|
نحو باكستان علمانية على النمط التركي
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1880 - 2007 / 4 / 9 - 11:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قد لا يعجب الكثيرون سياسات الرئيس الباكستاني برويز مشرف، لا سيما و انه من ذوي البذلات الكاكية الذين لطالما تسببت مؤسستهم العسكرية في ضرب الديمقراطية و الحكم المدني، بل تسببت أيضا برعونتها في انسلاخ ما كان يعرف بالجناح الشرقي للدولة و بالتالي سقوط المبدأ الذي قامت عليه باكستان ككيان ممثل لمسلمي شبه القارة الهندية.
غير أن ما يحسب لمشرف انه يحاول اليوم الترويج لمفاهيم جديدة، هي في الواقع جزء مما كان يحلم به مؤسس البلاد محمد علي جناح، الذي لم يعش سوى عام واحد بعد قيام دولته. فالأخير، رغم انه مخترع نظرية قيام كيان منفصل عن الهند التاريخية على أسس دينية بحتة، كان علمانيا في فكره و توجهاته و نمط حياته، الأمر الذي يشي إلى أن تبنيه لفكرة الدولة الدينية لم يكن سوى وسيلة لإشباع طموحاته السياسية في الزعامة الأولى، و هو ما كان هدفا بعيد المنال في ظل وجود قادة منافسين كبار كالمهاتما غاندي و الجواهر لال نهرو و مولانا أبو الكلام آزاد و غيرهم من رموز الحركة الوطنية في الهند البريطانية.
و مشرف الذي رصد عنه مرارا إعجابه بالنظام العلماني القائم في تركيا، حيث عاش صباه يوم كان والده ملحقا عسكريا في السفارة الباكستانية في أنقرة، يحاول منذ وصوله إلى السلطة في عام 1999 على اثر انقلابه على الحكومة المدنية المنتخبة بقيادة رئيس الوزراء نواز شريف، أن يشرعن لحالة مخالفة لتلك التي ترسخت مع مرور الزمن، أي حالة الدولة المقيدة في سياساتها الداخلية بأحكام و ضوابط دينية إسلامية. فمن بعد وفاة جناح المفاجيء في عام 1948 وصعود رفاقه إلى السلطة، لم يجد هؤلاء ما يستعينون به في ظل فقدانهم للكاريزما الجماهيرية والشرعية التاريخية و اصطدامهم بالتهديد الخارجي و تحديات بناء الدولة المستقلة سوى الارتكان إلى الدين كعامل جامع و موحد للقوميات التي يتشكل منها الشعب الباكستاني.
و لئن استخدمت النخب السياسية و العسكرية التي توالت على السلطة في الخمسينات و الستينات من القرن الماضي الإسلام باعتدال في بناء و ترسيخ الكيان الوليد، فان من أعقبوهم منذ السبعينات ابتداء بالزعيم المدني ذو الفقار علي بوتو و خليفته العسكري الجنرال ضياء الحق، تمادوا في الأمر وصولا إلى محو آخر ما تبقى من صور باكستان العلمانية. فالأول مثلا كان أول زعيم باكستاني يتبنى تطبيق أحكام الشريعة رغم خلفيته الاشتراكية و إعجابه الكبير بتجربة ماو تسي تونغ في الصين، و هو ما فسر في حينه على انه محاولة لكسب الدعم المالي من دول الشرق الأوسط النفطية الغنية في وقت كانت فيه بلاده منهكة من هزيمتها المرة في حرب البنغال (1971) و انفصال جناحها الشرقي في دولة مستقلة تحت اسم بنغلاديش. أما الثاني فقد شهد عهده جنوحا واسعا نحو تطبيق أحكام الشريعة على مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، و ذلك من اجل تحقيق هدفين: كسب قوى الإسلام السياسي إلى جانبه تعزيزا لدعائم نظامه العسكري الفاقد للشرعية، وجني المزيد من المساعدات و الهبات المالية من دول النفط.
و رغم أن مشرف اصطدم ولا يزال يصطدم بميراث أسلافه ممن زرعوا الأصولية الدينية في باكستان و رعوا نموها و تجذرها في مختلف الأوساط – بما في ذلك أوساط المؤسسة العسكرية وجهازي الأمن و المخابرات – و ساهموا في نشر ما يعرف بثقافة الكلاشينكوف، فان محاولاته في السنوات الأخيرة للترويج للإسلام الحضاري المعتدل كطريق نحو التنمية و الانفتاح و التمازج مع دول آسيا غير الإسلامية الصاعدة لم تتوقف.
من مظاهر هذه المحاولات دفاعه عن حقوق المرأة الباكستانية و إصدار حكومته لتشريعات عصرية تنقض بعضا مما شرعه أسلافه أو مما تجذر كتقليد و عرف قبلي من قوانين و أعراف مخالفة لحقوق المرأة في المساواة و حرية الاختيار. و من مظاهرها أيضا قرارات حكومته حول ضبط عشرات الآلاف من المدارس الدينية التي تفرخت في العقدين الأخيرين و راحت تنشر الغلو والتطرف و الكراهية في المجتمع بدلا من تعليم الشباب ما يساعدهم على ولوج أسواق العمل واقتحام معترك الحياة من علوم العصر.
ومؤخرا، أقدم مشرف على خطوة جريئة أخرى، بغض النظر عما أثارها من شبهات دستورية أو ما قيل حول دوافعها. ونعني بهذه الخطوة تنصيبه لقاض باكستاني من الأقلية الهندوسية على راس المؤسسة القضائية خلفا للقاضي المسلم افتخار محمد تشودري المتهم باستغلال منصبه وصلاحياته في تعيين ابنه في وظيفة حكومية بارزة. فلأول مرة منذ الخمسينات حينما كانت البلاد تحاول إعطاء انطباع للعالم بأن قيامها على الدين (الإسلام) كعنصر وحيد لا ينفي حقوق أقلياتها غير المسلمة في تولي وظائف الدولة العليا، فعينت المسيحي المولود في مدينة أغرا الهندية "ألفين روبرت كورنيليوس" كبيرا للقضاة، يصار إلى بعث هذا المبدأ العلماني.
و لأن كبير القضاة الجديد " رانا بهاغوانداس" (64 عاما) هذه المرة هندوسي الديانة، فان للأمر مدلول ربما فاق مدلول السابقة الأولى، كون الهندوسية إحدى الديانات الكبرى الأصيلة في المنطقة، ناهيك عن أن الهندوس (عددهم لا يتجاوز اليوم ثلاثة ملايين نسمة أي اقل من 2 بالمئة من عدد السكان البالغ 160 مليون نسمة، و يتركزون بصفة خاصة في إقليم السند و كراتشي) شكلوا نسبة معتبرة من سكان الأراضي التي تكون منها الكيان الباكستاني قبل أن تضطر غالبيتهم العظمى إلى الهجرة إلى الهند أثناء عملية التقسيم القسري لشبه القارة الهندية، شانهم في ذلك شأن بعض مسلمي الهند الذين هجروا أراضيهم و نزحوا إلى باكستان جريا وراء سراب مشروع جناح الخاص بإقامة الكيان المسلم الحامي لثقافتهم و عقيدتهم، بما فيهم أسرة مشرف نفسه المنحدرة من منطقة قريبة من دلهي.
و بطبيعة الحال، أثار هذا القرار الجريء من مشرف احتجاجات واسعة شارك فيها كل خصومه في التيار الديمقراطي و تيار الإسلام المتشدد، بحجة أن تعيين مواطن غير مسلم على راس الجهاز القضائي في دولة ركيزتها و دين السواد الأعظم من شعبها هو الإسلام مخالف شرعا و دستورا. غير أن هذه الحجة يمكن تفنيدها بسهولة. فالتعديلات التي أدخلت على دستور البلاد عام 1974 لم تمنع الباكستاني غير المسلم من تولي منصب قاضي القضاة أو أي وظيفة عامة سوى رئاسة الدولة و رئاسة الحكومة اللتين اشترط فيمن يتولاهما أن يكون مسلما. هذا فضلا عن أن القاضي بهاغوانداس حاصل على درجة الماجستير في القانون و الدراسات الإسلامية و ملتحق بسلك القضاء الباكستاني منذ عام 1965 و يملك خبرة طويلة استمدها من عمله قاضيا في محكمة السند العليا منذ عام 1994، ناهيك عن أن الأحكام القضائية التي يصدرها كبير القضاة عادة ما يشترك فيها ثلاثة قضاة آخرون.
والحال أن مشرف يخوض معركة كبيرة، قد لا تأتي بكل النتائج المرجوة لانتشال باكستان من ميراث ثقيل يزيد عمره عن نصف قرن، غير أن هذه المعركة باتت اليوم ضرورة ملحة لدولة شاءت الأقدار أن يرحل مؤسسها سريعا و ترحل معه أفكاره و مشاريعه الطموحة في بناء كيان نموذجي قوي مستقر ينافس الكيان التوأم في الهند.
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدلية المفاضلة بين الملكية و الجمهورية في نيبال
-
لكم ثقافتكم و لنا ثقافتنا
-
الجنرال خاتون
-
درس جديد من ماليزيا: لا للتجسس الاجتماعي
-
ماذا يجري في بلوشستان الإيرانية؟
-
ميلاد دولة نفطية جديدة!!
-
أبو الفقراء لم يكافح الفقر فقط !
-
غاندي في ذكراه : يا لها من ذكرى عطرة!
-
تركمانستان بعد رحيل ديكتاتورها
-
حينما يفسد عضو مصداقية منظومة بأكملها
-
الأمم المتحدة ما بين أمينين عامين آسيويين
-
لعله الموت الأخير للقذافي جانجلاني!
-
عن القرصنة في مياه المحيط الهندي
-
مشرف و نساء باكستان
-
حوار مع القيادي الليبرالي البحريني د. عبدالله المدني
-
رفقا بالبحرين الجميلة
-
نحو شراكة خليجية – يابانية شاملة
-
في فيتنام .. لا وقت لاجترار الماضي
-
الخليج .. فيما لو حدث - تشيرنوبل- إيراني
-
أخيرا، وجدت الهند من يشغل حقيبة الخارجية!
المزيد.....
-
ثبت تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات وعرب سات
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 Toyor Aljanah نايل سات وعرب
...
-
اللواء باقري: القوة البحرية هي المحرك الأساس للوحدة بين ايرا
...
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|