بيير جون لويزار
باحث في المركز القومي للبحوث العلمية مجموعة علم اجتماع الأديان والعلمانية
ترجمة د. جواد بشارة / باريس
يعيش العراق منذ أكثر من ثلاثين عاماً تعاقب مريع للمآسي : كان هناك نظام يستخدم القمع بصورة لم يسبق لها مثيل ، وخاض ثلاث حروب مدمرة ، الأولى ضد غيران بين 1980 و 1988 ، الثانية ضد قوات تحالف دولية قادتها الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1991 إثر غزو العراق للكويت ، الثالثة سنة 2003 إثر إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على الانتهاء مرة وإلى البد من نظام كان قد خدمها ، يضاف إلى الهزيمتين العسكريتين في 1991 و 2003 إنتفاضة عارمة قام بها الشعب العراقي ضد نظام صدام حسين في أعقاب الحرب الثانية التي شنتها قوات التحالف الدولية ضد نظام صدام حسين وتدمير الجيش والبنى التحتية في شباط ـ آذار1991 مما قاد إلى وضع العراق تحت الوصاية الدولية بين 1991 و 2003، وأخيرا عودة نظام الاحتلال العسكري الغربي للبلدالذي أضفي عليه شرعية دولية بعد التصويت بالإجماع من قبل المجموعة الدولية على القرار رقم 1483 الصادر عن مجلس الأمن في أيار 2003 . وهكذا ساهمت ثلاثون عاما من الأحداث المشتعلة في إخفاء الصلة الموجودة بين كافة الأحداث التي عاشها العراق . والحال ، لايمكن تفسير ظاهرة نظام صدام حسين وماجره على البلد من ويلات إلاً بالعودة إلىالترايخ. إن مثل هذه العودة تقودنا إلى التمعن بالظروف التي أحاطت بتأسيس الدولة العراقية الحديثة . ينبغي التذكير بأن هذه الدولة هي من صنع الاستعمار وإن القوة الاستعمارية البريطانية المنتدبة على العراق هي التي وضعت أسس هذه الدولة سنة 1920 رداً على أهم ,اكبر ثورة شهدتها المنطقة ضد الاحتلال الأوروبي .عكست ثورة العشرين رفض العراقيين بالإجماع للانتداب الذي منحته عصبة الأمم ، الأصل السابق لمنظمة الأمم المتحدة الحالية، لبريطانيا العظمى على بلدهم.وبتالرغم من هزيمة الثورة بفعل قوة الأسلحة البريطانية إلاً أن تلك الحركة نجحت بإقناع لندن بإستحالة حكم العراق بصفة مباشرة من خلال إدارة عسكرية بريطانية. لذلك فإن الدولة العراقية أستحدثت لتكريس الهيمنة البريطانية على البلد. وقد بنيت الدولة العراقية على غرار النمط الأوروبي للدولة القومية أو الدولة ـ الأمة وهي لاتشابه ولا تلائم أي من الهويات الغالبة في البلاد. وبالأخص شيعة العراق الذين شكلوا ، تحت قيادة رجال الدين والمراجع العليا المقيمين في المدن المقدسة ، رأس الرمح في النضال من أجل الاستقلال. فبالنسبة لهم الإسلام والعروبة لايتضادان أو لايتعارضان ، وكان لدى الاستعمار البريطاني المهيمن لازمة أو نتيجة طبيعية تتمثل بالنخب المنحدرة من الأقلية العربية ـ السنية التي اتجهت نحو خدمة الأسياد الجدد للبلاد والتي أعتبرت الدولة الجديدة ملكيتها المحتكرة . وقد أستبدلت هذه النخب بسرعة مذهلة ولائها الإسلامي للسلطان ـ الخليفة العثماني ومنحته لقوة " كافرة" وأنتقلت بسهولة وبلا مقاومة من العثمانية إلى العروبية . نجحت بريطانيا في قهر الحركة الدينية بإسم مفهوم قومي عربي لايشكل الإسلام فيه سوى مجرد صنف أو مكون ثقافي من مكونات العروبية . إن عروبية الدولة العراقية الجديدة أختزلت الشعور بالانتماء العربي لدى غالبية العراقية إلى مجرد أيديولوجية إثنية أو عرقية حصرا لايجد ، لا الشيعة ولا الأكراد ، أنفسهم فيها. الدولة العراقية بنيت ضد مجتمعها وأضفت المسحة المؤسساتية على علاقة الهيمنة الطائفية للسنة على الشيعة، قبل الهيمنة الإثنية أو العرقية للعرب على الأكراد . وهذا الجانب الأخير من المسألة العراقية أصبح ملموسا إبتداءاً من ضم ولاية الموصل إلى العراق من قبل عصبة الأمم سنة 1925 بإلحاح من بريطانيا الطامعة بنفط كركوك .أستبعد الشيعة والأكراد الذين يشكلون ثلاثة أرباع السكان العراقيين من السلطة طيلة القرن العشرين وكان نظام صدام حسين آخر كارثة لنظام التمييز الطائفي والعرقي الذي وصل إلى مداه. إن الحرب الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية أطاح بهذا النظام السياسي الذي أسسه حلفاؤها البريطانيون منذ أكثر من ثمانين عاماً مضت. وكان ذلك بإسم مباديء تحررية أوانعتاقية عرفت بدمقرطة العراق .كيف يمكننا أن نشخص تكرار التاريخ لنفسه؟ ما هي أوجه المقارنة التي يمكن أن نقيمها بين الوضع الحالي والوضع الذي كان سائداً بين 1917 و 1920 ، وهي فترة الاحتلال العسكري البريطاني المباشرة السابق للانتداب؟ ما هي أوجه التشابه والاختلاف بين الفترتين؟ إن محاولة الإجابة على هذه التساؤلات سيعطينا الفرصة لتحديد آفاق ونوايا الإدارة الأمريكية الحالية في العراق.
1ـ إحتلال عسكري من قبل قوة غربية بدون شرعية دولية:
إن هذه العودة المدهشى للاحتلال العسكري الغربي للعراق هي ربما الظاهرة ألكثر جذبا للانتباه لماذا؟ لأنها تبدو وكأنها لاتعبأ بقرن كامل من المفاهيم المعادية للاستعمار والتي تجعل من الاستقلال والسيادة حجر الأساس لأي سياسة تنمية وتكريس للديموقراطية في المنطقة. لقد تعبأت أجيال كاملة من العراقيين في نضال مضني ضد الانتداب وضد المعاهدات البريطانية ـ العراقية المفروضة قسراً. كانت هناك عملية إطاحة الملكية الهاشمية سنة 1958 وتدفق الحقد ضد رجال الانجليز وأعوانهم ، وهي التي وسمت تطلعات لايمكن كبحها من أجل الاستقلال والسيادة. ففي أذهان رجال ذلك العهد لايمكن الفصل بين الاستقلال والسيادة وهما مرتبطتان بصورة وثيقة بالاصلاح الاجتماعي . كان القرن العشرين مليئاً بمعالم الحركات التي تظهر بجلاء إلى أي حد تجذرت في العراق ما عرف بروحية معاداة الاستعمار وقد أنصرفت هذه النزعة بصفة خاصة عبر الحركة الدينية الشيعية والحرزب الشيوعي والأحزاب القومية العربية.
وبعد أربعة وثمانون عاماً هبطت القوات البريطانية مرة أخرى في آذار 2003 في ميناء الفاو في أقصى الطرف الجنوبي للعراق جنوب مدينة البصرة . كانت المرة الأولى في 6 تشرين ثاني 1914. الولايات الثلاثة الرئيسية التي خصصت لتشكيل مملكة العراق كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية آنذاك . أستغرقت القوات البريطانية في ذلك الوقت عامين ونصف العام للوصول إلى بغداد التي لم تتمكن من احتلالها إلا في 11 آذار 1917. وفي هذه المرة سلكت القوات الأمريكية نفس المسار.الذي قطعته القوات البريطانية بين 1914 و 1917 على طول نهري دجلة والفرات باتجاه الشمال العراقي، وبلغ الأمريكيون العاصمة العراقية في ثلاث أسابيع من المعارك فقط.
لم يشك البريطانيون سنة 1914 بضراوة الحرب التي تنتظرهم والتي يتعين عليهم خوضها للسيطرة على البلاد. كانت أكثر الحملات الاستعمارية التي قادتها بريطانيا دموية في أرض الإسلام. وكان في مواجهتم الجيش العثماني، وكذلك جيش من المجاهدين الشيعة، والمقاتلين من العشائر العربية الذين أستجابوا لنداءات قادتهم من رجال الدين والعلماء " للدفاع عن دولة المسلمين ضد الكفار" كان جهاد سنوات 1914 ـ 1916 هو الحركة المسلحة الأكثر ضراوة وسعة التي شهدها الشرق الأوسط ضد غزو أوروبي. ففي الشعيبة خلال معركة كبرى بين الجيش النظامي العثماني والبريطانيين قرب البصرة ( 11 ـ 14 نيسان 1915) كان المجاهدون الشيعة أكثر عدداً من القوات العثمانية التي جاءوا لدعمها . كانت الهزيمة العسكرية الوحيدة للبريطانيين واستسلامهم بدون شروط في الكوت في 29 نيسان 1916 يعود الفضل فيها مباشرة لنشاط هؤلاء المقاتلين المؤمنين الذين كانوا يقاتلون إلى جنب الجيش العثماني الذي غالباً ما كان يسيء معاملتهم .تم احتلال الموصل سنة 1918 بعد أيام قليل من وقف إطلاق النار الذي فرضته قوات الحلفاء على الامبراطورية العثمانية والذي كرس تفتيتها . ولو قمنا بعملية مقارنة لبدت لنا الحرب الأخيرة وكأنها سريعة كالبرق بالقياس إلى سابقتها . فقد بدأت في 20 آذار 2003 وأنتهت باحتلال بغداد في 10 نيسان .
إبان عمليات الجهاد بين 1914 ـ 1916، أعترف البريطانيون بمايقارب مائة ألف ضحية ( من بينهم 15000 قتيل) خلال سنتين ونصف من القتال .في حين تسببت الحرب الأخير بموت أقل من 200 قتيل أمريكي وبريطاني . حوالي 160 عسكري أمريكي وبريطاني قتلوا في المعارك مقابل عدد غير معروف من الضحايا العراقيين جلهم من العسكريين ( فنظام صدام حسين لايقدم أبدا احصاءات دقيقة عن عدد خساءره من الرجال) ونحتاج لوقت طويل لمعرفة هذه الحسابات المرعبة والمحزنة بدقة، لكن عدد الجنود العراقيين الذين سقطوا في المعارك يقدر اليوم بين 12000 و 30000 عسكري عراقي في حين أن الخسائر المدنية العراقية محدودة وتقدر بين 2000 و 4000 ضحية. كان عدد الضحايا بين صفوف المجاهدين الشيعة والسكان العراقيين عموماً في معارك الجهاد في سنوات 1914ـ1916، يقدر بحوالي 25000 ضحية من مجمل مجموع سكان العراق الذي كان يبلغ آنذاك 3 مليون نسمة . أما الخسائر التركيةفبلغ عدد القتلى 2000 جندي قتلوا في المعارك . مما يثير الدهشة هو انخفاض عدد قتلى جيش الاحتلال اليوممقارنة بالمائة ألف ضحيية في حرب 1914 ـ 1916 .أما فيما يتعلق بالخسائر البشرية العراقية خلال ثلاثة أسابيع من الحرب فهو يعادل إن لم يكن أكثر من مجموع خسائر العراقيين والأتراك معا طيلة سنوات حرب الاحتلال الأولى بين 1914ـ1916 . إذن لدى الولايات المتحدة القدرة اليوم على دحر أي بلد مع أقل عدد من الخسائر بين جنودها. ومن هنا يمكننا القول أن الحرب الأخيرة كانت أكثر دموية بالنسبة للعراقيين من الحرب العالمية الأولى.
ثلاث سنوات من الغزو من قبل البريطانيين في ذلك الوقت وثلاث أسابيع من قبل الأمريكيين . مما لاشك فيه أن القوة العسكرية البريطانية لم تكن آنذاك إبان الحرب العالمية الأولى بنفس القوة والحسم الذي تتمتع به القوة العسكرية الأمريكية اليوم ، ولكن هناك سبب آخر لهذه النتيجة وهو أن الزعماء الدينيين الشيعة أختاروا هذه المرة عدم مقاومة غزو العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ نهاية عام 2002 أتى آي الله العظمى السيد السيستاني عدة فتاوي أوصى فيها بعدم شن الحرب على النظام العراقي وعدم مساعدة الأمريكيين في حربهم ولكن في نفس الوقت عدم مقاومتهم . إن هذه الحيادية الغامضة التي أبدتها السلطات الدينية الشيعية في العراق إبان المواجهات العسكرية لم تخف جيداً المزاج العام الذي كان سائداً بين العراقيين والذي مفاده : إن القوة الوحيدة في العالم القادرة على إطاحة النظام القائم في العراق هي نفسها التي أتاحت له ، عكس ما كان متوقعاً منها ، له بالبقاء عندما سمحت واشنطن لصدام حسين بسحق انتفاضة شباط ـ آذار الشعبية سنة 1991 بالدم .وبدون الغرق في الأوهام حول المخططات والنوايا الأمريكية في العراق كان الشيعة ينتظرون قبل كل شيء التخلص من كابوس نظام شرس .وإن هذه الازدواجية أتاحت لقوات التحالف الأمريكية ـ البريطانية إحراز النصر السريع ، على عكس الاحتلال البريطاني السابق الذي اصطدم بالجهاد العام الذي أعلنه المجتهدون الشيعة العظام سنة 1914.
وعلى عكس ما حصل سنة 1914 ، فإن القيادة الدينية الشيعية ، التي تضعضعت وقتل الكثير من أبرز رجالها من جراء عشرات السنين من القمع والاضطهاد في العراق، وواجهت رهانات فترة مابعد النظام الإسلامي في إيران ، باتت ممثلة اليوم بالاتجاه الأكثر هدوءا وانعزالية عن السياسة بإسم مفهوم تقليدي للسلطة الدينية ، وهي تعارض انخراط رجال الدين في الشؤون السياسيةونحن نعرف أن هذا التوجه ينحو دائما نحو التعايش مع قوة الاحتلال.
كان ذلك هو واقع الحال إبان الاحتلال العسكري الأول للعراق من قبل البريطانيين .فقد كان المرجع الشيعي الأعلى آنذاك في السنوات العشرة الأولى من القرن المنصرم وهو السيد كاظم اليزدي (1831ـ1919)، يعارض بقية المجتهدين الحركيين المناضلين ، من أمثال محمد تقي الشيرازي (1853 ـ 1920 ) و مهدي الخالصي (1861ـ1925) المؤيدين لمقاوم الاحتلال البريطاني بقوة السلاح. وعند وفاة كاظم اليزدي سنة 1919، أعتلى قمة القيادة الدينية الاتجاه النضالي خاصة إبان ثورة العشرين حيث كانت القيادة المطلة التي لايعترض عليها أحد بيد المجتهدين المناضلين . ولكن في سنة 2003 ، فإن الشيعة والأكراد الذين يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع السكان في العراق ، لم يعارضوا ولم يقاوموا زحف قوات التحالف الأمريكية ـ البريطانية حتى لو لم يستقبلوها بالود والترحاب والزهور.
يتبع