة ، مرآة أرضية للجنة الربانية ؛ بما تحتبيه ربوعها من خضرة وفاكهة وعيون دافقة ومناظر خلابة وفتيات حسناوات . ويبدو أنّ تجنب رجال " البيشمرغة " الإقتراب من القصبات الكبيرة ، كان سبباً في نجاة " شقلاوة " وأشباهها ، من مصير المناطق المجاورة ، المؤنفلة في حملة النظام البعثي ، البائد ، عامَيْ 1987 ـ 1988 ؛ وخاصة قرى ناحية " باليسان " ، التي كانت أولى ضحايا القصف الكيماوي ، الأرعن . تسمية البلدة هذه ، مشتقة كما أعلموني هنا ، من الكلمة الكردية ، المركبة " شه قه ل ـ آوه " ؛ وتعني : المبنية من حزم القش . ولا أدري سبباً لبناء البيوت من القش أو الدك ، ما دامت الأحجار والصخور متناثرة في كل مكان ؟ وحتى بعدما إنجلى عهدُ العفالقة ، الأسود ، وباتت كردستان في قبضة أصحابها ، فإن بناء القرى المنكوبة ، المؤنفلة ، ما فتيء يتمّ إعتباطاً ، غالباً ، ومن تلك المواد الرخصة ، البدائية .
5 " شقلاوة " القديمة تلك ، أضحتْ مكاناً سياحياً ، بحق . إنه مكان للذكرى ، أيضاً ؛ بما أنّ المنازل العتيقة ، التقليدية ، قد أمست عملة نادرة في كردستان ، حالياً ، إثرَ عمليات " الأنفال " ، سالفة الذكر . كان أغلبُ ساكني هذه البلدة ، القديمة ، من المسيحيين الكاثوليك ( الكلدان ) ؛ ولكنهم باتوا قلة فيها ، مع إضطراد هجرتهم إلى الخارج في سنوات الحكم الصدامي ، خصوصاً . وقد صدف أن كان أحدهم جاراً لي في الطائرة المقلعة من مطار " أربيل " . لحظتُ أنه رسمَ علامة الصليب ، حالما أقلعت طائرتنا ، ولذلك بادرتُ بمخاطبته بالعربية . ولكنه ، لدهشتي ، ردّ عليّ بأنه لا يجيد سوى اللغة الكردية . وراح يحدثني بلهجته ، الصورانية ، لأعلم منه أنه يقيم في " سودرتالية " ؛ على مشارف العاصمة السويدية ، والتي يمتلك فيها مطعماً صغيراً . وعودة إلى بلدته الساحرة تلك ، لأقول أنها ذكرتني بالريف الدمشقيّ ، المزدهر ؛ وخاصة بلدة " الزبداني " ، التي تنحدر منها أسرة جدتي لأبي ، العربية . كذلك فهيَ تشبه في نواح عدة ما رأيته ، مرة ً ، في بلدات الريف الفرنسي : جاداتٌ متطاولة ، منحدرة رأساً من سفوح الوديان ـ كأخاديد سيل عرمرم ؛ منازل جميلة ، متباعدة عن بعضها البعض ، تشتركُ في أنه لكل منها كرمة عنب تتسلق دقرانها الخشبيّ أو الحديديّ ، ويربط فيما بينها حدائق وبساتين وحقول ، ضاجة جميعاً بالتعريشات والورود والشجر المثمر ؛ مطاعم ومقاه ، شاءت الإستلقاء في رطابة الأماكن الأكثر علواً ، حيث ينبسط تحتها المشهد الأخاذ للوادي كله ، وما يكتنفه من غابات حرجية وجبال شاهقة . ها هنا حط المضيفُ ، الفنانُ " الغاباري " ، بنا الرحالَ . كان المطعمُ بسيطاً في بنائه ، مع إتساع في مساحته وتنوع في تقسيماته . ما كان الوقت حاراً بعد ، ولذلك حجزوا لنا طاولة في القسم الداخلي ، بإزاء نافذة تطلّ على الوادي الرائع ، المحتضن ما تيسّر من محال مأهولة وفيلات خاصة . في هذا الوقت من الظهيرة ، تصطبغ الجبالُ بلون بنيّ ، مائل إلى البرتقاليّ ؛ لون ، كان أثيراً لدى " سيزان " ، الرسام الفرنسي ، الإنطباعي . ثمة في المطعم ، تسنى لي متعة مذاق الكباب الكرديّ ، الأشهى ، فضلاً عن سلطته العجيبة ، الملغزة . وما كان يفتحُ النفسَ والشهية ، وجودُ الحسناوات من حولنا ـ أو بالأصح ، من حول مطربنا ، الضرير ! خرجنا بعدئذٍ إلى القسم الخارجيّ ، منزلقين على درج حجريّ كان مزيناً بآنيات فخارية ، متخمة بأزهار فصل الصيف ، الزاحف حثيثاً . أدهشتني مصادفة عرائش الياسمين ، بنوعيْه الأبيض والأصفر ، وكذلك أشجار الأكيدنيا والتوت الشاميّ ، ذات الثمر الشهيّ ، المتناهض سريعاً للنضوج . كروم العنب والتين والرمان ، الوارفة ، تغطي مساحات هائلة في السفوح ، المترامية تحتنا على مدّ البصر . جاؤنا بالشاي ، إلى جلستنا هذه . إستمتعتُ بمذاقه ، بالرغم من حنيني لقدح من العرق مع المشاوي اللذيذة تلك : فالتقاليد العشائرية ، الصارمة نوعاً ، ما زالت تتحكم بمزاج الناس وأهوائهم هنا ؛ في هذا الفردوس ، المستغني عن نهر الخمرة !
للرحلة صلة ..
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدبُ البيوت
-
مناحة من أجل حكامنا
-
حليم والسينما
-
كنتُ رئيساً للكتاب العرب
-
السينما المصريّة وصناعة الأوهام
-
شاعر الملايين : ثلاثة مرشحين للجائزة
-
كمال جنبلاط والتراجيديا الكردية
-
من معالم السينما المصرية : نهر الحب
-
نائبان ومجزرتان
-
نائبان وجزرتان
-
ثلاثة أيام بصحبة الحسناوي
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 2 / 2
-
حكايتي مع الحجاب
-
صورة وبقرة وقمر
-
كلمتان أمامَ ضريح الحريري
-
أمّ كلثوم ، مُطهَّرة أمْ مَحظيّة ؟
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 1 / 2
-
دايلُ القاريء إلى القتلة / 1
-
دليلُ القاريء إلى القتلة / 1
-
الكوكبُ والشّهاب : أمّ كلثوم في حكايَة كرديّة
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|