د. جواد بشارة / باريس
يتساءل المهتمون بالشأن العراقي باستمرار حول الغايات الحقيقية التي تقف وراء السلوك الأمريكي في العراق وما هي دواعي هذا التباطؤ في حل المشكلات القائمة التي تمس صميم المواطن العراقي، وهذه التساؤلات مبثوثة على مدار الساعة في كافة وسائل الإعلام الغربية عامة والفرنسية بوجه خاص.وتختم وسائل الإعلام الفرنسية وبخاصة المرئية منها هذا التشخيص بالتساؤل الأهم ألا وهو : هل ستكون الولايات المتحدة قادرة فعلا على الخروج بسلام من المأزق العراقي؟
يبدو أن الأمريكيين لايعرفون كيف يخوضون هذه التجربة الصعبة في بلد هو من أعقد البلدان العربية وأكثرها صعوبة وخطورة لأسباب عديدة لامجال لذكرها الآن.
لقد اصبح العراق مختبرا لكل المنطقة، فاما ان تنجح التجربة فيه، واما ان تفشل. وفي كلتا الحالتين سوف تكون الانعكاسات ضخمة وخطيرة ليس فقط على العراقيين، وانما على شعوب المنطقة بأسرها، وربما العالم. هذا ما يقوله ساسة الغرب انفسهم.
فكثير من السياسيين الغربيين وعلى رأسهم الفرنسيين كانوا مناوئين للحرب قبل وقوعها، ولكنهم الآن يرفضون اتخاذ مواقف تتشمت بأمريكا وما تواجهه من صعوبات وخسائر بشرية غير محتملة على المدى البعيد. يرى معظم المراقبين ان فشل اميركا هناك سوف يكون كارثة للغرب كله، وللمنطقة بالدرجة الاولى.
وللخروج من الورطة العراقية يرسم الاستراتيجيون الغربيون ثلاث احتمالات ، الاول هو الانسحاب المستعجل والانهزامي للقوات الاميركية من العراق، بحجة أن الآون قد آن لإرجاع السيادة كاملة وغير منقوصة للعراقيين لكي يتدبروا انفسهم بأنفسهم. لأن الأمريكيين ليسوا استعماريين وانما محررون ومن هذه الزاوية ، وبحجة حسن النية ينفضون ايديهم من المغطس العراقي ويعودون سالمين الى الوطن. وهكذا يتحاشون هزيمة منكرة لبوش في الانتخابات التي اصبحت على الابواب، وقد اصبح تساقط الجنود الاميركيين يوميا في العراق يشكل خطرا على الحزب الجمهوري وقادته ومرشحيه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولكن هذا الاحتمال يبدو في الوقت الحاضر خطير جدا. فهو يعني أولا التخلي عن شعب العراق في اصعب الظروف وتركه يواجه قدره ومصيره بنفسه في جو من الفوضى العارمة، وخطر انفلات الامور واشتعال الحرب الاهلية بين الطوائف والاعراق وسيكون له تبعات أخطر على الوضع في الشرق الأوسط برمته وخاصة مخططات السلام وتطبيق خارطة الطريق . لكن هناك ما يدعو للتخوف من حدوث هذا الاحتمال لأن الأوساط المحافظة في الإدارة الأمريكية لايهمها سوى مصالحها الذاتية وما تحرزه من انتصارات انتخابية ولو على حساب البلدان والشعوب المستضعفة.
الاحتمال الثاني لتطورات الأوضاع في العراق برأي المراقبين الغربيين لايقل خطورة. وهو عكس ما يمكن أن يحدث في الاحتمال الأول أي تكريس حالة الاحتلال وحدته من خلال عدد القوات الاميركية هناك وسحق كل من تسول له نفسه ان يعارض المخطط الاميركي في المنطقة ويسوغ المروجون لهذا الاحتمال في أوساط القيادة الأمريكية العليا أن الولايات المتحدة لم تضرب في العراق بالقوة الكافية وتبرهن عن تصميمها وجديتها وقوتها الجبارة وتردع المناوئين لها بالمزيد من البطش . فعليها ان تضرب اكثر وبقوة اشد سواء في الداخل العراقي لاستئصال فلول المقاومة وبقايا النظام السابق وإرعاب القوى العراقية المتعاونة معها لارغامها على المزيد من الخضوع والتعاون اللامشروط، أو في المحيط الاقليمي المجاور للعراق وان تصل ضربتها الى سوريا وايران. ثم تحتل المنطقة كلها عسكريا وتفرض عليها السلام الاميركي بالقوة. واتباع هذا الحل في الادارة الاميركية هم تروتسكيون سابقون اصبحوا فيما بعد يمينيين ومنظرين للسلطة الامبراطورية للولايات المتحدة الاميركية كما يقول الزعيم الاسباني السابق غونزاليس.
أما الاحتمال الثالث الذي تتمناه العديد من الزعامات الأوروبية فيتمثل بالتخلي عن جنون العظمة الاميركية واعادة الامور الى نصابها عن طريق اشراك الجميع في ايجاد حل لمشكلة العراق. فمن الواضح ان هذه المشكلة استفحلت وتوسعت واصبحت تتجاوز قدرات اميركا. وبالتالي فلا بد من اشراك الجميع في عملية التهدئة. والمقصود بالجميع هنا اولا مجلس الامن والامم المتحدة، وثانيا الاتحاد الاوروبي، وثالثا الجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي، ورابعا واخيرا روسيا..
ان اشراك هؤلاء كلهم في تصحيح الاوضاع في العراق والتوصل الى استتباب الامن والنظام لا يعني تهميش دور اميركا. فهي ستظل المهيمنة وصاحبة الرأي الاول، ولكن الآخرين يمكن ان يقدموا لها الشرعية الدولية التي تنقصها والتي بدونها لا يمكن ان يستتب امن ولا نظام. يضاف الى ذلك ان اميركا اصبحت مكروهة جدا من قبل الشعوب العربية والاسلامية وبالتالي فيمكن للاتحاد الاوروبي والدول العربية المؤثرة كالسعودية ومصر وسوريا ان يساعدوها على تجاوز عثرتها او محنتها في العراق. فهي قد ربحت معركة الحرب وخسرت معركة السلام على ما يبدو.
إن خطأ أمريكا القاتل هو أنها منذ البداية خرجت على الشرعية الدولية عندما اتخذت قرار الحرب بمفردها وهاهي الآن تدفع ثمن هذا الخطأ الفادح واصبحت الآن بحاجة ماسة الى الشرعية الدولية لكي تنجح في مهمتها..
ولكن في ذات الوقت ألقت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي خطابا قويا لا أثر فيه للضعف او للوهن فيما يخص مشكلة العراق وكيفية السيطرة عليه وضبط الأمور فيه. وقد أعلنت في خطابها عن عزم اميركا على «تثوير» منطقة الشرق الاوسط برمتها اي إحداث تغيير جذري فيها من خلال العراق. فاذا ما استطاعت اميركا ان تجعل من العراق بلدا حرا، ديمقراطيا، مسالما، فإنها سوف تجعل المنطقة كلها على شاكلته. وهكذا تنتهي الايديولوجيات المبنية على الكره والحقد، هذه الايديولوجيات التي ازدهرت وترعرعت كثيرا في منطقة الشرق الاوسط على مدار العقود الماضية كما جاء في خطابها الذي أشرنا له في مقال سابق عن الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط .
لم تنتبه السيدة كونداليزا رايس إلى ان ازدهار ايديولوجيا الحقد ناتج عن عدم وجود اي حل للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وعن الظلم او القهر الذي يشعر به العرب من جراء كارثة فلسطين. وبالتالي فإن نجاح المختبر الديمقراطي في العراق مرتبط بإيجاد حلول ملائمة لكل مشاكل الشرق الأوسط بما فيها مشكلة الفقر وانعدام الديموقراطية وغياب الحريات وكذلك حل المأزق الفلسطيني . فهل اميركا مستعدة للضغط على اليمين المتطرف في اسرائيل مثلما تضغط على اليمين المتطرف لدى العرب والمسلمين؟
تجدر الإشارة إلى ان مسألة الديمقراطية تمثل صيرورة معقدة، طويلة، لا تتم بين عشية وضحاها. وتجربة الشعوب الاوروبية اكبر دليل على ذلك. فالسيدة كونداليزا رايس لم تتحدث عن تحقيق الديمقراطية فورا، وانما على مدار سنوات طويلة. ويبدو ان الاميريكيين اصطدموا بالمشكلة عمليا في العراق وادركوا مدى عمقها وخطورتها وصاروا يفكرون بعمق وتمعن في كيفية تصدير هذه الديسموقراطية إلى بلدان العالم العربي والإسلامي التي لاتستسيغها بالصورة التي تريد أمريكا فرضها.
فلا يوجد في العالمين العربي والإسلامي تراث ديمقراطي يمكن الاستناد إليه واعتباره مرجعا . بل الموجود هو العكس تماما: اي تاريخ مليء بالاستبداد والقمع. وهذه العقلية الاستبدادية ترسخت في النفوس والعقول الى درجة انه اصبح من الصعب جدا اقتلاعها منها. وبالتالي فقبل بناء اي شيء جديد ينبغي تفكيك الموروث القديم القائم على الاستبداد والذي يحارب الحرية ويمنعها عن أبناء هذه البلدان. وبعد تفكك ثقافة الاستبداد وخنق الرأي المعارض يمكن الانتقال الى ثقافة الحرية والديمقراطية والتعددية. وكانت السيدة كونداليزا رايس واعية لهذا الواقع ومتفهمة لأسباب انتشار التوتر والحقد في هذه المنطقة المحتقنة لذلك تطرقت في خطابها إلى الفقر المنتشر في العالم العربي وقالت بأن كل ثروات الدول العربية مجتمعة لا تساوي ثروة دولة مثل اسبانيا التي كانت دولة بمستوى دول العالم الثالث قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وتتطبق الديموقراطية بعد تخلصها من إرث نظام فرانكو الديكتاتوري . ينبغي على الولايات المتحدة أن تحارب أسباب وجذور الظواهر المعادية لها وعلى رأسها الإرهاب وليس نتائجه سواء أكان ذلك في العراق أو في العالمين العربي والإسلامي أو في كافة أنحاء العالم الأخرى.