أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - 1 العلاقة التناحرية الروسية الصهيونية،والمصير الملتبس لاسرائيل،















المزيد.....



1 العلاقة التناحرية الروسية الصهيونية،والمصير الملتبس لاسرائيل،


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1883 - 2007 / 4 / 12 - 11:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ـ 1 ـ
في الربع الاخير من القرن العاشر قضى الروس على مملكة الخزر، التي اختارت اليهودية لدواع انتهازية سياسيا ومصلحية طبقيا، والتي قامت على شواطئ بحر قزوين، وكانت تسيطر على التجارة الدولية في المنطقة بين العالم الاسلامي والعالمين الصيني والاوروبي، وتقف حجر عثرة امام التطور المستقبلي لروسيا وتشكل تهديدا وجوديا لها.
وفي منتصف القرن العشرين، بتصديها للنازية والقضاء عليها، متكبدة عشرات ملايين الضحايا من ابنائها، أنقذت روسيا يهودها ويهود اوروبا، بل ويهود العالم اجمع، من الفناء التام على يد النازية وحلفائها.
بين هذين الحدثين التاريخيين، المتناقضي الدلالة في الظاهر، يتردد موقف الروس: السلبي حيال الطغمة اليهودية المالية العليا والصهيونية، من جهة؛ والانساني حيال الجماعة البشرية اليهودية، من جهة اخرى.
وبمراجعة بسيطة للتاريخ الروسي المعاصر (مع القيصرية وبعد سقوطها، مع النظام السوفياتي وبعد سقوطه، وقبل وبعد نشوء المنظمة الصهيونية الدولية ومن ثم اسرائيل ـ بالارتباط مع ما كان يسمى اوروبيا "المسألة اليهودية") نجد ان هذه العلاقة المتناقضة والتناحرية، الروسية ـ اليهودية والروسية ـ الصهيونية، كانت ليس فقط احدى اهم مسائل السياسة الخارجية الروسية، بل واحدى اهم مسائل السياسة الداخلية الروسية ايضا. حيث تتداخل هذه العلاقة بشكل لا انفصال له مع القضايا "الروسية" الخاصة تماما. وقد انعكس ذلك في:
ـ ظاهرة "البوغرومات" (اي الهجمات "الشعبية!" التدميرية) ضد الاحياء اليهودية، التي كانت تغذيها التيارات الشوفينية وتنظمها في اغلب الاحيان اجهزة البوليس السري القيصري. وهي كانت شكلا من اشكال "ردود الفعل" العمياء ضد الجماهير الشعبية اليهودية بسبب الممارسة السلبية الاستغلالية (التجارية والربوية) للطغمة المالية اليهودية.
ـ ظاهرة المشاركة الواسعة النطاق للانتلجنتسيا والجماهير العمالية والفقيرة اليهودية في الحركات الاصلاحية والثورية الروسية.
ـ قيام "يهود" صهيونيين، او تحركهم الاصابع الصهيونية، باغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1881، لتسعير التناقضات الداخلية واعطاء القيصرية المبرر لتشديد الخناق على القوى الثورية الروسية بما فيها اليهودية. وكانت الحلقات العمالية والاشتراكية الاولى على رأس قائمة المستهدفين. وقد صرح لينين حينذاك "كلا! لن نسير في هذه الطريق"، اي طريق الارهاب والاغتيالات الفردية.
ـ الاختباء الصهيوني خلف النزاع داخل الحركة الشيوعية، وخلف الانقلاب الستاليني على اللينينية، للمشاركة مع ستالين في سحق الحزب الشيوعي البلشفي الذي اسسه لينين، والتهيئة والارجح المشاركة المباشرة في تنظيم اغتيال تروتسكي (اليهودي المنشأ) في المكسيك في 1940. وقد كان اغتيال تروتسكي اكبر ضربة، على المستوى الشخصي، توجه الى الحركة الشيوعية العالمية، مأخوذة بمجملها، وخاصة الى التيار اليهودي الشيوعي والاشتراكي "الاندماجي"، "غير الصهيوني" و"المعادي للصهيونية".
ـ اغتيال ستالين في 1953، بعد "خيبة امله" بقيام "اسرائيل اشتراكية" مزعومة، ونشوء الصراع فيما بين الطرفين، ومحاولة ستالين الابتعاد عن الصهيونية وجعل عناصرها "كبش محرقة" لتبرير جرائمه ضد الحزب الشيوعي والجيش الاحمر والشعب السوفياتي؛ ومحاولة الصهيونية القفز الى السلطة بواسطة بيريا لفرض دكتاتورية صهيونية مكشوفة على الاتحاد السوفياتي، بعد نزع "القناع الستاليني" عن وجهها ورمي كل تبعات المرحلة السابقة على ستالين وحده.
ـ واخيرا لا آخر عملية ما سمي "البيروسترويكا" (اي "اعادة البناء") التي كان في واجهتها الماسوني العميل ميخائيل غورباتشوف، والتي لم تكن سوى مؤامرة انقلابية صهيونية ـ ماسونية ـ اميركية، عملت على القضاء على "المنظومة الاشتراكية" السابقة وتفكيك الاتحاد السوفياتي وحل الحزب الشيوعي السوفياتي، والتي كان هدفها الابعد التخريب التام لروسيا والقضاء على استقلالها الوطني وتجويع واذلال الشعب الروسي العظيم ونهب الخيرات التي لا تنضب لهذه البلاد الشاسعة وتحويل روسيا الى مستعمرة (بالمعنى الحرفي للكلمة) للصهيونية (واسرائيل) والامبريالية الاميركية. وكل ذلك باسم "دمقراطية" الكوكا كولا والماكدونالدز والايدز، وطبعا بمباركة "يهوه" جل جلاله.
XXX
اليهود بين النقيضين: الصهيونية والشيوعية
كان تعداد اليهود في روسيا القيصرية في القرن 19 يعد بالملايين، واكبر منه في اي بلد آخر. وقبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الدولي الاول، بزعامة تيودور هرتزل في بازل بسويسرا سنة 1897، كانت المنظمات الصهيونية قد بدأت بالنشوء تحديدا في روسيا القيصرية، في منتصف القرن التاسع عشر. وليس معروفا تاريخيا اي هجرة جماعية لليهود العبريين الى هذه المناطق. وهذا يؤكد ان اليهود الروس هم في الاصل جميعا خزريون، وان علاقتهم بـ"اورشليم" ليست سوى علاقة دينية ـ غيبية (وغيابية)، بالمعنيين الروحي والحياتي معا، كعلاقة اي مسلم اندونيسي، مثلا، بمكة المكرمة، او علاقة اي مسيحي اوروبي او اميركي ببيت لحم. ولكن مثلما ان "المسيحية الاوروبية"، بدواع توسعية ـ استعمارية، سيّست "علاقتها المسيحية" بمهد وقبر المسيح، وابتدعت "الصليبية"، فإن "اليهودية الخزرية" ذات التقاليد السلطوية الاقرب (مملكة الخزر) والتجربة والممارسة الاقتصادية (التجارة والربا الخ)، عمدت هي ايضا الى تسييس "علاقتها اليهودية" بأورشليم، وابتدعت "الصهيونية"، ايضا وايضا لدواع توسعية ـ استعمارية. وقبل نشوئها في اي مكان آخر، نشأت المنظمات الصهيونية اول ما نشأت في روسيا. وهذا يعني ان الصهيونية هي، ومنذ نشوئها، تنظيم سياسي روسي (خزري) لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بفلسطين. وهذه المنظمات الصهيونية الروسية المبكرة هي التي اوحت بفكرة التنظيم الصهيوني العالمي التي تبناها هرتزل، ومن ورائه اليهودية الاوروبية الغربية المتصهينة، التي تعود بجذورها هي ايضا الى الخزرية، وربما كان فيها بعض العناصر ذات الاصل اليهودي ـ الاندلسي، اي العبري المنشأ. وكان الصهاينة الروس يمثلون الكتلة الاكبر، والاكثر تطرفا، في مؤتمر بازل بسويسرا سنة 1897.
ونظرا للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة، التي كانت تقود الى الوضع الثوري المتفجر في روسيا القيصرية، من جهة، وظروف الاضطهاد الاتني الخاص الذي كانت تتعرض له الجماهير الشعبية اليهودية، من جهة ثانية؛ فإن الحراك السياسي والفكري والاجتماعي لليهود عامة، والجماهير العمالية والشعبية اليهودية خاصة، في روسيا، كان اكثر فعالية واتساعا مما لدى الجماهير الروسية الاخرى. وقد انعكس هذا الحراك اليهودي المتزايد في ظاهرتين:
الاولى ـ ظاهرة "الانعزالية" اليهودية، المتمثلة في التنظيمات الصهيونية، التي كانت تنظر الى "المسألة اليهودية" كـ..."مسألة قومية ـ دينية"، مستقلة عن المسائل القومية والاجتماعية للشعب الروسي وغيره من الشعوب التي يعيش في ظهرانيها اليهود.
وانسجاما مع الطبيعة الطبقية لكوادرها المؤسسة، المؤلفة من الانتلجنتسيا الانتهازية والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة، "المنفتحة" على التجار والمرابين اليهود، وانطلاقا من المفاهيم "الشوفينية" المعادية للروس ولجماهير القوميات الاخرى، والمتناغمة مع المفاهيم "الشوفينية" الدينية اليهودية (كمفهومي "شعب الله المختار" و"ارض الميعاد" الاسطوريين)، وهي المفاهيم التي بواسطتها تستطيع ان تخفي حقيقتها الطبقية والعنصرية ومطامعها التوسعية ـ الاستعمارية، فإن هذه التنظيمات الصهيونية المبكرة سرعان ما وضعت نفسها في خدمة الطغمة الرأسمالية الاحتكارية اليهودية، ومن ثم في خدمة مشاريع الغزو الاستعماري الغربي للشرق العربي ـ الاسلامي. ومن ضمن هذا الخط، ذي المظهر الشوفيني ـ الديني، والمحتوى الامبريالي ـ الاستعماري، اخذت تلك التنظيمات تدعو للهجرة الى فلسطين والاستيطان فيها باعتبارها انها هي "الوطن القومي اليهودي"، لا استنادا الى التاريخ الواقعي بل استنادا الى الادعاء الماورائي للاله التوراتي "يهوه" بأنها هي "ارض الميعاد" بين هذا "اليهوه" و"شعبه" اي كل "مؤمن به"، بدون ورغما عن شعب تلك الارض، الذي دعا يهوه الى ابادته عن بكرة ابيه.
ان هذا الاتجاه الصهيوني كان يمثل اتجاها قوميا ـ دينيا، شوفينيا يمينيا، مثله مثل غيره من الاتجاهات الشوفينية اليمينية الاخرى، الاسلامية او المسيحية، الالمانية او الايطالية او الفرنسية او الاميركية او العربية، الخ. وهي حالة همجية مرت بها جميع شعوب العالم ولا يزال بعضها يمر بها، كتجسيد "طبيعي" لقانون "صراع البقاء، وبقاء الافضل او الاقوى" بصيغته الفيزيائية، بصفته موروثا يحمله المجتمع البشري في مرحلة انتقاله من "مملكة الحيوان" الى "المرحلة الانسانية".
وبحكم طبيعته الخاصة وتطلعاته وارتباطاته الخارجية، فإن الاتجاه الصهيوني سرعان ما تحول الى طابور خامس في روسيا، تحركه المنظمة الصهيونية العالمية والدول الامبريالية الغربية، معاد للشيوعية والاشتراكية، ومعاد للمصالح القومية لروسيا في الوقت ذاته. ولكن هذا الطابور الخامس الصهيوني، وبالرغم من الدعم المالي من قبل الطغمة المالية الاحتكارية اليهودية والدول الامبريالية الغربية، ظل ذا تأثير وانتشار محدودين في صفوف الجماهير الشعبية اليهودية في روسيا، ولا سيما الجماهير العمالية، التي سارت غالبيتها خلف الخيار الاشتراكي "الاندماجي" والثورة الاشتراكية في روسيا.
والثانية ـ ظاهرة "الاندماجية"، المتمثلة في مشاركة المثقفين والمناضلين العماليين والشعبيين اليهود، بنسبة عالية جدا، في صفوف الحركات الاصلاحية والثورية الروسية، وخصوصا "حزب العمال الاشتراكي ـ الدمقراطي الروسي"، الذي تحول لاحقا الى "الحزب الشيوعي الروسي"، فالسوفياتي.
ولدى زيارة هرتسل لروسيا "من اجل الحصول على تأييدها لمشروعه الصهيوني... واجه في نفس الوقت انتقادا حادا من جانب الوزير الروسي فيته، الذي قال له، بأن اليهود لا يتجاوزون الخمسة بالمائة من عدد سكان الدولة، بينما يقدمون اكثر من 50% من المعارضين للسلطة." (ميثم الجنابي، اليهودية – الصهيونية في روسيا، "الحوار المتمدن"، العدد 1089، 25/1/2005).
وكانت نسبة مشاركة اليهود في صفوف الحزب الشيوعي، وخصوصا في ظروف الحرب العالمية الاولى والثورة الاشتراكية الروسية سنة 1917، نسبة عالية، اعلى بكثير من نسبة عدد اليهود الى مجموع عدد السكان في روسيا. ذلك ان غالبية الجماهير اليهودية سارت خلف الشيوعيين. وقد احتل المئات من الكوادر اليهودية مساحة واسعة من المراكز القيادية في الحركة الشيوعية الروسية، والسلطة السوفياتية بعد قيامها، والكومنترن (الاممية الشيوعية او "الاممية الثالثة" كما كانت ايضا تسمى) بعد انشائه.
وكان الشيوعيون والتقدميون والاصلاحيون اليهود يرون ان حل "المسألة اليهودية" هو جزء لا يتجزأ من حل مسألة النظام الاجتماعي السائد، وان "تحرير" اليهود هو جزء لا يتجزأ من "تحرير المجتمع" الذي يعيشون فيه، وهو ما كان يعني ـ بالنسبة للشيوعيين اليهود ـ المشاركة في الثورة الاشتراكية والقضاء على الاستبداد القيصري وعلى النظام الرأسمالي، واقامة النظام الاشتراكي الذي يقضي على الاستغلال الطبقي والتمييز الاجتماعي والديني والاتني والقومي، بما في ذلك الدور التقليدي للمرابي اليهودي، من جهة، واستغلال الجماهير الكادحة اليهودية والتمييز ضد الاتنية والدين اليهوديين، من جهة ثانية.
ومثلما كان هناك "تواصل موضوعي" بين هذين التيارين، بحكم وجودهما في البيئة الانسانية ذاتها، فقد كان بينهما صراع حاد، فكري وسياسي وتنظيمي، هو الصراع الاساسي في الوسط اليهودي. وكان كل اتجاه يسعى الى كسب الجماهير اليهودية الى جانبه. وكان محور هذا الصراع يدور حول الخيار بين البديلين ـ النقيضين:
ـ عزل الجماهير اليهودية عن المجتمعات التي تعيش في ظهرانيها، على اساس "الحل القومي ـ الديني" الخاص لليهود.
ـ او: دمج اليهود في المجتمع الروسي، على اساس "الحل الدمقراطي ـ الاشتراكي" للمسألة الاجتماعية عامة، بما فيها "المسألة اليهودية".
وهنا فإن التيار الصهيوني كان يدعي "الدفاع" عن اليهود ضد ما كانوا يتعرضون له من اضطهاد على يد الحكم القيصري والشوفينية الروسية الكبرى، كرد فعل على الدور السلبي الذي تقوم به فئة المرابين اليهود وهي فئة اقلية، ولكنه في الوقت نفسه كان يلتقي عمليا وموضوعيا مع القيصرية في موضوعة "عزل" اليهود. ومثلما كان الصهاينة يستفيدون من عمليات الاضطهاد ضد اليهود، لتعزيز الاتجاه الانعزالي الشوفيني اليهودي، فإن القيصرية كانت تستفيد من الدعوة الصهيونية للهجرة الى فلسطين، من اجل التخلص من "اليهود المعارضين".
ونذكر هنا ان ما سمي "بروتوكولات حكماء صهيون"، انما صدرت في روسيا بالذات، وقد استفادت كل من القيصرية والصهيونية من هذه "البروتوكولات" كل من جهته ولمصلحته.
وعلى اساس هذا الالتقاء الموضوعي للمصالح الاساسية، فإن التنظيمات الصهيونية الروسية والحكم القيصري الروسي كانا "يتبادلان الخدمات" في الصراع ضد التيار الاشتراكي والشيوعي الروسي عامة، والشيوعي اليهودي خاصة. وقد اضطلعت الصهيونية في روسيا بدور "كلب حراسة" او "كلب صيد" لدى القيصرية الروسية، ضد الحركة الشيوعية الروسية. وكان ذلك مقدمة، او "تمرين اولي"، كي تضطلع لاحقا ـ اي الصهيونية ـ بدور "حليف موضوعي" و"كلب صيد خاص" لدى الفاشية والنازية الهتلرية ضد الحركة الاشتراكية والشيوعية الاوروبية عامة، وفي صفوف اليهود خاصة.
وفيما بين هذين التيارين اليهوديين (الانعزالي ـ الصهيوني، الداعي الى الهجرة واقامة "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين) و(الاندماجي ـ الاشتراكي، الداعي الى الثورة الدمقراطية والاشتراكية في روسيا)، نشأ تيار وسطي توفيقي تمثل في "حزب البوند" العمالي اليهودي، الذي كان يدعو الى التنظيم المستقل للعمال اليهود ويطالب بالاستقلال الذاتي الثقافي لليهود، ضمن الدولة الروسية، وهو ما عارضه بشدة لينين والشيوعيون الروس بمن فيهم الشيوعيون اليهود.
وفيما بعد، في الظروف الناشئة عن الحرب العالمية الاولى والثورة الاشتراكية في روسيا، نشأ حزب "بوعالي صهيون"، وهو حزب صهيوني ـ اشتراكي، دعا الى اقامة "اسرائيل اشتراكية"، واستطاع ان يخدع قسما من المثقفين والعمال اليهود، استنادا الى "اشتراكيته" الزائفة، التي لم تكن شيئا آخر سوى ستار لصهيونيته الحقيقية، على طريقة "الاشتراكية" الهتلرية، التي لم تكن سوى ستار للنزعة الامبريالية العنصرية الالمانية. وفيما بعد فإن نظرية حزب "بوعالي صهيون" حول الصهيونية ـ الاشتراكية ستلعب دورا رئيسيا في لعبة الخداع الستالينية حول امكانية قيام "اسرائيل اشتراكية" لتبرير الاعتراف باسرائيل.
XXX
اليهود بين النقيضين: الشيوعية والصهيونية
وهنا علينا ان نتوقف بشكل خاص عند نقطة مفصلية، طالما استغلتها الابواق الامبريالية واذنابها الرجعية العربية، للتهجم على الشيوعية، وهي نقطة المشاركة الواسعة لليهود في الثورة الروسية وفي السلطة السوفياتية وفي الحركة الشيوعية:
ان الكثير من المحللين التاريخيين، وعن قصد او غير قصد، عن وعي او غير وعي، يتخذون من واقعة الاشتراك الواسع لليهود في الحركة الاشتراكية الروسية وفي الثورة الاشتراكية وفي السلطة السوفياتية الناشئة في المرحلة اللينينية، دليلا على نجاح "النشاط الصهيوني" الزائد في صفوف اليهود الروس، وعلى ان الشيوعية والصهيونية هما "توأمان". او حتى ان الشيوعية هي وليدة الصهيونية.
وللاسف ان بعض الاوساط "العروبية" و"الاسلامية"، التي تدعي "التقدمية" و"الانفتاح" و"التسامح"، ولكن التي تختبئ الشوفينية كالجرب تحت جلودها، تنساق بسهولة الى هذا الاستنتاج، وتلتقي مع الامبريالية والرجعية العميلة في معاداة الشيوعية وتبرير الاستسلام للصهيونية، والسعي لتحقيق "السلام!" مع اسرائيل على قاعدة اضفاء الطابع الديني او الطابع "القومي" (الشوفيني، من كلا الطرفين) على الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
على ان هذا الاستنتاج هو، اولا، استنتاج سطحي وتافه، ولا يستند الى اي تحليل تاريخي وواقعي حقيقي، فكري وسياسي واجتماعي واقتصادي الخ. وهو يشبه تماما اتهام الفكرة "القومية العربية" ووجود "الامة العربية" ذاتها بأنها "بدعة مسيحية" (وفي الاخير: "كافرة" و"غربية" و"استعمارية") لمجرد ان الرعيل الاول من دعاة الفكرة "القومية" كانوا من النهضويين والمناضلين المسيحيين العرب، وان فكرة "القومية العربية" جاءت بالترافق والتزامن مع نشوء الفكرة القومية في اوروبا، وكأنما "العروبة" و"الانتماء العربي" هما حكر على المسيحيين، او كأنما الامة العربية هي خارج السياق التاريخي لشعوب وامم العالم، ولا يجوز لها ان تتبوتق حضاريا وتتوحد قوميا، بل ينبغي ان تظل معلقة المصير التاريخي بين الصفقات الدولية كصفقة "سايكس ـ بيكو" والفتاوى الدينية المزيفة لبعض المعتوهين والمشبوهين، الذين ـ بدون ان يرف لهم جفن ـ يخلطون بين "العروبة" و"الاسلام" او يضعونهما بعضهما ضد البعض الآخر.
وهو، ثانيا، استنتاج خاطئ تماما. ذلك انه لو كان الشيوعيون اليهود في الثورة الاشتراكية وفي السلطة السوفياتية في روسيا: صهيونيين، او يأتمرون بأوامر الصهيونية، لكانت روسيا السوفياتية (اللينينية) انضمت فورا الى "اتفاقية سايكس ـ بيكو" و"وعد بلفور"، ولما كانت تعرضت للتدخل المسلح الاجنبي الذي نظمته الدول الاستعمارية، بل ولكانت حصلت على الدعم السياسي والعسكري والمساعدات الاقتصادية (التي كانت السلطة السوفياتية الناشئة بأشد الحاجة اليها) من قبل الصهيونية العالمية والامبريالية الغربية، ولكانت وافقت على تنظيم هجرة بضعة ملايين مواطن يهودي (وغير يهودي) روسي الى فلسطين منذ 1917 وما بعد. ولما كان على نشوء اسرائيل ان "ينتظر" حتى 1948. ولو تم هذا في ذلك الوقت المبكر، لكانت اسرائيل اليوم دولة لا تقهر، بالمعنى الحرفي للكلمة، وربما كانت امتدت فعلا "من الفرات الى النيل".
وهو، اخيرا لا آخر، استنتاج معكوس. اذ الصحيح هو العكس تماما. لأن الثورة الاشتراكية والسلطة السوفياتية (اللينينية)، بمن قاتل في صفوفها وكان معها وفي قيادتها من اليهود، هي التي وقفت ضد اتفاقية "سايكس ـ بيكو" وفضحتها، وضد "وعد بلفور" وقيام اسرائيل وهجرة اليهود الى فلسطين. وأي تشكيك وطعن بالشيوعية والشيوعيين، وخصوصا الشيوعيين اليهود المعادين للصهيونية ولاسرائيل، لم يكن في اي وقت يضير، وهو الى الان لا يضير بأية حال الصهيونية، بل على العكس هو يقدم لها خدمة لا تثمن، لانه لا يعدو كونه طعنا "ممتازا"، "عروبيا!" و"اسلاميا!" مغشوشا ومزيفا، بالقضية الفلسطينية والقضية العربية عامة.
ومع ذلك، يتوجب علينا ـ ولو على طريقة ابي العلاء المعري، ومن باب "لزوميات ما لا يلزم" ـ تقديم "تفسير" او لنقل "محاولة فهم" لظاهرة المشاركة اليهودية الواسعة في الثورة الاشتراكية، والسلطة السوفياتية الناشئة، وقيادة الحزب الشيوعي السوفياتي في المرحلة اللينينية خاصة. وفي هذا الصدد ينبغي ان تؤخذ بالاعتبار الملاحظات الرئيسية التالية:
1 ـ ان هذه الظاهرة هي، بادئ ذي بدء، برهان تاريخي ملموس، على نجاح التيار "الاندماجي" ـ الاشتراكي (الشيوعي) في صفوف المثقفين والجماهير العمالية والشعبية اليهودية. وبالتالي هي برهان على طبيعة الخيار التاريخي الحقيقي للجماهير الشعبية اليهودية. وعلى اثر ذلك "احتاجت" الصهيونية الى "المحرقة" النازية كي تستطيع التخلص من قطاع كبير من الجماهير اليهودية المعادية للنازية والصهيونية معا، و"اقناع" اقلية من اليهود المضللين او المكرهين (وليس اليهود الروس على كل حال) بالهجرة الى فلسطين.
2 ـ وبالمقابل، فإن هذه الظاهرة هي برهان على "الفشل اليهودي" للصهيونية، اي على فشل التيار "الانعزالي ـ الصهيوني" في استقطاب الجماهير اليهودية الواسعة في روسيا، للهجرة الى فلسطين، مستفيدا من ظروف الفوضى الرهيبة التي مرت بها روسيا في ظروف الحرب العالمية الاولى، ومن ثم الثورة الاولى، الدمقراطية، في شباط 1917، التي اطاحت بالقيصرية وجاءت الى السلطة بحكومة كيرنسكي ("اليهودي" الموالي للصهيونية والغرب)، ومن ثم الثورة الاشتراكية في تشرين الثاني 1917، واندلاع الحرب الاهلية وحرب التدخل الاجنبي ومرحلة تفسخ الدولة التي دامت سنوات، حتى 1924 وما بعد.
3 ـ ان كثافة مشاركة اليهود في العمل الاصلاحي ـ الدمقراطي او/والثوري ـ الاشتراكي يعود الى:
أ ـ وعي الجماهير الشعبية اليهودية لصحة وعدالة "الحل الاشتراكي" لـ"المسألة اليهودية". وهذا يعود الى صدق الدعوة الاشتراكية للحزب الشيوعي الروسي بقيادة لينين، وثباته على موقفه الاممي المعادي للحرب الاستعمارية والتذابح بين الشعوب لصالح مستعبديها. مما جعل قطاعات كبيرة من الجماهير اليهودية الاكثر فقرا وبؤسا، والانتلجنتسيا المرتبطة بها، تنخرط اكثر فاكثر في صفوف الحزب الشيوعي الروسي والنضال تحت لوائه.
ب ـ ان الرأسمال المالي اليهودي، الذي هو ممثل تاريخي للرأسمالية، والبرجوازية اليهودية، كانا حكما في صراع مع النظام القيصري الاوتوقراطي، شبه ـ الاقطاعي شبه ـ الرأسمالي، وفي الوقت ذاته في صراع مع الرأسمال المحلي الروسي، والبرجوازية المحلية الروسية. وهذا كان يجعل الرأسمال المالي اليهودي والبرجوازية اليهودية "اكثر ثورية"، بالمعنى الطبقي للرأسمالية، وبالمعنى السياسي للنظام السائد. ولذا فإن البرجوازية اليهودية كانت تقف الى يمين التيار الشيوعي الروسي، الا انها كانت تقف الى "يسار" البرجوازية الروسية، حتى اكثرها "دمقراطية". ولهذا ليس صدفة ابدا ان العناصر البرجوازية الليبيرالية والبرجوازية الصغيرة، اليهودية، مثل كيرنسكي، هي التي كانت تقف على رأس الحكومة البرجوازية المؤقتة وعلى رأس الاحزاب "البرجوازية الصغيرة الثورية"، كـ"الاشتراكيين الثوريين" و"المنشفيك". ولا شك ان هذه الاحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة كانت تحرك قطاعات جماهيرية واسعة، بمن فيها الجماهير والانتلجنتسيا اليهودية، للانخراط في العملية السياسية الدمقراطية. ولكن بعد انتصار الثورة الدمقراطية في شباط 1917، فإن هذه الاحزاب وقفت في منتصف الطريق. فحافظت على حياة القيصر، ووقفت موقفا مهادنا من العناصر الاقطاعية المدنية والدينية، والاخطر من ذلك انها ارادت مواصلة مشاركة روسيا في الحرب الاستعمارية. ومع انتصار الثورة الاشتراكية في تشرين الثاني 1917، فإن السلطة السوفياتية الجديدة "ورثت" كل عبء مواصلة الثورة الدمقراطية، ضد القيصرية والاقطاع المدني والديني، وإخراج روسيا من الحرب الاستعمارية. ومع بداية الحرب الاهلية، فإن القوى الرجعية مدعومة بقوى التدخل الامبريالي الخارجي، لم تضع نصب عينيها محاربة الشيوعيين وحسب، بل ومحاربة كل ما هو "دمقراطي". وفي هذه الظروف، فإن القطاع الاوسع من جماهير وكوادر الاحزاب "الدمقراطية" و"الثورية" البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لم يعد بامكانها "العودة الى الوراء"، حيث "البيض" و"القيصرية" و"الاقطاعيون" و"الرأسماليون الرجعيون" و"الغزاة الامبرياليون"، فتقدم هذا القطاع الجماهيري "الدمقراطي" سابقا، نحو الانضمام الى الشيوعيين، مما وسع صفوفهم، وزاد بشكل خاص اعداد اليهود في صفوف الحزب الشيوعي وكوادره وقياداته. وطبعا ان هذه العملية كانت تحمل معها محاذير، خصوصا فيما يتعلق باليهود والتأثيرات "الاشتراكية ـ الصهيونية". وهذا ما سنتناوله لاحقا.
4 ـ على الصعيد الفكري ـ السياسي، انقسم اليهود الروس في تلك الازمنة العاصفة الى الفئات التالية:
أ ـ الشيوعيون الاندماجيون، الذين كانوا يعتبرون انفسهم مواطنين روسا ديانتهم الاصلية يهودية.
ب ـ الاشتراكيون اليهوديون الانعزاليون، الذين كانوا يعتبرون ان روسيا وطنهم، وفي الوقت ذاته يعتبرون انفسهم قومية يهودية خاصة في روسيا.
ج ـ الاشتراكيون الصهيونيون، الذين كانوا يعتبرون فلسطين هي الوطن القومي لليهود، انما يتميزون عن الصهاينة اليمينيين في انهم يدعون الى قيام "اسرائيل اشتراكية!".
د ـ الصهيونيون اليمينيون البرجوازيون، التقليديون والعنصريون.
هـ ـ هذا عدا الاحزاب والجماعات "الدينية ـ اللاهوتية"، الاقرب الى الصهيونية اليمينية.
اما على الصعيد الانساني، واذا استثنينا العناصر الرأسمالية اليهودية العليا و"وجوه المجتمع" وكبار رجال الدين، الذين كانوا يعيشون حياتهم الخاصة، البعيدة عن حياة الجماهير اليهودية الواسعة، فإن جميع الاحزاب والفئات المشار اليها كانت تعيش جنبا الى جنب في الاحياء اليهودية الفقيرة كما في الغيتوات. ولم يكن يوجد سور صيني بين اي من هذه الفئات، التي كان هناك الكثير مما يجمعها، والكثير مما يفرقها، وكان هناك حوار دائم ومحموم بين الجميع وتأثيرات متبادلة فيما بينها، الخ. وبعد ان سقطت موضوعيا اطروحات حزب البوند (حزب العمال الاشتراكي ـ الدمقراطي اليهودي الروسي) كنتيجة منطقية لانتصار الثورة الاشتراكية في 1917، وبعد ان حل هذا الحزب نفسه وانضم اعضاؤه الى الحزب الشيوعي الروسي، اصبح مركز الجذب بالنسبة للانسان اليهودي الروسي هو: اما روسيا الاشتراكية، واما مشروع اسرائيل "الاشتراكية!" او غير الاشتراكية. وقد اختارت غالبية اليهود الروس السير، وبشدة، في الخيار الاول.
ولا شك ان الصهيونية، بمختلف تلاوينها "الاشتراكية" وغير "الاشتراكية" لم تستسلم للهزيمة، ومن المنطقي جدا ان تكون عملت على بث العديد من عناصرها داخل الحزب الشيوعي الروسي، لاعادة "اصطياد" "يهودها" من جديد، و"تخليصهم" من "براثن" الشيوعية، وفي الوقت ذاته للتجسس على الشيوعيين وعلى السلطة السوفياتية وللاضطلاع بدور طابور خامس ضدها، واخيرا لا آخر للعمل على تخريب الشيوعية من داخلها اذا استطاعوا. وكل ذلك لا يعني ابدا "التوأمة" بين الشيوعية والصهيونية، بل يعني العكس تماما: اي مواصلة الصراع المستميت للصهيونية ضد الشيوعية.
ويمكن القول ان الصهيونية استطاعت تحقيق بعض الاختراق في صفوف الحزب الشيوعي الروسي والسلطة السوفياتية. وهذا الاختراق بالذات لعب دورا تخريبيا كبيرا في المرحلتين الستالينية والنيوستالينية، واخيرا في المرحلة الغورباتشوفية. وهذا ما نتناوله لاحقا.
XXX
وعدان لليهود: الثورة الاشتراكية و"وعد بلفور":
ولا بد ان نتوقف هنا عند واقعة تاريخية ذات مدلول خاص، وهي صدور "وعد بلفور" في 2 تشرين الثاني 1917، اي قبل خمسة ايام فقط من قيام الثورة الاشتراكية في روسيا في 7 تشرين الثاني 1917.
لا شك ان الدوافع الاستعمارية ـ الصهيونية المشتركة هي العامل الاول وراء صدور "وعد بلفور"، بالترافق مع هجمة الجيوش الاستعمارية على البلدان العربية، واحتلالها وتقسيمها بموجب اتفاقية "سايكس ـ بيكو" التي يعتبر "وعد بلفور" جزءا رئيسيا مكونا لها.
ولكن صدور هذا "الوعد الاستعماري" في هذا التاريخ بالذات، اي قبل ايام معدودات من ثورة اكتوبر، لم يكن ابدا "صدفة روزنامية"، بل له ارتباط وثيق بقيام الثورة الاشتراكية في روسيا، من وجهة نظر مصلحة الصهيونية في مواجهة "الخطر الاشتراكي". ونلخص ذلك في نقطتين:
الاولى ـ ان بعض العناصر اليهودية في قيادة الحزب البلشفي لم تكن موافقة على قرار قيادة الحزب بانتهاج خط الانتفاضة المسلحة والقيام بالثورة الاشتراكية، وقد كتب (زينوفييف وكامينييف، اليهوديان) مقالا يعربان فيه عن معارضتهما لاتجاه قيادة الحزب لاعلان الثورة. وفي هذا المقال افشيا تاريخ القيام بالثورة، وهذا ما دفع القيادة اللينينية الى القيام بالثورة قبل التاريخ الذي كان محددا لها سابقا، والذي افشاه (زينوفييف وكامينييف). وقد اختار الحزب التعجيل بالانتفاضة في يوم مؤتمر السوفياتات بالذات، لان القوى القيصرية والحكومة البرجوازية المؤقتة التي كان يترأسها كيرنسكي (اليهودي المعادي للشيوعية) اخذتا تستعدان للمواجهة وللانقضاض على الحزب الشيوعي قبل القيام بالثورة. ومعروفة تماما قولة لينين المشهورة: "اليوم سيكون باكرا، وغدا سيكون متأخرا!!"، وانه يجب القيام بالثورة "هذه الليلة"، وهذا ما جرى، وتمت مهاجمة قصر الشتاء واعتقال اعضاء الحكومة المؤقتة، وذهب المندوبون البلاشفة الى مؤتمر السوفياتات تحت شعار "كل السلطة للسوفياتات"، ووضعوا السلطة بين يدي المؤتمر واعلن الحكم السوفياتي. وعند هذا المنعطف التاريخي، وبعد صدور مقال زينوفييف وكامنييف، وجدت الحركة الصهيونية في احتمال انتصار الثورة الاشتراكية خطرا كبيرا على مخططاتها "الانعزالية اليهودية" المتمحورة حول الدعوة الى هجرة اليهود الى فلسطين، وان غالبية الجماهير الشعبية اليهودية ستسير خلف التيار الاشتراكي (الشيوعي) ـ الاندماجي. ونظرا لان عدد اليهود في الدولة الروسية في ذلك التاريخ كان يشكل القسم الاكبر والاكثر فعالية من يهود اوروبا كلها، فقد شعرت الحركة الصهيونية بخطر جدي على كل مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، فعجلت في استصدار "وعد بلفور"، قبل ثورة اكتوبر، كي تضع امام اليهود المضللين "خيارا آخر"، "قوميا"، غير الخيار الثوري الروسي، الاندماجي ـ الاشتراكي، وذلك ليس بصفة "دعوة صهيونية" ضيقة ذات طابع فكري ودعائي ضمن النطاق اليهودي فقط، بل كمشروع ملموس "عالمي" تدعو اليه وتدعمه اكبر دولة امبريالية في ذلك العصر.
والنقطة الثانية ـ ان الدولة الروسية (القيصرية) كانت هي الشريك الرئيسي الثالث في اتفاقية "سايكس ـ بيكو" لتقاسم "تركة" الامبراطورية العثمانية البائدة، وما كانت تتضمنه تلك الاتفاقية من "وعد" باقامة "الوطن القومي اليهودي". وكانت الحركة الصهيونية تتوقع ـ في حال قيام الثورة الاشتراكية ـ ان تعمد السلطة الاشتراكية الجديدة الى معارضة تلك الاتفاقية، بما يشكله ذلك من خطر على انشاء "الوطن القومي اليهودي". ولذلك عجلت الحركة الصهيونية في استصدار "وعد بلفور"، لزرع البلبلة في صفوف الجماهير اليهودية، عن طريق الحصول على "الصك الشرعي الدولي" الخاص بالصهيونية، كي يصبح "امرا واقعا"، كـ"ضربة استباقية" قبل قيام الثورة الاشتراكية واقامة السلطة السوفياتية الروسية وخروجها من، وضد، اتفاقية "سايكس ـ بيكو" بما فيها انشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين.
وقد كانت تخوفات الحركة الصهيونية في مكانها. فبعد قيام الثورة الاشتراكية الروسية، قوي الاتجاه الاندماجي ـ الاشتراكي في صفوف اليهود الروس، بشكل لا سابق له، ووجد ذلك انعكاسه في قيام "حزب البوند" العمالي اليهودي الروسي ذاته بحل نفسه والاندماج في الحزب الشيوعي الروسي.
وبالفعل عمدت السلطة السوفياتية الجديدة الى فضح ومهاجمة اتفاقية "سايكس ـ بيكو" التي كانت حتى ذلك التاريخ طي الكتمان. و"مع ازدياد قوة الحكم السوفيتي واستتباب الأمر للشيوعيين، أصبحت الصهيونية هدفاً للاتهامات الحكومية، وتم إلغاء الأحزاب والمنظمات الصهيونية وألُقي القبض على بعض القادة. وقد قام القسم اليهودي في الحزب الشيوعي السوفيتي الجديد بمحاربة الروح (الانعزالية والكهنوتية) الصهيونية بين الجماعات اليهودية. وفي العشرينيات، قامت الحركة الصهيونية بعدة محاولات للحصول على حق القيام بنشاط صهيوني علني، وخصوصاً في المجال الثقافي، وفي مجال تشجيع الهجرة لفلسطين (مثلما حدث في المفاوضات شبه الرسمية التي أجراها عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية م. د. إدر أثناء زيارته لموسكو عام 1921). بيد أن هذه المحاولات باءت بالفشل. وقد استؤنف النشاط الصهيوني العلني في روسيا وأوكرانيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي." (الدكتور عبدالوهاب المسيري ـ "تاريــخ الصهيونية في روسـيا"). "وقد وقفت الاممية الشيوعية بقيادة لينين سنة 1922 ضد قبول (البوعالي تسيون) الاتحاد العالمي للعمال اليهود وهو حزب يهودي عالمي صهيوني بعنصره الغالب مشترطة عليه القطيعة الكاملة مع الصهيونية وذلك بالتخلي عن فكرة انشاء دولة يهودية في فلسطين فقد اعتبرت الاممية هذه الفكرة وهما برجوازيا صغيرا مضادا للثورة واصرت الاممية على موقف واضح وهو ان يحل الاتحاد العالمي للعمال اليهود نفسه وتنضم البروليتاريا اليهودية الشيوعية الى الاحزاب الشيوعية في اقطارها وان تتخلى عن مطامعها في فلسطين." (امير الحلو، لينين والصهيونية، "الحوار المتمدن"، العدد: 1669، 10/9/2006).
وبالرغم من كل المحاولات اليهودية ـ الصهيونية لاستغلال الاممية الشيوعية وتطويعها لخدمة اهدافها واهداف الامبريالية العالمية، فإنها قد فشلت فشلت ذريعا في ذلك، خصوصا في العهد اللينيني. ولا بد من تسجيل دور الماركسيين ـ اللينينيين اليهود، في اطار الاممية الشيوعية الثالثة (الكومنترن) والرابعة (التروتسكية)، في نشر الفكر الشيوعي وتأسيس التنظيمات الشيوعية في العالم اجمع، بما في ذلك في العالم العربي.
ـ يتبـع 2 ـ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اذا خضعت حماس، هل سيخضع حزب الله؟!
- الخطر الاعظم: هل يستطيع الشيطان الاكبر إخضاع لبنان الصغير ال ...
- حزب الله في الكماشة
- صدام حسين.. المثال النموذجي للسقوط التاريخي للبرجوازية الصغي ...
- النظام الليبي يدخل بامتياز في اللعبة الاميركية
- من ارتكب الجريمة الكبرى ضد الاطفال الليبيين؟ ولماذا؟
- الدور المتنامي لحزب الله ومحاذير الاندماج بالدولة اللبنانية
- مخاطر تجديد الحرب الاهلية في لبنان والمسؤولية التاريخية لحزب ...
- هل ينجح -حزب الله- في اجتياز حقل الالغام الداخلي؟
- دعوة حزب الله لانشاء -دولة قوية، قادرة وعادلة- وجامعة الدول ...
- اي -حكومة وحدة وطنية- يريد السيد حسن نصرالله؟
- السقف المنخفض للوطنية القطرية في مواجهة اسرائيل
- وليد جنبلاط... اعتذار كلامي لا يكفي!
- لبنان اسرائيل: من سيقتلع من؟
- ....والافلاس التاريخي ل-الوطنية النظامية- العربية
- نصر...! وأما بعد...!
- الافلاس التاريخي لستراتيجية الحرب النظامية العربية
- الخطة الاميركية الاسرائيلية لتطويع لبنان... امام المفاجآت!!
- لبنان ليس الجولان ولن يكون ارمينيا
- العدوان لا يستهدف فقط لبنان


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - 1 العلاقة التناحرية الروسية الصهيونية،والمصير الملتبس لاسرائيل،