مزامنات
دستور العراق الدائم
افكار من اجل مستقبل أفضل للعراقيين في القرن الواحد والعشرين
د. سيار الجميل
مفكر عراقي ( تورنتو / كندا )
في الوقت الذي تخّلص فيه العراق من براثن الماضي القريب الذي انتجته عوامل تاريخية معقدة داخلية وخارجية في القرن العشرين، وعاني العراقيون منه الاما مبرحة وقاسية وخصوصاً في النصف الثاني منه.. لابد لهم ان يبدأوا حياة تاريخية جديدة برغم كل التحديات الداخلية والعربية والاقليمية والدولية.. وان مشروع تأسيس دستورهم الدائم لابد ان يغدو هدفا اساسيا لهم لأنه القانون الاساسي لاجيالهم في حياتهم المقبلة بمعزل عن كل التأثيرات والتحديات والتمردات والتناقضات.. لقد مرت قرابة مائة سنة علي العراقيين قاسوا كثيرا من التبدلات والانقلابات العسكرية والتدخلات والايديولوجيات والانقسامات السياسية والصراعات والدكتاتوريات والاحاديات والطائفيات والجهويات والشوفينيات والاغتيالات والاعدامات والحروب والدمار والترييف والتخلف ونهب الثروات.. الخ ولابد لهم ان ينطلقوا ضمن ثوابت دستورية ووطنية نحو المستقبل من اجل ان يكون لهم مكان تحت الشمس اسوة بكل الامم الحية في هذا الوجود.. ولعل ما يميز العراق اولا وما يجعله مستثني عن غيره ثانيا: تنوعاته وتعددياته الجغرافية والاقتصادية والسكانية والدينية والاثنية واللغوية والثقافية التي جعلت منه فسيفساء قارية في قلب مجتمعات الشرق الاوسط.. وبذلك فانه بحاجة الي قاعدتين اساسيتين في البناء السياسي والحضاري، اولاهما: دستور (او: قانون اساسي) كمصدر للسلطات يحدد كل الاسس والتفرعات في الحقوق والواجبات لكل المواطنين العراقيين من اعلي رأس في البلاد الي اصغر مواطن فيه وان يكون العراق اولا واخيرا بمعزل عن اي انتماء آخر او اي هوية اخري. وثانيهما: انبثاق كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والرأي العام من ذلك الدستور الذي يكفل من خلال بنوده كيفيات التحرك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في العراق، اي كيفيات تطبيق العراقيين لبنود الدستور في بناء مستقبل العراق واعادة امجاده الغابرة.
مدخلات عقلانية من اجل الفهم
تتزايد النقدات والهجومات الكاسحة من قبل اخوتنا العرب خاصة معترضين علي النمط السائد في تكوين العراق الجديد بعد انهيار حكم الدكتاتور صدام حسين، ويقدمون حجتهم الدعائية ان العراق لا يمكن ان يقدم علي تأسيس اي نظام للحكم المؤقت ولا اي صيغة للدستور الدائم ما دام تحت وطأة الاحتلال الامريكي البريطاني.. وهم لا يعلمون حتي الان ان كل دساتير بلدانهم قد صيغت تحت وطأة الاحتلالات الاجنبية، هم وبقية الشعوب الاسيوية والافريقية وامريكا اللاتينية وان مضامين تلك الدساتير قد استعيرت جلها من دساتير اوربية معروفة ! وقد تعلمنا الدراسات التاريخية بأن كل الدول الشرقية القديمة قد استعانت بمستشارين اوربيين لتأسيس دساتيرها في التاسع عشر والعشرين امثال الدول القاجارية والعثمانية والهابسبوركية واليابانية والخديوية المصرية والعلوية المغربية.. وغيرها ويبدو ان بعد مرور قرن كامل فان العرب هم من احوج شعوب الدنيا للاستعانة بالخبرات الاجنبية ولا ضير في ذلك ما دمنا نستعين ونستعير كل اشيائنا الحديثة من العالم المتقدم بتجاربه التاريخية علينا ! فاذا ما قام عراقيون متمكنين ومتخصصين من ذوي البصيرة والحكمة والتخصص بتأسيس دستور لبلادهم وباستشارة من هو ضليع وصاحب تجربة لعدد من دول العالم المشابهة للعراق المتنوع، فهو امر لابد ان يؤخذ بنظر الاعتبار. وهذا امر لابد ان يستوعبه كل العراقيين ويقدره كل الاخوة العرب بمعزل عن عواطفهم القومية او مصالحهم المادية السياسية او انتماءاتهم الدينية والطائفية والايديولوجية.. واعتقد بأن تجربة العراق الدستورية التي سيمر بها قريبا ــ ان لم تنتكس لا سمح الله ــ ستكون معلما رياديا علي الطريق نحو فتح تاريخ جديد لكل العرب، بل وستغدو مثلا رائعا لبقية شعوب الاقليم في الشرق الاوسط ان استطاع العرب ان يستوعبوا تجربة التحولات ويستخدمونها لصالحهم!
أسس مقترحة من اجل مبادئ الدستور العراقي
اولا: اقترح ان يكون المستقبل هدفا حقيقيا للعراقيين في بناء دستورهم بعيدا عن كل التجارب السيئة والفاسدة المدنية والعسكرية والانقلابية والايديولوجية والاحادية الفاشية التي حكمت العراق في القرن العشرين، وان يشكل الدستور الجديد قطيعة حقيقية مع الماضي العقيم للعراق السياسي وتحل النظرة الجديدة للعراق القادم واعتباره بلاد التشريعات القانونية الاولي في البشرية، وان دستور العراق لابد ان ينبثق من روح حضارات العراق.
ثانيا: اقترح ان يكون العراق وطنا للجميع باحترام كل اديانه وقومياته واقلياته السكانية وفئاته الاجتماعية والوانه الثقافية واطيافه العرقية، وان لا يتم التفريق بين الاغلبيات والاكثريات والاقليات والعشائريات علي اساس اللون والدين والمذهب والطائفة والعرق.. وان لا يتحول المقدس الديني ابدا الي الساحات السياسية، بل يبقي محترما معززا مكرما كل في بيئته الاجتماعية! اي باختصار: ان لا يقر الدستور تحول الهويات الداخلية الي اجندة سياسية مهما كان، وبعكسه فسيبتلي العراق بتاريخ مأساوي جديد.. ولنا في تجارب عالمية اسوة حسنة مثل سويسرا وكندا ونيوزيندا واستراليا.. نجحت في تحولاتها بما اقرته في دساتيرها.
ثالثا: التأكيد علي الهوية العراقية اولا واخيرا مع احترام كل الانتماءات بعيدا عن تقديسها وان لا تكون الدولة العراقية دولة دينية او طائفية، بل انها دولة مؤسسات مدينية واهلية متنوعة تستمد روحها من الاسلام الحضاري وبقية الاديان السماوية السامية، وعلي الدولة احترام عادات العراقيين ومشاعرهم كافة.
رابعا: التأكيد علي المبادئ الديمقراطية والحريات والاعلام والصحافة الحرة والحقوق المادية والمعنوية لكل العراقيين اينما وجدوا، وان يحل مبدأ اللامركزية دستوريا اساسا لمستقبل العراق بدل المركزية الاحادية المألوفة وان يكون مبدأ الفيدرالية مشروعا دستوريا ضمن كيان العراق الجديد بالنسبة للاكراد العراقيين وحسب رغبتهم، وان تجارب فيدرالية دولية في العالم قد اثبت نجاحها بشكل منقطع النظير.
خامسا: التأكيد علي استقلالية العراق وتمتعه بالسيادة الكاملة غير المنقوصة بعد اكتمال الفترة الانتقالية وانسحاب قوي الاحتلال، وان يغدو العراق منفتحا علي كل اتجاهات العالم وتوظيف مجاله الحيوي وجغرافيته الاستراتيجية في تطوير قدراته وامكاناته في المستقبل.
سادسا: التأكيد علي سيادة القانون واحترام القضاء وتقديس الحق العام والمال العام، وعدم التدخل نهائيا في شؤون السلطة القضائية واصلاح الاجهزة القضائية واقرار اجتثاث ومنع كل حالات الفساد الاداري والاقتصادي والاجتماعي التي داهمت المجتمع العراقي في العقود الاخيرة من السنين، وفرض الامن والنظام.
سابعا: اقترح ان يقر الدستور الدائم للعراق مشروعا سياسيا مستقبليا ينادي بالسلم في الداخل والخارج والتعامل بالشفافية الكاملة مع جيران العراق وان يغدو العراق بلدا بعيدا عن الحروب مع استعداد ابنائه للدفاع عن ارضه وحدوده وسمائه ومياهه ضد اي عدوان خارجي يتعرض له بعد انسحاب القوات الامريكية من اراضيه.
ثامنا: لابد ان تشكل التربية والتعليم المهني والعالي مبدءا اساسيا من مباديء الدستور الدائم ، وذلك من خلال الاصلاح والاعمار والتطوير، واستخدام جانبا اساسيا من موارد العراق وثرواته، وان ينص علي وجوب القضاء علي الامية والجهل ورعاية المتعلمين وتشجيع النخب والمبدعين من اجل بناء حضارة عراقية جديدة.
تاسعا: تأكيد الدستور العراقي علي الاقتصاد الحر واستخدام كل الوسائل المتاحة لكي تكون الدولة الجديدة في خدمة المجتمع لا العكس كما كان يحدث سابقا. وان تمنح كافة الحقوق القانونية لتأسيس الشركات الاستثمارية والبنوك وجذب الاستثمارات وتطوير الحياة التجارية المحلية والاقليمية والدولية من خلال حركة الرساميل الكبري وانطلاق ثورة زراعية واروائية وصناعية مع تطوير للثروات الحيوانية.
عاشرا: العناية بالمجتمع العراقي وكل فئاته وافراده عناية فائقة باتاحة الفرص من قبل الدولة الجديدة لتأسيس الضمان الاجتماعي لكل العراقيين، وتطوير مستوي المعيشة وتأسيس مجالات ودوائر التأمين الصحي والعناية بالخدمات والبريد والاتصالات والبلديات والعتبات والبيئة والجبال والاهوار والبوادي والارياف والنقل والسكن والسياحة ونظام المرور.. الخ، بما يضمن تطوير كل ما يخدم مجتمع العراق الذي حرم من كل ثرواته في القرن العشرين.
أسس مقترحة من اجل تنفيذ عمل الدستور العراقي
اولا: ان يطرح الدستور علي الشعب للتصويت عليه، أوعلي اي تعديل يجري عليه في المستقبل ليشارك المجتمع في صنع مستقبله ويتحمل مسؤولياته الي جانب الدولة.
ثانيا: شرعية الانتخابات والتصويت الحر ومن خلال صناديق الاقتراع السري.
ثالثا: احترام القرارات التشريعية وتثبيت اجندة الدورات الانتخابية البرلمانية ومحاسبة نواب الشعب كل المسؤولين والوزراء عن اخطائهم في كل تطبيقاتهم التنفيذية للقوانين والتشريعات.
رابعا: عدم تدخل المؤسسة العسكرية بالشؤون السياسية مطلقا وتقوية اجهزة الشرطة وقوي حرس الحدود واستحداث الدرك العسكري وان لا يمارس جهاز الامن اية ممارسات منافية للحرية والاخلاق وتطوير مهمات القوات المسلحة الجديدة.
خامسا: عدم السماح مطلقا باستخدام اية اجهزة امنية ومخابراتية واستخباراتية وتجسسية للدولة لا يسمح بها الدستور ضد ابناء المجتمع العراقي او غيره، اي مراعاة حقوق الانسان.
سادسا: سيادة مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع العراقيين في تطبيق الدستور، اذ لا يمكن ان تسود حياة الغاب عند العراقيين بين الدولة والمجتمع مع وجود الدستور، ولا يمكن للقوي ان ينال من الضعيف، ولا يمكن للجهلة ان تنّصب في مواقع ليست اهلا لها مطلقا !
سابعا: لابد ان يأخذ الدستور الجديد مداه في التفعيل من اجل توقيع معاهدات وبروتوكولات حسن تعايش وسلام مع كل الدول المجاورة والبدء بحياة عراقية جديدة تحترم كل الرموز.
ثامنا: ان يعرض كل ما يقرر ويشّرع وينّفذ اعلاميا علي الرأي العام في العراق، بما فيها احصائيات كاملة غير منقوصة للايرادات والنفقات وموجودات الخزينة والبنك المركزي..
تاسعا: ان يقر ابناء العراق علما جديدا لدولتهم، او ان يختاروا علم تأسيس المملكة العراقية العام 1921 او علم تأسيس الجمهورية العراقية العام 1958 وان يغيروا علمهم الحالي لأنه علم مستعار.. فضلا عن اختيارهم لشعار دولتهم الجديدة ونشيدهم الوطني الكلاسيكي الذي تربت كل اجيال العراق عليه في المدارس والحياة العامة ابان القرن العشرين.
عاشرا: العمل علي اصدار عملة عراقية وتطوير قدرتها في السوق من اجل ارجاع قيمة الدينار العراقي الي سابق عزه وهيبته بازدهار الحياة الاقتصادية العراقية.
السؤال الان: هل ستتحق كل هذه التطلعات؟ اتمني ذلك من صميم الاعماق!