|
الطريق إلى عدن
عبدالكريم كاصد
الحوار المتمدن-العدد: 1883 - 2007 / 4 / 12 - 11:57
المحور:
سيرة ذاتية
لم يكن الطريق إلى عدن آمناً حملت أمتعتي وتوجّهت برفقة مودعيّ إلى مبنى لأعلن لشرطته أنّ إقامتي في بلدهم غير شرعيةٍ ، لكن بدلاً من إيداعي في التوقيف طلبوا مني الحضور في وقتٍ آخر لانشغالهم . رجعتُ إلى مودعيّ معتذراً راجياً منهم ألاّ يقيموا حفلة توديعٍ لي ثانيةً . تكرر المشهد في اليوم التالي ولكن بخاتمة سعيدة : إيداعي في السجن حاملاً معي هويتي الجديدة : يمني ، وتذكرة سفري ، بل أن رجال الأمن أسرفوا في كرمهم إذ وضعوا الأغلال في يديّ وأنا في طريقي إلى السجن شخصاً آخر: مواطن يمنيّ قدم إلى بلدهم عبر البحر، في مركبٍ، قبل سنين وأقام فيها وعمل ، بشكل غير قانونيّ ، وها هو الآن لديه ما يثبت ذلك . هاهي وثيقته ، وهاهي تذكرة سفره ، وكلّ ما يطلبه هو العودة إلى بلده : اليمن . كان السجن أو التوقيف أو ما شئت أن تطلق عليه من أسماء سوراً عالياً في صحراء لا يعبرها غير غيوم الرمل ، وفي جانب أو جانبين منه ثمة غرف بلا أبواب .. غرف مظلمة رغم وهج الشمس ، غير أن السجناء نادراً ما يأوون إليها متكدسين بالمئات في باحته الواسعة أفواجاً يجيئون ويذهبون ... أقوام شتى : عرب ، إيرانيون ومن قوميات أخرى .. يستيقظون صباحاً على وقع عصيّ تعدّهم كالخراف وحين يخطئ شرطيّ في العدّ يتكرر وقع العصيّ . نظام دقيق سرعان ما يتحوّل إلى فوضى عارمة بعد العدّ ، وشجاراً عند الظهيرة حين يصل العدس .. كل يوم .. كأنه جزء من نظام كونيّ لا يعرف خرقاً حتّى في فوضاه المكرورة .. المنضبطة التي تستحيل عراكاً مكروراً له قوانينه أيضاً . ثلاث ( صواني ) من العدس أو أربع لمئات الموقوفين .. في بلدٍ يشكو من غناه لا فقره. لم أقترب منها يوماً واكتفيت بنظامي الخاص : أكل الدجاج المشويّ كلّ يوم بعد أن تأتي طلائع المقاولين إلى الباحة صائحين لتسجيل من يرغب في دجاجهم المشويّ . دعوتُ يوماً صعيدياً جاء هارباً مثلي من العراق عبر الصحراء أن يشاركني مائدتي فاعتذروهو الجائع بحياء لم تتخله كبرياء ، بل وداعة وامتنان :
لم يعرف غير العدس المرّ وجلبابَ الرحلة في الصحراء يدور مع الظلّ وفي آخرة الليل تطالعهُ الغرفة يسكنها عشرةُ مصريّين اُقتيدوا في باصٍ مكشوفٍ " متولّي " الجائعْ ينهض حين ينام الحشد وحيداً مثل عصاً في جلباب الرحلة ملتحفاً يطّانيته السوداء يحدّق في الظملة كالفزّاعة، منتظراً طائرَه الضائعْ
وفي المساء يذرع السجناء الباحة يقطعون مئات الكيلومترات فيها غادين رائحين يحملون كاسيتاتهم الضاجة ، ويتلقفون أسماءهم كالخبز حين يُنادى عليهم من باب السجن الصغير لاستلام ما يجلبه معارفهم إليهم من أشياء . أحياناً يفد المئات من الإيرانيين دفعة واحدةً ، ليملأوا باحة السجن فلا محط لقدمٍ : يخلعون ثيابهم القديمة ليرتدوا الثياب الجديدة ، وسط ضحك الموقوفين وتعليقاتهم ، منتظرين تسفيرهم إلى بلدهم الذي جاءوا منه وهم محمّلون بالهدايا . كانوا يأتون في مراكب تقذفهم قريباً من الساحل فيصلونه سباحةً حاملين في أيديهم المرفوعة الطالعة من الماء صررَ ثيابهم . وقد تفاجئهم دوريات الشرطة بأنوارها الكاشفة التي تسمّرهم كأسماك ميتة فيجلبونهم ، شباباً وكهولاً ، إلى هذا السجن الصحراوي ، لكنهم لا يكترثون . قال لي أحدهم ضاحكاً : " سنرجع ثانيةً " . ما أثار استغرابي في هذا السجن هو وجود عراقيّ دائم يتنزّه في باحته وكأنه يتنزه في باحة بيته بدشداشته البيضاء ، وحركاته الأنثوية وألفته مع المكان والعاملين فيه من شرطة ورجال أمن وصوته المزغرد وفرحه المعلن كلّ لحظةٍ طوال النهار، عبر تعليقاته الضاجة ومزاحه البغيض . اتخذ له غرفة من غرف السجن يدخلها ويخرج منها وكأنه عريس أو عروس أو الاثنان معا. نُقلنا ، بعد أيام ، إلى سجن المطار الذي أمضينا فيه ليلة مرهقة بسبب أرضيّته الإسمنت التي تجعل الجلوس أو النوم مستحيلاً . وكم كانت دهشتي ونحن في مثل هذا المأزق أن يفقد أحدنا وهو شاب عراقي أعصابه فيهتاج ويضرب باب الزنزانة بقبضتيه ضربا متواصلا محتجاً ، وقد شجعه على فعلته هذه ما أبداه يمنيّ ، هو اليمنيّ الحقيقيّ الوحيد بيننا ، من تأييد واستنكار لوحشة المكان الذي يبدو وكأنه مهجور، فما كان منّي إلا أن وجهت لومي لهذا اليمني البالغ الذكاء في فهم ما قصدت إذ كنت أعني به العراقيّ الشاب الذي سرعان ما هدأ ( كم كان حزني شديداً حين جاءني خبر استشهاده في ما بعد ). وكانت المفاجأة الأخرى حين قدم إلينا شرطيّ وديع مسالم أبدى تعاطفاً مؤثّراً معنا فلم يبخل بجلب الشاي لنا. صباحاً في ردهات المطار ، قبل إقلاع طائرتنا كان هناك متسع للاغتسال والتخلص من اللحى الثقيلة السوداء ، وما التصق بأجسادنا من غبار أيام ماضية فشعرت بخفة حتى أحسست كأنني قادر على الطيران . لعلّ اللحظات التي أمضيتها في الطائرة وأنا أرتشف البيرة هي أجمل اللحظات التي عشتها في حياتي . وصلنا عدن في المساء وكان في استقبالنا أصدقاء حميمون :
عدن الجميلة العينين تنتصب الآن كالساعة الرملية وتسير في زفةٍ من الأحجار
كان الفندق الذي حللت فيه والذي يتوسط عدن غاصّا بالعراقيين المنفيين . باشر الكثير منهم أعمالهم المعتادة : محررو صحف ، عمال مطابع ، موظفون في دوائر مختلفة ، أما أنا فالتحقت بمجلة ( الثقافة الجديدة ) محررا مع محرّرَين يمنيَين آخرَين هما : رضيّة شمشير وسعيد البطاطيّ . باشرت أول عملي بإجراء لقاء مع الدكتور حسين مروة الذي كان في زيارة لعدن ، وندوة شارك فيها صديقي الشاعر السوداني الراحل جيلي عبدالرحمن حول كتاب مروّة (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) الذي اطلعتُ عليه من قبل. اقترح نائب وزير الثقافة أن يُدفع راتبي بالعملة الصعبة لأن ثمة عقوداً خارجية قد تضيع ، فرفضتُ واقنعته بأسباب رفضي ، إذ لم أكن أرغب أن أكون ، كما فعل البعض، استثناءً بين رفاقي المنفيين الذين ارتضوا أن يُعاملوا معاملة اليمنيين . كان لمساءات عدن الجميلة أثرها في نفسي : عطورها التائهة عند البحر ، شبابيكها المرشوشة بالورد ، روائحها الفائحة بأطعمة الباعة الجوالين ، وأغانيها التي بدت لي كلماتها في سباق محموم مع ألحانها . وبدت هذه المساءات ، بعد فترةٍ ، أجمل عند وصول حبيبتي الراحلة التي اقترنت بها هناك وقد رافقني شاهدان : ابن عمها المنفيّ معنا ، وصديقان آخران أحدهما الشاعر العراقي وصديق العمر : مهدي محمد علي ، إلى مكتب شيخ ليس هناك أخف من روحه ومرحه مما أشاع جوّاً من البهجة شاركتنا فيه الطبيعة التي بدت ذلك المساء ندية وهي تستقبلنا بنسائمها الخفيفة وقلائد الفلّ يحملها البائعون الأطفال . ولم تشفّ هذه الأمسيات مثلما شفت في رمضان حيث الناس يسهرون حتى ساعة متأخرة من الليل . ولا أنسى أبداً محلات بيع الأقمشة في عدن بألوانها ورقتها ولمعانها في الضوء الذي استحال نهاراً وسط زحام الناس وانبهار زوجتي المسحورة بالأقمشة المجلوبة من الهند .. كأننا رحالة يهبطون جزراً غريبة نائية وقد زيّنتْ عنقَ حبيبتي قلادةُ الفل . بعد سنة فقط اختفت الامسيات كأنها لم تكن . أين اختفت ؟. هل استحالت ذكرى حقّاً ؟
في رمضان تفتح الشوارع عيونها في الليل وتنام في النهار بعيدة عن الناس
**
يا لبهجة العابر في الليل بين فوانيس الباعة وظلال المارين
في الفندق كان يطالعني يومياً رجل صامت يسير باستقامةٍ ، مرتدياً زيّه الغريب : زيّ ضابطٍ بحريّ .. لا يكلّم أحداً . قيل لي إنه كان ضابطاً بحرياً ثمّ أصيب بالجنون . كيف أنفذ إلى هذه الشخصية ؟ كيف أكلمها أو أنفذ إلى أسرارها ؟ كتبت نصّا طويلا لم يبق منه سوى هذين البيتين المعنونين بـ ( مجنون ) في مجموعتي (وردة البيكاجي ) :
كان ضابطاً بحريّاً وانحسر عنه البحر
وللجنون شواهده الكثيرة في عدن ليس بين الاشخاص وحدهم بل والأحداث أيضاً وإن شئت الأشياء : الرجل الذي يرتدي معطفه السميك في حرّ الصيف القاتل ، البائع الذي اتخذ من عربته الصغيرة بيتاً يملؤه بالأصداف والخرق وفي الأعياد يصبغ عربته وثيابه باللون الأخضر، المرأة العجوز التي تتودد إليك ضاحكةً ، البطاطيّ الشاعر الغارق في أوهامه أبداً ، والذي لا يفارق فمه القات نهاية الأسبوع كأنه الرب ، بعد يومه السابع . يغلق أيامه بهدوء وينام ، حالماً بالرحيل إلى الشمال بعيداً ،غير أنه عاد مخفوراً من الحدود وصفعتان على قفاه ... عاد مجنوناً يذرع مبنى البيكاجي ذاهباً آيباً وكأنه يختصر رحيله بخطواته المتراكمه هذه . جنون أليف ، صامت ، لايؤذي أحداً ، ليس كجنون أحداث عدن العاصفة التي لم تبق على أحدٍ . ولعل أشدّ هذه الشواهد جنوناً هو البيكاجي نفسه .. المبنى الذي سكنته في منطقة التواهي فيما بعد وهو " ينهض وحيداً ، منتصف الليل ، يفرك عينيه ، ويزحف منطوياً كالحوت يشرع عند الصباح شبابيكه ويمرّغ ظهره في الشمس " ويصرخ :
أنا البيكاجي لا أدري أ أنا حجرٌ أم حوتٌ أم إنسان ؟ لي عشراتُ الأبواب ولكن لي بابٌ لا يعرفهُ غيري أنا شاهدةُ الأحياء يمرّون ولا يرونني أنا الوردة الحجريّة من يصدّقني ؟ ونافورةُ الشمس في الظهيرة في عرسي أدعو الغربانْ أتزيّن بالأغصان وأصدح كالبلبل في الشرفة .. كالبلبل .. كالبلبل .. كالبلبل .. أنا البيكاجي
ومثلما غادرني (رمضان) بأمسياته الجميلة غادرتني عدن إلى بقعة قصية من الأرض تاركة لي مملكة مقفرة وليلاً ساكناً يباغتني نهاراً في الشارع :
ليل ساكن ينحني على وحشته كالأحجار يباغتك نهاراً في الشارع أو في باطن حانوتٍ منقرض ورفة جناح أسود متعثّراً بين المنازل والسفن كالأعمى أيها الليل أيها العابر العدنيّ ! قف ! تمرّ هكذا وتمضي قابضاً على مملكتك المقفرة كما تقبض على حجرٍ راحلاً على قدمين حافيتين أيها الليل المكسوّ بالقواقع وخرز البدو أيها المائل على الماء كالمسافرين أيها الراكد ! هل تسمع أحجاري ؟
هذه المملكة المقفرة لم تكن غريبة عنّي تماماً ، فقد عرفتها من قبل ودخلت دهاليزها مرات ، دون أن تكون قادرةً على أسري أبداً .. مرّةً حين استدعاني ، خطأً ، مجلس مغلق ترأسه مسؤول كبير لم يخطر في باله أن ثمة غريباً في الجلسة فكان يصول ويجول ناهراً هذا ومخرساً ذاك بينما أطرقت وجوه مسؤولين آخرين خوفاً أو خشية وهي التي لم أعرف عنها خوفاً أو خشيةً . قلت لنفسي : هاهو المشهد العراقي يتكرّر هنا. وتذكرت أيامي الأولى حين وصلت عدن والتحقت بوزارة الثقافة محرراً في مجلّة الثقافة الجديدة ففاجأني اجتماع يجلس فيه بعض الموظفين والعمال على مكتب نائب وزير الثقافة وهم يمزحون معه ويتطاولون عليه وهو يبتسم راضياً كأنه وسط عائلته دون أن يغضن وجها أو يبسط وجهاً ليتكلّف بساطةً أو يخفي صراعاً دفيناً في النفس ... أين هذا من ذلك المشهد ؟ ماذا أرى ؟ بعد زمن قصير سمعت أن هذا المسؤول الكبير الذي كاد أن يصل إلى رئاسة الوزراء أعدم بتهمة التآمر ... لمن ؟ كم أدخلتني الثقافة الجديدة مداخل مغلقة خرجت منها وأنا أشدّ اكتئاباً ! مرّة جاء وزير ثقافة في جمهورية من جمهوريات الأتحاد السوفييتي السابقة وقدم نفسه أيضاً بصفته رئيس اتحاد الأدباء في بلده ، فطُلب مني أن ألتقيه وأحاوره غير أنني وجدت أجوبته الواثقة متعسّفة في فهم الثقافة والواقعية الاشتراكية التي يرى الادب بدونها جسدا مقطوع الرأس ، فأهملتها ، ولم يدر في خلدي أن هذا الوزير الضيف ، سيلح في رؤية مقابلته منشورة في اللغة العربية مما سبب حرجاً لغيري . كان مبنى المجلة يقابل شقتي الصغيرة أو بالأحرى غرفتي في مبنى البيكاجي الهائل .. وعند الظهيرة قبل الانصراف إلى منازلنا تبدأ سهرة الظهيرة ، أو ظهيرة السهرة - إذا صحّ التعبير- فيقوم بعض الموظفين في الأقسام الأخرى في وزارة الثقافة بالضرب على الدفوف والطبول فإن لم تتوفر فعلى الطاولات لتؤدي ، على إيقاعها ، بعض الموظفات رقصهنّ تتوسطهنّ عادةً عاملة التنظيف أم كرامة الطيبة التي انخرطت بالبكاء عندما ورد إليها أنني من بين القتلى في مجزرة حدثت في مكان بعيد. لم يبق لي ولغيري من المنفيين في عدن غير الانتظار.. انتظار المنافي الأخرى والمصير المجهول الذي نشاغله بطرائف أيامنا العابرة : * القرد ( يسميه اليمنيون صالح الرباح ) الذي ربّاه أحدنا فأخذ يتودّد ويندسّ بإلحاح في حضن ابنته الجميلة ، ما دفعه أن يخرج به في صباح باكر ويرميه قرب الساحل غير أنه ، ويالدهشته ، وجده أمامه حين عاد إلى البيت . * الأخبار الطائرة مثل أوهامنا ومنها خبر مقتل صدام حسين الذي جمع القاصين والدانين في مبنى واحد وعادةً ما يكون مبنى البيكاجي ، فننشغل عن الخبر بما يطرح من أفكار لايمكن أن تمر في ذهنٍ سويّ . قالت منفية وقد بدت على وجهها علامات الحيرة : كيف سينقل أبو علي ( المسؤول الحزبيّ هناك ) هذا الجمع الهائل من المنفيين في الطائرات؟ وردّا على مثل هذا السخف هرع أحدنا يجمع غسيله المعلق أمام الباب وينادي على زوجته يستعجلها الذهاب إلى العراق بطريقة أضحكت الحاضرين . وبالفعل فإن شرّ البلية ما يضحك . * قدم ذات يوم سكرتير الحزب الشيوعي العراقي فأراد أن يقابله الصحفيّ ( فاضل ) الذي يسكن الغرفة المجاورة عارضاً عليه بعض الأسئلة للإجابة عنها ، غير أن السكرتير طلب من ( فاضل ) ، أمام دهشة الأخير ، أن يجيب هو نفسه عن الأسئلة . وحين أجاب عنها عرضها على السكرتير ثانية فقال له أن لاوقت لديه ليقرأها ، وما عليه إلاّ أن يرسلها إلى مجلة الثقافة الجديدة العراقية في بيروت ليراجعها هناك المحرر المسؤول . غير أن المحرر المسؤول لم يراجعها ، كما يبدو ، أو راجعها دون أن يضيف شيئاً ، إذ نشرت كما كتبها فاضل بلا زيادةٍ أو نقصان . وحين شعر فاضل بالخذلان لأن سكرتيرحزبه لم يكتب شيئاً قدح زناد فكره باقتراح آخر ، راجياً السكرتير أن يكتب شيئاً : نداءً .. كلمةً .. تحية يتوجه فيها لرفاقه الذين توزعوا في قارات العالم الخمس ، بعد ماحل في بلدهم من مجازر وتهجير لا مثيل لهما .. أي شئ ، غير أن السكرتير أجابه مرة أخرى ، مثلما أجابه في المرّات السابقة . لم يصدّق فاضل أيضاً أن كلماته التي خطها هي الكلمات التي سيقرأها الالآف من المنفيين والمهجرين باحثين في سطورها ما يعيد لهم الأمل أو يمنحهم العزاء . بعد هذه الواقعة أصبح فاضل من ألدّ أعداء حزبه . كنّا نخطو في منحدرٍ أيّ منحدرٍ . ذلك ما كانت تعكسه قصيدتي ( البركان العدنيّ ) المهداة إلى رامبو في عدن :
البركان العدنيّ
إلى رامبو في عدن
أكان الرحيل إلى عدنٍ دورةَ البحر؟(كالأشنات تقاذفنا الموج ...) نهبط في غرفٍ ونغادر، توقفنا زرقةٌ في الشبابيك، أغربةٌ تتنزّه وسط المدينة، رائحةٌ في زقاقٍ قديم، حوانيتُ تقطر بالزيت، شمسٌ تدحرج أحجارها وهي تنزفُ حمراءَ، لمعةُ ثوبٍ، ونافذةٌ تتوهّج في الليل يحجبها جبلٌ مظلمُ الشرفات ... ورامبو يدور ببركانه العدنيّ.. وقد ينطوي بين أشيائه دائراً في المساء.. وقد لا يرى بحرَهُ مثل ساريةٍ مائلاً للرحيل ورامبو النهارات ممزوجةٌ بالظلام، دمٌ فاترٌ، مطرٌ يتساقط أسودَ فوق المراكب.. رامبو ارتحالٌ وحيدٌ على جملٍ، خفقُ أشرعةٍ تتفتّح في زهرةٍ.. من رأى الأبديّة في الماء.. في حبّة الرمل...؟ رامبو النهايات برقٌ توهّج عبر الفصول...
***
ورامبو إلى عدنٍ ساط أحلامَهُ كالشياطين، أوقفها عند منحدرٍ لا تحرّك أعشابه الريح .. شمسٌ جحيميّةٌ لا تميلُ, وليلٌ كشمسكَ أسود يرشح فوق البيوت.. انحدرْ! انحدرْ! وارتميتَ بهاويةٍ كنتَ فيها السماءَ الجميلةَ والنجمَ، كنتَ المطلّ على صخرةٍ والمعذّب في آخر الليل (منطفئٌ صبرك المتوهّج..) كالضوء تنسلّ بين الأزقّة( أبوابها نصفُ مفتوحةٍ حين تغلق في الليل، تهبط كلٌ المنازل كالصخر، يبلعها جبلٌ لا يُرى غيرُهُ في الظلام) تلوح الصهاريج، والسلّم المتدلّي إلى القاع كالبئر، تهبطه النسوة العدنيّات يفرشن أثوابهنّ على الرمل، يرفعن أصواتهنّ الخفيضة، والبحر يقذف أصدافه، من تُرى يوقفُ البحرَ؟ تشحب نظرتك القرويّة، تنأى المراكبُ مثقلةًٌ بالشياطين، أيّ جحيمٍ رأيتَ؟ المراكب تهوي إلى القاع.. تفتح بركانكَ العدنيّ، وتصعد محترقاً في الغناء
***
بركانك رامبو عرسٌ للرملْ شمسٌ للرملْ ظلٌ للبحر وعشٌّ للنارْ بركانكَ رامبو ريحٌ أسرتها الأحجارْ وهاويةٌ للقتلْ
***
ورامبو أفاق على حلمٍٍ، واستراح إلى زهرةٍ لا تُظلُّ المسافر، بيتٍ رآه وخاطب أشباحهُ فيه، قبرٍ توسّده(يرفع الآن رامبو شعائرهُ..)، يكسر الخطوة الحجريّة، ينأى بلا أثرٍ، بين أسلحةٍ وحروبٍ محمّلةٍ بالبغال... صدىً لا يُردّدهُ الأفْقُ حربُك رامبو...
1981
ووسط كلّ هذه الأفراح والأحزان ينتصب البيكاجي شاهداً أثرياً ونصباً هائلاً بأبوابه الغبر ، وسلّمه المتآكل ، وأعمدته التي تعلوها الغربان ، وثقوبه البارزة كالثعابين ، وهوائه الراكد، وقبته الواسعة التي تسمى سقفاً تحت شبكة الأسلاك الحديد التي تتوسط باحته فوق الطابق الأسفل الملئ بالظلال المعتمة المبقعة بالضوء .. وغرفه :
غرفة بابُها أصلعٌ ذات عينين زائغتين غرفةٌ بوجوهٍ تطلّ وأخرى تطول غرفةٌ فمها لا يقول غرفةٌ بابها مظلمٌ وكراسيّها مجلس الفاتحهْ غرفةٌ تنشرُ الرائحهْ وتلمّ الغسيل غرفةٌ بابها شجرٌ وشبابيكها راحةٌ ومقيل غرفةٌ بابُها مشرعٌ عندها لا أطيق الوقوف غرفةٌ بابها مغلقٌ وموائدُها نزهةٌ للضيوف غرفة بابُها حجرٌ غرفة تعصف الروح فيها غرفة آخر العرباتْ
لم يهدأ البيكاجي يوما . لقد ظلّ محطة تعج بالقادمين يقيمون فيه ليلة أو ليلتين ويرتحلون بلا أثرٍ . أما سكّانه الأبديون فإنهم يتقاطعون في باحته أو سلّمه المتآكل ويلتقون هناك بعيداً عبر الساحل في حديقة نشوان تعرفهم من إطراقتهم الدائمة ووجوههم الشاخصة صوب البحر . وقد يجتمعون كلّهم في غرفةٍ لإقامة مآتمهم الدائمة :
وفي المساء يلتقي المهجّرون .. مقاعدهم مبعثرةٌ يعلوها الرمل وأشجارهم مبلّلة بالندى لا يراها أحد يرقبون البواخر تضئ بعيداً .. والقوارب وهي تنطفئ عند السياج وحين يعودون يلتفتون إلى البحر . أشجارهم بعُدت وساحلهم عند منعطف البحر تحجبه صخرةٌ من رآهم يغيبون
هناك عند الساحل في حديقة نشوان لي زاوية يسكنها ظلّي .. ظلّي الذي أسخطته مرّةً فلم أعد أراه.
* فصل من كتاب معدّ للطبع بعنوان "باتجاه الجنوب شمالاً ". * القصائد والمقاطع المنشورة في هذا الفصل من مجموعة (وردة البيكاجي ) .
#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصالحات الشاعر
-
خفّة الشاعر التي تُحتمل
-
دليل الطيور
-
أيتها السعادة تعالي لنبكي
-
رحيل 1978 عبر الصحراء
-
قصيدتان عن الخريف
-
مجلة - المشاهد السياسيّ - تحاور الشاعر عبدالكريم كاصد
-
صداقة الشعر
-
تهريب
-
حوار مع الشاعر عبدالكريم كاصد
-
قصائد - أوكتافيو باث
-
عشر قصائد وتعليق
-
ما أبعد الطريق إلى بغداد
-
البصرة مدينة لا مرئية
-
عن السياب وتمثاله
-
الرحلة الثانية بعد الألف
-
قصف
-
البرج إلى عبدالكريم قاسم
-
ولائم الحداد
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|