|
الديمقراطية بين التوظيف والتراشق الجدلي
حسين درويش العادلي
الحوار المتمدن-العدد: 569 - 2003 / 8 / 20 - 03:32
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
احتراب مصطلحي وبُنيوي اتبعت المدارس العراقية على تنوعها التراشق الجدلي في تعاطيها والديمقراطية ، وتحصّنت كل مدرسة داخل أنظمتها الإيديولوجية وحمتها بأسوار التنظير المستعصي على الإختراق !! حالها في ذلك حال باقي ساحاتنا العربية والإسلامية التي ما زالت تتراشق المصطلحات وتتناطح البُنى الفكرية دونما مشاريع بُنيوية حقيقية تستطيع إنتشال مجتمعاتها من براثن الضياع والتخلّف والطغيان !! وهذا هو حال تعاطينا والديمقراطية التي ما زلنا نجّتر على أرضيتها الإحتراب المصطلحي دون النهوض بمشاريع توظيفية عملية لروح الديمقراطية وما تُنتجه من تحكيم لإرادة الأُمم والشعوب في صنع قدرها ومستقبلها بعيداً عن الإستبداد والإستخفاف والمتاجرة الذي يتم على يد العتاة والجبابرة في أنظمتنا السياسية الحاكمة . وسواء كان موقفها هذا نابعاً من الحماية الطبيعية للذّات المدرسية .. أم كان تعبيراً عن الإنغلاق المستوحش من الواقع واستحقاقاته .. أم جاء صورةً لعقلية إحتكار التجربة ووهم الإنفراد في صياغتها على حساب تنوع وتعدد مكونات الوطن .. أم كان انعكاساً لنمطٍ ثقافي يقوم على الإستبداد ونفي الآخر .. أم كان استصحاباً لإنعدام تجارب الإرادة الحرة والإختيار النـزيه الذي افتقدته ساحتنا الوطنية منذ عهود الإستقلال الحديث لدولتنا … أقول ، أياً كان السبب الكامن وراء هذا التراشق الجدلي حول الديمقراطية إصطلاحاً ومدلولاً .. إلاّ أنَّ الكارثة الكُبرى تكمن في انعدام الإدراك بأنَّ المتضررة من هذا التقابل المدرسي وما أنتجه من تراشق فكري وتضاد بُنيوي كانت وما زالت هي أُمتنا العراقية في ماضيها وحاضرها وربما في مستقبلها ما لم تتدراك القوى الواعية والحيّة واقعنا الكارثي فتشرع بثورة بُنيوية لبناء واقعنا العراقي الجديد بما يضع حداً لتجارب الإستبداد . وهي مهمة لا أرى لها ولادة إلاّ بإعادة النظر البُنيوي في الخطاب المدرسي العراقي المطروح حالياً .. هذا الخطاب المؤسَّس على الإنغلاق والتقابل والحدّية في علائق المدارس العراقية فيما بينها ، أو في علاقاتها بالأُمة العراقية وعروض الواقع المتغيّر والمتحوّل واللا نمطي الذي يعيشه وطننا الحبيب على مختلف الصُعُد . إنَّ الجهد الذي نأمله من الفرقاء على تنوع خطوطهم المدرسية هو محاولة الولوج في متبنياتنا البُنيوية على تنوعها لإكتشاف الروح والمضمون المشترك في البناء الدّلالي للديمقراطية والمراهنة عليه بعيداً عن الوقوف على عتبة المصطلح والتهيّب من تجاوز أسواره ، فالأهم هي الدّلالة الكامنة في الإصطلاح ، ولا حرج فيما لو تطابقت الدّلالات مع اختلاف المصطلحات المعُبّرة عنها ، فالمشكلة المعرفية تنشأ من تلكم المصطلحات المشحونة بدلالاتها الخاصة غير القابلة للإلتقاء مع دلالة هذه المدرسة أو تلك ، وهو ما لا نجده في دلالات الديمقراطية التي تعني تحكيم إرادة الأُمّة العراقية في تنظيم حياتها ورسم مستقبلها باختيارها الحر البعيد عن الوصاية والهيمنة والفرض . ومثل هذه المحاولات هي في عمقها إعادة قراءة وإنتاج وإخراج لروح الدّلالة ومقاصدها الكُليّة فيما تستهدفه من غايات تهم الحياة الإنسانية بالصميم ، فالتجديد الذي نطلبه في متبنيات المدارس الوطنية هنا هو محاولة اكتشاف عناصر الدّلالة فيما تقود إليه من مديات جديدة قادرة على التناغم والتعايش فيما بينها ، ومستوعبة وهاضمة للواقع وفروضه المتجددة بما تهب القدرة على تمثّله والسيطرة عليه ، ومانحة للقدرة العملية على صُنع المصير الجمعي لأُمتنا العراقية وما يكتنف واقعها من مخاطر وتعقيدات . مفارقة رغم أنَّ الدراسات التأريخية تؤكد أنَّ العراق السومري مارس الديمقراطية قبل أثينا ، بل قبل أية مدينة عرفها التأريخ .. وملحمة جلجامش تؤكد هذه الحقيقة ، ورغم تنوع الحضارات العراقية المتعاقبة والتي وهبت القدرة على وعي قيمة التعددية والتنوع ، ورغم أنَّ حُقب التأريخ القيمي والثقافي والمجتمعي يُدلّل على قدرة الفُرقاء العراقيين على التعايش وإبداع التقدم والإزدهار رغم تباين مدارسهم البُنيوية ، ورغم أنَّ التراكم التأريخي للخبرات يوفر إمكانية الإستبصار والتمثّل والتوظيف … رغم هذا وذاك .. لم تستفد مدارسنا العراقية الوارثة لعراقنا التأريخي في إنتاج تجربتنا المعاصرة على أساس حل إشكاليات توالد الكوارث السياسية والمجتمعية والإقتصادية والحضارية .. وكأننا توارثنا روح عصور الإنحطاط والتخلف والإستعمار المظلم الذي أفقدنا القدرة على إعادة إنتاج أُمتنا العراقية بما يُناسب واقعها الحديث !! وتلك مفارقة تدعو إلى الذهول عند استعراض نتائجها المدمِرة .. فأول بلدٍ عرف الحضارة يحيا اليوم خارج أسوارها ، وأول بلدٍ عرف الكتابة يعج اليوم بالأُمية والتراجع العلمي ، وأول بلدٍ سنّ القوانين تتحكم فيه اليوم شريعة الغاب !! ما أشدّها من مفارقات لم تنجح في إنتاج لحظة تأمّل لإعادة قراءة الماضي ووعي الحاضر واستشراف المستقبل ... بلد السواد يئن جوعاً ، وبلد التعايش يضطرب بُنيةً … وعاصمة الدُنيا بغداد تفقد سيادتها !!!… أي واقع بعد هذا يستدعينا إلى مراجعة طروحاتنا ومناهجنا لضمان خروجنا من كهوف عزلة الدور والحضور والفاعلية التأريخية ؟! أية ضرورة تضطرنا إلى إعادة النظر بثقافة الإنغلاق والتصادم والتراشق الجدلي النافي لنهوضنا الفاعل والقابل للحياة ؟! إنه عزل مشترك تتبادل مواقعه مدارسنا الوطنية ضمن لُعبة الأفكار والمنهجيات القافزة على الواقع ،.. فواقع الجوع والمرض وارتهان الإرادة وانتفاء السيادة .. هي التضاريس الحقيقية لهذا الواقع الكارثي .. ولن تقوى مدرسة على الحياة مع جهلها بواقعها أو بتمردها على استحقاقاته أو بمخالفتها لفروضه . أدلجة الديمقراطية قد لا أُبالغ إن قُلت : أنَّ من أهم الخطايا التي ارتكبتها المدارس البُنيوية ، تلك المتمثلة بمحاولات الأدلجة لروح فكرة الديمقراطية قبولاً أو رفضاً ، من هنا نرى شيوع ديمقراطيات مؤدلجة من قبيل : الإشتراكية الديمقراطية ، الليبرالية الديمقراطية ، المركزية الديمقراطية ، القومية الديمقراطية ، الشورى الديمقراطية ، الشعبية الديمقراطية … إبتداءاً لا بد من الإقرار : أنَّ الإيديولوجيا ملتصقة بالحياة إلتصاقاً عضوياً ، ولا سبيل لإفراغ الحياة من الإيديولوجيا الصانعة للواقع ،.. إلاّ أنَّ إغراق الحياة بها على أساس شمولي يبحث عن أية مفردة في الواقع ليصبغها بلونه الخاص ووجهته المُحددة أدّى لفقدان الواقع المرونة والحركية والإستيعاب بل والبراءة أيضاً ، وحوّل الواقع إلى ساحة تتراشق التناظر الإيديولوجي على أرضية الجدل لا التوظيف . ولم تسلم الديمقراطية من هذا النَفَس المؤدلج الذي يُحاول - بتعسف ومبالغة - تنظيم الواقع على أساس متبنياته .. فإذا ما صادف مفردة خارج إطار إيديولوجيته المُعبأة فسرعان ما يُطوّقها ليعزلها كندٍ منافس يُصارعه على توجيه وقيادة الواقع !! ولقد تم تطويق الديمقراطية بالإيديولوجيا على هذا الأساس مما أفقدها مرونة التطبيق وهدفية الحركة .. الديمقراطية ليست ديناً أو حتى فلسفةً بالمعنى البُنيوي كي تنشأ لدينا معضلة اختلاف المرجعيات والوظائف في حرم الواقع .. وأظن أنَّ الديمقراطية قد تحررت عالمياً من الأقيسة المعرفية والإيديولوجية التأريخية الجاهزة والمعبأة بالدّلالات الجازمة ، لذا نلحظ أنَّ حركيتها التأريخية والمعاصرة حركية متحوّلة متجددة متناغمة مع وسطها رغم اختلاف الأنظمة القيمية والمعرفية والإيديولوجية التي تحتضنها .. فهي تختلف صيغاً من بلدٍ لآخر حتى في المجتمعات التي تلتزم بها ، وتنّدك حضورياً وتأريخياً بصيرورة أية أُمة من الأُمم وتلتحم مع هويتها وكينونتها الذاتية الخاصة لتميّزها نكهةً عن باقي الديمقراطيات الأخرى ولو بالأداء وصيغ التنظيم وأشكال التجسيد العملي .. إلاّ أنها تبقى في العمق محافظة على روحها الضابطة للعملية السياسية وفق أنظمة السيادة المجتمعية البعيدة عن الإستبداد والتحكم القسري بالسلطة والفرض الشمولي النافي للتعددية والحقوق والحريات . إنَّ محاولة أدلجة الديمقراطية سيُحوّلها إلى أزَمة في الواقع ، وسيقود إلى خلق وعي زائف مُعبّأ لا يكون ضحيته سوى السلام والأمن والتناغم والتقدم المجتمعي لأُمتنا العراقية … وبالذّات إذا ما تم طرح الإيديولوجيات على أساس منظومات منغلقة تطرح بدائل حدّية تفتقد المرونة ضمن قواعدها الجامعة . الديمقراطية في العراق إذا ما استثنينا الشعار ( الديمقراطي ) الذي تجود به أدبيات المدارس العراقية كإدعاء فاقد للمصداقية والتموضع الحقيقي في الفكر والخطاب والممارسة .. وإذا ما استثنينا بعض الولادات الموؤدة هنا وهناك في مسيرتنا الوطنية … إذا ما استثنينا ذلك نجد : أنَّ الديمقراطية لم تحض بدورة حياة فعلية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة . فإذا ما تم تقسيم عمر الدولة العراقية بين العهدين الملكي والجمهوري نلحظ : الغياب الحقيقي للديمقراطية وما تتطلّبه من بُنى تحتية من حريات وصحافة وأحزاب ومناخات سياسية سليمة لازمة لإنجاز التحولات المجتمعية التصاعدية . فطوال العهد الملكي لم تتطور الديمقراطية الناشئة والتي أنتجها الوعي الوطني منذ الإستبيان الذي طرحه ولسن نائب الحاكم الملكي العام في العراق بتأريخ 30 تشرين الثاني 1918 م ،.. فالديمقراطية الملكية لم تنمو وتتطوّر كأي كائنٍ وليد .. لإفتقادها لمقومات النمو الذاتي من إرادة حرّة وسيادة كاملة وتشريعات عادلة ومناهج وطنية تترفع عن التمييز بين المواطنين .. وبقيت صورية مُهددة بالأحكام العرفية وخاضعة لتوجهات ورغائب القصر وإرادة وهيمنة المستعمر ونفوذ البيوتات السياسية الطائفية الملتصقة بالمصالح والإمتيازات . ورغم المحاولات الوليدة في بدايات العهد الجمهوري نحو إشاعة الحياة الديمقراطية ولو بصيغها الأوّلية .. إلاّ أنَّ عسكرة النظام وتطاحن الأحزاب وانعدام البُنى المنهجية في الإرتقاء بالتحوّلات القيمية والثقافية والمجتمعية بشكلٍ انسيابي من قِبَل النُخب العراقية .. أدّى إلى انسداد أفق النمو والتطوّر السياسي للبلاد نحو ديمقراطية حقيقية تستطيع استعاب وامتصاص الرّدات الإنقلابية التي أودت بحياة تلك المحاولات الناشئة . ولعل الضربة القاصمة التي أنهت كافة بوادر التفكير والممارسة الديمقراطية .. تمثّلت بسيطرة البعث على مقاليد الحياة العامة في البلاد ،.. فإنَّ من أعظم خطايا انقلاب 68 الأسود تمثّل بسيطرة هذا الحزب الذي وضع حداً للتطوّر السياسي في العراق ، فهو لم يحتكر السلطة ويستأثر بها فحسب ، بل أدّى أيضاً إلى جمود وتراجعية عامة في كافة مناحي التطوّر المجتمعي والسياسي والحضاري للبلاد ، وبالذّات في عهد نظام صدام حسين المقبور الذي أغرق البلاد في مستنقعات الإستعباد والدموية والإستبداد . القومية والديمقراطية والحقيقة التي لابد من توكيدها : أنَّ التيار القومي الذي امتلك الدولة والسلطة وهيمن على كافة مرافق الحياة العامة العراقية منذ أربعة عقود يتحمل الوزر الأكبر فيما آلت إليه أوضاع بلدنا ،.. ولم يكن حزب البعث سوى إنموذجه الأكبر والذي لم يُغادر سدّة الحكم إلاّ بنحر الدولة والسلطة والحياة العراقية برمتها .. ليُعيد العراق إلى عصر ما قبل الدولة بكل ما للكلمة من معنى !!! إنَّ المثلث الجهنمي الذي حُصر العراق بين أضلاعه والذي أنتجه حزب البعث ، والمتمثل : بالإستبداد المطلق والإرهاب المنظّم والحروب المستديمة لم يقض على الحياة السياسية وإمكانية تطوّرها التدريجي نحو الديمقراطية والمشاركة الحقيقية في إدارة البلاد وحسب ، بل صادر أيضاً أوّليات الحياة الإنسانية من أمن وكرامة وإختيار ، وأوّليات الحياة الوطنية من وحدة وسيادة واستقلال . من هنا نعتقد : أنَّ الديمقراطية كانت من أولى ضحايا التيار القومي فكرا ًوممارسةً طيلة العقود الأربعة المنصرمة ، ولم نكن لنجني كل هذا الحصاد المر فيما لو تم اعتمادها ولو نسبياً بما يسمح من تخفيف غلو هذا التيار واحتكاره المطلق لدفة القيادة والتوجيه للمسيرة الوطنية .. فالتنوع الذي ستجود به العملية الديمقراطية كان سيخلق حركية رؤى ومناهج وتطبيقات تُساعد على إثراء الواقع الوطني وتكسر أُحادية الطروحات والبرامج والسياسات الداخلية والخارجية لحزب البعث والتي أدّت إلى ضياع العراق . وعموماً : فإنَّ ذات الفكر القومي والذي يقوم أساساً على أدلجة الفكرة القومية - البريئة والمحايدة بذاتها - وجعلها نظرية حاكمة ومهيمنة على الحياة السياسية العراقية .. لا يتناسب وواقعنا العراقي المتعدد بقومياته ، فليس أمام باقي القوميات العراقية إلاّ الإنصهار في بوتقة القومية العربية أو الإنفصال عن الجسد الوطني .. وكِلا الخيارين كارثي على التعايش والوحدة العراقية ، لذا ما جناه بلدنا من تمزيق للوحدة والسيادة الوطنية أتت على أرضية اعتماد الفكر والسياسة القومية المتطرفة . ولا نُبالغ إن قُلنا : أنَّ النسيج والوحدة الإجتماعية واستقرار وسيادة العراق لم يكن ليُخدش مع قيمومة الديمقراطية التي تعتمد على الحريات والتعددية والتنوع والإرادة الجمعية في تسيير شؤون البلاد ،.. فكما أنه لا ديمقراطية حقيقية في العراق فيما لو تم ابتلاع الدولة والسلطة من قِبَلِ قومية معينة وعِرقٍ خاص ، كذلك .. فلا وحدة أو ازدهار أو سيادة مع أدلجة العراق قومياً . إنَّ الدولة القومية في واقعٍ وطني متنوع الأعراق كالعراق لا يمكنها إنتاج وهبة الديمقراطية التي هي الإطار الواهب للتعبير عن الذّات والروح والطموح لكافة تنوعات الوطن والدولة ، لأنها وفي أحسن فروضها لا تحقق سوى مكاسب جزئية ومحدودة تتناسب وطموح القومية الحاكمة .. وبالمقابل ستخسر القوميات المحكومة الهوية والمشاركة والطموح ،.. وتلك إشكالية لا يمكن للدولة القومية تجاوزها بأي حال ، وهي عائدة للخلفية الفكرية للطرح القومي المؤدلج القافز على الواقع والمتجاهل لخصائصه واستحقاقاته وفي مقدمته احتكار المالكية والعائدية والتعبير والتمثيل للدولة من قِبَل القومية الحاكمة ، وهذا يعني هبوطاً وانحداراً بمفهوم ووظيفة الدولة باعتبارها إطاراً عضوياً يعكس تنظيم وإدارة شؤون ومصالح الجماعة السياسية الوطنية بكل تنوعاتها الطبيعية . إنه تراشق جدلي عقيم ذاك الذي يُحاول توليف الديمقراطية مع الدولة القومية المعتمدة على عِرق خاص في بلدٍ متعدد الأعراق .. فهذه الدولة لم تستطع التعبير الصادق عن روح وتطلعات كافة مواطنيها لأنها لا تقف على الحياد منهم جميعاً ، ولأجل تماسكها وفق وحدة عضوية متكاملة ستلجأ تلقائياً إلى القمع لإنتاج اندماجها ووحدتها الكُلية كدولة وإلاّ ستنهار ،.. أضف إلى ذلك : أنَّ جوهر الدولة القومية هو جوهر عنصري يقوم على التمايز المنتج للصراعات الحادة .. وهنا يجب أن نعي تأثير هذا الجوهر الذي تغرسه مثل هذه الدولة على روح وتطلعات روّادها في إنتاج الأزمات الداخلية تجاه القوميات المرتبطة معها في الوطن والمصير ، والخارجية تجاه الأُمم والدول الأخرى . إنَّ روح الطرح القومي المنّغلق والمُراد إخضاع الواقع الوطني على أساسه .. روح تعزز الإنغلاق والتنافر والتصادم بين التكوينات العضوية للوطن الواحد .. لأنها مؤسَّسة على العصبية العِرقية التي ترى الشرعية والمشروعية متحدة مع ذاتها القومية دونما أدنى انفصام ، لذا فإنَّ كافة التعبيرات عن هذه الذّات القومية من دولةٍ أو وطن .. تعتبرها جزءاً من ذاتها السيادية التي لا تقبل المشاركة أو التنازل .. الأمر الذي سيقود إلى تمزيق الوحدة الوطنية إذ سيُفرز العزل المتقابل بين القوميات ويؤسس لسلطات ودول داخل الدولة والسلطة الكُلية ،.. وعندها ستنتفي كافة مقومات التكامل والتقدم الوطني العام لإنتفاء الوحدة واللُحمة الوطنية . لذا فكافة الشعارات المرفوعة من قِبَل الخط القومي العراقي بكل تياراته وتعبيراته العربية منها والكردية والتركمانية ..الخ لا يمكنه إدعاء التعايش والمحافظة على الُلحمة الوطنية مع اعتماده الفكر والبرامج القومية الأُحادية كأساس ينتظم به ومن خلاله في طروحاته وممارساته السياسية وخاصة في إدارة البلاد ،.. لذا لا مصداقية موضوعية لإدعاء الديمقراطية مع اعتماد الطرح القومي الحدّي والمعبأ الذي يستعصي على الإعتراف بحق الآخر القومي في الهوية والمواطنة والثقافة والحقوق المدنية والمشاركة الفعلية في إدارة دفة الحياة الوطنية . وعليه لا نجد مصداقيةً لشعارات وطروحات القومية الديمقراطية .. كونها أساساً غير قابلة للتوظيف في واقعنا الوطني فيما لو أُريد بها سيادة قومية محددة على شؤون الفكر والثقافة والسياسة العراقية برمتها ،.. وهو ما يسترعي الإنتباه إليه فكرياً وبرامجياً . الماركسية والديمقراطية بعيداً عن تناول الديمقراطية على ضوء تحليل التجربة التي أنتجها التيار الماركسي في العراق والذي استطاع الوصول إلى تخوم السلطة إبان عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، وبعيداً عن قراءة واستقراء الأدوار السياسية التي خاض غمارها في معتركه الفكري والسياسي طيلة التأريخ الحديث للعراق … فإنَّ الأساس المعرفي للماركسية لا يُسعفها في التناغم والديمقراطية ، ولعل هذا ما يُفسّر انعدام التجارب الديمقراطية في البلدان التي حكمتها الإيديولوجيا الماركسية ، وهو ما يُفسّر سر الثورات والإنقلابات المضادة التي أودت بحياة تلك التجارب الحاكمة في مختلف بلدان العالم ،..فإنَّ رؤيتها للتطوّر الإجتماعي والسياسي والحضاري يقوم على جبرية المادية التأريخية في صياغتها للتحوّلات الإنسانية في كل مظاهرها ، ومثل هذه الرؤية الحتمية لمسيرة التطوّر الإنساني تقوم على إلغاء الإرادة والقُدرة على إجراء أي تأثير إرادي في مسار التطورات والتحوّلات الإنسانية ، فالإنسان لا يعدو أن يكون سوى أداة في ماكنة التأريخ الجبري والذي يسير وفق قوانينه الديالكتيكية الخاصة ، وأي تحوّل في المسيرة الإنسانية لن يتم إلاّ على أساس التناقض الذي يُعبّر عن نفسه في الإنفجار الثوري طبقاً لقوانين الديالكتيك (الصراع) بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج .. فكما هو معلوم : تقوم الماركسية معرفياً على فكرة المادية التأريخية في تفسير الحياة والتأريخ ، وتؤكد على أساسية العامل الإقتصادي في نشوء وتطوّر المجتمعات وضخ المضامين الفكرية والمادية لها ، وترى أنَّ ماكنة التأريخ البشري الصانعة للأوضاع الإجتماعية والسياسية والدينية والمعرفية .. تتحرك بفعل وقود العامل الإقتصادي الذي يتحدد بدوره على أساس وضع القوة المنتجة ووسائل الإنتاج ،.. فوسائل الإنتاج هي القوة الكبرى الصانعة لتأريخ المجتمعات وتطوّرها بالنتيجة لأنها هي الموجدة للحركة التأريخية ، فتطوّر وسائل الإنتاج في صراع الإنسان مع الطبيعة يُعطي لكل مرحلة من مراحل التأريخ البشري أُسلوبه الخاص في الإنتاج تبعاً لنوعية القوى المنتجة ودرجة تطوّرها ، وهذ الإنتاج تنتظم على أساسه علاقات إجتماعية مترابطة هي عبارة عن علاقات إنتاج أو علاقات مُلّكية التي تُعتبر الأساس الواقعي الذي تقوم عليه البناءات الإجتماعية كلها ،.. فالماركسية توعز البناءات العلوية للمجتمع إلى شكل علاقات المُلّكية أي شكل المُلّكية السائدة إجتماعياً ،.. وبما أنَّ وسائل الإنتاج تنمو باضطراد فإنها ستدخل في تناقض مع الوضع الإقتصادي القائم باعتباره كان نتيجة للدرجة التي تخطتها وسائل الإنتاج في نموها وتطوّرها الجديد .. وهو ما يتطلّب وضعاً إقتصادياً جديداً وعلاقات مُلّكية تتناسب والوضع الإقتصادي الجديد … وهنا يحدث الصراع بين وسائل الإنتاج المتطوّرة وعلاقات الإنتاج - المُلّكية الثابتة على أساس طبقي بين الطبقة المُعبّرة عن وسائل الإنتاج والقوى المُعبّرة عن علاقات الإنتاج .. وهنا يحدث الإنفجار الثوري الذي تخرج منه قوى وسائل الإنتاج منتصرة بعد أن تُزيل قوى علاقات الإنتاج المتخلفة عنها تطوّراً .. ولتُنشأ وضعاً إقتصادياً جديداً يُناسب تطوّرها هيَّ .. لتعود بعد مدّة من نموّها وتطوّرها إلى مصارعته من جديد طبقاً لقوانين التناقض كي تحطّمه لُتنتج وضعاً جديداً .. وهذه الآلية التعاقبية هي التي تُنشأ المجتمعات وتولّد التأريخ . إنَّ تناول الفرضية الماركسية بالتحليل لا يعنينا هنا ، بقدر ما يعنينا رؤيتها لعناصر صنع التطوّر الإنساني في مستوياته وتعبيراته كافة ، إذ يتقوم على أساس جبرية مادية لا تعرف التخلف تحت أي ظرف ، من هنا قالت بالتطوّر الحتمي للمجتمعات الإنسانية من الشيوعية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الإشتراكية .. الخ على أساس التناقض الناشيء بفعل اختلال وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ، فكل مرحلة من هذه المراحل تولد جبرياً من أحشاء مرحلتها السابقة في اندفاعٍ للتأريخ بشكلٍ أعمى لا تتحكم فيه أية قوة سوى القوة الإقتصادية كمحرك أساس وصانع للحركة المجتمعية التأريخية . إنَّ اعتبار العامل الإقتصادي والتناقض الطبقي كأساس في صُنع التأريخ الإنساني أمر لا تسعفه الحقيقة التأريخية ولا تُصادق عليه الحقيقة العلمية والموضوعية ، فمن الثابت أنَّ التأريخ الإنساني وتطوّره وتنوع تعبيراته تتداخل لإنتاجه عوامل لا حصر لها من سياسية وعقدية واجتماعية ..الخ يُعتبر العامل الإقتصادي جُزءاً منها وليس العامل الأوحد ، وهذا هو حال المسائل والظواهر الإنسانية التي تستند إلى الإرادة والإختيار والإبداع الإنساني في صُنع الواقع وإفراز التطوّرات وحياكة التأريخ ،.. لذلك شهد التأريخ قيام تجارب إنسانية ماركسية خارج إطار التفسير المادي للتأريخ الذي تدّعيه الماركسية للتطور المجتمعي ، فروسيا القيصرية لم تشهد نظاماً رأسمالياً لتحطمه قوى الإنتاج وتُقيم على أنقاضه مجتمعاً اشتراكياً ، بل كانت بلداً زراعياً متخلفاً ، من هنا كانت انفجار الثورة العمالية مُرشحاً في إنكلترا وألمانيا لا في روسيا وفق المنطق الماركسي لتأريخ التطوّر المجتمعي ،.. بل لم تكن أي دولة من الدولة التي شهدت قيام الإشتراكية – كالصين - تشهد واقعاً صناعياً ورأسمالياً متطوّراً يُفرز تناقضاً بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليحدث التحوّل المجتمعي فيها من الرأسمالية إلى الإشتراكية .. وهو خلاف إدعاء الماركسية في تفسيرها للتأريخ والتطوّر المجتمعي .. والأغرب أنَّ المجتمعات الماركسية – كما في أوربا الشرقية - قد عادت على أدراجها نحو الأنظمة المجتمعية الرأسمالية والديمقراطية ، ومَنْ بقيت ملتزمة بالفكر الماركسي ولديمومة حياتها باشرت بتطعيم أنظمتها بمناهج وبرامج رأسمالية كما في الصين .. فهل أنَّ هذه التحوّلات هي نتيجة للحتمية التأريخية الصمّاء التي لا تعرف التخلف وفق المنطق الماركسي .. أم هي نتيجة فاعلية الإرادة والإختيار الإنساني الصرف في صنع الواقع وصياغة التأريخ ؟! ثم إنَّ ذات مبدأ التناقض الماركسي المولّد للحركة المجتمعية التأريخية سيقع في مصيدة عدم العلمية والسكون والجمود الذاتي عندما تطرح الماركسية حلها لإنهاء مسألة التناقض الطبقي عن طريق إحلال علاقات إنتاجية شيوعية أي مُلكية جماعية لوسائل الإنتاج محل الإنتاجية الفردية وسيادة الطبقة البروليتارية .. فهذا الحل سيلغي مبدأ التناقض من الأساس وسيلغي التطوّر والإندفاع التأريخي للمجتمعات ، وفي حال استمراريته فلا مكان لدعوى حل التناقضات الطبقية بسيادة البروليتاريا ،.. إنَّ مبدأ التناقض الذي أقامت عليه الماركسية بُنيانها المعرفي سينهار مع تأكيد الماركسية نفسها : أنَّ الشيوعية هي المرحلة العُليا من التطوّر البشري . ثم لا مصداقية علمية وتأريخية لإدعاء قيام البناءات والظواهر الإجتماعية تبعاً للوضع الإقتصادي ، من هنا نلحظ أنَّ الظواهر الإنسانية كالفكر والّلغة والتقنين والفن .. هي ظواهر إنسانية تستند الإبداع الفطري والقدرة الإنسانية على التقدم والنمو بمعزل عن تلازمها الشرطي مع الوضع الإقتصادي ، فهل أنَّ الّلغة وليدة الإنتاج لتتغير بتغيّر أشكال الإنتاج ؟! وهل أنَّ الّلغة الروسية تبدّلت بعد قيام الثورة الإشتراكية ؟! وهل أنَّ إنتاج الفلسفة مرتبط بالوضع الإقتصادي مع أن التأريخ الفلسفي الإنساني يشهد على ارتكازه على القوى الذهنية المبدعة للكائن الإنساني بغض النظر عن الوضع الإقتصادي السائد .. فخذ مثلاً مفهوم التطوّر الذي قال به الفيلسوف اليوناني (انكسمندر) في القرن السادس قبل الميلاد فستلحظ أنه لا يختلف في جوهره عن مفاهيم التطور في عصر الإنتاج الرأسمالي ، بل أنَّ ذات مفهوم التطوّر القائم على أساس التناقض والديالكتيك قد قال به (هرقليطس) في القرن الخامس قبل الميلاد رغم أنه كان يعيش في عصر إقتصادي متخلف إضافة للتخلف الذي كان يحياه في نظرته إلى الكون والعلم .. حتى أنَّ هرقليطس كان يعتقد بأنَّ قطر الشمس قدم واحد وغروبها يتم بانطفائها في الماء !! إنَّ تفسير نشوء الدولة والدّين والعلوم والفلسفات والفنون ..الخ على أساس العامل الإقتصادي وصراع الطبقات على أرضية مادية ديالكتيكية في الوقت الذي تُكذّبه الحقائق العلمية والتأريخية ، فإنه يرسم خطاً حتمياً لا تكون فيه الإنسانية سوى قابلٍ للفعل الجبري إذ لا تملك سوى الإنصياع النافي للإرادة والإختيار والقدرة على صُنع المصير ،.. ومن هنا نفهم سّر تعارض الماركسية كمنظومة معرفية مع الديمقراطية ، فهي لا تنظر إلى الدولة والمؤسسات السياسية والحقوق المدنية وعموم الأنظمة المجتمعية والقيمية والثقافية على أساس أنها ظواهر تُقرّها وتتحكم فيها قوى الإرادة والإختيار والإبداع الإنساني ، بقدر ما تُفسّرها على أساس التوالد الحتمي للتطوّر المجتمعي التأريخي الناجم بفعل التناقض ، فالماركسية تُنهي دورة التأريخ البشري بالمجتمع الشيوعي القائم على محو السلطة السياسية إضافة لمحو المُلكية الفردية ، فهي ترى أنَّ الحكومة وليدة التناقض الطبقي باعتبارها الهيئة التي تخلقها الطبقة المالكة لإخضاع الطبقة العاملة .. وبزوال الطبقية فلا حاجة معها للسلطة السياسية !! إنَّ هذا المنطق في الوقت الذي يتعارض والتفسير العلمي للدولة – على تنوع أشكال الدولة كسلطة - كونها ظاهرة إنسانية وتأريخية أصيلة تفرضها طبيعة الحياة وحاجتها للتنظيم والإدارة ، فإنه يُلغي مشروعيتها الموضوعية وينفي أساسها الحقوقي وينفي عنها إمكانية التطوّر الطبيعي كحاجة إنسانية لا غنى عنها لتنظيم الشأن العام ويُدخل المجتمع والدولة في نفق العداء والنفي المتقابل . أعود لأقول : أنَّ التفسير الماركسي للتطوّر المجتمعي يقوم على حتمية تأريخية لا مجال لوقوف فروضها الكاسحة والثابتة والجبرية ، من هنا فلا مجال أيضاً لتداول الديمقراطية بكل ما تعنيه من حريات وحقوق مدنية وسيادة مجتمعية وتداولية في السلطة ، فسقف التطوّر النوعي والكيفي للمجتمعات هنا مُغلق بفعل هذه الحتمية التأريخية وليس أمام المجتمعات سوى الإستسلام لقدرها المصنوع من قِبَل هذه الحتمية الصارمة ، وكل مَنْ يُفكر ويعمل خارج هذا الإطار فهو يقف ضد الحتمية نفسها !! من هنا كان الخروج عليها - وفق المنطق الماركسي - هو وقوف ضد العلمية وحقائق التأريخ وسُلّم التطوّر !! لذا لا شرعية لكافة الدعوات والحركات المطالبة بالتغيير أو الساعية نحو بديلٍ سياسي أو مجتمعي خارج نطاق هذا الفسير الحدّي للتأريخ ، من هنا نفهم سّر إنتفاء المعارضة في المجتمعات الإشتراكية ، فهو انشقاق لا يُقابله سوى النفي أو التصفية !! ومن هنا أيضاً نفهم سّر انفراد الحزب الواحد في السلطة وتطبيق مباديء الأحزاب الشمولية الدكتاتورية النافية لحق الآخر الفكري والسياسي في العمل على الساحة الوطنية ، ومن هنا أيضاً نفهم سّر احتكار أوجه التقنين والإدارة والتوجيه لعموم مرافق الحياة العامة والخاصة في المجتمعات الإشتراكية بما ينفي صفة الشرعية عن أية اطروحة أو ممارسة خارج نطاق القبضة الحديدية الفكرية والسياسية للنهج الماركسي .لذا لا نجد مصداقية حقيقية في التزاوج بين الديمقراطية والماركسية إذا ما أُخذت بثقلها المعرفي الإيديولوجي .. ولا إمكانية في توظيف الديمقراطية في مرتكزاتها وأبعادها الحقيقية من خلال الديمقراطية المركزية وما سواها .. فهي محاولات إلتفافية لتبرير التسلّط والإستبداد . الإسلام والديمقراطية يجب التنويه ابتداءاً : بأنَّ كافة المحاولات التي ينبري لها دُعاة النهج الديمقراطي الإسلامي الحديث إنما هي محاولات ناشئة وتأسيسية لم يُقدّر لها بعد الشيوع كتيار فكري واجتماعي وسياسي واضح في الساحة الإسلامية العراقية ، رغم أنَّ المدرسة الإسلامية في العراق - وبالذّات مع بدايات عصر التكوين الحديث للدولة العراقية -كانت مؤمنة ومُطالبة بدولة دستورية تقوم على انتخابات حُرّة وحياة برلمانية حقيقية ، وهي من أهم البُنى للعملية الديمقراطية ، وكان هذا واضحاً من خلال المداولات والبرقيات والثورات والإنتفاضات التي انبرى لها كِبار العلماء والزّعماء تجاه سلطة الإحتلال الإنكليزي ومَنْ يمثلها داخلياً من قوى الإمتياز والإستبداد .. وفي ذلك يقول السيد حسن العلوي في كتابه الشيعة والدولة القومية في العراق : (( طروحات فقهاء الإسلام الشيعة الذين قادوا الحركة الإستقلالية العراقية لم تكن دينية متزمتة ولا ذات طابع كهنوتي ، فقد ظهرت برامجهم السياسية وكأنها مشروعات جبهوية بطابع وطني تحرري وعربي إسلامي ودستوري نيابي في وقت واحد )) .. المفترض نمو وتصاعد هذه الحركة وتكامل طروحاتها تدريجياً بما يؤصّل الديمقراطية إسلامياً كبُنية تعتمدها الحياة السياسية للإتجاهات الإسلامية العراقية .. وهو ما لم يحدث . ولا يعود عدم حدوث مثل هذا التكامل التدريجي لرؤية الإسلاميين للديمقراطية نتيجة لفشلهم الذاتي في مواصلة هذا النهج فقط .. وإنما اشتركت جملة من العوامل في إعاقة حدوثه ، منها : العامل الخارجي وتأثيراته في ترتيب شؤون ومسارات البيت العراقي ، فليس سراً يُذاع : أنَّ الواقع السياسي العراقي واقع مُستلب بفعل ثقل الهيمنة الإستعمارية والإرادات الخارجية على تنوعها ، فإنَّ لتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الحياة السياسية العراقية سواء في عملية الترجيح أو الإقصاء أو النفوذ أو الإختراق أو الإستلاب أو التبعية .. أثرها الحاسم في إعاقة نمو وتكامل الإتجاه الديمقراطي لعموم الحياة العراقية والفصائل العاملة فيها ومنها الفصيل الإسلامي ،.. وهي إشكالية صاحبة وما زالت ولادة الدول الحديثة ومحاولاتها في إنتاج صيرورتها في الإستقلال والتكوين والتي لم تسلم في أغلبها الأعم من سطوة ونفوذ وتدخل القوى الكُبرى في جهدها لإعادة صيغ الهيمنة بأساليب جديدة ونوعية من داخل وخارج المعادلة الوطنية لكل دولة . ومنها أيضاً : أنَّ أزَمة الديمقراطية من حيث التبلور النظري والتطبيقي في الحياة العراقية هي أزَمة دولة وسلطة وأحزاب وطنية عامة لا ينفرد بها فكر أو فصيل معين ، فلم تنمو وتتكامل الديمقراطية حتى لدى القوميين والشيوعيين فكراً وتجربةً .. أي أنها أزَمة عراقية شاملة لا يُستثنى منها أي اتجاه بُنيوي وسياسي مُحدد ، تعود بالأساس لإفتقاد الثقافة والمناخ والبُنى التحتية التي رافقت إرهاصات عهود التأسيس للدولة العراقية والمناهج التي ارتكزتها والسياسات التي اعتمدتها . وأيضاً ، ومع بواكير التجربة العراقية الحديثة في مناحيها الرسمية والجماهيرية برزت معالم معترك مدرسي متباين يُحاول تحديد الهوية وتشخيص الإنتماء وضخ المضامين الفكرية والقيمية للدولة والمجتمع ، فلم يُقدّر للعراق إنتاج صيرورته الجديدة وفق رؤى بُنيوية جامعة ومشتركة تُحقق ذاتيات وطموحات كافة تنوعاته وتُراعي كافة مقوماته الدّينية والحداثوية والتنموية ، بل دخل ومن فوره معركة الحسم البُنيوي على أرضية التضاد بين الإتجاهات المدرسية المؤدلجة التي أخذت بالتّشكل والتعبير عن نفسها من خلال قوى الدولة والسلطة والمجتمع ، الأمر الذي أعاق النمو والتكامل التدريجي للطروحات الجامعة والقادرة على إنتاج صيرورة مُعبّرة عن خصائص الكُل العراقي بثقله وأنساقه المختلفة ،.. ومع اجتياح موجات التحرر الوطني تجاه الهيمنة الإستعمارية وتصاعد المد القومي المؤدلج والطروحات المدرسية اليسارية كجزء من الإستقطاب العالمي وبروز بوادر الدفاع عن الذات القيمية والدينية بالمقابل والتي شعرت بالتهديد جرّاء بعض السياسات المعادية للدّين والكيانات المُعبّرة عنه .. وجد العراق نفسه وقد دخل نفق الأحزاب الشمولية والكيانات البُنيوية المتضادة ذات الإستقطاب الحاد القومي والشيوعي والإسلامي .. وعلى ذلك قامت الحياة السياسية العراقية .. مما أفقد ساحتنا الوطنية نمو الإتجاه المرن والتوفيقي والمنفتح ليس في أوساط الإسلاميين وحسب بل وأيضاً في الأوساط الوطنية الأخرى ،.. فعندما تكون الساحة الفكرية والسياسية مأزومة بهذا الإستقطاب المنغلق والنافي للآخر ، تنحسر تدريجياً إمكانية النمو للإتجاهات المعتدلة داخل كل مدرسة ،.. وهذا ما حدث في عملية التعاطي والديمقراطية ، كونها تنمو وتزدهر أساساً على أرضية الإعتدال والتعايش ، وهو ما لم تجُد به التجارب الحاكمة والإستقطابات الحادة للمدارس العراقية . كما ويُعزى التراجع في تنامي النهج الديمقراطي في الأوساط الإسلامية إلى ذهنية الإستقطاب القائم على نسقين متقابلين بين الإسلام والديمقراطية ، فالإستقطاب الذي تطرحه المدارس العراقية على تنوعها من داخل وخارج الدائرة الدينية إنما هو استقطاب ثنائي القيمة والقطب والمرجعية .. مما أفقده القدرة على تلمّس الأبعاد والمضامين المشتركة لكليهما ، ولا يعود ذلك لتصلّب بعض أصحاب الإتجاه الديني تجاه الديمقراطية والتي يرَون فيها تضاداً مع الإسلام وحسب بل ويعود أيضاً لدعاة المدارس البُنيوية والسياسية غير الدينية والذين يُحاولون نفي أية صلة أو علاقة بين الدّين والديمقراطية إمّا جهلاً بواقع الدّين أو إسقاطاً لأنماط خارجية على الخط الإسلامي العراقي أو كجزءٍ من صراعهم البُنيوي والسياسي لقيادة التجربة العراقية برمتها .. وهذا وذاك صعّب المهمة البُنيوية في شقّيها النظري والتطبيقي أمام الخط الوسطي الإسلامي الذي يرمي إلى إنتاج مناهج مشتركة قادرة على التعايش وإقرار المركبات البُنيوية المستوعبة لتنوعات الواقع المدرسي العراقي بما يخدم الوطن والأُمّة العراقية . كذلك ، فإنَّ من العوامل التي حالت دون تنامي الديمقراطية داخل الخط الإسلامي العراقي : إعطاء صبغة التقديس لفكر سياسي دّيني مُحدد كقراءة أوحدية لرؤية الإسلام لنمط التجربة السياسية العامة مع انتهاء عصر النص والوحي والعصمة ، وعدم الإعتراف بالقراءات الفكرية الدينية الأخرى التي تُحاول حل الأزَمة الإجتماعية والسياسية والحضارية وفق مضامين تلتقي كُلياً مع الدّين من حيث الروح والمقصد ، وهذه الإشكالية التي نُعاني منها إنما أنتجها منهج التوحيد بين الدّين والفكر الديني في تأسيس الطروحات وإقرار البرامج الوطنية . إننا نعتقد أنَّ هناك فرقاً بين الدّين والفكر الديني ، فالدّين كحقائق والثابت بالنصّ ودلالة القول والفعل والإقرار اليقيني ، إنما يؤسِّس لدلالات مرجعية تُعتبر هي الحَكَم على تعدد القراءات الدينية وطبيعتها ونتائجها ، بخلاف الفكر الديني فهو لا يمثّل مرجعية بذاته كونه قراءة بشرية للحقائق الدينية تقترب أو تبتعد في فهمها وجُهدها واجتهادها من الدّين نفسه ، من هنا كان لدينا فكراً دينياً أصيلاً أو هجيناً ،منفتحاً أو مُنغلقاً .. وما ذاك إلاّ لأنَّ الدّين غير الفكر ، فالفكر قراءة بشرية والدّين حقيقة إلهيّة ،.. لذا لا مكان للإدعاء بقدسية الفكر بالمعنى التنـزيهي الخارج عن النقد والرفض والقبول لأنه قراءة إنسانية للدّين الإلهي ، وإنما المُقدّس والمُنـزّه إنما هو الدّين ذاته ،.. ويُؤسَّس على هذا القول شرعية أية قراءة فكرية ما دامت تستند الحقيقة الدينية وتقوم عليها وتستوحي مقاصدها وغاياتها من نفس الحقيقة الدينية ، وعليه فلا مجال موضوعي لإحتكار التفسير للحقيقة الدينية بدعوى شرعية هذا الفكر أو ذاك مما يُنسب إلى الدّين ،.. من هنا فمقاربة الدّين والديمقراطية تعتمد ذات هذه المنهجية في الوصول إلى نتائج المطابقة أو المنافرة بينهما ، وهو ما يجب وعيه من قِبَل الإسلاميين وسواهم . أضف إلى ذلك : عدم التفريق بين الدّين والتجارب الإنسانية المؤسَّسة على أساسه ، واعتبار تجربة إنسانية دّينية هنا أو هناك مرجعاً في تحديد الموقف من المناهج والآليات المستحدثة دون الرجوع إلى الدّين نفسه لإستبيان موقفه الحقيقي من التطورات التأريخية في مجالات الفكر والمناهج المُستحدَثة ،.. وهنا يتم إسقاط تجربة إنسانية على الدّين نفسه فيختلط في حرم الوعي القيم كمرجعية والتطبيق كجهد يقترب أو يبتعد عنها . وأيضاً ، فإنَّ من المعوقات الكامنة في ذهنية بعض العاملين في الحقل الديني : عدم إدراك حركية الواقع بأنساقه وآلياته المعقدة والتعاطي وإياه كفراغ ينتظر إحلال النظريات والمقولات لتطبيقها ، وهو ما أدّى إلى اندثار فقه الواقع وفقه التزاحم وفقه الأولويات التي تتعاطى مع الواقع على أساس حركيته الدائمة المتجددة في عروضها ،.. وهي إشكالية أنتجت فيما أنتجت الوقفية والركود في حركة الهضم الواقع ، وحالت دون القيام باستيعاب المناهج والآليات الجديدة القادرة على إيصالنا لنفس المقاصد .. فتجاوزنا بذلك العديد من القواعد المتعاطية مع الواقع بمرونة كالقواعد القائلة بتجدد الأحكام بتجدد الزّمان ، وثبات الغاية لا يقتضي ثبات الوسيلة . هل ثَمة تعارض بين الإسلام والديمقراطية ؟ للإجابة على هذا التساؤل ، علينا الوقوف على المفهوم المعاصر للديمقراطية ومقاصدها أيضاً ، ثم نعرضها على روح ومقاصد الإسلام لنرى إن كان هنالك تعارضاً أم اتفاقاً . استقر الفكر السياسي الحديث على اعتبار أنَّ الديمقراطية هي الطريقة والآلية والمنهج الذي يمنح القدرة لكافة مواطني الدولة على حُكم أنفسهم من خلال ممثليهم بانتخابات حُرّة ونزيهة قائمة على تعددية حقيقية مفعمة بحرية التعبير والتجمّع والصحافة .. فالديمقراطية هي وسيلة تعتمد إرادة الكُل الوطني لإقامة السلطة . ولعل بدايات هذا التطور المعرفي للديمقراطية المعاصرة تجسّدت على يد المفكّر جوزيف شومبيتر 1942 في كتابه المعروف (( الرأسمالية والإشتراكية والديمقراطية )) والذي يُعبّر عن الديمقراطية بأنها : عبارة عن الترتيب المؤسساتي الذي يؤمّن الوصول إلى قرارات سياسية والذي يتمكن فيه الأفراد من امتلاك القدرة على التقرير من خلال التنافس على أصوات الناخبين . وقد لاحظ صامويل هانتنغتون 1997 هذا المعنى الذي أطلقه شومبيتر ، وقال : أنه منذ الحرب العالمية الثانية أصبح الإتجاه الغالب في تعريف الديمقراطية هو ذلك الذي يربطها بصورة تكاد تكون كاملة بالإنتخابات ، بحيث صار يُنظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجموعة وسائل لإقامة السلطة ووضعها تحت طائلة المسؤولية وذلك في مقابل الوسائل الأخرى المُعتمدة في الأنظمة السياسية التي تمكّن الأفراد من أن يصبحوا حُكاماً عن طريق الولادة أو الثروة أو الإكراه . أمّا فوكوياما 1992 فإنه يذهب إلى ذات المعنى عندما يقول : أنَّ الديمقراطية عبارة عن الحق الشمولي في الإشتراك في السلطة السياسية ، أي الحق الذي يملكه كل المواطنين في الإنتخاب وفي المشاركة في الحياة السياسية ، والبلد الديمقراطي هو الذي يمنح الشعب حق اختيار حكومته بواسطة انتخابات دورية على أساس التعددية الحزبية وبالإقتراع السّري وذلك على أساس الإقتراع العام والمساواة في ذلك بين جميع أفراد المجتمع .{ تُراجع مصادر النصوص في كتاب (( الإسلام والديمقراطية في معركة البناء الحضاري )) ص 93 للكاتب والإعلامي العراقي محمد عبد الجبار } . فإذا كان جوهر الديمقراطية المعاصرة يقوم على حق الأُمة في الحكم على أساس الإرادة الحُرّة والإختيار النـزيه وصولاً لمقاصد نفي الإستبداد وإشاعة العدل والمساواة والتكافؤ بين المواطنين لضمان السلم والتعايش الوطني … فهل تتعارض هذه المعاني والغايات مع الإسلام روحاً ومقاصداً ؟! إننا لا نرى أيّ تعارض جوهري يحول دون اعتماد الديمقراطية ، إنطلاقاً من : أولاً : بعد انتهاء مرحلة عصر النص والوحي والعصمة ، فإنَّ الحديث عن شكل الحكم يقوم على الأصل الثابت وهو (( ولاية الأُمة على نفسها )) ، باعتبار (( أنَّ مسألة الحكم في الوقت الحاضر لم تُعالج في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً )) كما قال السيد الشهيد محمد باقر الصّدر { المصدر السابق ص 82 } ، فيكون الرجوع إلى أصل ولاية الأُمة على نفسها لتنظيم آليات حياتها بما يحفظ لها وجودها وبقاءها وتقدمها هو الراجح ما دامت الأُمة لا تتحدد بصيغة ثابتة للحكم ولكونها الأدرى بما يُناسبها لتسيير أمورها العامة وهي صاحبة المصلحة في كل ذلك ،.. وعليه فلها حق الإختيار وحق التطبيق لصيغ الحكم التي ترى صلاحها لتنظيم وإدارة واقعها ، ومنها الصيغة الديمقراطية . وأيضاً ، فلا دليل شرعي قاطع على كافة النظريات التي تُحاول طرح بدائل لمبدأ ولاية الأمة على نفسها وما ينجم عنها من صيغ متحركة تبعاً للواقع المتغير والمتحرك ، فالنظريات التي تُحدد صيغة الحكم بولاية الفقيه أو الإمارة أو الخلافة .. هي نظريات اجتهادية بالأساس تُحاول تلمّس الدليل الشرعي هنا وهناك كما هو واضح من خلال استعراض أدلة روّادها ،.. وهي في أحسن الأحوال لا تعدو أن تكون سوى قراءة اجتهادية للنصوص الشرعية المعتمدة ، ولها المؤيد والرافض من داخل الدائرة الإسلامية بالذّات ، وكونها قراءة اجتهادية يعني أنها قراءة إلى جنب القراءات الأخرى ، وعليه لا تمتلك الشرعية القاطعة لنفي القراءات الإجتهادية المغايرة لها ، وبالنتيجة لا يمكنها الإدعاء باحتكار التمثيل لوجهة نظر الإسلام بالحكم وبطلان سواها ، وينتج عن ذلك الإقرار بأصل اختيار الأمة لبديل من البدائل الإجتهادية المطروحة وهو مصداق من مصاديق ولاية الأمة على نفسها بالتبع ،.. فلها أن تختار الصيغة الديمقراطية لإقامة وإدارة السلطة والحياة السياسية العامة ، وكما قال المرحوم الشيخ شمس الدّين (( لا يوجد لدينا في الشرع على الإطلاق لا في الكتاب ولا في السُنّة ولا في الفقه العام ما يمنع من اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل )) { المصدر السابق ص 119 } . كما أنَّ الجزم العقلي (( مع فسحة عدم وجود نص قطعي )) يؤكد سلامة مبدأ اختيار الأُمة لأنسب الصيغ الممكنة التي ترى صلاحها لإقامة الدولة وصيانة وحفظ الهيكل القيمي والإجتماعي والسياسي والإقتصادي للنّاس .. ذلك أن العقل يحكم بأنَّ إدارة الحياة الإنسانية وإقامة السلطة لتحقيق النظام وإجراء الحقوق وتطبيق الواجبات .. يستلزم رضا الناس وتحقيق إرادتهم واختيارهم لنمط الآليات التي تحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم ، بما فيها آليات المشاركة والمحاسبة والشفافية .. وهو ما تجود به الديمقراطية كصيغة لإدارة أوجه الحياة العامة للنّاس وفي القلب منها السلطة . وأيضاً ، فإنَّ أية صيغة حكم لابد لها من شرعية تُلزم النّاس بها وتُحقق النظام والطاعة ، ومع انتفاء النص الذي يُحدد صيغة الحكم في زمننا الحاضر ، نعود إلى أصل مبدأ الإستخلاف الذي يقوم عليه مبدأ ولاية الأمة على نفسها ، فالإنسانية المتمتعة بقوى الإرادة والإختيار والمتحملة للمسؤولية والجزاء هي المعنية بالخلافة والتي هي عبارة عن إنابة الجماعة البشرية في قيادة وإعمار الحياة والكون { وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة .. } 30 البقرة ، وعلى (( هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله ، ومن هنا كانت الخلافة أساساً للحكم ، وكان الحكم بين الناس متفرعاً على جعل الخلافة )) { المصدر السابق ص 61 } ، فشرعية الحكم هنا تتحقق استناداً إلى الإستخلاف الذي يمنح صلاحية إدارة الجماعة البشرية لنفسها . إنَّ ثبوت مبدأ نفي سيطرة الإنسان على الإنسان إسلامياً ، يقضي بالرجوع إلى رضا الناس وقبولهم لتحقيق الشرعية السياسية للحكم ، وما البيعة أو العقد أو الإنتخاب سوى مصاديق كاشفة ومؤكِدة لرضا الناس واختيارهم بما يُحقق شرعية التسلّط من قِبل دولة أو حكومة أو كادر مُعين ،.. والصيغة الديمقراطية هي الأنسب حالياً للكشف عن رضا الناس وقبولهم العملي بالسلطة وكادرها ، كونها تقوم على إرادتهم واختيارهم ،.. وإلاّ كيف يمكننا الإطمئنان إلى إحراز رضا الناس بالسلطة ؟ سيما وأنَّ الإسلام يعتبر السلطة مسؤولية وليست امتيازاً وأنها من حق الأُمة وأنَّ الأصل فيها نفي الإستبداد من خلال نفي سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان ،.. من هنا فإنه لا يعترف بشرعية أية سلطة تقوم على التغلّب أو الوراثة أو الإكراه . ثانياً : أما مقومات الحياة الديمقراطية إضافة لإختيار الناس لنوعية الحكم والسلطة ، والتي تمتد لتشمل تداول السلطة وسيادة القانون والتعددية السياسية والمساواة والعدالة بين رعايا الدولة وإقرار الحريات في التعبير والرأي والعمل ..الخ ، فهي مما اشتمله الإسلام كمفاصل رئيسة في رؤيته الكونية ،.. وهي مسألة تُجمع عليها المدرسة الإسلامية بغالب خطوطها ، وهذا يعني تطابقها مع مقومات الديمقراطية وشروط إنتاجها العملي ، فكيف لنا الحكم بالتنافر والتضاد بين مضامين وغايات الديمقراطية مع روح ومقاصد الإسلام ؟ لقد أقام الإسلام رؤيته للإنسان على أساس استخلافه لإعمار الأرض { وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة .. } 30 البقرة ، ومن مقتضياتها العقل والإرادة والإختيار الحر ، فالإستخلاف هنا حركة واعية وحُرّة ، ولا جوهر لها مع انتفاء الإرادة والإختيار ، فعندها ستغدو قانوناً جبرياً يصدق على الإنسان كما يصدق على الجماد ، ولإنعدمت حركة التأريخ ولساد الجبر ،.. واقتران الجزاء في الدنيا والآخرة مقترن بالحرية والتأسيس القائم على ضوئها ، من هنا كان للعمل الإنساني أصالة { فاستَجابَ لهُم ربُّهُم أنَّي لا أُضيعُ عَمَلَ عاملٍ منكُم من ذَكرٍ أو أُنثى .. } 195 آل عمران ، لأنه مقترن بالقدرة على الإختيار { إنَّا هَديناهُ السّبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً } 3 الإنسان ، ومن هنا أيضاً تترتب عليه النتيجة { فَمنْ يعمل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَه . ومَنْ يعمل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه } 7-8 الزلزلة . ويقوم على ذلك كله تأصيل الإختيار ونفي الإكراه { لا إكرّاهَ في الدّين .. } 256 البقرة ، { ولو شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً أفَأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حتّى يكونوا مُؤمنين } 99 يونس ، ويؤسَّس عليه حرية التعبير عن العقيدة والرأي والفكر والضمير ،.. وتتفرع عنها كافة حريات الإنسان في العمل والتجمّع والتملّك والسفر والإقامة ..الخ ، لأنَّ النّاس إسلامياً مُسلّطون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومصائرهم .. وذلك كله من مقتضيات إرادتهم الحرّة . كما أقام الإسلام رؤيته على وحدة الأصل الإنساني ووحدة نوعه وهويته بعيداً عن أي تمايز بسبب العِرق أو اللون أو المال أو الطبقة { يا أيُها النّاسُ اتقوا ربّكُم الذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ ..} النساء 1 ، { يا أيّها النَّاس إنّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِنَدَ اللهِ أتقَاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير } 13 الحُجُرات ، ويؤسَّس عليه نبذ التمييز والدونية والإنغلاق ، وإشاعة التكافؤ والمساواة والإنفتاح . كما أكد الإسلام على الكرامة الإنسانية الفريدة { ولقدَ كَرَّمنا بَني آدمَ .. } 70 الإسراء ، التي ترفض الظلم والإستبداد والإضطهاد ، لذا أكسب الإنسان حق الحياة وحق العدل وحق التكريم وحق الأمن . من جانب آخر ، تُقر النظرة الدينية الإختلاف كسُنّة تتقوم بها الحياة وتقوم عليها الحركية الإنسانية التأريخية { ومِنْ آياتِهِ خَلقُ السَّمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكُم وألوانكُم إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ للعَالِمين } 22 الرّوم ، وهو ليس اختلاف تضاد بل اختلاف تكامل فالتشابه يقضي على إمكانية نشوء الحياة والحركة الإنسانية ،.. ويستتبع ذلك الإقرار بحقيقة التعددية في الحياة الدنيا ، ومآل نتائجها عند الله تعالى في الآخرة { قُلْ كُلٌّ يعملُ على شَاكِلَتِهِ فَربُّكُم أعلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدَى سَبيلا } 84 الإسراء ، { ولِكُلٍ وِجهَةٌ هو مَوَلِّيها فاستبِقُوا الخيرَات .. } 148 البقرة ، { .. لِكُلٍ جَعَلنا شِرعَةً ومنهَاجاً ولو شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أُمةً واحِدةً ولكن لِيَبلُوَكُم فيما آتَاكُم .. } 48 المائدة ،.. من هنا يستلزم الواقع الإعتراف بوجود الآخر المختلف سواء في العقيدة أو المنهج بغض النظر عن رأينا بعقيدته ومنهجه .. استناداً إلى حقيقة الإختلاف وما ينجم عنها من تعددية في الحياة التي تتخذ صور التعددية في الفكر والعمل والسياسة . ثالثاً : إشتراك الإسلام والديمقراطية بنفي ونبذ ومحاربة الإستبداد باعتباره جذر الكوارث التي تشل الحياة وتُعطل مقومات الإنسانية من حرية وإبداع وتطوّر ،.. وهنا تجب الإشارة ، إلى أنَّ الإسلام لم يؤكد على مبدأ أو قيمة أو مَعلَم - بعد توحيد الله تعالى - أكثر من تأكيده على العدل والقسط .. حتى أنه جعل إقامة القسط من أهم غايات النّبوات وأهداف الكِتاب { ولَقَد أرسَلنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأنزَلنَا معهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسط .. } 25 الحديد ، من هنا جاء التأكيد بوجوب إقامة وإشاعة العدل باعتباره عماد ومقياس أية تجربة ، وفي طليعة استحقاقات العدل إقرار حقوق البشر ونفي استعبادهم وظلمهم واستغلالهم ومصادرة حقوقهم في الولاية على أنفسهم ،.. وإنَّ في نفي الإسلام للتسلّط وهظم الحقوق تأكيد على نفي أية شرعية للحكم الإستبدادي المنافي لرضا وقبول الناس ،.. وسواء قلنا بالشورى الإلزامية أو البيعة المشروطة أو الإنتخاب الحر .. فهي كافة أوجه لتأكيد رضا الناس وقبولهم بما ينفي الإستبداد والتسلّط بالإكراه ، وبما يؤصّل لإختيارهم بعيداً عن التغلّب والإضطهاد . مقومات الديمقراطية وعلى مذبح التراشق الجدلي على حساب التوظيف الواعي والمدروس للديمقراطية ، ينهمك العديد منّا في تناول الديمقراطية في أبعادها الإيديولوجية السياسية الصرفة ، دون إدراك أنَّ للديمقراطية بُنى تحتية لا يمكنها أن تنشأ أو أن تستمر دون النهوض العلمي والعملي بها ، وهي إشكالية تُنتجها عقلية الجدل القافزة على التوظيف . إنَّ الديمقراطية الراسخة لابد لها من مقومات أساسية تعتمدها في النشوء والإرتقاء ، فكما هي مرتبطة بالدولة والتشريعات والأنظمة والقوانين .. فهي مرتبطة أيضاً بالثقافة المجتمعية الشاملة التي يجب أن تقبل باستحقاقاتها في الحرية والتسامح والحوار والتعددية وقبول الآخر والنقد والمحاسبة والشفافية والولاء والتضامن الوطني ،.. وكما هي مرتبطة بالموارد والإمكانات .. فهي مرتبطة بالتنمية البشرية الشاملة في أبعادها السياسية والإقتصادية والتعليمية والتربوية ،.. وكما هي وليدة شكل النظام السياسي .. فهي أيضاً رهينة فاعلية المجتمع المدني بمؤسساته وهيئاته وقواه الحيّة الناشطة .
#حسين_درويش_العادلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرات في الدولة العراقية
-
العراق ومناشئ الصراع - الحلقة العاشرة
-
العراق ومناشئ الصراع - الحلقة التاسعة
-
العراق ومناشئ الصراع - الحلقة السابعة
-
العراق ومناشئ الصراع - الحلقة السادسة
-
العراق ومناشئ الصراع - الحلقة الخامسة
-
العراق ومناشئ الصراع - مناشيء الصراع
-
العراق ومناشئ الصراع - أنواع الصراع وموضوعاته
-
العراق ومناشئ الصراع - تعريف الصراع
-
العراق ومناشئ الصراع - الواقع الفعلي
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني- مجتمعنا في مواجهة ذاته
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - المجتمع المدني والقوى الس
...
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - مجتمعنا المدني في ظل الدو
...
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - الحلقة الثالثة والرابعة
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - الحلقة الثالثة
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - التجاذب المصطلحي
-
الأُمّة العراقية والمجتمع المدني -الحلقة الأولى
-
نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة((6)) الأُمّة العراقية ..
...
-
نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة((5)) الذّات العراقية ، وا
...
-
نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة((4))الذات العراقية .. وال
...
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|