(1)
روى لورد ديننج ، فى واحدة من مقارباته الفقهيَّة الثاقبة لإشكالية التمايُز بين مفهومى (القانون) و(العدالة) ، أن كبير أساقفة كنتربرى خاطب قضاة بعض المحاكم فى إنجلترا ، خلال إحدى زياراته لها ، قائلاً: "أنا لا أزعم أننى أفهم الكثير فى القانون ، ولكننى ، بالقطع ، أستطيع أن أدعى أننى أعرف الكثير عن العدالة"!
سطعت ، فجأة ، فى ذاكرتى كلمة الأسقف هذه ، برواية رجل القانون الانجليزى الشهير، وأنا أطالع الخبر الذى أوردته الصحف السودانية ، آخر الأسبوع الماضى ، عن متهم أدانته محكمة جنايات الخرطوم شمال فى جريمة اصطياد (أرنب برىٍّ وقمريَّتيْن) بغير رخصة) ، وقضت من ثمَّ بتغريمه نصف مليون جنيه مع مصادرة الأرنب والطائرين (الأيام، 7/8/03).
(2)
حسناً! يلزمنا ، ابتداءً ، الاقرار ، من جهة ، بأن حماية الحياة البريَّة تقع ضمن مسئوليات الدولة ، وأنها قد سنت ، حتى الآن ، من القوانين ، وعيَّنت من الأجهزة الشرطية ، ما يكفل هذه الحماية بالحدِّ المعقول ، بل إن المجتمع المدنى قد خصَّص إحدى منظماته المرموقة ـ جمعية حماية البيئة ـ لتأكيد هذه الحماية ، وضمانها ، ونشر ثقافتها. كما يلزمنا أيضاً الاقرار ، من الجهة الأخرى ، بألا تثريب على هذه المحكمة ، أو أيَّة محكمة ، فى أن تمارس عملها المهنى ـ الفنى فى تطبيق ما تجد بين يديها من قوانين رتبها المشرِّع لمعالجة الوقائع المعروضة أمامها. ومن نافلة القول أنه ليس لها أن تمتنع عن نظر قضية عُرضت أمامها ، كبرت أم صغرت ، فليس هذا شأنها.
وإذا كنا ننتمى إلى مدرسة ترى ، بوجه عام ، أن عمل المحاكم فى تطبيق (القانون) ينبغى أن يستهدف إقامة (العدل) ، بدءاً ومُنتهى ، وإلا تحوَّل إلى ممارسة شكلية خالية من القيمة المعيارية ، فإن الحالة التى نحن بصددها هنا ، على وجه التحديد ، قد لا تمثل نموذجاً مناسباً لاختبار مدى سداد هذا النظر فى مضمون الممارسة القضائية.
وإذن ، فلا عمل المُشرِّع فى سنِّ (القوانين) ، ولا عمل القضاء فى تطبيقها ، هو مدار تعليقنا هنا على واقعة الأرنب والطائرين ، بل مداره هو مدى الالتزام (بالعدل) فى أداء المؤسسة الحاكمة نفسها ، مِمَّا يلى جهازها التنفيذى (الحكومة) ، تحديداً ، بما فى ذلك تحريك الاجراءات الجنائية لصون (الحق العام) ، وهو عمل تتولاه عنها النيابة العامة التى يقوم على رأسها وزير متخصِّص يُعتبر من أوجب واجباته التأكد من بسط سيادة حكم القانون على المجتمع كله دون تمييز بين كبير وصغير ، أو قوىٍّ وضعيف ، أو حاكم ومحكوم.
(3)
ومع أن أهم وجه للتمايز بين مفهومى (القانون) و(العدل) قائم فى كون (القانون) كمؤسسة إجتماعية ، أى كشكل تاريخى مشروط بأسلوب الانتاج فى المجتمع المعين ، وبطابع العلاقات بين مختلف طبقاته وفئاته وشرائحه ، يمثل أداة ضبط سلطانية تتنزل على الناس دونما اعتبار ، فى الغالب ، لإرادتهم ، ويتوقف قبول المحكومين به واحترامهم له على القدر الذى تنضبط لديهم به معادلة (الحق والواجب) ، بينما (العدل) نزوع أصيل تشيعه الفطرة السليمة فى العقل والضمير الإنسانيين ، إلا أن هذين المفهومين يتماهيان مع ذلك ، إلى أقصى حد ، فى الذهنيَّة الشعبيَّة العامة المشغولة بمطلوباتها المباشرة لدى مؤسسة الحكم التنفيذية ، بحيث يصبح الوفاء ، أو عدم الوفاء ، باستحقاقات هذا التماهى هو معيار الصلاح أو الفساد ، العدل أو الظلم ، لدى هذه الذهنية المنفعلة ، أصلاً ، بهذه الفطرة السليمة التى هى خصيصة ملازمة لبنى آدم ، كلِّ بنى آدم ، منذ ابتداء الخلق والتكوين وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، فما بالك بمنظومة المبادئ والمُثل والقيم العقدية التى اكتملت ، فوق ذلك ، للمسلمين من بنى آدم بالرسالة الخاتمة؟!
(4)
إن المرء ليستطيع أن يجزم صادقاً بأن قراءة ذلك الخبر ، فى ذلك الصباح ، لم تصِب الناس بالدهشة والحيرة ، فحسب ، بل والصدمة أيضاً. فثمة جرائم أعظم أثراً ، وأفدح خطراً، ثار الكلام حولها ردحاً من الزمن ، وتعهَّدت السلطة بالتحقيق فيها وتقديم مرتكبيها للمحاكمة ، ثم ما لبث غبار النسيان أن أهيل عليها ، افتراضاً لذاكرة جمعية خربة ، وهذا أوَّل الوهن! فإن لم يكن ثمَّة تثريب على القضاء أن يفصل ، مهنياً ، فى قضية (أرنب وقمْريَّتيْن) ، فلا تثريب على الناس أيضاً أن يتساءلوا ، بحق ، عن مصير قضايا كاستيراد محاليل (كور) الفاسدة ، والتجاوزات فى شركة الخرطوم للانشاءات ، ومشروع واحة الخرطوم ، والانهيار المدوِّى لبنك نيما ، وأموال صندوق دعم الولايات التى أودعت فيه للاستثمار ، بينما لا تزال النقابات تجأر بالشكوى من عدم صرف مرتبات المعلمين والموظفين والعمال فى بعض الولايات (بحر الجبل نموذجاً) منذ قرابة العشر سنوات ، وإلى ذلك العطاءات الجديدة المطروحة للاستثمار فى طريق الانقاذ الغربى قبل أن تتضح الرؤية فى أمر التسوية التى أبرمت مع المرحوم آدم يعقوب وشركة آركورى ، وما أثير فى لجنة الحسبة بالمجلس الوطنى ، منذ حوالى الثلاثة أعوام ، حول عمليات الخصخصة فى كثير من مرافق القطاع العام ، وما تم بشأن التقرير الذى قدمته ، بناءً على طلبها ، اللجنة الفنية للتصرف فى هذه الممتلكات ، حيث تكشف أن إجمالى عائد بيعها للقطاع الخاص الأجنبى والمحلى لم يتجاوز ، حتى عام 2000م ، مبلغ خمسمائة سبعة وخمسين مليون دينار فقط ، فى حين أن المؤسسة العامة للأقطان التى بيعت لبنك المزارع كانت تدر وحدها على الخزينة العامة أرباحاً سنويَّة تفوق ثلاثة أضعاف هذا المبلغ! كما وأن للناس أن يتساءلوا ، عموماً ، عمَّا اتخذ من اجراءات بإزاء جرائم الاعتداء على المال العام فى الوحدات الحكوميَّة المختلفة ، مما ظلت تكشف عنه تقارير المراجع العام فى حدود ما تيسَّرت له مراجعته ، وقد بلغ ، وفق آخر تقرير للعام المالى الماضى ، مبلغ واحد وثمانين مليار جنيه ، يشكل نصيب الجهاز المصرفى منها نسبة تسعة وخمسين بالمائة ، مع العلم بأن التقرير قد تم وضعه بناء على بيانات خمسين بالمائة فقط من الوحدات التى تمت مراجعتها ، ما يعنى أن المبلغ المعتدى عليه قد يفوق المائة وستين مليار جنيه بالتمام والكمال!
(5)
هكذا ، وعلى الرغم من تسليمنا بأهمية حماية البيئة ، إلا أن المجتمع الذى يسلخ السنوات الطوال يلوك ويجتر ويتداول أخبار الفساد فى جهاز الدولة والقطاع المصرفى بهذه الكثافة التى فاحت رائحتها حتى أزكمت الأنوف ، والاعتداء الفظ على المال العام مِمَّن يفترض أنهم قد ائتمنوا عليه ، ويبقى ، مع ذلك ، صابراً يتطلع ، دون كلل ، لرؤية (العدل) متحققاً ، يوماً ما ، بفتح البلاغات ، وإجراء التحريات ، وحصر المتهمين ، وتحويلهم ، بعد ذلك ، للقضاء الجالس فى منصَّته المستقلة كى يقول كلمته الفصل فيهم ، إذ ليس من شأنه القيام بالاجراءات السابقة على ذلك ، ثم لا يصبح هذا المجتمع ، بعد كل هذا الصبر والانتظار، إلا على خبر يتيم عن قضية صيد غير قانونى (لأرنب وقمريَّتيْن) بناءً على شكوى من شرطة الحياة البريَّة ، فإن ميزان (العدل) يرتجُّ ، بلا شكٍّ ، ارتجاجاً عنيفاً فى ذهنه ووجدانه الجمعيَّيْن ، بحيث لا يعود ثمة حق لدى القائمين بالأمر فى مطالبته بالاستمرار فى الثقة بجدارتهم ، وهو الذى يستهدى مستعربوه المسلمون ، بالأخص ، علاوة على الفطرة السليمة ، بالحديث الشريف: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
(6)
لقد أهرق حبر كثير فى تفسير سلطة الحق عند على بن أى طالب ، مثلاً ، بسداد تعويله على مفهوم (العدل) فى أفقه الاجتماعى ، لا الفردى ، وقد تزامن توليه الأمر مع ظهور فئة راكمت ثرواتها من ظهر بيت المال ، إما عن استقواءً بسلطة ، أو تنطع بسابقة ، أو توسُّل بقرابة ، فصعد المنبر ، فى اليوم التالى من بيعته ، متوعِّداً بأن ذلك أجمعه "مردود فى بيت المال .. ولو وجدته فرِّق فى البلدان لرددته ، فإن فى العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق .. ألا يقولن رجال منكم غداً ـ وقد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار ، وفجروا الأنهار ، وركبوا الخيل ، واتخذوا الوصائف المرققة ـ إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه .. : حرمنا ابن أبى طالب حقوقنا .. ألا وأيُّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه بصحبته فإن الفضل غداً عند الله ، وثوابه وأجره على الله". وكتب إلى مالك الأشتر النخعى حين ولاه على مصر: "واعلم أن الرعيَّة طبقات .. لكل على الوالى حق بقدر ما يصلحه ، وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق ، والصبر عليه فيما خفَّ عليه أو ثقل". ويمكن لمن أراد استفاضة أن يراجع (نهج البلاغة).
(7)
أما بعد ، فلتقبضوا على (الأفيال) و(الغيلان) و(الضوارى) من نهَّابى مال الشعب وأقوات الفقراء ، وأدوية الأطفال ، وتقدِّموهم للقضاء ، قبل أن تشغلوا أنفسكم بمطاردة صائدى (الأرانب) و(القمارى) .. يرحمكم الله!
(إنتهى)