|
عيش .. وملح !
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1879 - 2007 / 4 / 8 - 11:13
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
موجة الإضرابات والاعتصامات التي عمت العديد من المصانع والشركات في مدن مصرية مختلفة في الآونة الأخيرة. تمثل ظاهرة صحية. من ناحية. لأنها بمثابة ممارسة ديمقراطية لأحد الحقوق النقابية المشروعة. لكنها من ناحية أخري تطرح تساؤلات جائزة حول أسبابها. خاصة في ظل ارتباط معظمها. أو بعضها. بتداعيات الخصخصة. وتزامنها كلها مع تدهور الأحوال المعيشية للأغلبية الساحقة من المصريين. والارتفاع الجنوني للأسعار. والعجز المتزايد للحكومة عن مواجهة الممارسات الاحتكارية التي أصبحت تتبجح في تحدي المجتمع والتمادي في الزيادة التعسفية لأسعار سلع استراتيجية مؤثرة علي التنمية رغم قرارات الوزير رشيد محمد رشيد وغيره من زملائه الوزراء. ومع هذا.. فإن كل الاعتصامات والاضرابات في كفة. وإضراب عمال المطاحن في كفة. لماذا؟! لأن هذا الإضراب الأخير يرتبط بمسألة حياة أو موت. هي مسألة رغيف الخبز. الذي ننفرد في مصر دون باقي خلق الله بتسميته "رغيف العيش". الأمر الذي يبين الأهمية الاستثنائية التي يمثلها هذا الرغيف بالنسبة ل "عيش" المصريين. ورغيف العيش. إلي جانب ذلك فضلاً عن قدسيته لدي فقراء المصريين بالذات. فإنه عماد "صناعة" هائلة تدور في فلكها المليارات. بالجنيه المصري والعملة الصعبة علي حد سواء. وهذه المليارات يتم تدويرها في تشغيل 16 ألف مخبز منتشرة في ربوع مصر لانتاج الرغيف الذي يستأثر الدعم له بحوالي 9 مليارات جنيه سنوياً حتي يبقي سعره خمسة قروش. ثم إن القمح الذي يتم طحنه لإنتاج هذا الخبز ليس كله انتاجاً مصرياً. بل إن معظمه مستورد بفضل السياسة التي تم ترويجها لسنوات طويلة للتنصل من السعي الجدي للاكتفاء الذاتي من هذه السلعة الاستراتيجية. التي كثيراً ما استخدمتها الدول الكبري. وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية. كسلاح سياسي. لكن بعض وزرائنا الموقرين ضربوا بكل هذه الاعتبارات الخطيرة عرض الحائط بحجة أن الفراولة أفضل من القمح حيث يمكن زراعتها هي والكانتالوب ونقوم بتصديرهما ونستورد بثمنهما ما نحتاجه القمح.. ويادار ما دخلك شر. بل إننا نكون الرابحين للفرق بين ثمن تصدير الفراولة وبين تكلفة القمح. وبالطبع.. أثبتت التجربة ان هذه معادلة خائبة وكلام مصاطب. فضلاً عن أنه تهديد خطير للأمن الغذائي. بل والأمن القومي أيضاً. والنتيجة أننا نستورد حالياً ما يقرب من 6.5 مليون طن قمح سنوياً. جزء معتبر منه نستورده من الولايات المتحدة الأمريكية. وعادة ما نكون تحت رحمة تقلبات الأسعار العالمية وكذلك تقلبات أسعار صرف الدولار وكل هذا يدفعه المصري الغلبان. مستهلك الرغيف. من اللحم الحي. فإذا تركنا خيبة معادلة الكانتالوب والفراولة. وذهبنا إلي الزراعة المحلية للقمح. سنجد أن الفاقد في محصول القمح يقدر بنحو 15% بسبب سوء التخزين وبداءيته وعدم احترام البحث العلمي لحل المشكلات بهذا الصدد. وهذه البدائية أسوأ في المخابز حيث تقول لنا الدراسات المتاحة اننا نفقد سنوياً 25% من إنتاج ما تنتجه هذه الأفران. الأمر الذي يكلفنا أكثر من 800 مليون جنيه تذهب أدراج الرياح! وإلي جانب هذه الفوضي المزمنة. التي تتحمل المكونات المتعاقبة النصيب الأوفر منها. ظهرت أمراض مزمنة. منها رداءة رغيف العيش لدرجة تكرار الشكوي من وجود مسامير وصراصير وأجسام غريبة وعجيبة مرصعة به. والشكوي من تقلص حجمه ووزنه. وانتشار ظاهرة تهريب الدقيق المدعم إلي أفران الخبز الفاخر رغم انه مخصص لرغيف عيش الفقراء ومحدودي الدخل. وظلت لعبة الفأر مستمرة بين وزارة التموين وبين أصحاب الأفران. كما ظلت مستمرة بين الحكومة والمواطن الغلبان الذي تسمم الحكومة بدنه صباحاً ومساء باسطوانة الدعم الذي تمن به عليه وكأنها تدفع هذا الدعم من جيبها وليس من جيوب دافعي الضرائب. وفي نفس الوقت تتحين الفرصة للتحايل علي هذا الدعم والالتفاف حوله بالحجة الممجوجة التي ترفع شعار ترشيد الدعم ووصوله إلي مستحقيه باعتبار هذا الشعار أقصر الطرق لإلغاء هذا الدعم أصلاً. إلي أن جاء الدكتور علي مصيلحي وزيراً للتضامن الاجتماعي ووريثاً لوزارة التموين رحمها الله ورحم أيامها. وظهرت في بداية عصر الدكتور مصيلحي شعارات "العقد الاجتماعي الجديد". وليس المقصود العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه جان جاك روسو لا سمح الله. وإنما هو "عقد اجتماعي" بين وزارة التضامن الاجتماعي وأصحاب الأفران. وقد تسبب في أزمات حادة بين الطرفين في بداية الأمر وخاصة بسبب لائحة الجزاءات التي تضمنها. وقد دافعت أنا شخصياً في ذلك الحين عن الوزير مصيلحي وطالبت بمساندته في مواجهة رغبة بعض أصحاب المخابز في التلاعب وتهريب الدقيق وسرقة الرغيف بانقاص وزنه دون حسيب أو رقيب. لكن ثبت بعد ذلك أن الأكمة وراءها ما وراءها. وان المسألة أكبر من رغبة الوزير في تحسين الرغيف والدفاع عن وزنه وحجمه ونوعيته. وكانت بداية كشف المستور يوم 13 فبراير الماضي عندما طرحت وزارة التضامن الاجتماعي مناقصة توريد الدقيق استخراج 82% "هكذا يسمي" للمخابز في محافظات الإسكندرية والإسماعيلية والمنيا. وتمت ترسية المناقصة علي ثمانية مطاحن قطاع خاص وحرمان مطاحن شركة القطاع العام من هذا "العطاء". وترتب علي ذلك تعرضها لخطر التوقف وحرمان عمالها من الحوافز والمكافآت وبالتالي انهيار أجورهم الحقيقية دون ذنب ارتكبوه. كما تم إهدار ملايين الجنيهات التي تم إنفاقها علي مطاحن القطاع العام من قبل. وإزاء هذه الصورة كان من الطبيعي أن يتهم العمال حكومة الدكتور أحمد نظيف بمحاباة القطاع الخاص علي حسابهم وعلي حساب القطاع العام الذي ينتمون إليه منذ سنين. كما كان طبيعياً أن يصبوا غضبهم علي الوزير علي مصيلحي الذي قام بهذه "الثورة المضادة". فرفعوا شعار "يا مصيلحي خليك بعيد.. بكرة ترجع للبريد". في إشارة إلي رئاسته لمصلحة البريد قبل توليه الوزارة. وهو علي كل حال شعار به جانب ايجابي لصالح الوزير حيث يتضمن اعترافاً ضمنياً بنجاحه في إدارة مرفق البريد الذي يفهم شئونه. بما يعني ضمنياً أيضاً ان قراراته المتعلقة بقطاع المطاحن والمخابز ورغيف العيش ليست مدروسة بشكل موضوعي أو أنه لا يفهم طبيعة هذا القطاع. فضلاً عن الاستهجان العام لهرولة الوزير إلي وضع رغيف الفقراء ومحدودي الدخل في يد القطاع الخاص الذي لا يهتم معظم رجال أعماله بالجوانب الاجتماعية. ولا يهمهم سوي الربح. وأتمني ألا تكون الأمور قد خرجت من يد الدكتور علي مصيلحي. وابتعدت عن سيطرته. وأرجو أن يكون باستطاعته أن يعيد النظر فيما حدث واضعاً في الاعتبار هواجس عمال مطاحن ومخابز القطاع العام وهواجس المواطن المصري الغلبان الذي يعتبر مصير رغيف القروش الخمسة مسألة حياة أو موت بالنسبة له. ومثل هذه الهواجس يا دكتور مصيلحي هواجس مشروعة وتحتل أولوية عن باقي الاعتبارات الاقتصادية حتي لو صدقت النوايا.. فما بالك وأن هناك أزمة ثقة مبررة لدي أغلبية المواطنين تفترض في الحكومة سوء النية حتي لو أضاءت أصابعها العشرة وجعلتها شموعاً تنير للناس طريقهم. فما بالك وانها تطفئ كل يوم أي بصيص ضوء يلوح لهم في نهاية النفق الطويل الحالك السواد. ولعل الوقت لم يفت بعد يا دكتور مصيلحي لانقاذ ما يمكن إنقاذه. فلا شيء أغلي من المواطن الغلبان من رغيف العيش وحبة الملح.. فهل هذا كثير؟!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأحزاب والنشاط السياسى داخل الجامعة.. العقدة والحل
-
ملاحظات شاهد عيان للاستفتاء الحزين
-
رغم كل شئ :مصر مازالت بخير
-
هل نستعيد أمجاد النقل البحري لعصر محمد علي؟!
-
ميلودراما مصطفى البليدى
-
فلتكن نهاية حياتنا بكرامة!
-
عرب من أجل إسرائيل!
-
كل استفتاء وأنتم بخير!
-
ملف استحقاقات الدولة المدنية سيظل مفتوحاً
-
دبرنا يا وزير التضامن الاجتماعى
-
بروتوكولات حكماء الجهاز القومى لتنظيم الاتصالات .. وأزمة الث
...
-
المادة الثانية .. وإرهاب فهمى هويدى
-
فتحى عبدالفتاح .. عاشق الحياة والوطن
-
جوزف سماحه
-
-حبيبة- .. و-إيمان-: تعددت الأسباب والكرب واحد
-
المادة الثانية.. ليست مقدسة
-
حرية العقيدة.. يا ناس!
-
ماجدة شاهين.. الدبلوماسية الأكاديمية
-
صدق أولا تصدق: نقد رئيس مصر مباح .. وعتاب أمير عربى ممنوع!
-
»الوفاق« الوطني و»النفاق الحزبي«
المزيد.....
-
يوم دراسي لفريق الاتحاد المغربي للشغل حول: تجارة القرب الإكر
...
-
وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر
...
-
الهيئة العليا للتعداد العام للسكان تقرر تمديد ساعات العمل لل
...
-
واشنطن توسع عقوباتها ضد البنوك الروسية و العاملين في القطاع
...
-
وزارة المالية العراقية تُعلن.. جدول رواتب المتقاعدين الجديد
...
-
The WFTU statement on the recent development in the Ukraine
...
-
بيان اتحاد النقابات العالمي حول التطور الأخير في الحرب الأوك
...
-
مزارعون يغلقون ميناء في فرنسا احتجاجا على محادثات مع ميركوسو
...
-
“وزارة المالية العراقية”.. استعلام رواتب المتقاعدين شهر ديسم
...
-
السيد الحوثي: الامريكي منذ اليوم الاول بنى كيانه على الاجرام
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|