أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - امال الحسين - الماركسية اللينينية جوهر الدياليكتيك الماركسي















المزيد.....



الماركسية اللينينية جوهر الدياليكتيك الماركسي


امال الحسين
كاتب وباحث.

(Lahoucine Amal)


الحوار المتمدن-العدد: 1873 - 2007 / 4 / 2 - 12:32
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



تقديــــــم :

تعرف الحركة الإجتماعية في العصر الحالي تصاعدا ملحوظا خاصة بعد سقوط التجربة الإشتراكية بالإتحاد السوفييتي و شرق أوربا ، و هيمنة الرأسمالية الإمبريالية الأمريكية على العالم و فرض سيطرتها الأيديولوجية بالقوة العسكرية ، و عرفت الحركة الإشتراكية تصاعدا بعد ركود طويل نتيجة تفشي الرجعية في صفوف الماركسيين ، و هجوم الفكر البورجوازي على المذهب الماركسي في الساحة السياسية والثقافية باستعمال وسائل الإعلام المتطورة ، بعد الهيمنة على الإقتصاد العالمي من طرف الإمبريالية الأمريكية و حلفائها بفرض الإتفاقيات الدولية الرجعية على مستوى التجارة العالمية ، و ذلك بتركيز هيمنة الرأسمال المالي على الرأسمال الصناعي على المستوى العالمي و فرض علاقات إنتاج رجعية تضرب في الصميم المكتسبات التاريخية للثورة البروليتارية ، و ترويج المفاهيم البورجوازية الرجعية للتمويه على أن الإشتراكية نظام لا يصلح للتطبيق و أن الرأسمالية طبيعة العلاقات الإجتماعية .
و انبهر الماركسيون التحريفيون بمقولة "نهاية التاريخ" مشككين في النظرية الماركسية المادية التي تقر بالصراع الطبقي في ظل المجتمعات الرأسمالية ، باعتبار النظام الرأسمالي نظاما تناحريا لن تزول تناقضاته إلا بإزالة التناقضات الإجتماعية و الطبقات ، و أخذوا يروجون لمفاهيم البورجوازية محاولين دحض الماركسية اللينينية باعتبارها سبب سقوط التجربة الإشتراكية ، و في انتقاداتهم العفوية يحاولون إسقاط فشلهم في فهم اللينينية على النظرية الماركسية اللينينية ، التي تهدف بناء المجتمع الإشتراكي في طريق تحقيق الهدف الأسمى وهو بناء المجتمع الشيوعي ، محاولين تلفيق نتائج التحريفية بالإتحاد السوفياتي للنظرية الماركسية اللينينية متنكرين لمبادئها السامية ، و كذلك فعل أنقاض تجربة الحركة الماركسية اللينينية المغربية السبعينية الذين تملكتهم الردة و الإنبهار أمام الإكتشافات التيكنولوجية الحديثة ، و أقروا أن ما يسمى بالعولمة قد تجاوز المنظور الماركسي اللينيني لعصر الرأسمالية الإمبريالية.
و كان قسم كبير من بقايا تجربة الحركة الماركسية السبعينية قد خطا خطوة مهمة إلى الوراء باعتناقه البورجوازية بشكل فظيع و الدفاع عنها بمنطق اللاعرفانية ، ضربا عرض الحائط كل المباديء الماركسية اللينينة سائرا في طريق الرجعية بلا هوادة و لا تبصر ، و كان القسم القليل منهم بين الأخذ و الرد لا مع الماركسية اللينينية و لا مع البورجوازية بشكل صريح حسب أقوالهم ، فهم يتنكرون للينينية محاولين إيهام الجماهير بأنهم ماركسيون متجاهلين أنهم بالفعل ماركسيون بلا جوهر ، فهم بفشلهم على فهم كنه الماركسية اللينينية بعدم إطلاعهم عليها و دراستها و كذلك يقرون في تصريحاتهم ، يحاولون خلق شيعهم حول الحرب ضد اللينينية التي يعتبرونها مصدر كل إخفاقاتهم الأيديولوجية و السياسية و لما لا المعرفية ، معتقدين بأنهم بتحريفهم عن الخط اللينيني يستطيعون تجاوز تناقضاتهم اللاعرفانية التي يظلون التمسك بها في تفسير كل شيء ، و هم يحاولون تجميع شيعهم فيما يسمون الإطارات الجماهيرية البورجوازية من أجل بناء إطار سياسي بورجوازي يسمونه إطارا ماركسيا .
إن النشاطات العملية لممارسات شيعهم في هذه الإطارات لا يغدو أن تكون تطبيقا عمليا لمنطلقاتهم اللاعرفانية ، و هم يعقدون دون وعي أنهم يبلورون المفهوم الماركسي للنشاط العملي في الوقت الذي يتنكرون لجوهر المنطلقات الماركسية و هو الماركسية اللينينية ، و في محاولة تصفيتهم لما تبقى من رصيد الحركة الماركسية اللينينية و خاصة منظمة إلى الأمام يوهمون الجماهير بأنهم ماركسيون ، و أنه لا ماركسية خارج شيعهم التي تبلور المفهوم التحريفي للماركسية في صفوف الشابات والشباب بزرع أوهام المفاهيم البورجوازية كحقوق الإنسان ، و في صفوف العاملات و العمال بزرع أوهام النضال الخبزي ، و في صفوف النساء بزرع أوهام الحرية الليبرالية و ثقافة حقوق الإنسان ، و تقوم شيعهم على أساس الصراع السياسوي في هذه الإطارات مع حلفائهم البورجوازيين في باقي الإطارات السياسية البورجوازية التي تدعي الإشتراكية العلمية ، متخذين في عملهم التحالفي الصراع ضد المثالية الذاتية في الوقت الذي يجهلون فيه أنهم مازالوا في مستوى اللاعرفانية و يتنكرون للماركسية اللينينية و هي جوهر الدياليكتيك الماركسي و نقيض المثالية الحديثة ، و أنهم خارجون عن منحى المفهوم الماركسية للحركة و أن أنشطتهم العملية ما هي إلا توقف بالمرحلة اللاعرفانية في اتجاه المثالية .
و بعد أزيد من نصف قرن من التحريف الماركسي بالإتحاد السوفياتي نعيش اليوم عصر البعث الماركسي اللينيني بعد جلاء الحقيقة عن دعاة الحداثة و اللاعرفانية ، و الحركة الماركسية اللينينية المغربية في حاجة إلى البعث في ظل هجوم البورجوازية و التحريفية على الماركسيين اللينينيين ، و ضرورة الصراع الإيديولوجي ضرورة تاريخية من أجل تركيز أسس الماركسية اللينينة في صفوف الشبيبة ، و بلورتها في صفوف البروليتارية و الفلاحين الفقراء ببلورة مفهوم الثورة في النضالات الثورية لهذه الطبقات ، و تركيز المهمة الثورية للبورجوازية الصغيرة باعتبارها معرضة للدفع بها من طرف الرأسمالية الإمبريالية نحو صفوف البروليتاريا ، وكان لا بد من فضح المنطلقات اللاعرفانية للماركسية التحريفية و محاربة أفكار شيعها في صفوف النساء و الشبيبة و البروليتاريا و الفلاحين الفقراء و البورجوازية الصغرى ، و كان لا بد من تسليح الماركسيين اللينينيين بالتظرية المادية على المستوى المعرفي ذلك ما تهدف إليه هذه المحاولة التي بين أيدي القاريء الكريم .


جدلية الحركة الإجماعية و المعرفية :

تعتبر الحركة الطبيعة أول الحركات التي ظهرت على وجه الأرض و التي يشكل فيها الإنسان عنصرا من بين عناصرها الحيوية ، و تحكمها مجموعة من القوانين الطبيعية حسب طبيعة كل مكون من مكوناتها المختلفة و المتعددة التي تحكمها جدلية التناقضات المحددة لدينامية الحركة الطبيعة ، في ظل قوانين طبيعية تحكم هذه المكونات و تتحكم في ديناميتها و سيرورتها التاريخية و الطبيعية ، و الحركة الطبيعية لا يمكن تجاوزها مهما بلغت الحركة الإجتماعية و الفكرية من شأن رغم امكانية التأثير فيها في حدود إشباع الحاجات الفردية و الجماعية ، كما لا يمكن تغيير القوانين الطبيعية إلا بشكل نسبي يخدم مصالح الحركة الإجتماعية وفقا لتطور الحركة المعرفية في تفاعل دائم بين الحركة الإجتماعية و المعرفية ، إلا أن ما يمكن تحقيقه من تغييرات في الحركة الطبيعية يبقى ضعيفا أمام القوانين الطبيعية العليا التي تحكم الحركة الطبيعية و تتحكم في سيرورة الحركة الإجتماعية و المعرفية ، فرغم ما توصل إليه الإنسان من مستوى تكنولوجي هائل في مجال الإعلاميات و علم الوراثة اللذان يعتبران اليوم أروع ما وصلت إليه العلوم الطبيعية ، إلا أن قوانين الطبيعة تبقى حاسمة خاصة عندما يصل تأثير الحركة الإجتماعية و المعرفية على الحركة الطبيعية إلى مدى معين ، يستطيع إحداث خللا ملحوظ في التوازنات الطبيعية التي تحكمها جدلية التناقض الدائم بين مكونات الحركة الطبيعية.
لقد اهتم الإنسان خلال مراحل تطوره اهتماما خاصا بالطبيعة التي يمثل فيها العضو الحيوي حيث كانت انشغالاته الأولى تهتم بالحركة الطبيعية ، التي أذهلته بما تحتويه من تناقضات محاولا فهمها و تفسيرها و تغييرها و استغلالها لصالحه ، فاكتشف بذلك قوانينها المعقدة بعد اكتشاف الظواهر الطبيعية في علاقتها بالفضاء الخارجي بما يحتويه من أجرام و الذي شغل اهتمام الإنسان لقرون من الزمن ، استطاع عبرها اكتشاف قوانين دوران الأجرام و تسخيرها في حياته اليومية باعتبار الفضاء مجالا رحبا "العالم اللامتناهي الكبير" Le monde infiniment grand ، و تم اكتشاف علم الفيزياء الفضائية و التي أحدثت ثورة هائلة في مجال العلوم الطبيعية بفضل علماء أمثال كوبرنيك و كليلو و نيوتن ، الذين وضعوا الأسس النظرية للجاذبية و دوران النجوم و الكواكب و تجاذبها و دحضوا النظريات الميتافيزيقية لتفسير الظواهر الطبيعية ، و لم يسلم هؤلاء العلماء العظام من استبداد الكنيسة التي لم تستسغ نظرياتهم العلمية بعد جر البساط من تحت خرافاتها و ما كان عليها إلا أن تصدر أحكامها الجائرة في حقهم ، و عرفت العلوم الطبيعية ثورة هائلة عندما تم تطبيق استنتاجات علوم الفضاء على مستوى "العالم اللامتناهي الصغير" Le monde infiniment petit و ذلك باكتشاف قوانين حركة الذرة في علاقتها بالإليكترونات ، و التي علبت دورا هاما في فهم دواليب المادة و علاقتها بالطاقة بفضل علماء أمثال دو بروكلي و إنشتاين ، اللذان وضعا الأسس النظرية للحركة و المادة التي أحدثت ثورة هائلة في مجال الفيزياء النووية.
و الدارس لتاريخ العلوم اطبيعية يلاحظ تطورها بشكل متواتر منذ عصر اليونان الذي حاول فيه العلماء و الفلاسفة فهم الحركة الطبيعية في أبعادها "الكبرى" و "الصغرى" ، محاولين تفسير الوجود لكن هذه العلوم لم تعرف تطورا إلا عندما استقلت عن الفلسفة في وقت متأخر من تطورها خلال القرن 17 ، عندما انفصلت عن سلطة الكنيسة و أصبحت علوما لها قوانينها و أسسها الخاصة باعتبارها تعنى بالحركة في علاقتها بالمادة و بالتالي علاقة المادة بالطاقة ، و عرفت هذه النظريات العلمية عبر الحقب التاريخية تطورا هائلا بفضل اجتهادات العلماء ، ففي نهاية كل حقبة تاريخية توضع تساؤلات في حاجة للأجوبة التي يتوصل لها العلماء في حقب لاحقة ، و ذلك بعد تمحيص هذه النظريات و إجراء التجارب للتحقق من صحتها ما تم التوصل إليه من قبل للتخلص من أخطائها و البرهنة على خاصياتها التي كانت مفترضة ، و هي في حاجة إلى البرهنة من أجل إقرارها و فسح الطريق أمام مزيد من البحث العلمي بالتمحيص و التجريب لتثبيت صحة القوانين ، هذه القوانين التي ما هي في الأصل إلا جزء من القوانين الطبيعية التي لا حصر لها و لا نهاية ، و في آخر كل اجتهاد و الوصول إلى النتائج تطرح من جديد تساؤلات في حاجة إلى التدقيق و التمحيص و التجريب لوضع قوانين جديدة و هكذا دواليك ، و تاريخ العلوم الطبيعية عبارة عن إخفاقات و نجاحات لفك تناقضاتها عبر عدة قرون خلت من تاريخ البشرية ، عندما استطاع الإنسان استغلال الثروات الطبيعية بعد اكتشاف النار كطاقة و تسخيرها لصالحه ، و في اشتغالهم يسعى العلماء الطبيعيين إلى تغيير قوانين الطبيعة و ذلك باكتشافها و تطويعها و التأثير فيها بإدخال التغييرات عليها من أجل استغلالها من جديد وفق متطلبات الحركة الإجتماعية بفضل تطور الحركو المعرفية.
و الحركة الإجتماعية هي ثاني الحركات و التي أبدعها الفرد عندما أحس بالحاجة إلى التعاون من أجل تأمين حاجاته الفردية للتخلص من سيطرة الآخرين و التطلع إلى الإستقرار و التطور ، في الوقت الذي أحس فيه الفرد أنه لا يمكن لوحده تحقيق حاجاته في ظل قانون طبيعي ضعيف أمام متطلباته بعد تعدد المصالح و تعارضها و بروز السيطرة ، فكان لابد له من التكتل في مجتمعات بشرية تكون فيها الجماعة هي الحاسم و لا شأن للفرد خارجها ، و تم التعاقد بين أفراد الجماعة من أجل اختيار من ينوب عنهم في الدفاع عن حقوقهم و يحميهم من سيطرة الآخرين و تم سن القوانين الإجتماعية التي تقوم مقام القوانين الطبيعية.
و الحركة المعرفية هي نتاج الحركة الإجتماعية المؤسسة للعلاقات الإجتماعية التي تحكم دينامية الأفراد و الجماعات في ظل قوانين طبيعية و اجتماعية ، هذه القوانين التي يمكن تجديدها و تغييرها كلما دعت حاجة الحركة الإجتماعية إلى ذلك في ظل الجدلية التي تحكم تناقضات الحركة الإجتماعية ، و كان للحركة المعرفية دور هام في التأثير على الحركة الإجتماعية التي يمكن تجديدها و تغييرها باستمرار وفق الشروط المحددة لكل قفزة نوعية ، و العلاقة الجدلية المتواترة بين الحركة الإجتماعية و المعرفية في صارع دائم من أجل التغيير في ظل تحديد شروط السيرورة التاريخية للمجتمعات البشرية ، هذه السيرورة التي تعرف دينامية سريعة بعد التفاعل الهائل بين الحركة الإجتماعية و المعرفية في ظل تطور العلوم الطبيعية خلال القرن 17.
فبالإضافة إلى انشغال العلماء و الفلاسفة بالحركة الطبيعة من أجل تسخيرها لصالحهم عملوا على الإهتمام بالحركة الإجتماعية التي يشكل فيها الإنسان العنصر الأساس ، و ذلك من أجل اكتشاف قوانينها و العمل على فهمها و صياغتها و تسخيرها لصالح المجتمعات البشرية ، فاهتموا أول الأمر بسلوك الفرد و حاولوا فك مفهوم النفس البشرية التي اعتبروها أعلى ما يشكل كيان الفرد عبر المفهوم الميتافيزيقي للوجود ، و أن المادة ما هي إلا شكل مضمونها النفس البشرية معتمدين في ذلك على المتناقضان المعرفية المثالية ، و اهتم الفلاسفة بالإنسان و علاقته بالوجود و حاولوا فك ألغاز تناقضات المجتمعات البشرية خاصة بعد الحكم بالإعدام على سقراط ، الشيء الذي أحبط تلميذه أفلاطون الذي بحث كثيرا من أجل إسعاد البشرية بحثا عن نظام تسود فيه المساواة ، و اعتبر أن النظام الإثيني القائم على انتخاب ممثلي الشعب لا يعبر عن مفهوم الديمقراطية فيرى أن اختيار الحكام يجب أن ينبني على مؤهلاتهم و أن يملكوا المعرفة الفاسفية ، و يقول أن الفرد له حاجات ذاتية يسعى لإشباعها و لا يستطيع ذلك لوحده لدى نشأ المجتمع البشري نتيجة الشعور بضرورة التعاون و التضامن من أجل إشباع الحاجات الفردية ، و دعا أرسطو إلى تأسيس مجتمع سياسي يتمثل في البرلمان يرعى حرية التعبير من أجل العدالة و المساواة ، إلا أن البرلمان اليوناني إقتصر على مجموعة من النخب حيث تم استثناء المرأة و العمال و الغرباء من الحق في المواطنة ، و نشأت بذلك الإرهاصات الأولى للمجتمع السياسي الذي حاول الفلاسفة اليونان وضع قوانينه الإجتماعية بمحاولة اكتشاف قوانين الحركة الإجتماعية.

في العصور اليونانية و الرومانية ظهر اهتمام الفلاسفة بالمادة بظهور النزعة الفلسفية المادية مع الفيلسوفان ديمقريدس و أبيقور ، من خلال علاقة المادة بالوجود في محاولة للوصول إلى تفسير عمق الوجود المادي للكون بما في ذلك وجود الإنسان ، و يقول ديمقريطس : "لا شيء يأتي من العدم " هادفا إلى مقاومة الخرافات و الوصول إلى القوانين التي تنظم الوجود بما في ذلك وجود الإنسان ، على اعتبار أن الكون و الوجود يمكن تفكيكه إلى أجزاء و بالتالي تفكيك كل جزء إلى أجزاء إلى حين الوصول إلى الجزء المؤسس لهذا الوجود ، من هنا يمكن التوصل إلى القوانين الطبيعية التي تحكم الحركة الطبيعية و سلك سقراط أسلوب الإستقراء في محاولته للوصول إلى ماهية الأشياء و اكتشاف الخصائص العامة للوجود هذا الأسلوب الذي يسمى الجدلية ، و قد اتخذ في طريقته شكل الحوارات التي سميت فيما بعد بالطريق السقراطية و ظلت هذه الطريقة تراوح مكانها خلال القرون الوسطى ، و كان لتأتير الفكر الديني عليها أثر كبير خاصة بعد سيطرة الكنيسة على أساليب الحكم الذي يتسم بالإستبداد ، و بالتالي سيطرة المعرفة المثالية على الفلسفة رغم بعض إرهاصات الحركة المادية التي عرفتها عند العرب خاصة عند ابن رشد.
كان لنمط الإنتاج الإقطاعي دور هام في جمود الحركة المعرفية التي أسس لها الفلاسفة اليونان و ذلك بعد ظهور الفكر الديني الذي ركز التفكير الميتافيزيقي ، فبعد تركيز أسلوب العبودية و بروز الأسياد و العبيد و ظهور التناقضات في المجتمعات البشرية بعد القضاء على الشيوعية البدائية التي تعتمد على أسلوب الإستغلال الجماعي للطبيعة ، أصبح الإقطاع يسيطر على وسائل الإنتاج و أبتدع علاقات الإنتاج الإقطاعية التي ترتكز إلى العبودية ، و ذلك بس قوانين تضمن للإقطاع سيطرته على القوى المنتجة و استغل العبيد بما في ذلك المرأة من أجل مزيد من الإنتاج في المزارع الإقطاعية ، و استولى على الدولة التي عمل على تسخيرها كأداة لضمان نمط الإنتاج الإقطاعي بعقد تحالفات مع الكنيسة من أجل السيطرة ، و استمر نمط الإنتاج الإقطاعي لقرون من الزمان في ظل أنظمة استبدادية تستغل الدين أيديولوجيا من أجل استعباد العاملات و العمال في المزارع ، و ظهرت إمبراطوريات تعتمد أسلوب التوسع و الإستعمار كالإمبراطورية اليونانية و الرومانية التي التجأت إلى الحروب من أجل بسط سيطرتها على شعوب العالم ، و كانت الحروب اليونانية التي اسمرت لأزيد من 20 سنة دليلا قاطعا على استبداد الحكم الآثيني ، رغم ما وصل إليه المجتمغ الأثيني من تطور على المستوى المعرفي ، كذلك هو الشأن بالنسبة لحروب الإمبراطورية الروماتية على شعوب البخر الأبيض المتوسط .
أمام الحركة الإجتماعية في ظل الأنظمة الإستبدادية الإقطاعية نشأت الفيودالية كنتاج لنمط الإنتاج الإقطاعي الذي يرتكز على العبودية ، و لعبت الكنيسة دورا هاما في تركيز الفكر الفيودالي بأوربا الغربية و بكل الأنظمة الإستبدادية السائدة في القرون الوسطى ، و إلى جانب الزراعة ظهرت الحرف التي لعبت دورا أساسيا في توفير وسائل الإنتاج الإقطاعية و بالتالي وسائل الحرب بصناعة الأسلحة ، التي يحتاج إليها المستبدون لبسط سيطرتهم بالقوة على العاملات و العمال الذين يتم استعبادهم في المزارع و بالتالي بسط سيطرتهم على الشعوب ، كما نشطت عمليات استخراج المعادن التي يستغلها الفيوداليون في صناعة الأسلحة و وسائل الإنتاج الإقطاعية ، و بالتالي ابتكار وسائل الرفاهية كالحلي و المجوهرات و الأواني و الأثاث المنزلية التي تملأ قصور الفيوداليين ، و تعتبر المعمار شكلا من أشكال إبراز القوة و السيطرة على الشعوب خاصة في بناء القصور و البنايات الضخمة ، و تعتبر الأهرامات من بين المآثر التاريخية الهامة التي تعبر عن مدى قوة و غطرسة الحكم الإستبدادي الفرعوني و التي تبرز بجلاء تركيز أسلوب الإستعباد في العصر القديمة .
و الحركة الإجتماعية في ظل الأنظمة الإقطاعية أفرزت طبقتن أساسيتين و هي جمهور العبيد في المزارع و المناجم و الأوراش المعمارية و الطبقة الإقطاعية ، و من أجل تركيز النظام الإقطاعي أقام الإقطاعيون الفيودومات و هي القطع الأرضية التي ليسوا بحاجة إليها و التي يمنحونها لمناصريهم و خاصة الجيوش ، من أجل حماية مصالحهم و نشأت الأنظمة الفيودالية في أوربا في القرون الوسطى التي عرفت أنظمة استبدادية ، كما ظهرت فئة من التقنيين الذين يسيرون الأوراش الحرفية و المعمارية الكبرى و هم فئة من الحرفيين المحظوظين الذين يملكون تقنية عالية في المجالات الحرفية ، و كانوا يحضون برعاية خاصة من النظام الفيودالي لما يقدمونه له من خدمات و ازدهرت الحرف على حساب جمهور العبيد في الورشات الحرفية و الأوراش المعمارية الكبرى و المناجم ، كما تخصص لهؤلاء التقنيين أجور مهمة لتشجيعهم على الإبداع و العمل و البحث مما ساعد على تطور العلوم الطبيعية بتطور التجارب العلمية التي يقوم بها هؤلاء التقنيون ، و ظهر نظام العمل المأجور في أوربا في القرن 14 و عرفت فيه الصناعة الحرفية تطورا هاما خاصة بعد تطور الأسلحة عند اكتشاف "البارود" ، و ازدهار التجارة و تحول الورشات الحرفية إلى منيفاكتورات و نشأت الإرهاصات الأولى للرأسمال الصناعي و تطور الرأسمال التجاري و ظهور البورجوازية التجارية.
و كان لتطور العلوم الفيزيائية على يد إسحاق نيوتن دور هام في تطور الحركة الإجتماعية بعد القفزة التوعية التي حققتها الصناعة في عصر النهضة ، مما له تأثير كبير على الحركة الفكرية التي ثارت على قيود الكنيسة الكاتوليكية و الفكر المثالي الميتافيزيقي الذي ساد في العصور الوسطى ، و ظهرت الفلسفة ذات النزعة الإنسانية التي تسعى إلى تحرر الإنسان من قبضة المؤسسة الدينية مما أعطى دفعة قوية للفلسفة المادية ، و خاصة بعد ميلاد النزعة المادية الفيزيائية التي تتسم بالتفسير الحركي الفيزيائي للوجود المناقض للتفسير المثالي الميتافيزيقي ، و الذي بلغ أشده مع بروز الثورة الصناعية حيث يرى المؤمنون بهذا المذهب أن العالم عبارة عن أجسام مادية تجري وفق قوانين صارمة ، و أن وعي الإنسان مرتبط أشد الإرتباط بتكوينه الجسماني و مصدر الأفكار مادي حيث أن المخ البشري عبارة عن مادة تنتج هذه الأفكار ، كان للنزعة الإنسانية دور هامة في تحرر البشرية من قيود الكنيسة الكاتوليكية و فتح المجال أمام بروز الفكر المادي على مستوى المعرفة في العلوم الطبيعية ، و لم يحدث ذلك إلا عندما حصلت القفزة النوعية في الحركة الإجتماعية بعد التحول الهائل الذي شهدته وسائل الإنتاج بفضل تتطور الصناعة .
إن الحركة الإجتماعية في تحولات دائمة مع وجودها في بنية معينة/ نوعية معينة هذه البنية التي في تغيرها و تحولها تؤدي إلى التحول الكمي ، الذي لا يمكن ملاحظته إلا عندما يصل إلى مستوى معين ، و الذي يتحول فيه التحول الكمي إلى تحول نوعي إبتداء من ذلك المستوى المعين ، و لا يحصل ذلك بكيفية تدريجية بل يحدث في شكل قفزة نوعية يبرز فيها التحول النوعي نتيجة التحول الكمي الذي وصل إلى سقف معين يحتم ضرورة التحول النوعي / الكيف ، فالتحول الكمي للصناعة بالمدينة في القرن 17 عندما وصلة مستوى معين حدث تحول نوعي/ الكيف في الحياة الإجتماعية و ظهرت الطبقة العاملة و ظهر معها الصراع الطبقي بين العمل و الرأسمال ، و الحركة الإجتماعية يحكمها منطق الجدلية بين العمل و النظر الذي يحيلنا إلى الجدلية بين النظرية الثورية و الممارسة العملية ، حيث نجد أن في كل حركة اجتماعية عمل و نظر و في كل نظر عمل و نظر ، فالمفكرون المبدعون حينما يصنعون إبداعاتهم الفكرية تصبح عملا ملموسا الذي ينطلق من الفكرة إلى الإنجاز، كما أن في كل عمل نظر و عمل حيث أن الفئات المحسوبة على العمل أثناء إبداعها تفكر و تعمل و تضع لعملها نظرا في تفاعل دائم مع العمل الذي يغني النظر و ينفي تناقضات الحركة الإجتماعية ، و لتطور العمل تأثير عظيم على تطور النظر الذي يسعى إلى التوافق مع العمل في حركة دائمة من أجل تطوير الحركة الاجتماعية.
و هكذا نرى أن وراء كل قفزة نوعية تحول كمي كما هو الشأن عند التحول الذي وقع في مجال العمل الحرفي ، الذي وصل إلى مستوى معين لبروز العمل المأجور و بالتالي ظهور الطبقة العاملة و ظهور الرأسمال ، كما أن وفرة السلع نتيجة تطور العمل الحرفي أدى إلى بروز فائض في السلع التي لا حاجة للإقطاع لاستعمالها ، و التي تم تحويلها إلى بضائع يتم تجارتها في الأسواق و ظهر بذلك العمل التجاري و بالتالي ظهور الرأسمال التجاري ، و نرى كذلك أن الحركة الإجتماعية في تناقضاتها التي تصل إلى مستوى معين تكون في حاجة إلى الإنتقال إلى بنية اجتماعية معينة عليا ، كما أن أساليب الإنتاج في البنية الإقطاعية قد تحولت بدخول الصناعة مرحلة جديدة و تطور التجارة و أصبح من اللازم حدوث قفزة نوعية ، و من الحركة الإجتماعية ذات البعد الفيودالي إلى الحركة الإجتماعية ذات البعد الرأسمالي و من الحركة المعرفية المثالية إلى الحركة المعرفية المادية ، فكان لا بد من إسقاط نمط الإنتاج الإقطاع و تغييره بنمط الإنتاج الرأسمالي ، ذلك ما حدث في القرن 18 مع نجاح الثورة البورجوازية الفرنسية و انتصار المغاهيم البورجوازية على مصالح الإقطاع.
من هنا نرى أن الحركة الإجتماعية يحكمها تناقضان أساسيان بين القوى المنتجة التي تختلف عن علاقات الإنتاج بكونها تتصف بالحركة والثورة فهي عنصر الإنتاج الذي لا يستقر على صفة معينة لمدة طويلة و الحاسم في أسلوب الإنتاج ، هاتين الخاصيتين اللتين تميز القوى المنتجة تجعلها تملك القدرة على تحديد صفة علاقات الإنتاج ، التي يجب أن توافق درجة تطور القوى المنتجة حيث لا يمكن اختيار نوع علاقات الإنتاج بين الناس الذين تربطهم صلات يجب أن توافق بالضرورة طبيعة وصفة ودرجة تطور القوى المنتجة ، وعلاقات الإنتاج بدورها تؤثر في تطور القوى المنتجة ، هذا التأثر والتأثير يمكن له أن يسرع في تطور القوى المنتجة كما يمكن له أن يؤخر تطورها ويعرقله ، والقوى المنتجة/تحت تأثير الحركة الإجتماعية تسبق علاقات الإنتاج/تحت تأثير الحركة المعرفية في التطور كما أن علاقات الإنتاج في جميع الأنظمة الاجتماعية تتأخر عن تطور القوى المنتجة ، حيث تتولد بينهما علاقات متبادلة تصبح فيها القوى المنتجة هي المضمون وعلاقات الإنتاج هي الشكل ، ذلك ما رأيناه في تأخر علاقات الإنتاج الإقطاعية عن القوى المنتجة المتقدمة بعد الطفرة التجارية و الصناعية ، و بالضرورة وجوب القفزة النوعية الضرورية نتيجة التحول الكمي إلى تحول نوعي من علاقات إنتاج إقطاعية إلى علاقات إنتاج بورجوازية و من العبيد بالمزارع إلى الطبقة العاملة بالمعامل .

الصراع بين المعرفة المثالية و المادية :

إن الحركة المعرفية عبر تاريخها الطويل تتدحرج بين المنظومة الفلسفية المتسمة بالإتجاه المثالي و المنظومة الفلسفية المتسمة بالإتجاه المادي ، و هما في تعارض و تناقض و تصارع مستمر منذ أزيد من 2000 سنة بعد بروز الفلاسفة اليونانيين ، و عرفت الفلسفة اليونانية تناقضا صارخا بين المثالية و المادية ، و لا شك أن ذلك راجع إلى الجذور التاريخية للفكر الخرافي و الديني المسيطر لآلاف السنين في الحضارات الشرقية و الغربية على السواء ، و الذي وجد تعبيراته في الحضارات الصينية و الهندية و الفارسية المصرية و اليونانية و الرومانية و الأوربية الفيودالية فيما بعد ، و هذا التناقض يجد مبرراته كذلك في القوانين الطبيعية التي تحكم الحركة بصفة عامة و المتمثلة في صفتي الوحدة و التناقض ، هاتان الصفتان الملازمتان للحركة المعرفية إلى يومنا هذا و التي تجد تجلياتها في الصراع القائم بين المؤسسة الدينية و الممارسة السياسية في إطار الدولة البورجوازية ، فرغم أن الأنظمة التي تسمى نفسها ديمقراطية و تدعي العلمانية بعد انتصار الثورة البورجوازية الفرنسية إلا أن الفكر الديني ما زال حاضرا في الممارسة السياسية ، و الذي يعرف في الآونة الأخيرة بروزا خطيرا مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية .
إن دور التفكير الفلسفي هام في دحض التفكير الخرافي السائد منذ القدم بجعل الإنسان يتخلص من الشكل الخيالي للأسطورة و يبدأ في التفكير تفكيرا منطقيا ، و لم يتأتى له ذلك إلا عندما تمكن من مجموعة من القواعد المنطقية و على رأسها التمييز بين الخاص و العام ، الوحدة و التنوع ، الضروري و الصدفة ، و لم يتوصل الإنسان إلى هذا المنطق العقلي إلا عندما حصلت قفزة نوعية في المجتمعات البشرية و حصول استقرار نسبي في هذه المجتمعات ، ذلك ما حصل بعد بروز العمل الحرفي و التبادل التجاري و تأسيس أنظمة سياسية و تنظيم القطاعات الإجتماعية كالتعليم و غيرها ، و بدأ الإنسان يحتكم إلى العقل في تعامله مع الطبيعة في محاولة لتفسير كنه الأشياء و في تعامله مع غيره من البشر في محاولة لوضع قوانين تؤسس لعلاقات الإنتاج ، و أصبحت الفلسفة نقيض الفكر الخرافي تبحث عن جوهر الأشياء في ظواهرها من أجل حصره و ضبطه بتجريده عن ظواهره و دفع هذا التجريد إلى حده الأقصى ، و ذلك من خلال البحث عن مصير الكائنات باعتبار أن جميع الكائنات تشترك في جوهر واحد يجب البحث عنه من أجل معرفة سر الوجود ، الشيء الذي نتج عن ذلك محاولة البحث عن مفهوم المطلق مما ساهم في تأسيس الفكر الميتافيزيقي ، لكن دون الوصول إلى نتيجة تذكر باعتبار أن إشكالية البحث عن المطلق في حد ذاتها خاطئة .
هكذا ظهر الإتجاه المثالي في الفلسفة الذي اعتبر أن جوهر الأشياء لا ينتمي إلى العالم الحسي و أنه يوجد خارج عالمها و بذلك تم وضع فصل تام بين الجوهر و ظواهره ، و أن هذا الجوهر لا ينتمي إلى الأشياء في ظواهرها بل إلى عالم الفكر و الروح و خارج عالمها المحسوس ، لكن التناقض الموجود في هذا الإتجاه هو كيف يمكن للجوهر الذي ينتمي إلى عالم خارجي أي يكون جوهرا لظواهر حسية ، و كيف يمكن أن يكون ثابتا و هو جوهر لظواهر مليئة بالحركة ، تلك تناقضات الفكر الفلسفي المثالي الذي سيتم مجابهته بالفكر الفلسفي المادي الذي تزعمه ديمقريطس و أبيقور في مواجهة سقراط و أفلاطون ، هذا الإتجاه الذي ينكر وجود الجوهر و يعتبره عبارة عن تجريد فارغ و أن الأشياء المحسوسة هي كل شيء ، و وقع هذا الإتجاه المادي الكلاسيكي في تناقضات لا تقل أهمية من تناقضات المثالية إذ كيف يعقل أن تتمتع الأشياء الملموسة بصفة الوجود لوحدها ، في حين تبقى الأشياء المجردة عبارة عن فراغ لا يعكس أي شيء ذلك ما يتناقض مع تجاوز المعرفة الحسية عن طريق المعرفة العقلية ، و استمر هذا التعارض و التناقض بين هذين الإتجاهين إلى أن جاء أرسطو الذي حاول التوافق بينهما .
و يرى أرسطو أن كلا الإتجاهين يحتوي على جوانب صحيحة و جوانب خاطئة محاولا التخلص من الأخطاء التي يتضمنهما الإتجاهين ، و كان انتقاده يرتكز بالنسبة للمثالية على نكرانها لوجود الجوهر في العالم المحسوس و بالنسبة للمادية على نكرانها لوجود الجوهر أصلا ، و حاول إيجاد صياغة توافقية بين المثالية و المادية باعتبار أن الجوهر يمثل ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة ، بحيث لا يمكن وجود صورة يدون مادة كما أنه لا يمكن وجود كائن بدون جوهر ذلك لكون الصورة تعطي للمادة شكلها و الجوهر يعطي للكائن هويته ، و رغم أنه وحد بين الصورة و المادة إلا أنه لم يطابق بينهما حيث يهمل المميزات الخاصة عندما يتعلق الأمر بعدة أشياء ، حيث يعتبر الصورة كل شيء على اعتبار أن الأشياء تزول بينما الصورة تبقى بعد فناء الأشياء ، و بالفعل صمدت المنظومة الفلسفية لأرسطو 15 قرنا إلى أن جاء ابن رشد في القرن 12 الذي اكتشف التناقض القائم في منظومة أرسطو الفلسفية .
و كانت إسهامات ابن رشد في الفلسفة تتجلى في اكتشفه أن المنظومة الفلسفية لأرسطو تحمل تناقضا صارخا و الذي يتجلى في كون أرسطو ميز بين الصورة و المادة ، الشيء الذي عرض نظريته للتأويل في الإتجاه المثالي كما هو الشأن في الإتجاه المادي و عمل على بناء مفاهيمه الفلسفية في اتجاه الفكر المادي ، لكن اجتهادات ابن رشد ستعرف معارضة من طرف الإتجاه المثالي لفلسفة أرسطو الذي تزعمه الفيلسوف الأيطالي طوماس الأكويتي ، الذي عمل على تأويل المنظومة الفلسفية لأرسطو تأويلا مثاليا و دمج أفكار أرسطو في اللاهوت المسيحي ، و أصبحت الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاتوليكية في ظل الأنظمة الفيودالية الأوربية و أصبحن في تناقض مع المفاهيم الفلسفية لابن رشد ذات الإتجاه المادي الذي يهدد كيان الأنظمة الأستبدادية بأوربا ، و كان الهدف من الفلسفة المثالية للأكويني هو محاربة الفلسفة المادية لابن رشد التي عرضها للتشهير في أوربا ، و كان الصراع القائم في أوربا ما قبل النهضة يرتكز إلى التعارض و التناقض بين فلسفة الأكويني المثالية و فلسفة ابن رشد المادية .
و نشأ الصراع مرة ثانية بين المثالية و المادية قبل النهضة الأوربية إلا أن الحركة الإجتماعية المتنامية بعد ما عرفته القوى المنتجة من تطور في القرن 14 ، التي مهدت الطريق لعصر النهضة بعد بروز العمل المأجور و تطور الرأسمال التجاري وبروز نمط الإنتاج الرأسمالي ، الشيء الذي أصبحت معه البورجوازية الناشئة في حاجة ماسة إلى بلورة مفاهيمها و منظومتها الفلسفية ، من أجل بناء علاقات الإنتاج البورجوازية كانعكاس ضروري لتطور القوى المنتجة ، و لم يجد المفكرون البورجوازيون لعصر النهضة إلا المفاهيم الفلسفية لفكر ابن رشد كسلاح في حربهم ضد الكنيسة الكاتوليكية في ظل النظام الفيودالي ، و لعب طوماس الأكويني دورا في الرجوع بفلسفة أرسطو إلى الوراء حيث اعتبر انفصال الصورة عن المادة مع امكانية فناء المادة و بقاء الصورة ، التي لها القدرة على الإستمرار في الوجود رغم زوال مضمونها ، و قال بأنها لا يمكن أن تلتصق بالمادة إلا بواسطة الإله غير الفاني ، بينما قدم ابن رشد نظرية أرسطو إلى الأمام حيث قال أنه لا يمكن للمادة التي تشكل وحدة مع الصورة أن تفنى و تبقى الصورة غير فانية ، فإذا كانت المادة فانية فإن الصورة بالضرورة فانية ، و لا يمكن أن تستمد الكائنات المادية صورها من العالم الخارجي ، و اللجوء إلى الله في هذه الحالة لا يفيد شيئا ، لذا وجب البحث عن الصورة في المادة نفسها .
إن إسهامات ابن رشد أزالت الحاجز الذي وضعته فلسفة أرسطو بين المادة و الصورة و أعاد الإعتبار مرة أخرى للجوهر الكائن في المادة نفسها ، الشيء الذي لم يفلح فيه أرسطو عندما حاول معالجة تناقضات المادية الكلاسيكية عندما وقع في تناقض الجوهر الخارج عن الظواهر ، مما عصف بفلسفته التي أولها طوماس الأكويني لتسخيرها لصالح الكنيسة الكاتوليكية و الأنظمة الفيودالية الإستبدادية ، و رغم أن الفلاسفة البورجوازيين في نقدهم لفلسفة ابن رشد يعتبرون أنه لم يضف أي جديد لفلسفة أرسطو حيث اكتفى بشرح تناقضاتها ، إلا أنه رغم ذلك فشرحه لأعقد منظومة فلسفية لفيلسوف كبير و هو أرسطو ليس بالشيء الهين في حد ذاته ، و لكن أطروحة ابن رشد تجاوزت في الحقيقة شرح فلسفة أرسطو بعد أن أوضح التجاوز التاريخي لمنظومته الفلسفية ، حيث استحالة التوافق بين المثالية و المادية التي سعى أرسطو للوصول إليها و وقع في نفس أخطاء المثالية حيث جرد الصورة عن المادة ، الشيء الذي سهل تأويل فلسفته في اتجاه المنظور المثالي للوجود كما فعل طوماس الأكويني الذي أعاد المعرفية الفلسفية إلى الوراء و بالتالي تركيز الإستبداد الذي ساد أوربا القرون الوسطى .
إن ما تمت الإشارة إليه سابقا يحيلنا إلى التوصل إلى أن المادية و المثالية يستحيل التوافق بينهما و أن التناقض بينهما هو تناقض تناحري ، لذلك من الصعب خلق توافق بين التناقضات الأساسية بين المادية و المثالية حيث أن أي توافق يمكن احتماله مشروط بعدم وجود صفة التناحر بين المتناقضان ، ذلك ما أكده التناقض التناحري بين فلسفة ابن رشد المادية و فلسفة طوماس الأكويني المثالية ، و رغم تحامل المفكرين البورجوازيين بأوربا على فلسفة ابن رشد فإن صفة التناقض التي تتصف بها كل المجتمعات البشرية ستنصفه ، ذلك لأن أوربا كما أنجبت المفكرين البورجوازين استطاعت إنجاب المفكرين الماركسيين الذين أعادوا لفلسفة ابن رشد اعتبارها ، لكن ابن رشد لم يستطع التخلص تماما من الفكر المثالي الذي ظل ملازما لأطروحته حيث لم يحسم موقفه من أصل المادة ، و ظل يتأرجح بين الأصل المادي للعالم و بين أصله الروحي كباقي الفلاسفة الماديين الأوربيين العاجزين عن القطع مع المثالية ، و لم يتحقق ذلك إلا بعد ستة قرون من وفاة ابن رشد ، و ذلك في القرن 18 مع بروز فلاسفة الأنوار الماديين الفرنسيين .

إستقلال العلوم الطبيعية و المنحى المادي للفلسفة :

ففي النصف الأول من القرن 18 برز أحد الفلاسفة الكبار وهو الفيلسوف ديكارت عميد فلاسفة الأنوار ، و تعتبر هذه المرحلة بداية صعود الحركة البورجوازية الفرنسية و التي لم تبلغ بعد مستوى الصدام مع النظام الإقطاعي ، حيث أن القوى المنتجة ما زالت لم تبلغ مستوى القفزة النوعية التي ستحول الحركة الإجتماعية الفرنسية من الإقطاعية إلى الرأسمالية ، و ما زالت مفاهيم البورجوازية في مرحلة الصعود لم تصل بعد إلى مستوى انتصارها على مصالح الإقطاع الشيء الذي سيقع أثناء انتصار الثورة البورجوازية الفرنسية في أواخر القرن 18 .
و فهذه المرحلة مازالت الحركة البورجوازية في حاجة إلى تطوير القوى المنتجة التي تحتاج إلى مزيد من التحرر من الأفكار الكلاسيكية المثالية ، حيث أن علاقة الإنسان بالطبيعة تتطلب الإحتكام إلى العقل مع بروز نشاط العلوم التجريبية من أجل تطوير العلوم الطبيعية ، فساد منطق العقل في التعامل مع الطبيعة في الوقت الذي لم تصل بعد البورجوازية إلى مستوى تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية ، و في هذه المرحلة كانت سيادة الكنيسة هي السائدة في مجال المعرفة عبر الفلاسفة السكولاستيكيين الذين يعبرون عن مصالح الإقطاع ، و يكرسون الفكر الغيبي في مجال العلوم الطبيعية حيث يفسرون الظواهر الطبيعية تفسيرا ميتافيزيقيا غيبيا و يعتبر طوماس الأكويني عميد السكولاستيكيين ، فكان لا بد من قيادة الإحتكام إلى العقل في مجال الطبيعية كمرحل أولى لتحرير العلوم الطبيعية من أيدي الكنيسة الكاتوليكية ، و يعتبر كوجيطو ديكارت " أنا أفكر إذن أنا موجود " أحسن معبر عن الصراع القائم بين العقل و سيادة المعرفة المثالية الذاتية السائدة في تلك المرحلة التاريخية و التي قاد فيها بركلي حربا عشواء ضد الفلاسفة الماديين .
و هكذا أحدث ديكارت قفزة نوعية في مجال المعرفة حيث استطاع تجاوز المعرفة السكولاستيكية المعبرة عن سيادة الكنيسة على المعرفة ، و ذلك عبر الإحتكام إلى العقل باعتبار الوجود مرهون بما نملك من المعرفة و الوصول إلى الواقع الملموس دون وسيط خارجي ، الشيء الذي رد الإعتبار للإتجاه المادي للفلسفة خاصة في مجال العلوم الطبيعية التي كانت تهيمن عليها المعرفة الغيبية لسلطة الكنيسة ، و لعبت الفلسفة المادية الديكارتية دورا هاما في التسريع بتطوير القوى المنتجة التي كانت البورجوازية في أمس الحاجة إليها ، و ذلك بالدفع باستقلال العلوم الطبيعية عن الفلسفة الغيبية المسيحية دون الغوص في إشكاليات الوجود بحكم ما تحتاج إليه القوى المنتجة في تلك المرحلة التاريخية من تطوير، و أخذت الفلسفة الديكارتية منحى العمل على تناول قضايا الكون لفهمه و اكتشاف قوانينه الطبيعية تاركة قضايا الوجود للكنيسة ، و بذلك يكون ديكارت قد تخلف عن منحى فلسفة ابن رشد ذات المنحى المادي و بالتالي لم تخرج فلسفته عن المنحى المثالي ، و دخلت الديكارتية في المهادنة مع الكنيسة حيث لم تستطع فتح مستوى الصراع السياسي و الإقتصادي مع النظام الإقطاع ، ذلك لأن البورجوازية ما زالت في حاجة ماسة إلى تطوير القوى المنتجة من الناحية الكمية التي ستحدث التحول الكيفي من أجل حدوث القفزة النوعية و تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية .
و غير بعيد عن فرنسا إستطاع الفيلسوف الهولاندي سبينوزا فتح الصراع مع الكنيسة التي أعتبرها سبب التخلف بما تمثله من دعامة أيديولوجية للأنظمة الإقطاعية بأوربا ، و يقول : " إن الأوهام الدينية هي سبب عبودية البشر " ، و هذه المقولة خير تعبير عن نضج الفلسفة المادية الهولاندية بالنسبة للفلسفة الفرنسية التي لم تستطع فتح هذا الصراع ، و كان للظروف الهولاندية التي بلغت فيها القوى المنتجة أوج حركتها قد ساعدت على مقارعة الإديولوجية الإقطاعية المبنية على سلطة الكنيسة على المعرفة ، و اعتبر سبينوزا الجوهر و الله مسميين لمسمى واحد هو الطبيعة باعتبار أن الله كائن في الطبيعة و لا يمكن البحث عنه خارجها ، و تكمن قوة فلسفة سبينوزا في كونها جسدت القوة الخارقة للكنيسة في الطبيعة مما ساهم في تطوير الإتجاه المادي في الفلسفة ، إلا أن الفيلسوف الفرنسي ديدرو يرى في الفلسفة المادية لسبينوزا تناقضا صارخا يضعها في موقع المثالية حيث اعتبر الطبيعة هي الله ، بدل اعتبار الطبيعة هي الطبيعة في ذاتها و لذاتها و يذلك لم يستطع بناء القطيعة مع المثالية بعد اعتبار الطبيعة هي الله .
و كانت للتطور الهائل للقوى المنتجة الفرنسية و استعداد البورجوازية الفرنسية لخوض معارك الثورة البورجوازية ضد الإقطاع من أجل تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية دور هام في بناء الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين ، و الذين أصبحوا متطرفين بدءا بالطبيعة مرورا بالدين وصولا إلى السياسة و الإقتصاد من أجل القضاء على النظام الإقطاعي ، و أحدثوا قطيعة تامة مع المثالية حيث يقول ديدرو :"إن الحقيقة ليست هي الله الذي هو الطبيعة بل هي إما الله أو الطبيعة " ، و بذلك حقق الماديون الفرنسيون نجاحا باهرا في مجال الفلسفة الطبيعية رغم إخفاقهم في مجال التاريخ حيث لم يستطيعوا إعطاء أجوبة حول علاقة الإنسان بالمجتمع و علاقته بأفكاره ، مما شكل قصورا حادا في فلسفتهم المادية التي أعطت الأهمية القصوى للطبيعة دون الوصول إلى العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة و علاقات الإنتاج ، و يقول هيلفيتيوس في هذا الأساس :" إن الإنسان تصنعه ظروفه الإجتماعية" ، مما يطرح إشكالية تغيير المجتمع في الأفق حيث إذا أراد الإنسان تصحيح أخطائه لا بد له من تغيير الظروف الإجتماعية التي صنعته الشيء الذي يطرح التناقض بين علاقة الإنسان بمحيطه .
و القصور في الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين يتجلى في اعتبار أن الإنسان نتاج ظروفه الإجتماعية مما يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان و ليس العكس ، و هذا الطرح يتفق معه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك حيث يقول :" إن أفكار الناس لا تخلق معهم بالفطرة " ، و بذلك يكون جون لوك قد عارض أفكار ديكارت في هذا المجال الذي أقرر الأفكار الفطرية ، و لم يستطع الفلاسفة الفرنسيين تطوير مفهوم التاريخ و ظلوا حبيسي الفلسفة المادية الطبيعية و ذلك نتيجة عدم قدرتهم على القطيعة مع الميتافيزيقا ، هذا القصور الذي سيحسمه الفيلسوف الألماني هيكل الذي اكتشف الصيرورة الجدلية بذلك يدخل الفلاسفة الألمان مسرح بلورة الفلسفة المادية .

و لا يفوتنا هنا تناول أكبر قضية طرحها الفيلسوف الألماني كانط و هي إشكالية المنهج العلمي الذي لا بد من تركيزه في نقد النظريات الفلسفية ، كما هو الشأن في مجال الرياضيات التي لم تسمى بعلم إلا بعد اجتهادات طاليس الذي أخضعها للمنهج العلمي ، كما أن العلوم الفيزيائية لم تسمى كذلك علم إلا بعد إخضاعها للمنهج العلمي من طرف غليلو ، لذا الفلسفة في حاجة إلى منهج نقدي علمي الذي سيضفي عليها صفة الفلسفة النقدية العلمية دون الدخول في صراع المنظومات الفلسفية فيما بينها كما هو شأن في تاريخ الفلسفة الكلاسيكية ، حيث يعتبر كانط أن كل منظومة فلسفية تحمل بداخلها تناقضات يسهل تدميرها عبرها لذلك أكد على ضرورة منهج فلسفي نقدي علمي ، و بذلك وضع ما يسمى ب"متناقضات العقل الخالص" في أطروحته في كتاب "نقد العقل الخالص " ، و استخلص أن البحث عن الجوهر مستحيل لكون العقل الذي يبحث عن الوصول إليه هو نفسه مليء بالتناقض مما يجعله غير قادر على الوصول إليه ، فتنازل عن البحث عن الجوهر كما كان الشأن بالنسبة للفلسفة الكلاسيكية و لا يرغب في بناء منظومة فلسفية جديدة و التي ستتعرض للتدمير من طرف منظومة فلسفية أخرى .
و اعتبر أن دور الفلسفة هو البحث عن الظواهر متجاوزا بذلك منظور الفلسفة الكلاسيكية محاولا بناء أسس الفلسفة الحديثة ، و وضع أمام بحثه إشكالية التناقض الذي يجب الخوض فيه بدل بناء منظومة فلسفية جديدة إلا أنه خلص إلى أن العقل لا يمكن الوصول إلى الجوهر لأن العقل يؤدي إلى اللامعقول ، مما جعلها يقع في التناقض الذي وضعه أرسطو الذي اعتبر أن الجوهر هو اللامعقول و كأنه يعيد إنتاج ما وضعه أرسطو و الذي نتج عنه بروز اللاعرفانية ، و انطلق هيكل في نقده لفلسفة كانط من مفهوم التناقض الذي توصل إليه باعتباره الجوهر النهائي الذي يتم البحث عنه ، و بذلك أحدث هيكل تحولا كبيرا في الفلسفة المادية بتأسيسه لمفهوم الصيرورة الجدلية على اعتبار أن العلاقة بين الأشياء سبقت وجودها و هي أساس تكوين الأشياء ، و هذه العلاقة داخلية و ليست خارج الشيء و لا خارج الأشياء فيما بينها و هي التناقض الداخلي الذي يعتبر جوهر كل شيء و هذه العلاقة في تناقض دائم ذلك ما يسمى الصيرورة الجدلية ، و هي مرتبطة بمفهوم التناقض نفسه الذي يتأسس على وحدة الأضداد في تماثلها و تطابقها في المضمون و المعنى و في ارتباطها بتحول الشيء إلى ضده في أقصى تحولاته .
لقد رأينا فيما سبق أن الفلاسفة الماديين الفرنسيين اعترضتهم إشكالية علاقة الإنسان بمحيطه الإجتماعي و أنهم يحصرون تلك العلاقة في التفاعل المتبادل ، و عكس ما أنجزوه في مستوى المادية الطبيعية فقد أخفقوا في فهم إشكالية التاريخ الذي سيرجع الفضل لاكتشافه للفلاسفة الألمان ، و أوضح الفيلسوف الألماني هيكل ما يشوب أجوبة الفلاسفة الفرنسيين في هذا الشأن و يقول : " إن قصور المنهج الذي ينظر إلى الظواهر من زاوية التفاعل المتبادل يكمن في كون أن علاقة التفاعل، بدل أن تحل محل المفهوم يتعين عليها هي نفسها أن تكون مفهومة" ، لذلك فهذا التفسير حسب هيكل بدل أن يكون هو المفهوم فإنه في حاجة إلى فهمه لأنه يتكون من العديد من العوامل : الظواهر و الجوانب و العلاقات ... و من بينها العوامل السياسية و الإقتصادية و الثقافية و الدينية و غيرها ، و أن هذه العوامل جمعاء لا يمكن أن تكون إلا نتيجة لعامل آخر يسميه "المتسامي" الذي يعتبر سبب كل العوامل الأخرى .
و من هنا يستنتج أن هدف العلم هو البحث عن هذا العامل الأساس السبب في باقي العوامل الأخرى المتفاعلة فيما بينها و الذي يفسح المجال للربط الجدلي فيما بينها ، و يقول أن حقيقة الأشياء لا يمكن أن نتوصل إليها دفعة واحدة لأن الحقيقة النهائية لا نتوصل إليها إلا بعد تصادم مجموعة من الأفكار المتعارضة في فكرنا و هي نتيجة الآراء المتضاربة في فكرنا ، و الحقيقة إذن ما هي إلا حصيلة حركة جدلية قائمة على التناقضات و التجاوزات المستمرة حيث لا يمكن للفكر أن يصل إلى جوهر الأشياء إلا بعد نهاية حركته الجدلية ، و أن صيرورة تشكل جوهر الأشياء ما هي إلى علاقة التناقضات التي يجسدها ذلك الجوهر عبر المنهج الجدلي في التفكير ، من هنا انتقد استنتاجات كانط حول تاريخ المنظومات الفلسفية بأوربا التي اعتبرها كانط مجموعة من التناقضات التي سماها "اللامعقول" ، و يعتبر هيكل أن كل منظومة تحمل جانبا من الصواب و أنها ما هي إلا نتاج الحركة المعرفية لحقب تاريخية معينة و يحكمها البحث عن المفهوم ، و أن أي منظومة فلسفية لا يمكن أن تتناول إلا جانبا من الجوانب المتعددة للمفهوم في لحظة تاريخية معينة ، و أن مجموع المنظومات الفلسفية المتناقضة عبر التاريخ هو الذي قادنا إلى التوصل في النهاية إلى المفهوم .
و بذلك انتقد منهج كانط الذي لم ير في المنظومات الفلسفية المتعاقبة إلا "اللامعقول" لأنه لم يستطع فهم خلاصة هذه التناقضات الموجودة بين المنظومات الفلسفية ، و صاغ هيكل مفهوم الملموس الذي يعتبر نقيض المجرد و اعتبر أن الحقيقة المجردة غير موجودة و أن الحقيقة لا يمكن أن تكون إلا ملموسة ، و أن الأشياء المجردة غير موجودة إلا في الفكر الذي يعمل على عزل الأشياء من أجل البحث عن الجوهر ، و أن الواقع دائما يكون ملموسا حيث يعتبر مشروطا بجوانبه و خصائصه و علاقاته من هنا يعتبر الحقيقة غير مجردة و أنها دائما ملموسة ، و أن الفكرة الفلسفية تستمد صحتها عندما تكون ملموسة و هي مشروطة بعلاقاتها الخاصة و ما أن تتغير هذه العلاقات حتى تكون خاطئة .
و أسس هيكل المنهج الجدلي محاولا إيجاد حلا لإشكالية الفلاسفة الماديين الفرنسيين واضعا ما يسمى "المتسامي" و هو ما يسميه "العقل الوطني" الذي يعتبره مستوى من مستويات "العقل الكوني" ، و ما "العقل الوطني" إلا إحدى تجليات "العقل الكوني" لدى شعب من الشعوب في لحظة تاريخية من تطور هذا الشعب ، و يعتبر تاريخ البشرية ينطلق من " الفكرة" التي تنطلق من الفكر الخالص عبر ثلاث مراحل و هي الوجود ، الجوهر ، المفهوم ، و تؤدي في النهاية إلى "الفكرة المطلقة" ، و التي ستتحول إلى الطبيعة التي ستصبح شكل وجود الفكرة المطلقة مما يجعل الطبيعة تطور خارجي للفكرة المطلقة ، و بالتالي يظهر "العقل الكوني" الذي يتطور عبر ثلاث لحظات و هي العقل الذاتي ) الشعور ، التصور ، الفكر ( ، العقل الموضوعي ) الدولة ، القانون ، الأخلاق (، العقل المطلق ) الدين ، الفن ، العلم (.
و أصبحت فلسفته معرضة للنقد من طرف فويرباخ الذي انطلق في نقده من الفكرة المطلقة و الذي يرى أنه لا يمكن للتطور التاريخي أن يكون مجرد تطور فكرة مطلقة ، و اعتبر المنظومة الفلسفة لهيكل فلسفة مجردة حيث جردت كل شيء ، الإنسان ، الطبيعة ، الفكر ، معتبرا الإنسان أساس حركة التاريخ و ليس الفكرة المطلقة التي اعتبرها دينا جديدا ، متجاوزا بذلك فلسفة هيكل المثالية بتجاوز الفكرة المطلقة المجردة بوضع الإنسان الملموس مكانها .

حسم الصراع لصالح المذهب المادي :

و جاء كارل ماركس ليعتبر إنجاز هيكل مهما باعتباره وضع الجدلية التي اعتبرها العلاقة التناقضية المحرك الأساسي للصيرورة الجدلية ، لكنها تتم داخل الفكرة المطلقة مما يجعل فلسفة هيكل فلسفة مثالية في حاجة إلى التطوير و ذلك بإخراج الجدلية من الفكر إلى الواقع ، لذا فالجدلية بدل أن تكون حبيسة الفكرة المطلقة يجب أن تنطلق من الواقع الملموس و تتحرك فيه ، من أجل تحويل جدلية هيكل من الجدلية المثالية إلى الجدلية المادية الشيء الذي يتطلب مراجعة كاملة لأطروحة الفلسفة الهيكلية .
و بدأ ماركس بمفهوم الدولة التي يراها هيكل كطرف ثالث للتناقض داخل المجتمع و بروزها كحل تاريخي للتناقضات الإجتماعية ، و خلد الدولة بجعلها ضرورة في واقع التناقضات الإجتماعية التي من الضروري أن تنتهي بالقضاء على أحد المتناقضين من طرف المتناقض الآخر ، فإلغاء التناقض لديه يستوجب طرف ثالث من أجل المصالحة بين المتناقضين المتصارعين و هذا الطرف الثالث هو الدولة التي تعتبر في الحقيقة أداة يستعملها أحد الطرفين المتناقضين ، مما يحيلنا إلى أن تناقض هيكل هو تناقض تصالحي و ليس تناقضا تناحريا و ذلك ناتج عن فلسفته المثالية التي بقيت حبيسة الفكرة المطلقة ، ليسقط في هذا التناقض باعتباره الدولة ما يجب أن يكون حيث لم يكتشف وجود الدولة كما هو في حقيقته .
و عمل ماركس على معالجة التناقض الذي وضعه هيكل و الذي يعتبره موجودا و لكنه النوع الأول فقط الذي هو التناقض التصالحي ، ذلك أن كل واحد من الضدين في تناقضهما يعمل بنفي تماثله مع الضد الآخر الذي يقود إلى انفصال مؤقت بين الضدين في إطار وحدتهما ، ذلك ما يسمى بحل التناقض بتجاوزه مع الحفاظ عليه في نفس الوقت و التناقض التصالحي حسب ماركس موجود في الواقع ، و يتم حل هذا النوع من التناقض عن طريق إقامة شكل جديد من التماثل بين الضدين دون الوصول إلى القضاء على التناقض في وجوده و ليس في تماثله فقط ، و عدم قدرة هيكل على إدراك نوع التناقض التناحري جعله يعتبر الدولة ذات طبيعة التناقض التصالحي ، فاعتبار هيكل للفكرة المطلقة كجوهر جعله يسقط في المثالية من جديد مما حال دون قدرته على الوصول إلى التناقض التناحري الذي يعتبر جوهر الحركة.
و أطروحة ماركس تتجلى في البحث عن النوع الثاني من التناقض و هو التناقض التناحري الذي يجعل أحد الضدين ينفي الآخر في وجوده و ليس في تماثله ، و يتم ذلك بإلقضاء على أحد الضدين و تحرير الآخر كما هو الشأن في الصراع الطبقي حيث لا يعتبر ماركس الدول حلا للتناقضات الإجتماعية في إطار الحفاظ عليها بل هي مكانا لصراعهما ، و يرى أن العلاقة التناقضية و هي الجوهر المؤسسة للصيرورة الجدلية للتناقض التناحري تنتهي بالقضاء على أحد الضدين المتناحرين و تحرير الضد الآخر ، و في نفس الوقت يتم تناقض تناحري جديد في ظل صيرورة جدلية جديدة المؤسسة على علاقة تناقضية جديدة ، كما أن التناقض الأصلي المؤسس للصيرورة الجدلية ما هو إلا نتاج لصيرورة جدلية سابقة بحيث أن الجوهر ليس شيئا ثابتا بل هو معطى متحرك .
و اعتبر هيكل أن الجوهر باعتباره علاقة تناقضية أصلية ترسم المسار الذي سيسلكه التناقض في وصوله إلى الحل و بذلك يتم تحديد الحل مسبقا من طرف الجوهر ، ذلك ما يسميه بالضرورة التاريخية للصيرورة الجدلية التي ما عليها إلا تحقيق هذا الهدف المرسوم مسبقا من طرف الجوهر التناقض الأصلي ، و تطبيق ذلك على التاريخ يعني أن الصيرورة التاريخية تتحرك وفق قوانين صارمة للوصول إلى الهدف المرسوم مسبقا للتاريخ من طرف الجوهر و غايته هو تحقيق الهدف ، و انتقد ماركس هذا الطرح المثالي للتاريخ الذي اعتبره يتناقض و قوانين التطور التاريخي فيرى أن القوانين تحدد بالفعل التطور التاريخي لكن دون تحديد شكل الحل النهائي ، الذي يمكن أن يتضمن مجموعة من الحلول دون فرض حل واحد بعينه و التناقض في مسار تطوره يفرض نوع الحل الضروري .
و الضرورة ليست إلا حاجة التناقض في تطوره من أجل الوصول إلى الحل الذي يمكن أن يتخذ شكلا من الأشكال وفق الحلول الممكنة ، ذلك لأن الحل يمكن أن ينفي التناقض القديم كما يمكن أن يؤدي إلى التفرع إلى ضدين متناقضين أو عدم تحقيق النفي ، و يعتقد هيكل أن الصيرورة التاريخية محددة مسبقا و أن حركة الصيرورة الجدلية يحكمها نفي النفي الضروري الذي له صلة وطيدة بالضرورة التاريخية ، و ماركس يقول بوجود نفي النفي لكن باعتباره أحد الحلول الممكنة ، ذلك أن الحركة الجدلية يمكن أن تسير وفق الحلول الممكنة حيث يمكن أن تكون حسب نفي النفي أو عكسه ، و الحل الذي يحصل من بين الحلول الممكنة قد يبدو و كأنه فرضته الضرورة التاريخية ذلك ما جعل هيكل يقول بالضرورة التاريخة المرسومة مسبقا و يسقط في التفسير المثالي.
رأينا فيما سبق ما شاب فلسفة هيكل من أخطاء على مستوى الصيرورة الجدلية التي ربطها بالضرورة التاريخية التي ترسم المسار للوصول إلى الهدف ، باعتبار الجوهر كتناقض أصلي مسؤول عن رسم حدود الصيرورة الجدلية التي تعمل على تحقيق الهدف المرسوم أصلا من طرف الجوهر ، مما يفرض نوعا من الحل الضروري باعتبار الصيرورة الجدلية يحكمها نفي النفي الضروري و الذي يعتبره ماركس موجودا لكن مع اعتباره كأحد حلول الصيرورة الجدلية ، كما تحتل العلاف بين الفكر و الواقع مكانة في أطروحة هيكل و هي عبارة عن وحدة حيث يقرر بوحدة الفكر و الواقع ، باعتبار الواقع الطبيعي و الإجتماعي ملموس لكونه يتصف بوحدة من الجوانب و العلاقات و الخاصيات المتعددة و المتنوعة ، و ما يميز الواقع الملموس هو عدم وجود خاصياته بالصدفة و التي تدخل في ترابط جدلي يعمل الفكر على النظرة إليها لأول مرة بشكل عشوائي ، مما يجعل هذا الواقع الملموس يتحول إلى واقع مجرد الشيء الذي يفرض على الفكر العمل على اكتشاف الروابط بين جوانبه ، و في عمله على ضبط هذه الروابط يكون تصورا ملموسا للواقع الملموس في شكل تسلسل منطقي في الفكر .
و الفكر في عمله هذا يقوم بعملية التجريد عن طريق الذهن الذي يعمل على نفي و تجريد كل خاصيات و جوانب الواقع الملموس إلا الخاصية الجوهرية ، التي اعتبرها العلاقة التناقضية الأصلية التي ينطلق منها الفكر لإعادة بناء الواقع الملموس بالذهن بشكل منطقي متسلسل يقوده إلى تجميع خاصياته و جوانبه ، و هكذا يمتلك الفكر التصور الملموس للواقع الملموس عند هيكل في الوقت الذي لا يمكن فيه للذهن أن يمتلك الواقع الملموس عن طريق تجميع كل خاصيات الواقع الملموس ، و ذلك بدءا من الخاصية الجوهرية في مسار متسلسل إلى حين تجميع الخاصية النهائية مما جعل هيكل يقول أن الواقع ما هو إلا نتيجة للفكر ، و بالنسبة لماركس فالفكر ما هو إلا انعكاس للواقع الملموس حيث لا ينتج الفكر المعرفة و الواقع و إنما يعيد إنتاجهما ، و أن المجرد لا يوجد في الفكر بل هو موجود في الواقع حيث هناك اختلاف جوهري بين الفكر و الواقع عكس تطابقهما في نظر هيكل ، و العلاقة بينهما تكمن في قدرة الفكر على انعكاس الواقع بشكل صحيح و ليس الواقع نتيجة للفكر كما يقول هيكل .
و كانت المنظومة الفلسفية لهيكل مثالية بامتياز حيث انطلق من الفكرة المطلقة التي اعتبرها هي الجوهر و تخلف بذلك عن الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين ، لكن فويرباخ في انتقاده للفكرة المطلقة رد الإعتبار للفلسفة المادية حيث اعتبر أن الإنسان أساس حركة التاريخ و هو كائن حي ملموس في الواقع ، إلا أن ماركس أكد على أن إنسان فويرباخ عبارة عن شيء للتأمل و ليس فاعلا في حركة المجتمع حيث جرده من علاقته الإجتماعية الملموسة ، و عزله عن نشاطه الإجتماعي حيث يعتبر فقط نشاطه الفكري و بذلك سقط فويرباخ في المثالية من جديد رغم أنه حاول تجاوز مثالية هيكل ، و بقيت فلسفته حبيسة النقد الفكر و النظري و يقول ماركس في نقده لفويرباخ : "إن الجوهر الانساني ليس شيئا مجردا ملازما لطبيعة الفرد المشخص ، بل هو في واقعه مجموع العلاقات الاجتماعية ، وحين لا يعمل فويرباخ على توجيه النقد إلى ذلك الجوهر الواقعي فإنه يجد نفسه مضطرا، بالنتيجة، إلى تجريد مسار التاريخ، ومعالجة الحس الديني كواقع في ذاته، قائم على افتراض وجود فرد بشري مجرد ومعزول".
يعتبر فويرباخ أن الإنسان هو الفاعل في التاريخ لكنه لم يقم إلا باستبدال الفكرة المطلقة المجردة عند هيكل بالإنسان الملموس لكن خارج الواقع الملموس ، و لا يعتبر الفكر إلا جانبا من الجوانب المتعددة المؤثرة في التاريخ كما أن الإنسان له وجود في الواقع بوصفه أحد جوانبه كذلك ، و رغم استبدال فويرباخ الفكرة المطلقة المجردة لهيكل بالإنسان المجرد فإنه لم يفعل إلا استبدال فلسفة بفلسفة أخرى لا تخرج في نطاق طبيعتها الأولى ، و يقول ماركس في هذا الصدد :"إن الفلاسفة لم يقوموا سوى بتفسير العالم بطرق مختلفة " ، فالفلاسفة في نظره لم ينطلقوا من العلاقات الواقعية الأصلية في تفسيرهم للتاريخ بقدر ما قاموا بتفسير الظواهر و الجوانب ، و بذلك كانوا يعكسون مسار التفسير حيث يقومون بالإنظلاق من الظواهر للوصول إلى الجوهر و ذلك بقلب العلاقات الواقعية و الذي يسميه ماركس بالأيديولوجيا ، لهذا وجب التحرر من الوعي الأيديولوجي الزائف و ذلك بإقامة علاقة واقعية بين العلاقات الواقعية ، و يقول ماركس : "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
و بهذا الإنجاز العظيم الذي قام به ماركس على مستوى المعرفة أحدث تطورا هائلا في الفلسفة المادية بالقطيعة التامة مع المثالية ، و بنى نظريته المشهورة المادية التاريخية و ذلك بالإنتقال من الإيديولوجية إلى علم التاريخ حيث المحرك الأصلي للتاريخ هو التناقض الجوهري بين القوى المنتجة و علاقات الإنتاج ، و على أساس هذا التناقض الجوهري يقوم الصراع الطبقي الذي يعتبر المحرك الأساسي للتاريخ ، و المادية التاريخية ليست فقط علما للتاريخ و لكنها كذلك أيديولوجيا ثورة الطبقة العاملة حيث قامت بتفسير التاريخ تفسيرا علميا و هي المادية الجدلية التي تعتبر الطبقة العاملة الطبقة المؤهلة لإنجاز الثورة ، و لم يقتصر عمل ماركس على نقد الأسس النظرية للمنظومة الفلسفية لهيكل و فويرباخ بل حقق إنجازا عظيما على مستوى علم الإقتصاد ، و ذلك بنقد الإقتصاد الرأسمالي بتوضيحه كيف أن الرأسمالية نظاما تناحريا حيث يتم استغلال قوة عمل الطبقة العاملة في ظل المجتمعات الرأسمالية من طرف الطبقة البورجوازية.
فوجود الطبقات في النظام الرأسمالي يحتم وجود الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة و البورجوازية و هو صراع تاريخي لا يزول إلا بزوال أسبابه / وجود الطبقات المتناقضة في المجتمع البورجوازي ، و تتناول المادية الجدلية و المادية التاريخية الحركات الاجتماعية بالدرس و التحليل و تقر بوجود قوانين مشتركة بين مختلف التكوينات الاجتماعية ، تلك القوانين التي يمكن اكتشافها و استخدامها دون القدرة على تعديلها و هدمها ولا يدوم مفعولها مدة طويلة ، نظرا لكون الحركة الإجتماعية تتخلص من تناقضاتها الداخلية و هي في تحول دائم ، فإذا تبدلت الشروط الاقتصادية ظهرت قوانين جديدة على أساس علاقات اقتصادية جديدة فالصراع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج في المجتمعات التناحرية يولد حتما ثورة اجتماعية كما أن الوجود الاجتماعي يحدد الإدراك الاجتماعي، والأفكار الاجتماعية والسياسية والحقوقية والفنية والفلسفية... هي انعكاس للشروط المادية في الحياة الاجتماعية أي في الوجود الاجتماعي.
ومن أهم هذه القوانين قانون التوافق الضروري بين علاقات الإنتاج وصفة القوى المنتجة ومستواها، وخلافا للمثالية التي تقول بأن تطور المجتمعات قائم على الأفكار الاجتماعية والإدراك الاجتماعي و السياسي، فإن المادية التاريخية تعتبر أسلوب الإنتاج القوة الأساسية في التطور الاجتماعي فإذا توقف الإنتاج مات المجتمع، وأسلوب إنتاج الخيرات المادية يحدد تركيب المجتمع وسماته وأفكاره وأوضاعه ومؤسساته وبالتالي تحولاته وتطوراته. فكل تطور يطرأ في أسلوب الإنتاج ينعكس على النظام الاجتماعي ككل.
ويقول ماركس في كتابه : " نقد الإقتصاد السياسي" : " ... ما أن يتغير الأساس الاقتصادي حتى يطرأ على البنيات الفوقية الواسعة تحول سريع جدا ، وفي دراسة أمثال هذه التحولات ينبغي علينا دائما أن نميز بين التحول المادي في أوضاع المجتمع الإقتصادية الميسور تقريره بمثل دقة العلم الطبيعي ، وبين الأشكال التشريعية والسياسية والجمالية والفلسفية وبكلمة مختصرة الأشكال الإيديولوجية التي يدرك فيها الناس ... التضارب ويقاومونه حتى النهاية " .
ويتضح التصور الماركسي للواقع الاجتماعي حيث يعتبر بالأساس التناقض الموجود بين الطبقات، بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، بين العمل والرأسمال، و يدرس الواقع الاجتماعي لتحديد قوانين تطوره.
و تحدد الماركسية الأسس القانونية التي تتحكم في الإنتاج في مظهرين أساسيين وهما:
القوى المنتجة وهي مجموعة أدوات الإنتاج والناس الذين يعملون أي علاقات المجتمع بالطبيعة.
علاقات الإنتاج وهي مجموع العلاقات التي يقيمها الناس فيما بينهم أثناء عملية الإنتاج.
يقول ماركس في هذا الصدد : " في الإنتاج لا يؤثر الناس في الطبيعة فقط، بل يؤثر كذلك بعضهم في بعض إنهم لا ينتجون ما لم يتعاونوا في مشكل معين و ما لم يتبادلوا بينهم نشاطاتهم، وفي سبيل الإنتاج، يدخلون في علاقات وارتباطات معينة فيما بينهم ولا يوطد تأثيرهم في الطبيعة : أي الإنتاج، إلا في حدود هذه العلاقات والارتباطات الاجتماعية ".
إن الإنسان يعيش حياة اجتماعية وما يحققه من نجاح في المجال الحضاري والثقافي يكون بفضل المجتمع وبالمجتمع و لا يمكن أن تكون الإنسانية خارج المجتمع، وجوهر الإنسان يكمن في مجموع العلاقات الاجتماعية في زمن معين من تاريخه و التي ترتكز أساسا وقبل كل شيء إلى مجموع علاقات الإنتاج. وهذه العلاقات تستمد صفتها من الشكل الذي تتخذه ملكية وسائل الإنتاج ووضع الفئات والطبقات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية أثناء عملية الإنتاج، وأشكال توزيع الثروات أو ما يمكن تسميته بصفة عامة : علاقات الناس بالطبيعة والعلاقات التي تربطهم خلال عملية الإنتاج.
تختلف القوى المنتجة عن علاقات الإنتاج بكونها تتصف بالحركة والثورة فهي إذن عنصر الإنتاج الذي لا يستقر على صفة معينة لمدة طويلة، وهو الحاسم في أسلوب الإنتاج، هاتين الخاصيتين اللتين تميز القوى المنتجة تجعلها تملك القدرة على تحديد صفة علاقات الإنتاج، التي يجب أن توافق درجة تطور القوى المنتجة حيث لا يمكن اختيار نوع علاقات الإنتاج بين الناس الذين تربطهم صلات يجب أن توافق بالضرورة طبيعة وصفة ودرجة تطور القوى المنتجة .
وعلاقات الإنتاج بدورها تؤثر في تطور القوى المنتجة، هذا التأثر والتأثير يمكن له أن يسرع في تطور القوى المنتجة كما يمكن له أن يؤخر تطورها ويعرقله ، والقوى المنتجة تسبق علاقات الإنتاج في التطور كما أن علاقات الإنتاج في جميع التكوينات الاجتماعية تتأخر عن تطور القوى المنتجة، حيث تتولد بينهما علاقات متبادلة تصبح فيها القوى المنتجة هي المضمون وعلاقات الإنتاج هي الشكل.
لقد كرس ماركس و إنجلس حياتهما لدحض الإتجاه الفلسفي المثالي لفلسفة هيكل و ذلك بتطوير مفهوم الديالكتيك / المادية الجدلية و المادية التاريخية بإزالة صفة المثالية في أطروحته حول الصيرورة التاريخية و القوانين التي تحكمها ، و اعتبرا أن قوانين التطور الإجتماعي هي تعبير عن الضرورة التاريخية لتطور المجتمعات باعتبارها قوانين علمية ، و كل قانون من هذه القوانين هو انعكاس للعلاقات الضرورية بين الحوادث و حركة التطور التي تجري مستقلة عن إرادة المجتمع ، كما أن هنا قوانين خاصة تصلح لنظام اجتماعي معين إلى جانب وجود بعض القوانين التي تصلح لجميع التكوينات الإجتماعية أي تكون خاضعة لقوانين مشتركة و من بينها :

ـ القانون الذي يقول بأن الوجود الإجتماعي يحدد الإدراك الإجتماعي حيث أن الأفكار الإجتماعية و السياسية و الحقوقية و الفنية و الفلسفية هي انعكاس للشروط المادية في الحياة الإجتماعية ، في الوجود الإجتماعي .

ـ قانون التوافق الضروري بين علاقات الإنتاج الإجتماعية و صفة القوى المنتجة الإجتماعية ، خلافا للمثالية التي تقر بأن القوى الأساسية التي تحدد تطور المجتمعات هي الأفكار الإجتماعية و السياسية ، فإن المادية التاريخية تعتبر أسلوب إنتاج الثروات المادية هي القوة الأساسية التي تحدد تطور المجتمعات البشرية .

و هكذا فإن مصادر الأفكار و النظريات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية و غيرها توجد في الشروط المادية للمجتمع / في شروط الوجود الإجتماعي ، و تعتبر الأفكار و النظريات انعكاس لشروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية ، كما أن الأفكار الإجتماعية و السياسية تمارس بدورها تأثيرها على تطور شروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية / الوجود الإجتماعي و القاعدة الإقتصادية للمجتمع ، و تقر المادية التاريخية و المادية الجدلية بالأهمية الكبرى للأفكار الإجتماعية و السياسية في تطور الحياة المادية للمجتمعات / الوجود الإجتماعي ، و كرس كل من ماركس و إنجلس حياتهم للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة لتحريرها من عبودية البورجوازية.

و ترتكز الماركسية كمنظومة فلسفية و نظرية علمية و أيديولوجية الطبقة العاملة في صراعها مع البورجوازية إلى ثلاثة ركائز أساسية و هي :

ـ المادية الجدلية ـ المادية التاريخية ـ الصراع الطبقي .

و تعتبر هذه الموضوعات الثلاثة الركائز الأساسية للنظرية الماركسية باعتبارها أداة للتفكير العلمي و أسلوبا لتحليل التكوينات و الحركات و الظواهر الإجتماعية و نظرية علمية لفهم و حسم الصراع الطبقي بين الطبقات في المجتمع البورجوازي ، من أجل تخطي التناقضات الداخلية للحركة الإجتماعية و الرقي بها إلى مستوى أعلى تنتفي فيه الطبقات الإجتماعية و التفاوت الطبقي و الإجتماعي ، و تعتمد الماركسية النظرية العلمية في دراسة الحركة الإجتماعية التي تضم بداخلها مكونات متناقضة تتحرك و تتغير و تتحول و تحكمها الجدلية باعتبارها منطق الحركة ، و تعتبر أن الحركة الإجتماعية تتأثر بتناقضاتها الداخلية و بالتناقضات الناتجة عن علاقتها بالحركات الأخرى ، و تعتبر المادية الجدلية و المادية التاريخية علم التناقضات و منطق الحركة سواء كانت حركة طبيعية أم اجتماعية أم معرفية .
فحركة الطبيعة ذات جدلية موضوعية مستقلة عن وجود الإنسان و لا تؤثر بشكل مباشر في تحول الحركة الاجتماعية ، كما يمكن للإنسان بفعل تطور القوى المنتجة أن يؤثر في حركة الطبيعة التي تؤثر بالمقابل في الحركة الإجتماعية ذات الجدلية الموضوعية التي يتدخل الإنسان في صنعها ، و ذلك بتحريكها و تغييرها و تحويلها و إعادة بناء التكوينات الاجتماعية وفق المشروع المجتمعي الذي تحمله الطبقة المؤثر في الحركة الإجتماعية ، و وفق شروط مادية موضوعية في علاقتها مع حركة المعرفة ذات الجدلية الموضوع ـ الذات في تفاعل مستمر بين الموضوعات المطروحة للمعرفة و عمل الذات البشرية التي تسعى إلى ضبطها و معرفتها و تغييرها و تحويلها و إعادة بنائها، و في علاقة موضوعية مع وضعها الإجتماعي و الأدوات المتوفرة التي تتطور و تتغير و تتحول عبر الحركة الإجتماعية ، التي تسعى في صراعها إلى نفي تناقضاتها الداخلية .
و تعتبر الحركة المعرفية نتاج الحركة الفكرية و الممارسة الإجتماعية التي تحددها الحركة الإجتماعية في علاقة مع حركة الطبيعة و الحركة المعرفية ، حيث تعتبر الحركة الطبيعية أقدم من الحركة الاجتماعية التي تعتبر أقدم من حركة المعرفة ، و بقدر ما تتطور أفكارنا و معارفنا في اتجاه الفكر العلمي نفهم جيدا الواقع الإجتماعي و الطبيعي و الحركة الإجتماعية و الطبيعية ، و تتطور حركة المعرفة مع مسايرتها للحركة الإجتماعية الموضوعية أي المادية بمفهومها الشمولي .
ويقول ماركس في هذا الصدد :" من الواضح أن سلاح النقد لا يستطيع أن يحل محل نقد السلاح ، فإن القوة المادية لا يمكن أن تقهرها إلا قوة مادية، و لكن النظرية نفسها تتحول هي أيضا إلى قوة مادية حين تتغلغل في الجماهير ".
فالصراع الطبقي في النظام الرأسمالي هو نتاج وجود الطبقات الإجتماعية المتناقضة و الذي يتجلى في الصراع بين العمل و الرأسمال ، بين الطبقة العاملة و البورجوازية ، بين القوى المنتجة و علاقات الإنتاج ، بين الصفة الإجتماعية للقوى المنتجة و صفة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ... و هكذا يمكن السير إلى ما لا نهاية له مع اعتبار القوانين المحددة للحركة و هي :
ـ وحدة المتناقضات و تفاعلها و صراعها : إن منطق الحركة / المادية الجدلية و المادية التاريخية اللتان تحكمان الحركة بصفة عامة و الحركة الإجتماعية بصفة خاصة تقران بجود تعايش بين عناصر متناقضة ، و الصراع الدائم بين المتناقضات داخل الحركة الإجتماعية يقر بوجود تعايش داخل مجموعة تتعارض فيها المكونات المتناقضة للحركة الإجتماعية ، فالرأسمالية لا يمكن وجودها دون الرأسمال و العمل و دون الصراع بين البورجوازية و الطبقة العاملة ، حيث لا يمكن للأول أن يوجد بدون الثاني و في صراع دائم من أجل السيطرة والسيادة .
ـ تحولات الكم و الكيف : إن الحركة الإجتماعية في تحولات دائمة مع وجودها في بنية معينة/ نوعية معينة ، و التي في تعيرها و تحولها يؤدي إلى التحول الكمي الذي لا يمكن ملاحظته إلا عندما يصل إلى مستوى معين ، و الذي يتحول فيه التحول الكمي إلى تحول نوعي إبتداء من ذلك المستوى المعين ، و لا يحصل ذلك بكيفية تدريجية بل يحدث في شكل قفزة نوعية يبرز فيها التحول النوعي نتيجة التحول الكمي الذي وصل إلى سقف معين يحتم ضرورة التحول النوعي / الكيف، فالتحول الكمي للصناعة بالمدينة في القرن 17 عندما وصلة مستوى معين حدث تحول نوعي/ الكيف في الحياة الإجتماعية و ظهرت الطبقة العاملة و ظهر معها الصراع الطبقي بين العمل و الرأسمال.
ـ النفي و نفي النفي : إن الحركة الإجتماعية في تناقضاتها تسعى إلى تخطي بعض ظواهرها التي تشكل عائقا في سيرها أي تخطي تناقضاتها الداخلية ، و التي تسمح بعد نفيها إلى الرقي بها إلى مستوى أعلى الذي يليه نفي آخر و هكذا يحدث التماسك الإجتماعي و التضامن و التعاون حفاظا على كلية الحركة الإجتماعية التي تسعى إلى نفي تناقضاتها الداخلية من أجل البقاء و الإستمرار ، فالرأسمالية في تحولاتها من التنافسية و الإحتكارية و الإمبريالية تسعى إلى تخطي تناقضاتها الداخلية من أجل البقاء و الإستمرار ، لكن دون الحسم مع تناقضها الأساسي و هو نفي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تتناقض و الصفة الإجتماعية للقوى المنتجة، و هكذا تتحول الرأسمالية إلى نظام اجتماعي تناحري لن ينتفي فيه التناقض الأساسي إلا بحسم الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة و البورجوازية لصالح الطبقة العاملة و ذلك ما يسمى بنفي النفي .
و الحركة الإجتماعية يحكمها منطق الجدلية بين العمل و النظر الذي يحيلنا إلى الجدلية بين النظرية الثورية و الممارسة العملية ، حيث نجد أن في كل حركة اجتماعية عمل و نظر و في كل نظر عمل و نظر ، فالمفكرون المبدعون حينما يصنعون إبداعاتهم الفكرية تصبح عملا ملموسا الذي ينطلق من الفكرة إلى الإنجاز، كما أن في كل عمل نظر و عمل حيث أن الفئات المحسوبة على العمل أثناء إبداعها تفكر و تعمل و تضع لعملها نظرا في تفاعل دائم مع العمل الذي يغني النظر و ينفي تناقضات الحركة الإجتماعية ، و لتطور العمل تأثير عظيم على تطور النظر الذي يسعى إلى التوافق مع العمل في حركة دائمة من أجل تطوير الحركة الاجتماعية.
خلال الشيوعية البدائية أدى الانتقال من الأدوات الحجرية إلى الأدوات المعدنية وتربية المواشي والزراعة والمهن اليدوية وتوزيع العمل بين مختلف فروع الإنتاج و الذي يعني تطور القوى المنتجة ، إلى تبادل المنتوجات بين الأفراد والجماعات وانتقال وسائل الإنتاج من جماعية إلى ملكية خاصة ، وتراكم الثروات في أيدي قليلة من الناس وتحولت الأكثرية من المجتمع إلى عبيد وبروز نظام الرق ، وارتكزت آنذاك العلاقة بين علاقات الإنتاج وصفة القوى المنتجة على أساس آخر، فلم يعد هناك عمل مشترك حر يقوم به جميع أفراد المجتمع خلال عملية الإنتاج وساد تكوين اجتماعي يعتمد على العبيد.
من هنا نستنتج أن التحول الذي وقع على القوى المنتجة أثر على علاقات الإنتاج وتحول النظام الاجتماعي من نظام العمل المشترك / الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج إلى الملكية الخاصة لهذه الوسائل وظهر نظام العبيد ، ومرت الملكية الخاصة من عدة تحولات منذ ظهور شكلها الأول من نظام الرق والنظام الإقطاعي حتى الشكل الذي نراه اليوم في النظام الرأسمالي الإمبريالي المسيطر الذي يعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستغلال الفرد للجماعة ، هذا النظام الذي سمي بعدة مسميات من حرية الأفراد في المبادرة الحرة إلى الليبرالية إلى نظام السوق إلى النظام العالمي الجديد والعولمة ، و التي تشكل نتيجة للرأسمالية الإمبريالية.
و عرف تطور النظام الرأسمالي عدة محطات تاريخية بدءا بالرأسمالية التنافسية و مرورا بالرأسمالية الاحتكارية الإمبريالية ، و عرف الرأسمال في كل مرحلة من هذه المراحل عدة أزمات هيكلية يتم حلها على حساب قوة عمل الطبقة العاملة ، مما يجعل الرأسمالية نظاما تناحريا يستمد قوته من استغلال الإنسان للإنسان و تدمير البيئة من أجل مزيد من تراكم الأموال في أيدي أقلية من البورجوازية بينما جماهير الطبقات الشعبية تعيش الفقر و القهر ، و تعاظم هذا الإستغلال في ظل الأنظمة السياسية التابعة في دول المحيط و التي ترعى مصالح الرأسمالية الإمبريالية .
لقد خلف النظام الرأسمالي النظام الإقطاعي بعد الانتقال من الاقتصاد الحرفي الذي يعتمد على العمل اليدوي إلى إقامة المصانع الكبرى والمعامل المجهزة بالآلات العصرية من جهة، ومن الاقتصاد الفلاحي الذي يستخدم أدوات إنتاج بدائية لاستغلال الأراضي لصالح الإقطاع إلى الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد على التقنية الزراعية المجهزة بالآلات العصرية التي تتطلب من العامل المعرفة العلمية لإدارتها، وهكذا برزت قوى منتجة جديدة تطلبت من الرأسماليين استخدام عمال متحررين من العبودية الإقطاعية والذين يتوفرون على مستويات ثقافية كافية تؤهلهم لاستعمال الآلات الحديثة.
و قد كانت علاقات الإنتاج الرأسمالية في حينها قد توافقت والقوى المنتجة المتطورة وحفزت المزيد من الإنتاج ، مما شجع المنتجين الرأسماليين على الركوض وراء المزيد من الربح بشكل جشع وقاس وغير إنساني وهو في نفس الوقت عمل جبار في بعض النواحي ، خاصة وأنه في أول الأمر قضى على الأساليب التقليدية للنظام الإقطاعي التي ترتكز على العبودية ، ولكنه رغم مساهمته في تطور وسائل الإنتاج ظلت هذه الأخيرة حبيسة الملكية الخاصة التي تسعى إلى المزيد من الربح والخوف من الإفلاس والخراب ويقول ماركس في هذا الصدد:
"إن الرأسمال ينفر من فقدان الربح أو من الربح الزهيد كما تنفر الطبيعة من الفراغ ، إن الرأسمال يبدي من الجرأة والإقدام حين يتعلق الأمر بربح يوافقه، فهو يرضى بكل شيء في سبيل 10% من الربح المضمون ، وفي سبيل 20% يصبح شديد الحيوية ، وفي50 % يصبح مغامرا جريئا، وفي سبيل 100% يدوس بالإقدام جميع القوانين البشرية ، وفي سبيل 300% لا تبقى ثمة جريمة لا يكون مستعدا للمغامرة على ارتكابها ولو كلفه ذلك مجابهة المشنقة ".
لقد ساعد التوافق الحاصل بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج النظام الرأسمالي على ضمان تطور القوى المنتجة وازدهارها لمدة أزيد من قرن من الزمن ، وذلك قبل الثورة البرجوازية الفرنسية التي حطمت علاقات الإنتاج الإقطاعية وأقامت علاقات إنتاج بورجوازية التي أصبحت فيما بعد عائقا وحجرة عثرة في طريق تطور القوى المنتجة ، التي لم تعد توافق مستوى تطور هذه القوى التي تجاوزت نطاق علاقات الإنتاج الرأسمالية ، ودخلت في صراع دائم معها لآن القوى المنتجة في النظام الرأسمالي أصبحت اجتماعية بينما ظل التملك خاصا رأسماليا ، مما يتعارض و طبيعة القوى المنتجة ذات صفة الإنتاج الاجتماعية التي توفرها الحشود من العمال داخل المصانع التي تتطلب الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج مما يتعارض والصفة الخاصة لها في النظام الرأسمالي ، كما أن الثروات التي ابتدعها ملايين العانلات و العمال أصبحت في أيدي أقلية بورجوازي تملك وسائل الإنتاج ، و أسست بذلك رأسمالا على حساب بيع قوة عمل العمال المبدعين ، ووقعت الرأسمالية في العديد من التناقضات بسبب التناقض الحاصل بين صفة الإنتاج الاجتماعية للقوى المنتجة والملكية الخاصة الرأسمالية.
في ظل العوامل السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية خلال القرن 19 و التي تتسم بتصاعد البورجوازية و هيمنتها على السلطة السياسية و الإقتصادية ، التي نتج عنها تصاعد الرأسمال و هيمنته على الحياة داخل المجتمعات البورجوازية و دخول الرأسمالية في مرحل من التطور ، بعد زاول مرحلة المانيفاكتورة التي اتسمت بهيمنة الرأسمال التجاري و بروز مرحلة الرأسمالية التنافسية المتسمة بهيمنة الرأسمال الصناعي بعد الإنجازات الهائلة للثورة الصناعية ، برزت ضرورة مواجهة الإيديولوجية البورجوازية في محاولتها للسيطرة و الهيمنة على الطبقة العاملة و استغلالها لتراكم الرأسمال في أيدي أقلية من البورجوازيين على حساب قوة عمل الطبقة العاملة ، و كان ماركس و إنجلس المناضلان الثوريان اللذان أناطا بهذه المهمة التاريخية بصياغتهما لأيديولوجية الطبقة العاملة و الحزب الثوري ، و كانت المهمة الملقاة على عاتقهما أشد و أعمق لما تتطلبه منهما المرحلة التاريخية من نضال أيديولوجي و سياسي ، من أجل بلورة مفهوم الثورة و الحزب الثوري و كان صياغة البيان الشيوعي و تأسيس الأمية الشيوعية جوابا حاسما على المهام الثورية المطروحة عليهما .
و قامت عدة ثورات عمالية أبرزها ثورة 1848 التي قال عنها إنجلس : " لقد انطلق غضب الشغيلة على مداه ضد الوزارة و البرلمان اللذين لم يلبيا أيا من آمال الشغيلة ، بل كانا يتخذان كل يوم قرارات لصالح البورجوازية و معادية للعمال " و قد تميزت ثورة حزيران هذه بكونها محض عمالية و تختلف عن سابقاتها التي رفعت شعار: " الموت في سبيل الوطن"، حيث إن شغيلة حزيران يقول إنجلس :" كانوا يقاتلون في سبيل حقهم في الحياة" و تمت مواجهتهم بالرصاص ، و منذ ذلك التاريخ لم تكن هناك ثورة لم تقدها الطبقة العاملة كما هو الشأن في سنوات 1871 و 1905 ، و أروعها ثورة أكتوبر 1917 التي أحدثت تحولات جذرية في تاريخ البشرية مع انتصار الثورة العمالية بقيادة المناضل الثوري لينين .
و كان للمهام الثورية من أجل تحقيق الثورة الإشتراكية في تلك المرحلة دور كبير في اشتغال ماركس و إنجلس ببلورة مفهوم الحزب الثوري ، و كان عليهما الإنشغال بتطوير الفلسفة المادية و تأسيس الإقتصاد الإشتراكي و دحض المفهوم الرأسمالي لٌلإقتصاد ، لذلك نجد ماركس كرس كل جهده لوضع كتابه العظيم "رأس المال" بالإضافة إلى محاربة الفكر البورجوازي و الماركسي الإنتهازي ، خاصة بعد التراجع الذي عرفته الأممية الأولى مما تطلب منهما تأسيس الأممية الثانية فكان نضالهما مزدوجا ، داخليا بمحاربة الماركسيين الإنتهازيين و تعتبر أطروحة ماركس "نقد برنامج غوتا" بعد انسحابهما من الأممية الأولى أروع تعبير في هذا المجال ، و خارجيا بمحاربة البورجوازية بالنقد العلمي للرأسمالية كنظام تناحري مصيره الزوال و وضعا الأسس النظرية للثورة الإشتراكية ، و كانت المرحلة التي عاشاها هي مرحلة أوج تطور الرأسمالية التنافسية و سيطرة الرأسمال الصناعي على السوق ، و كانت إستنتاجات الماركسية ملائمة مع الحركة الإجتماعية للمرحلة التي عاشها ماركس و إنجلس و كانت ماركسيتهم ملائمة لعصر الرأسمالية التنافسية .
و ملاءمة الماركسية لعصر الرأسمالية التنافسية لا يعني أن استنتاجاتها الأساسية يمكن تجاوزها بل بالعكس فهي ضرورية باعتبارها نتاج مرحلة التأسيس للفكر الماركسي ، و هي أصعب مرحلة خاصة إذا اعتبرنا أوج تطور الرأسمالية بعد أقل من قرن من تحقيق انتصار الثورة البورجوازية الفرنسية ، و ذلك لما تتطلبه هذه المرحلة من جهود جبارة إستطاع خلالها الفيلسوفان العالمان العملاقان ماركس و إنجلس تطوير الفلسفة المادية بشكل جبار خاصة في مجال التاريخ و الإقتصاد ، و كانت المرحلة التاريخية لتأسيس الماركسية تتزامن مع تطور العلوم الطبيعية بعد اكتشاف الآلة التي أحدثت تطورا هائلا في القوى المنتجة بفضل تطور العلوم الطبيعي في مستوى الفيزياء الميكانيكية ، و كما رأينا في النصف الأول من القرن 18 فقد قام الفلاسفة الماديون الفرنسيون بمهادنة الكبيسة من أجل تطوير العلوم الطبيعية ، و ما أنجزه ديكارت من تطور في مجال المعرفة هام حيث استطاع تجاوز المعرفة السكولاستيكية المعبرة عن سيادة الكنيسة على المعرفة ، عبر الإحتكام إلى العقل باعتبار الوجود مرهون بما نملك من المعرفة و الوصول إلى الواقع الملموس دون وسيط خارجي ، و ذلك بالدفع باستقلال العلوم الطبيعية عن الفلسفة الغيبية المسيحية دون الغوص في إشكاليات الوجود الذي يعتبره من اختصاص الكنيسة.
لكن رغم هذا الإنجاز الذي عرفته الفلسفة المادية على يد الفلاسفة الماديين الفرنسيين فإن السلطة المثالية للكنيسة على المعرفة ما زالت قائمة عبر امتدادات فلسفة طوماس الأكويني المثالية ، و التي قادها جورج بركلي في بداية القرن 18 الذي شن حربا عشواء على الفلسفة المادية التي أسس لها ابن رشد ، و كان لهذه الحملة إمتداداتها التاريخية حتى في القرن 19 و ذلك ما رأيناه في فلسفة هيكل و فويرباخ اللذان لم يستطيعا التخلص من الفكر المثالي رغم إنجازاتهما الهائلة على مستوى الديالكتيك ، و يقول ماركس في هذا الصدد :" إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها - بما فيها مادية فورباخ - هي أن الشيء (Gegenstand), الواقع , الحساسية , لم تُعرض فيها إلا بشكل موضوع (Objekt) أو بشكل تأمل (Anschauung), لا بشكل نشاط إنساني حسيّ , لا بشكل تجربة , لا من وجهة النظر الذاتية. و نجم عن ذلك أن الجانب العملي , بخلاف المادية , إنما طورته المثالية , و لكن فقط بشكل تجريدي , لأن المثالية لا تعرف, بطبيعة الحال, النشاط الواقعي الحسي كما هو في الأصل ". من هنا ترى أن تاريخ الفلسفة ما هو إلا صيرورة الصراع بين المادية و المثالية منذ الصراع بين الفلسفة المادية لديمقريطس وأبيقور و الفلسفة المثالية لسقراط و أفلاطون إلى يومنا هذا.
و خاض ماركس و إنجلس صراعا مريرا ضد البورجوازية و الماركسيين التحريفيين من جهة و مع الفلاسفة المثاليين من جهة ثانية و كان عليهما دحض الفكر الغيبي العائق الأساسي أمام الدياليكتيك ، وأكد ماركس على أن الفكر الإنساني ذو حقيقة واقعية التي لا يمكن إدراكها بوسيلة النظرية و لكن بالنشاط العملي الذي بواسطته نثبت الحقيقة التي لا يمكن عزلها عن النشاط العملي ، و الإنسان هو الذي يصنع ظروفه عكس ما يقوله الماديون الكلاسيكيون بأن الإنسان نتاج ظروفه و تربيته ، و لا يمكن فهم تبدل الظروف و النشاط الإنساني فهما عقلانيا إلا بوصفه عملا ثوريا ، و خطأ فويرباخ حول الدين هو عندما جعل "القاعدة الأرضية" التي يسميها قاعدة العالم الديني تفصل نفسها عن نفسها ، بدل فهم هذه القاعدة الأرضية عبر التناقض الملازم لها و تعديلها بشكل ثوري عن طريق إزالة هذا التناقض ، و رغم رفضه للتجريد إلا أنه يلجأ إلى التأمل الحسي لكن دون اعتبار الحساسية نشاطا عمليا للحواس الإنسانية ، و هو يذيب الجوهر الديني في الجوهر الإنساني الذي ليس إلا مجموعة من العلاقات الإجتماعية حيث لا يرى أن الشعور الديني هو نفسه نتاج اجتماعي ، فالمادية الكلاسيكية مادية تأملية ترى الناس أفرادا منعزلين عن "المجتمع المدني" و ليسوا بشرا يعيشون في المجتمع البشري المتسم بالطابع الإجتماعي ، و أطلق ماركس حكمه الشهير على الفلاسفة و هو : " إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة بدل القيام بتغييره ".
و وجه ماركس نقدا شديدا لفلسفة برودون المثالية و الذي يصفه بأنه رجع لفلسفة هيكل المثالية لبلورة أطروحته حول المادية بشكل تأملي ، و هو يحاول في كتابه "فلسفة الفقر" نقد الإقتصاد السياسي إلا أنه فشل في فهم النهج الإجتماعي ، حيث يرى في التاريخ مجموعة من التطورات الإجتماعية و أن الناس لا يفهمون بماذا كانوا يقومون أثناء حركتهم ، و هو لا يقدر على فهم التطور الإقتصادي و يرجع لاستعمال الحقيقة المطلقة معتبرا الناس غير أحرار في اختيار القوى المنتجة التي يرغبون فيها ، هذه القوى التي هي أساس تاريخ البشرية التي ما هي إلا نتيجة نشاط الإنسان الواقعي في ظل ما خلفته الأجيال السابقة من داخل الأحوال التي يوجدون فيها و القوى المنتجة التي أحرزوها وفق التشكيلة الإجتماعية في مجتمعاتهم ، و كل جيل يجد القوى المنتجة التي خلفتها الأجيال السابقة كأرضية من أجل إنتاج قوى منتجة جديدة في ارتباط مستمر بتاريخ البشرية الذي يأخذ شكل العلاقات الإجتماعية ، و هذه العلاقات ذات الصفة المادية عبر التاريخ الذي ما هو إلا تطور الفرد عبر الأشكال الضرورية لتحقيق النشاط الفردي .
و تناول ماركس الآلة و تقسيم العمل لدى برودون الذي لم يفهم منشأ الآلة محاولا تفسير تقسيم العمل عبر فهمه للآلة ، و هو يجهل دور السوق العالمي و تأثيره على تقسيم العمل و دور المستعمرات في ذلك التقسيم و لا يفرق بين المدينة و الريف في تقسيم العمل ، و يحاول ربط العلاقة بين الآلة و المنافسة التي ما هي إلا فكرة مناقضة للآلة التي يعتبرها لائحة اقتصادية ، حيث لا يمكن اعتبار الآلة لائحة اقتصادية كباقي اللوائح الإقتصادية كتقسيم العمل و المنافسة و الرصيد التقدي ... و استعمال الآلة ما هو إلا أحد العلاقات للنهج الإقتصادي فهي سلاح ذو حدين حيث يمكن استعمالها لصالح الإنسان أو العكس ، و اعتبر الملكية لائحة اقتصادية في حين أن مجموع لوائحه ما هي إلا ما يسمى بالملكية التي شهدت تطورا عبر العصور ، و لم يدرك برودون أن اللوائح الإقتصادية ما هي إلا مصطلحات مجردة للعلاقات الإجتماعية ، و تعتبر اللوائح الإقتصادية السياسية مصطلحات مجردة للعلاقات الإجتماعية الحقيقية و الإنتقالية و التاريخية .
و تناول ماركس مفهوم المنافسة و الإحتكار و العلاقة الجدلية بينهما باعتبارهما لائحتين اقتصاديتين متناقضتين ، و يقول أن المنافسة تولد الإحتكار كما أن الإحتكار يولد المنافسة في تناقض دائم باعتبار هذه النتيجة حركة و ليست قاعدة ، و نتائج هذه الحالة سيكون أصعب و أكثر فوضوية ليس كما يعتبرها الإقتصاديون البورجوازيون أنها ستقضي على صعوبات هذه الحالة ، و يقول ماركس عن أطروحة بوردون البورجوازية : " إنه كالسياسي المبدئي الذي يريد أن يكون الملك ومجلس النواب ومجلس الشيوخ أجزاء من الحياة الاجتماعية وأن تكون اللوائح أبدية، إن كل ما يفتش عنه هو إيجاد قاعدة جديدة حتى يوجد تعادلا بين هذه القوى التي يقوم تعادلها على الحركة العادية لحركة تكون حرة مختصرة وتكون عبدا مرة أخرى. وهكذا كانت العقول الغيبية في القرن الثامن عشر مشغولة لكي تجد قاعدة حقة لتعادل وتساوي بين الملكيات الاجتماعية والأسياد والملك والبرلمان، واستيقظت هذه العقول ذات صباح لتجد أنه لم يعد وجود لملك أو لبرلمان أو لأسياد".

جوهر المادية الماركسية :

لقد صاغ ماركس و إنجلس "البيان الشيوعي" الذي يعتبر مذهب الشيوعية و الشيوعيين و الذي تم إعلانه في 1848 حيث أوضحا فيه دور البروليتاريا التاريخي ، و يقسم لينين المراحل التاريخية لتطور المذهب الماركسي إلى ثلاثة أقسام منذ صدور هذا البيان و هي :
مرحلة الثورات الممتدة ما بين 1848 و 1871 ، و في بداية هذه المرحلة لم يكن مذهب ماركس سوى فرع من فروع التيارات الإشتراكية ، و في أواخر هذه المرحلة مرحلة العواصف و الثورات ماتت إشتراكية ما قبل ماركس بميلاد الأممية الأولى 1864ـ1872 و الإشتراكي الديمقراطي الألماني .
المرحلة ذات الطابع "السلمي" الممتدة ما بين 1972 و 1905 و التي تشكلت فيها الأحزاب الإشتراكية ذات البعد البروليتاري و التنظيمات الموازية لها في كل مكان في الغرب ، حيث انتهى الغرب من الثورة البورجوازية و يتم تحضير الشرق لهذه الثورة ، و عرفت هذه المرحلة انتصارا ساحقا لمذهب ماركس مما دفع الليبرالية على أن تعلن حربها ضد مذهبه تحت أقنعة الإنتهازية الإشتراكية ، و اكتسبوا أنصارهم في صفوف البرلمانيين الإشتراكيين و الموظفين و في الحركة العمالية و بين المثقفين "المحبذين" .
مرحلة الثورات الشرقية فبعد ثورة 1905 بروسيا جاءت الثورة التركية فالإيرانية و الصينية قبل أن ينتهي الإنتهازيون من التشدق ب"السلام الإجتماعي" و "الديمقراطية" ، لتبدأ مرحلة العواصف و "تأثيرها بالإتجاه المعاكس" في أوربا .
كان ماركس و إنجلس ينتميان لعصبة الشيوعيين و لعبا دورا هاما في مؤتمرها الثاني بصياغة البيان الشيوعي الذي من خلاله صاغا النظرية المتكاملة للماركسية ، يقول عنه لينين : "يضع الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم, هو المادية المتماسكة, و هو تصور يضم أيضاً مجال الحياة الاجتماعية و الجدل, باعتباره أكثر نظريات التطور شمولاً و عمقاً, و نظرية صراع الطبقات, و نظرية الدور الثوري التاريخي العالمي للبروليتاريا – خالقة المجتمع الشيوعي الجديد"
و الماركسية باعتمادها المادية الجدلية و التاريخية الصيغة العلمية للفهم التاريخي للطبيعة و المجتمع ، و حسم العلاقة بين المعرفة النظرية و الممارسة العملية ، إستطاعت تجاوز الطبيعة المثالية للمادية الكلاسيكية و ما واكبها من التأملية بوضع أسس الصراع الطبقي ، و أصبحت الماركسية أيديولوجية البروليتاريا و الحزب الثوري في طريق تحقيق الثورة الإشتراكية و بناء المجتمع الإشتراكي المرحلة الإنتقالية لبناء المجتمع الشيوعي ، و كانت للثورات البورجوازية في أوربا دور هام لتطوير النظرية الماركسية حيث اكتشف ماركس فكرة الديكتاتورية البروليتارية و ضرورة تحالف الفلاحين و البروليتاريا ، و اكتشف شكل دولة ديكتاتورية البروليتاريا من خلال دراسته لثورة كومنة باريس كما أضاف المزيد من التدقيق في نظريته في نقده لبرنامج غوتا .
و في نقده لبرنامج حزب العمال الإشتراكي الألماني في أطروحته "نقد برنامج غوتا" على ضوء مضمون "البيان الشيوعي " وجه ماركس نقدا شديدا للوحدة بين الحزبين ، ففي مؤتمر غوتا الذي انعقد من 22 إلى 27 ماي 1875 تم توحيد حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي برئاسة بيبل وليبكنخت واتحاد العمال الالمان العام برئاسة لاسال ، و اتخذ الحزب الموحد اسم حزب العمال الاشتراكي الالماني ، و يهاجم ماركس لاسال بتناوله علاقة العمل بالمجتمع لكون العمل مصدر الثروة و الثقافة شريطة أن يكون عملا اجتماعيا حيث لا يوجد مجتمع دون عمل ، متناولا وسائل العمل في علاقتها باحتكار الملاكين العقاريين للأرض في ألمانيا على اعتبار أن احتكار الملكية العقارية أساس الإحتكار الرأسمالي ، عكس ما يقوم به لاسال الذي كان يهاجم الرأسماليين دون الملاكين العقاريين ، و تناول دخل العمل في علاقته بالتوزيع العادل و التمايز بين العلاقات الإقتصادية و العلاقات الحقوقية حيث أن هذه الأخيرة تنبثق عن الأولى ، و التوزيع العادل لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل تحكم المجتمع في وسائل الإنتاج بصورة جماعية ، و لأنه ليس إلا نتيجة لشروط الإنتاج التي لا يمكن أن تحدث إلا وفق طابع أسلوب الإنتاج ، الذي يجب أن يتغير مبرزا دور البروليتاريا في ذلك التغيير باعتبارها طبقة ثورية ، و في علاقتها مع الطبقات الأخرى خاصة البورجوازية الصغرى التي تكون ثورية حيث ستجد نفسها يوما في صفوف الطبقة العاملة ، و يتهم لاسال بأنه زور محتوى البيان الشيوعي في برنامجه هذا و يكون قد انضم إلى التحالف مع الإقطاعيين ضد البورجوازيين ، مشددا على بعض المصطلحات التي اقتبسها لاسال من عصبة السلام و الحرية البورجوازية ك"تآخي الشعوب العالمية" مقابل التآخي العالمي بين الطبقات العاملة في مختلف البلدان ، في الوقت الذي تجاوز البرنامج تناول المهام الأممية للطبقة العاملة الألمانية ضد البورجوازية الألمانية التي تآخت مع البورجوازية العالمية ، و انتقد مفهوم "قانون الأجور" عند لاسال إذ في الوقت الذي يلغي فيه الدور الثوري للطبقة العاملة يسعى إلى إيجاد دور للدولة في بناء المجتمع ، و ذلك بابتداع ما يسميه "المسألة الإجتماعية" عن طريق "مساعدة الدولة" تحت رقابة"الشعب الشغيل بواسطة حكم الشعب" .
و في تناوله للدولة ينتقدا ماركس موقف حزب العمال الألماني في قوله ب"الدولة الحرة" في ظل النظام الإقطاعي للإمبراطورية الألمانية ، حيث اعتبر لاسال أن الدولة لا تنبثق عن المجتمع بل هي مستقلة عنه كواقع له "أسس الروحية و الأخلاقية و الحرة" ، و يتحدث عن "الدولة الحالية" و "المجتمع الحالي" في الوقت الذي ينسى فيه أن ما يسميه "المجتمع الحالي" هو مجتمع رأسمالي ، و"الدولة الحالية" في الأمبراطورية الألمانية ليست كما هي في سويسرا و إنجلترا أو الولايات المتحدة الأمريكية ، و يعتبر ماركس كل مطالب حزب العمال الألماني ما هي إلا ترداد لمفاهيم بورجوازية لحزب الشعب و عصبة السلام و الحرية ، و يلخص ماركس مواقف حزب العمال الألماني فيما يلي : " إن جميع هذه الأشياء الجميلة تفترض الاعتراف بما يسمى سيادة الشعب، و إنها لا تجد مكانها بالتالي إلا في جمهورية ديموقراطية. وبما انه لم يكن ليديهم الشجاعة الكافية ) وحسنا فعلوا، لان الوضع يتطلب الحذر ( للمطالبة بالجمهورية الديموقراطية كما فعل العمال الفرنسيون في برنامجهم في عهد لويس فيليب ولويس نابوليون ، فقد كان عليهم إذ ذاك أيضاً ألا يلجؤوا إلى هذه الحيلة، التي ليست "شريفة" ولا لائقة، أي إلى المطالبة بأشياء لا معنى لها إلا في جمهورية ديموقراطية، وذلك من دولة ليست سوى استبداد عسكري، مصنوع بطريقة بيروقراطية ومحافظ عليه بطريقة بوليسية، مزين بأشكال برلمانية، متسم بمزيج من العناصر الإقطاعية، وخاضع في الوقت نفسه للتأثيرات البرجوازية".
هكذا واجهت الماركسية منذ تأسيسها الرجعيين البورجوازيين و الإنتهازيين الماركيين التحريفيين من البرودونيين و اللاساليين ، و واجه ماركس و إنجلس هؤلاء بصرامة و اتخذا في مواجهتهما هذه مناسبة لتثبيت مذهب الماركسية و ذلك بتطوير النظرية الديالكتيكية المادية لتجاوز الفهم المثالي للديالكتيك ، لمجابهة الأعداء من الداخل و الخارج الذين يدعون أن الماركسية قد دحضت من طرف الفكر البورجوازي في مهاجمتهم لماركس و الماركسية ، خوفا من انتشارها في صفوف البروليتاريا التي تعتبرها الماركسية الطبقة الثورية في الوقت الذي تعرف فيها الماركسية رسوخها و ثبوتها عبر العالم ، فخلال نصف قرن من ظهور الماركسية عمل ماركس و إنجلس على محاربة أعدائهما بدءا بالهيكليين باعتبار الهكلية عدوا أساسيا للماركسية ، مرورا بمجابهة البرودونيين بعد ثورة حزيران 1848 ، في طريقهما من النظرية إلى الحركة خاصة بعد تأسيس الأممية الأولى و طرد الباكونينيين منها ، و انتهاء بمواجهة دوهرينغ ليحرز المذهب الماركسي انتصارا ساحقا على المذاهب الأخرى التي تنافسه في الحركة العمالية .
و يقول لينين في هذا الصدد : " و لكن، حين حلت الماركسية محل النظريات المعادية لها، و المتجانسة بعض التجانس، سعت الميول التي كانت تعبر عنها هذه النظريات وراء سبل جديدة. فقد تغيرت أشكال النضال و دوافعه، و لكن النضال استمر. و هكذا بدأ النصف الثاني من القرن الأول من وجود الماركسية (بعد 1890) بنضال التيار المعادي للماركسية في قلب الماركسية" ، و بمعنى آخر أصبحت التحريفية العدو اللدود للمذهب الماركسي حيث أنه بعد أن فشلت البورجوازية في نسفه من الخارج تحاول نسفه من الداخل ، و كان على رأس المعادين للماركسية أدوارد برينشتين في أواخر التسعينات من القرن 19 الذي تزعم الجناح الإنتهازي المتطرف في الإشتراكية الديمقراطية الألمانية في الأممية الثانية ، حيث يقول :" الحركة كل شئ، الهدف النهائي لا شئ" إذ يدعو إلى النضال الإصلاحي من أجل تحسين أوضاع العمال في ظل الرأسمالية متنكرا للصراع الطبقي و الثورة الإشتراكية وديكتاتورية البروليتارية و حتمية زوال الرأسمالية .
ففي المجال المعرفي العام يصف لينين التحريفية بأنها النزعة الفكرية لاشتراكية ما قبل ماركس حيث يسعى الأساتذة المدرسون إلى تمرير الفكر الكانطي في محاولة لإحياء الفكر المثالي زاعمين أن المادية قد تم دحضها ، و هم في محاولاتهم يهاجمون الديالكتيك الهيكلي محتقرين الفلسفة العلمية حيث لا يستطيعون فهم الديالكتيك الثوري الذي عوضوه بالفلسفة المثالية للقرون الوسطى ، و يريدون جعل الدين ليس قضية الدول بل كذلك قضية الطبقة الثورية في محاولة فاشلة لإدخال التعديلات على المذهب الماركسي ، لكن الماركسي بليخناوف رد على هؤلاء التحريفيين بقوة نظرية الدياليكتك الماركسي المادي و كان ردهم هو اتهام بليخانوف بالإنتهازية التكتيكية .
أما في المجال الإقتصادي فقد سعى التحريفيون إلى التأثير على الجمهور بما كانوا يسمونه ب" المعطيات الجديدة في التطور الاقتصادي" ، زاعمين أن تمركز الإنتاج و إزاحة الإنتاج الكبير للإنتاج الصغير لا يظهر في الزراعة في الوقت الذي يجري ببطء في مجال التجارة و الصناعة ، و اعتبروا أن الكارتيلات و التروستات تخفف من حدة أزمات الرأسمالية إلى حين زوال الأزمة تماما و التناحر داخل النظام الرأسمالي أخذ يقل مما يجعل نظرية الإفلاس خاطئة ، لذا وجب إدخال تعديلات على النظرية الماركسية وفق هذه المعطيات الجديدة بما في ذلك نظرية القيمة.
و واجه لينين البرينشتينية بصرامة بدءا بمجال الإقتصاد الذي يحاولون من خلاله تركيز الآراء البورجوازية لبوهم-بافيرك معتمدا على الوقائع و الأرقام التي تبين ضعف نظريتيهم ، حيث أن الإنتاج الضخم يتفوق على الإنتاج الصغير في جميع المستويات الزراعية و الصناعية و التجارية ، إلا أن الإنتاج البضاعي في الزراعة ضعيف بالنسبة للإنتاج الصناعي لذا لا يظهر التمركز في الزراعة بنفس الحدة كالصناعة ، و يبين لينين ذلك في قوله : "و الاحصائيون و الاقتصاديون المعاصرون لا يحسنون، عادة، إبراز الفروع الخاصة في الزراعة ( و حتى العمليات أحيانا)، التي تعبر عن انخراط الزراعة المطرد في التبادل على صعيد الاقتصاد العالمي. و على أنقاض الاقتصاد الطبيعي، ما يزال الإنتاج الصغير قائما على أساس تفاقم سوء التغذية إلى ما لا حد له، و المجاعة الزمنية، و تمديد يوم العمل، و تردي نوعية المواشي و العناية بها، بوساطة نفس الوسائل التي لجأ إليها الإنتاج الحرفي للصمود بوجه المانيفاكتورة الرأسمالية "، فالتقدم العلمي المطرد يؤثر تأثيرا سلبيا على الإنتاج الصغير في المجتمعات الرأسمالية و كان على علم الإقتصاد الإشتراكي أن يوضح ذلك بالتحليل العلمي ، و أوضح ليبين أن الإنتاج الصغير لا محل له في النظام الرأسمالي ، و على الفلاح تبني النظرية البروليتارية الثورية عكس دعوة التحريفيين للفلاح بتبني وجهة نظر الملاك التي تعتبر نظرية بورجوازية .
إن ما دفع التحريفيين إلى محاولة تعديل المذهب الماركسي هو انبهارهم أمام ما حققته الصناعة من تقدم خلال السنوات الأخيرة من القرن 19 ، جازمين من أن الأزمات قد تجاوزتها الرأسمالية بذلك المستوى الطفيف من تطور وسائل الإنتاج غافلين أن وراء كل ازدهار للرأسمالية أزمة باعتبار الرأسمالية تلازمها الأزمات ، و توحيد إنتاج الكارتيلات و التروستان لم يزد إلا فوضى الإنتاج و تفاقم الأوضاع المزرية للبروليتاريا في ظل طغيان الرأسماليين ، و الرأسمالية في تطورها تسير نحو الإفلاس عبر مختلف الأزمات السياسية و الإقتصادية للوصول إلى الإنهيار التام ، و يقول لينين في هذا الصدد : " فإن الأزمة المالية الأخيرة في أمريكا، و تفاقم البطالة بشكل مخيف في عموم أوربا، ناهيك عن الأزمة الصناعية الوشيكة التي ينذر بها بعض الأعراض، قد حملا الجميع على نسيان > المحرفين الأخيرة، بل يبدو أن الكثيرين من المحرفين أنفسهم قد نسوها. غير أنه ينبغي ألا ننسى الدروس التي تلقتها الطبقة العاملة من هذا التقلقل لدى المثقفين".
و على المستوى السياسي جعل انبهار التحريفيين بالمفاهيم البورجوازية كالحرية السياسية و الديمقراطية و الإقتراع العام ينفون ضرورة النضال الطبيقي و لا يعتبرون الدولة جهازا للسيطرة الطبقية ، جاعلين من التحالفات مع البورجوازية التقدمية و الإشتراكية الإصلاحية حلفاء ضد الرجعية ما دامت الديمقراطية تتيح المجال لإرادة الأغلبية حسب زعمهم ، و هم في دعايتهم لمفاهيم البورجوازية ينسون أن هذه المفاهيم معروفة منذ أمد قديم و لا يمكن للبرلمانية البورجوازية أن تقضي على الطبقات كما يدعون ، و هم في حججهم يعتقدون أن الطبقات ستزول عندما يتمتع المواطنون بحق التصويت و بحق المشاركة في تسيير شؤون الدولة ، و تاريخ الثورات الأوربية خلال النصف الأخير من القرن 19 و الثورة الروسية في بداية القرن 20 يكذب أقوالهم هذه ، و أن المساهمة في تنظيم جزء من الجماهير في ظل البرلمانات البورجوازية في الجمهوريات الديمقراطية البورجوازية لا يزيل الأزمات و الثورات السياسية في المجتمعات الرأسمالية ، بل بالعكس تتفاقم الحروب الأهلية و يقول لينين في هذا الصدد : "إن أحداث باريس في ربيع 1871، و أحداث روسيا في شتاء 1905، قد بينت بكل وضوح أن هذا التفاقم أمر لا مناص منه. فان البورجوازية الفرنسية، سعيا منها لسحق الحركة البروليتارية، لم تتردد ثانية واحدة عن عقد صفقة مع عدو الوطن، مع الجيش الأجنبي الذي كان قد أشاع الخراب و الدمار في وطنها. إن من لا يدرك الديالكتيك الداخلي المحتوم في النظام البرلماني و الديمقراطية البورجوازية، ضد الديالكتيك الذي يؤدي إلى حل النزاع بصورة أشد حدة مما مضى، باللجوء إلى العنف الشديد الشامل، لن يعرف أبدا كيف يقوم، في ميدان هذا النظام البرلماني، بدعاية و تحريض منطبقين على مبادئنا و من شانهما تحضير الجماهير العمالية فعلا للاشتراك بهذه > اشتراكا مظفرا".
إن النزعة التحريفية ظاهرة عالمية تستقي جذورها الطبقية من المجتمع المعاصر الذي تسود في الرأسمالية بكونها نظاما تناحريا يحتوي على الطبقة الوسطى ، فإلى جانب الطبقة البروليتارية توجد مختلف فئات البورجوازية الصغرى من صغار أرباب العمل التي تعتبر عماد الإنتاج الصغير الذي انبثقت منه الرأسمالية و لا زالت تنبثق منه إلى يومنا هذا ، و الرأسمالية بدورها تعمل على خلق فئات جديدة من البورجوازية الصغرى التي يعتبر منتجون صغار جدد الذين ينتظرهم حتمنا الدفع بهم إلى صفوف البروليتاريا ، و هذه الفئات ستكون قائمة في أطوار الثورة البروليتارية كما يقول لينين حيث لا يمكن تحويل غالبية السكان إلى بروليتاريا لكي تتم الثورة البروليتاريا ، إنما ورد على مستوى هذه الأفكار هو حصر الخلافات التكتيكية مع التحريفيين على مستوى الحركة العمالية من أجل تحديد التكتيك المناسب و التحالفات المناسبة ، و يقول لينين في هذا الصدد : " إنما يترتب على الطبقة العاملة، بالضرورة، أن تمر به بنسب أوسع بما لا يقاس،عندما تؤدي الثورة البروليتاريا إلى التشديد من حدة جميع المسائل المتنازع عليها، و عندما تحصر هذه الثورة جميع الخلافات في نقاط ذات أهمية مباشرة بالنسبة لتحديد سلوك الجماهير، عندما تجبرنا هذه الثورة، في معمعان النضال، على الفصل بين الأعداء و الأصدقاء، على نبذ الحلفاء الأردياء، بغية تسديد ضربات حاسمة إلى العدو. إن نضال الماركسية الثورية الفكري ضد النزعة التحريفية، في أواخر القرن التاسع عشر، ليس سوى مقدمة للمعارك الثورية الكبيرة التي ستخوضها البروليتاريا السائرة إلى الأمام، نحو انتصار قضيتها التام، رغم كل تردد العناصر البورجوازية الصغيرة و تخاذلها".
كان ماركس و إنجلس يؤلفان جنبا إلى جنب التكامل الفكري و العملي للمذهب الماركسي فكان ماركس يهتم بتحليل الظواهر الإقتصادية في الرأسمالية و يمثل مؤلفه "رأس المال" أروع ما أنجزه بتعاون مع إنجلس ، و كان إنجلس يهتم بالقضايا العلمية و التاريخية وفق الإتجاه المادي للتاريخ الذي وضعه ماركس و وفق منظوره الإقتصادي ، و كانا يهتمان بالتطور السياسي بأوربا الغربية في علاقتها بروسيا التي يعتبرانها حجرة عثرة أمام تطور الثورة البروليتاريا ، لكونا تغذي الصراعات السياسية بين ألمانيا و فرنسا من خلال تغذية الحرب بينهما و يقول لينين في هذا الصدد : " فقط روسيا حرة لا تعود في حاجة لا إلى اضطهاد البولونيين و الفنلنديين و الألمان و الأرمن و غيرهم من الشعوب الصغيرة ، و لا إلى العمل دائما على تحريض ألمانيا و فرنسا إحداهما على الأخرى ، ستتيح لأوروبا المعاصرة أن تتنفس الصعداء أخيرا من أعباء الحرب و ستضعف جميع العناصر الرجعية في أوروبا و تزيد قوة الطبقة العاملة الأوروبية ".
رأينا فيما سبق أن كيف واجه إنجلس المناهضين للديالكتيك المادي من البرودونيين و اللاساليين الذين أثارتهم المذهب الماركسي محاولين تحريفه ، و إلى جانب البورجوازية و الإنحرافية يأتي المثاليون الجدد الذين يحاولون دحض المادية الماركسية بإعادة إنتاج مثالية بداية القرن 18 ، ففي نهاية العقد الأول و بداية العقد الثاني من القرن 20 سعى بعض الأساتذة إلى مناصرة الفلسفة الوضعية ضد الماركسية بتبنيهم ما يسمى "الفلسفة الوضعية الحديثة" أو "فلسفة العلوم الطبيعية الحديثة" ، التي يتخذونها وسيلة لدحض الديالكتيك المادي الماركسي بعد انبهارهم بما لحق العلوم الطبيعية من تطور هائل دون أن يستطيعوا فهمها و لا تفسيرها و علاقتها بالواقع الإجتماعي ، معتقدين أنه من السهل عليهم تجاوز المذهب الماركسي المادي على المستوى الطبيعي و التاريخي ، و في اجتهاداتهم الفاشلة أصبحوا منحرفين بأفكارهم هذه عن آراء ماركس و إنجلس في مجال المعرفة و الطبيعة و التاريخ ، التي اعتبروها عبارة عن "تصوف" و أنها أصبحت "شائخة" و ذلك نتيجة انحرافهم نحو المثالية التي لازمت الصراع بين قطبي الفلسفة "المادية" و "المثالية" منذ ديمقريطس و إبيقور من جهة و سقراط و إفلاطون من جهة ثانية إلى هيكل و فويرباخ من جهة و ماركس و إنجلس من جهة ثانية.
و كان لابد للماركسية في مجال المعرفة من دحض مثالية القرن 20 من طرف ليبين الذي شن حربا ضروسا على المثاليين الجدد من أتباع إرنست ماخ ، و الذي أثبت بجدارة تطوير الماركسية في مجال المعرفة في أطروحته في كتابه "المادية و المذهب النقدي التجريبي"، الذي تناول في بدايته المقارنة بين فلسفة الماخيين في القرن 20 و فلسفة بركلي في القرن 18 حيث يعيدون إنتاج نفس أفكار بركلي المثالية ، و في مقاربته تلك يعتمدا لينين على الحجة و الدليل بمقتطفات من كتابات بركلي الكلاسيكية و مقارنتها بكتابات ماخ الحديثة ، و يعتقد الماخيون في محاولاتهم لدحض بليخانوف أنهم لا يدحضون المادية الماركسية و الماديين الماركسيين ، و هم يعتنقون المذهب النقدي التجريبي الذي انحرف عنه النقاد الجدد في القرن 20 أمثال بازروف و بوغدانوف و بوشكيفيتش و فالينتشينوف و تشيرنوف و باقي الماخيين ، و الذين يقولون بغير معقولية ما يقول به الماديون في مقولة "الشيء في ذاته" أو المادة "خارج التجريد" خارج إدراكنا ، و يتهمون الماديون بأنهم متصوفون حين يقرون بشيء غيبي قائم خارج حدود "التجربة" و "المعرفة" و قولهم بتأثير المادة على حواسنا في الوقت الذي يقرون بالحواس المسؤولة على معرفتنا .
و ذهب لينين أبعد من ذلك في نقده للماخيين للتحقق من آرائهم باعتبارها ليست آراء جديدة حيث ترجع إلى بداية القرن 18 عندما قاد جورج بركلي نفس الحملة العدائية ضد الماديين الذين لم يسميهم في كتاباته ، و يقول لينين :"لأن الماخيين يصورون بصورة خاطئة سواء موقف ماخ من بركلي أم كنه خط بركلي الفلسفي " ، ففي مؤلف بركلي "بحث في مباديء المعرفة البشرية" يعتقد أن الأشياء هي "مجموعة من الأفكار" إذ يقصد بالأفكار الأحاسيس و الصفات و ليس الأفكار المجردة ، هذه الأفكار التي لا يمكن أن توجد خارج العقل ، و يحاول الهجوم على الماديين الذين يقول أن "للأشياء الحسية وجود" و يطلق على "مجموعة الأفكار" "مركبات الأحاسيس" ، متهما الماديين في البحث عن هذه المركبات حيث يسقطون في التجريد لأن فصل الإحساس عن الواقع حسب رأيه تجريد ، و يخلط بين الإحساس و الموضوع إذ يعتقد بأنهما سواء و لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر و بذلك يكون الماخيون قد اتفقوا مع آراء بركلي في نقدهم لبليخانوف ، هذه الآراء كتبها بركلي قبل مولد كانط ، و يقول الماخيون أن القول بوجود الأشياء في ذاتها هو تشويه للفلسفة المادية بفلسفة كانط و ذلك ناتج عن جهلهم لتاريخ الإتجاهات الفلسفية .
و يقول الماخيون أن المادية الفلسفية الحديثة لا تعترف بمفهوم "المادة" و "الجوهر" معتقدين أن ماخ قد قام بإنجاز عظيم في مجال المادية الحديثة ، جاهلين أنهم يلتقون مع بركلي في قوله بأن المادة لا شيء و هي جوهر لا وجود له ، و هم ينكرون وجود الثنائية : الجوهر و المادة ، الأشياء و الأفكار ، و يشكل ماخ و أفيناريوس باعثي الفلسفة البركلية محاولين دحض الفلسفة المادية الماركسية بالرجوع إلى الوراء و الأخذ بمقولة "الفكرة" ، و ذلك في محاولة فاشلة لاستبعاد المادة عن الفلسفة استبعادا إقتصاديا عن طريق ما يسمى "مبدأ الإقتصاد في الفكرة" الشيء الذي جعلهم يتفقون مع بركلي ، و لجعل مذهب بركلي مسيطرا على عقول القراء قام الفيلسوف المثالي فريزر يإصدار مؤلفات بركلي و تزويدها بملاحظاته و سمى مذهب بركلي ب"الواقعية الطبيعية" ، حيث أن بركلي لا ينكر وجود الأشياء في الطبيعة إنما ينكر القول بانعكاس الأشياء في إدراك الناس في حربه ضد الماديين .
أما عن موقف الماخية من العلوم الطبيعية من خلال دراسة ما يسمى ب"المذهب الرمزي التجريبي" فهم يتفقون مع آراء فريزر عن بركلي "إن النظرة المفضلة عند بركلي هي نظرة "الرمزية الطبيعية الكلية" ، و هو في بحثه عن أسباب وجود الأشياء يقع في تناقض إذ يعجز عن تفسير علاقة السبب بالمسبب ، و ذلك بالقول بتفسير الأشباء بأسباب جسدية و بالأقتصار فقط عن السمة أو العلامة لكنه يبحث عن "الفعلي" و "الوهمي" و ذلك بتناول مسألة الواقعية ، التي يحاول بناء معايير الحقيقة الواقعية من خلال الفرق بين الذات و الجماعة مقتربا من المثالية الموضوعية ، و العالم عنده ليس بتصويري بل نتيجة لسبب روحي ، و قد واجه إنجلس المذهب المثالي و قسم الفلاسفة إلى اتجاهين كبيرين في مؤلفه "لودفينغ فريوباخ" حيث قسمهم إلى فلاسفة ماديين و فلاسفة مثاليين و حدد الفرق الكبير بينهما ، و ذلك لكون الماديين يعتبرون المادة هي الأصل عكس المثاليين الذين يعتبرون الروح هي الأصل و الطبيعة الفرع ، و بين هولاء و أولئك يوجد أنصار هيوم و كانط الذين ينكرون إمكانية معرفة العالم أو على الأقل معرفته معرفة تامة و سماهم اللاعرفانيين ، و لكنه يطبق هذا المصطلح على أنصار هيوم الذين يسميهم فريزر "الوضعيين" ، و في كتابه "المادية التاريخية" يتحدث عن "اللاعرفاني الكانطي الجديد" و يقصد إنجلس هنا هيوم .
و يقول إنجلس "إنما نمضي من الأشياء إلى الأحساس و الفكرة" عكس ما يقوله ماخ "إنما نمضي من الإحساس و الفكرة إلى الأشياء" ، و هذان الخطان المضادان ليس إلا نتيجة تعارض المادية و المثالية ، و قول ماخ بأن الأشياء "مركبات إحساسات" ما هو إلا إعادة مضمون فلسفة بركلي المثالية ، مما يجعل عالم ماخ عبارة عن صور و عالم تصويري و ينفي بذلك الحقيقة الواقعية الموضوعية الخارجة عن إدراكنا و التي تعتبر "المضمون الحسي" حيث لا يبقى لديه غير "الأنا" و ينفي بذلك وجود الآخرين ، و يسقط ماخ في تناقض صارخ عندما يرغب في مراقبة دماغه أثناء عملية الإحساس باحثا عن شكل العملية التي قام بها في تلك الأثناء ، و هو بذلك يقترب من الصواب في الوقت الذي يرفض فيه هذا الصواب و هو علاقة المادة بأحاسيسنا ، ذلك ما يؤكده دون رغبة و هو علاقة الأشياء بالإدراك بالأفكار و الأحاسيس و هو يقع في خلط كبير عن تقسيمه للعلوم إلى :
بحث قوانين الصلة بين التصورا ـ البسيكولوجيا .
إكتشاف قوانين الصلة بين الأحاسيس ـ الفيزياء .
تفسير الصلة بين الأحساسات و التصورات ـ البسيكوفيزياء .
فهو يرى أن موضوع الفيزياء هو الصلة بين الأحاسيس و ليس بين الأشياء مما يجعل الماخية تتعارض مع العلوم الطبيعية ، فالمادية تعتبر المادة معطى أول بينما الوعي و التفكير و الأحاسيس و غيرها معطى ثاني ثانوي ، و لا ترتبط بالمادة إلا بأشكالها العليا "المادة العضوية" و المثالية تعتبر الإحساس معطى أول و الأشياء معطى ثاني ، و المادية تطرح مسألة معلقة في حاجة إلى بحث و ذلك بطرح "وجود قدرة مشابهة للإحساس" في "قاعدة صرح المادة ذاتها" ، أما الماخية بطرحها مسألة "عنصر" فإنها لا تقدم شيئا غير أوهام المثالية ، و يكون ماخ قد تأخر بقرنين من الزمن بمذهبه الوضعي الحديث حيث قال بركلي قبله أنه لا يمكن إنشاء شيء من الأحاسيس غير "السوليبسيسم" ، و هو بذلك يتعارض مع ديدرو و إنجلس حول القول بأن الأحاسيس إحدى خواص المادة المتحركة و ليس خواص حركتها.
لقد إهتم إنجلس كثيرا بالقضايا ذات الصلة بالعلوم و التاريخ و تكلم كثيرا عن فظاظة المفاهيم عند علماء الطبيعيات المعاصرين ، و اعتبرها متحجرة و عن نظراتهم الميتافيزيقية المنافية للدياليكتيك المادي حيث تخلطون بين النسبية و الدياليكتيك ، و يتضح ذلك فيما رأيناه عند ماخ الذي حاول انطلاقا من الأحاسيس تكوين العناصر الفيزيائية ، و من العناصر نفسها ينسج كلاما فارغا بعيدا عن الدياليكتيك المادي القصد منه الدعاية للمثالية ضد المادية ، حيث الكمونيين الذين يعتبرون من المثاليين المتطرفين يعتنقون آراءه إذ يجدون فيها لذتهم في معارضة المادية ، فقيام ماخ من استنتاج الأحاسيس من حركة المادة مناقض تماما لمادية ديدرو الذي دحض أقوال الماديين المبتذلين الذين يقولون إن الدماغ يفرز الأفكار كأي عضو من أعضاء الجسم الذي يفرز مادة ، و يتجاهل ماخ استنتاجات ماركس و إنجلس كما يتجاهل استنتاجات هيكل و فويرباخ مثله في ذلك مثل باقي الأساتذة المدرسين للفلسفة الرسمية .
و لتزيين وجه أفيناريوس و ترويج أفكاره المثالية يقول عنه بوغدانوف :"إن الفلسفة المثالية كانت نقطة الإنطلاقة في تطور نظرات ماخ في حين أن التلوين الواقعي كان السمة المميزة منذ باديء بدء بالنسبة لآفيناريوس "، و يقول لينين عن بوغدانوف أنه صدق أقوال ماخ في مؤلفه "تحليل الأحاسيس" لأن ما أكد عليه مناقض تماما للحقيقة إذ أن مثالية أفيناريوس تظهر حقا في مؤلفه هذا ، و قد اعترف هو نفسه بذلك لاحقا حيث يعترف للجميع بانطلاقته المثالية و يقر بأن الإحساس هو الوحيد الذي يمكن اعتباره موجودا مما يتناقض مع وجود الجوهر ، و قوله بالأحاسيس مستقلة كالقول بوجود الأفكار بدون دماغ و ينعت لينين فلسفته بالنصف"مادية تاريخيا طبيعيا" ، حيث لا يعتبر الإحساس الصلة المباشر للإدراك مع العالم الخارجي ، مع الواقع ، من خلال تحويل طاقة التهييج الخارجي إلى واقع الوعي ، عكس ما يقول به أفيناريوس إذ يضع الإحساس حاجزا و ليس صلة بالعالم الخارجي و يفصل بذلك الوعي عن الواقع ، و بذلك يعيد ما قاله بركلي منذ زمن بعيد ، و نجد زعماء هذا التيار بإنجلترا كارل بيرسون الذي يقر بموافقته على آراء ماخ و بفرنسا نجد دوهيم و هينري بوانكاره الفزيائيين .
و ينتقل لينين لدراسة آراء ماخ و أفيناريوس من خلال محاولتهما لإصلاح نظراتهما محاولين تكميل فلسفة ماركس بالماخية ، معتبران نفسهما اكتشفا "عناصر العالم" مما جعلهما يشكلان ثائيا في مجال الفلسفة المثالية الحديثة ، و ركزا على اعتبار "العناصر" التي يساويانها مع الأحاسيس التي أقراها فيما قبل و استبدلا "الإحساس" ب"العنصر" في حالة الأجسام في العلوم الطبيعية مع استبدال الوظائف ، باستعمال "الإحساس" فيما هو نفسي و "العنصر" فيما هو فيزيائي حيث ينطلقان من "الإحساس" محاولان إصلاح ما أفسده باستعمال "العنصر" ، الذي لا يصلح لذلك إذ إن منطلقاتهما مثالية تتجاهل الطبيعة باعتبارها الأسبق و هما يحاولان بعث التضاد في الوقت الذي يجهلانها جهلا تاما ، لآن المادة ليست مرهونة بالإحاسيس باعتبارها الأولى و الوعي و الإحساس و الفكر نتاج أعلى للمادة منظمة بشكل خاص ، و ماخ و أفيناريوس يحاولان إبراز المادية في آرائهما عبر إدماج ما يسميانه "العنصر" لكن دون التخلص من المثالية العمياء التي تلاحقهما ، معتقدان أنهما يخلصان نظرتهما "الأحادية الجانب" من هذه الأحادية "المثالية الذاتية"، إذ من الصعب جدا الهروب من المنطلقات الأساسية لآرائهما و هي عندهما مثالية ، و تعويضها بعملية بسيطة تتجلى في تعويض "الإحساس" ب"العنصر" ، و يقول بتسولدت الماخي إن الأحاسيس ليست هي عناصر العالم حيث الأحاسيس تعني شيئا ذاتيا.
و يستمر الفيلسوفان المثاليان في تناقضاتهما المضطربة بين القول بالإحساس و نفيه بالقول بالعنصر في اضطراب بين القول بالفيزيائي و القول بالنفسي ، معتمدين العناصر في مجال الفيزياء و الأحاسيس في مجال النفس دون أن يستطيعا الخروج من تناقضاتهما ، و هم في تحليلاتهما الفارغة لا يعلمون أن منطلقاتهما الفلسفية خاطئة خاصة عندما يحاولان فصل ما لا يمكن الفصل بينه و هو المادة و الفكر و الصلة بينهما و هو الإحساس ، و هما في عملهما هذا يقومان بقلب الأشياء على عقبها دون إدراك أن فلسفتهما المثالية هي في الأصل خاطئة ، و هما في محاولاتهما لدحض المادية الدياليكتيكية الماركسية إنما يحاولون دحض ما لا يمكن دحضه بالأساليب المثالية الذاتية ، إذ كيف يعقل اعتبار الأحاسيس هي المنطلقات و هي الأصل بينما المادة هي لا شيء متجاهلين خلاصات المادية الدياليكتيكية الماركسية التي أعطت إجابات مستوفية حول العلاقة الجدلية بين المادة و الفكر ، بين الواقع و الإدراك ، و في تناقضاتهما يعتقدون أنهما اكتشفا شيئا جديدا الذي هو "العنصر" في محاولة فاشلة لتصحيح مفهوم "الإحساس" الذي لا يستطيعون التخلص منه ، محاولان الفصل بينهما في آن واحد بخلق عالمين منفصلين لهما و الفصل بين الأشياء و الأجسام و بين الأحاسيس و الذكريات لكن في عجز تام عن الفصل الحقيقي و العلاقة الحقيقية بين ما هو فيزيائي و ما هو نفسي .
و في اعتراضه على بليخانوف يقول بوغدانوف أنه لا يعتبر نفسه ماخيا في الفلسفة إذ أخذ من ماخ فقط عملية فصل ما هو فيزيائي عما هو نفسي و تبعيتهما للتجربة ، و يقول لينين عن قوله هذا أنه ينسى أنه أخذ منه جوهره الخاطيء معتقدا أنه باستطاعته التخلص من منطلقاته المثالية الذاتية ، و كذلك هو حال كل نقاد المذهب التجريبي حيث لا يفهم بوغدانوف أنه يشترك مع الماخيين الذين يشركهم فيما هو أساسي ، في منطلقاتهم و هو عدم قدرته على فهم مضمون المادية الدياليكتيكية الماركسية ، و هو يحاول إصلاح آرائه و يقول :" إن صورة الإنسان الواقف أمامي التي تعطيني إياها البصر مباشرة هي الإحساس " ، و لكنه يضرب نظرته هذه بتشبثه بالماخية إذ يقول إن "عناصر" التجربة محايدة حيال الفيزيائي و النفسي ، و كتب فيما بعد يقول :"إن عناصر التجربة النفسية ، كما أوضحت الفلسفة الوضعية الحديثة ، متماثلة مع عناصر كل تجربة على العموم ، كما هو مماثل مع عناصر التجربة الفيزيائية" ، و هو يضع التماثلية بين "عناصر التجربة الفيزيائية" و الأحاسيس ، بين العالم الخارجي ، الواقع ، المادة و الأحاسيس مما يجعله يقع في منظور بركلي ، حيث لا علاقة له مع الفلسفة الوضعية الحديثة إذ يقول بتماثل الفيزيائي مع الأحاسيس .
و يرد عليه لينين بقوله كذلك هو شأن جميع الماخيين حيث انحراف ماخ بفلسفته إنحرافا تاما عن "العلوم الطبيعية المعاصرة" و بوغدانوف لا يفقه آراء ماخ و أفيناريوس ذات الأبعاد المثالية الذاتية ، و لم يستطع بوغدانوف معرفة أسس فلسفتهما المثالية ، و لم يعرف أنهما حاولا تمرير المادة في آرائهما المثالية و الكل على علم أنهما فيلسوفان مثاليات و الكل يشهد على ذلك في كل المطبوعات الفلسفية ، و هو يحاول الميل نحو المادية من خلال المذهب النقدي التجريبي كباقي النقاد الماخيين الذين يستعملون مصطلح "الواقعية" كما استعملها أفيناريوس في كتابه "واقعية مطلقة"، هذا المصطلح الذي يستعمل لإبراز التضاد مع المثالية و الذي تم تشويهه من طرف الوضعيين ، لهذا يرى لينين إعتماد مفهوم "المادية" الذي وضعه إنجلس للتمييز عن مصطلح "الواقعية" الذي تم تلويثه . و يقول لينين في هذا الصدد : "يقول أوسكار إيفالد ، الذي وضع كتابا عن "أفيناريوس بوصفه مؤسس المذهب النقدي التجريبي" ، إن هذه الفلسفة تتضمن في آن واحد عناصر ) لا بالمعنى الماخي لكلمة"عنصر" بل بمعناها الإنساني ـ مثالية و "واقعية" ( و كان ينبغي القول مادية ـ متناقضة ".
لقد رأينا كيف قام لينين بدحض المذهب النقدي التجريبي ذو الأسس المثالية الذاتية الذي حاول من خلاله الماخيين العصف باستنتاجات المذهب الماركسي ، خاصة منها الديالكتيك المادي الذي يريدون أن يتجاوزوه معتمين في ذلك على استغلال العلوم الطبيعية بشكل فج ، و حاول ماخ و أفيناريوس الخوض في مجال المعرفة على مستوى العلوم الطبيعية من أجل إسقاط إستنتاجات التجربة في هذا المجال على مستوى النفس ، و لكن عدم قدرتهما على فهم العلاقة بين الأحاسيس و الأشياء جعلهما يتخبطان في تناقضات المثالية الذاتية ، فجهلهما بأسس المادة الدياليكتيكية الماركسية على مستوى الحركة جعلهما لا يدركان الصلة بين المادة و الفكر ، و هم بذلك يجهلان مبدأ التناقض داخل الحركة التي وضع أسسها كل من ماركس و إنجلس و جاء لينين ليعطي لمفهوم المادة بعدا أشمل حيث يعتبرها : "المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي " ، و قد استخلص هذا المفهوم خلال نضاله المعرفي ضد الماخيين حيث استطاع تطوير المذهب الماركسي من أجل معرفة العالم معرفة علمية من خلال نضاله ضد المثالية الذاتية و ضد اللاعرفانية ، و أوضح كيف أن الدياليكتيك هو نظرية المعرفة الماركسية مما ساعده في استنتاجاته حول النفس التي اعتبرها ذات البعد المادي و يقول : "إن الأحاسيس هي صورة ذاتية عن العالم الموضوعي " ، فإذا كانت مرحلة ماركس و إنجلس مرحلة تطور المفهوم المادي للتاريخ و التياليكتيك المادي فإن لينين إستطاع تطوير النظرية الدياليكتيكية على مستوى المعرفة و الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية في ظل هجوم المثالية الذاتية على المذهب الماركسي .
و استطاع لينين تطوير المذهب الماركسي في مجال المعرفة بتطوير الدياليكتيك الماركسي في حربه ضد الماخيين الذين يريدون إنهاء نظرياتهم المثالية بالماركسية ، حيث استطاع دحض المذهب النقدي التجريبي الذي شوه عبره الوضعيين مفهوم "الواقعية" الذي أصبح مفهوما مبتذلا ، مما جعل لينين يتخذ مفهوم "المادية" الذي وضعه إنجلس للتعبير عن الواقع الموضوعي في مجابهته لأعداء الديليكتيك المادي الماركسي ، و ذلك في ظل أوضاع روسيا القيصرية التي يسود فيها الإستبداد بارتباطها بأوربا عصر الإمبريالية التي تراجعت فيها الديمقراطية إلى الرجعية على طول الخط كما يسميها لينين ، في جميع النواحي الإقتصادية و السياسية و المعرفية حيث انتشر في أوربا المذهب النقدي التجريبي بزعامة ماخ ، و كان عدد كبير من الإشتراكيين الديمقراطيين قد انبهروا بهذا المذهب الذي رأوا فيه آخر ما يمكن أن يتوصل إليه الفكر المادي بعد ماركس ، معتبرين أن الماخية هي التي ستقوم مقام الدياليكتيك المادي الماركسي و من ضمن هؤلاء المناشفة و بعض البلاشفة ، مما وضع أمام لينين هذه المهمة الصعبة التي تتجلى في الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية ، محاولا بلورة المنظور الدياليكتيكي المادي الماركسي في مجال المعرفة الذي سيميز اللينينية عن غيرها من المذاهب و يعطي للدياليكتيك المادي الماركسي نفسا جديدا.
و استمر لينين في محاكمته للماخيين متخطيا حتى المصطلحات التي لوثوها ك"الواقعية" التي تجاوزها باستعمال "المادية" التي صاغها إنجلس ، و كان أفيناريوس يقول ب"البحث المطلق" على ما يسميه ماخ صلة "العناصر" خارج أجسامنا و "النسبي" على ما يعتبره ماخ صلة "العناصر" التابعة لجسمنا ، و تناول لينين آراء فوندت التي من خلالها حلل المذهب النقدي التجريبي من خلال ما يقول بوشكيفيتش عن آرائه حيث يقول أن فوندت يعتبر المذهب النقدي التجريبي "الشكل الأكثر عملية لطراز المادية الأخيرة"، و يسميه لينين :"الطراز من الماديين الذين يرون في الروح وظيفة العمليات الجسمانية و هي "الواقعية" في الوسط بين السبينوزية و المادية المطلقة" ، حيث يرى فوندت أن المذهب النقدي التجريبي يشمل بعض جوانب المادية و البعض الآخر من المثالية ، و قول بوشكيفيتش هذا دليل على غير فهمه التناقض بين المادية و المثالية ، و فوندت في دراسته للكمونية و النقد التجريبي خلص إلى أنهما من "أقرب الأقرباء" كما يشاطره في ذلك ماخ و أفيناريوس و بتسولدت و غيرهم من الماخيين ، و اعتبر الكمونيين مثاليين ذاتيين و يلومهم في كونهم لا يعرفون استخلاص مباديء هذا المذهب العظيم يشكل صحيح .
و وجه فوندت نقدا صريحا للمذهب النقدي التجريبي و أنصار الكمونية حيث يلومهم في اعتبار مفهوم "التجربة" و " التنسيق المبدئي" متماثلان ، و يواصل نقده لآراء أفيناريوس التي يعتبر أن بعضا منها مقتبس من المادية و المذهب النقدي التجريبي ، و خلص إلى أن أفكاره غير منسجمة و عبارة عن خليط بين هذا و ذاك مصنفا مذهبه بما يسميه "النصف الحيوي المستقل" في مقارنته مع ماخ الذي يعتبر الدماغ "جوهر ميتافيزيقي" في محاولته لتحريف المادية كما يقول لينين ، و هذا لا يختلف عن تعريف الكانطيين و الهيوميين و كثير من المثاليين الذين يطلقون الميتافيزيقيين على الماديين ، و هم يعتبرون أنه لا يمكن تخطي حدود التجربة بالإعتراف بوجود عالم خارجي عن إدراكنا ، و عن موقف أفيناريوس عن الذات أو ما يسميه ب"النصف المستقل" كما هو الشأن بالنسبة لماخ الذي اقتبسه من المادية ، إذ لا يمكن القول أن كل فيزيائي موجود بصورة مستقلة عن وعينا إلا إذا كنت ماديا و الإحساس ما هو إلا وظيفة مادية ، و هذان الفيلسوفان يختلط عليهما الأمر لأن انطلاقتهما مثالية محاولين نهاية آرائهما بالمادية ، و يصح قول إنجلس على هذا النموذج من النظريات التي يعتبرها "الحساء الإختياري الهزيل" و الذي يطلقه على آراء الفلاسفة الأساتذة الألمان ، ذلك ما يصح في حق الماخيين الذين ينطلقون من منطلقات مثالية و يريدون إنهاءها بالماركسية ، و هم في نقدهم لإنجلس يتهمونه أنه لم يعرف آراء ماخ ذلك لأن إنجلس لم يسم أيا من ماخ و أفيناريوس بأسمائهم في نقده للفلسفة المثالية ، و لا يمكن لإنجلس أن لا يعرف أفيناريوس الذي كان يصدر مجلة فصلية في الفلسفة "العلمية" منذ 1876 .
و في سنة 1906 أصدر ماخ كتابا سماه "المعرف و الضلال" الذي يقول فيه بإمكانية إنشاء الأشياء "العناصر الفيزيائية" من الأحاسيس أي من "العناصر النفسية" ، و يبين فيما بعد أن العناصر الفيزيائية موجودة خارج جسمنا أي خارج حدود العناصر النفسية و الواقعة داخل جسمنا ، و في تناوله للعناصر الفيزيائية يتحدث عن الإنحراف الذي يعترض الفيزيائي باعتبار وجود الأشياء غير كامل دون أن يحدد نوع الإنحراف الذي يقول به ، فيما إذا كان بين الأشياء أو بين الأفكار و الواقع في الوقت الذي ينسى فيه انحراف أفكاره عن الواقع ، لأن الأفكار ما هي إلا نتاج "آثار الأحاسيس" و الوقائع "مركبات الأحاسيس" و لا يمكن إزالة انحرافات آثار الأحاسيس عن مركبات الأحاسيس ، فنجد ماخ في تناوله للمسائل الفيزيائية يحكم عليها بطريقة مادية ، و يبدد بذلك جميع آراء الفلسفة البركلية لأن جميع نظريات الفيزيائيين هي انعكاس للمواد أي الأشياء الموجود خارج أجسامنا و هي مستقلة عنا معتبرا الإحساس كما تعتبره جميع العلوم الطبيعية ، و يقول عنه المثالي إدوارد هارتمان المتعاطف مع النضال الماخي ضد المادية أن فلسفته خليط من "الواقعية الساذجة" و "الوهمية المطلقة".
و حين يقول ماخ أن الأجسام "مركبات أحاسيس" فهو يقول بأشياء وهمية مطلقة أي ما يسمى ب"السوليبسيسم" ، و أما عن تناوله للمواد الفيزيائية و محاكمتها عن طريق الفكر المادي فهو يسمى "الواقعية الساذجة" التي اقتبسها لدى علماء الطبيعة بصورة عفوية في محاولته لتمثيل النظرية المادية عن المعرفة ، و يحاول أفيناريوس التغطية عن الخليط الذي يشوب آراء الماخية و ذلك بنظرية "التنسيق المبدئي" ، و لقد تمت الإشارة فيما سبق لاتهامه من طرف فوندت بالمادية و رأينا كيف أن بوشكيفيتش لم يفهم قوله هذا ، و يقول عنه تلميذه بتسولدت أن مذهب "نقد التجربة الخالصة" لا يتناقض مع المادية ، و يضيف بوغدانوف أن مذهب أفيناريوس وسطي بين المادية و الروحانية و أكثر من ذلك فهو خارج عنهما ، و كتب كرستانيان يقول أنه يرفض إقحام "العامل المادي" الغريب عن "نقد التجربة الخالصة" ، و صحيح أن ماخ و أفيناريوس قاما بتنازلات لصالح المادية في محاولاتهما لإصلاح ما أفسدته منطلقاتهما المثالية لكن دون الخروج من تناقضاتهما.
و يواصل لينين نقده لأفيناريوس في تناوله لكتابه "المفهوم الإنساني عن العالم" الذي يؤكد فيه أفيناريوس على أن ما جاء فيه لا يختلف مع ما جاء في كتابه "نقد التجربة الخالصة" ، لأنه يعرض فيه نفس آرائه بطريقة مختلفة شيئا ما في ما يسميه "أنا أنا" أي أنا و لا أنا ، أنا و البيئة ، حيث يقر بوجود الأنا بدون أنا البيئة و يسمى "أنا" ب"العضو المركزي" و البيئة ب"العضو المضاد" الطبيعة الثانية ، معترفا في ذلك بالقول ب"الواقعية الساذجة" أي العفوية في النظر إلى الأشياء عند عامة الناس ، كما أن ماخ يشاطره الرأي في ذلك الخليط من الفلسفة المثالية و المادية و كذلك فعل أتباعهما في روسيا ، و في محاولة لتفسير نظرته الجديدة يتصور حوارا بين القاريء و الفيلسوف حول الأشياء و إدراك الأشياء أي الوعي ، مستخلصا من ذلك الحوار الذاتي و الموضوعي ، و ذلك بشكل عفوي إنطلاقا من "الواقعية الساذجة" من جانب الوضعية الحديثة ، ذلك ما يسميه أفيناريوس "التنسيق المبدئي" الذي يريد أن يبني من خلال هذا الحوار الذي أخذه من أحد كتب برهان غوتليب الممثل الكلاسيكي للمثالية الذاتية في بداية القرن 19 .
يقول لينين أن ما سماه ماخ و أفيناريوس بالإصلاحات حول الماخية ما هو إلا تكرار لما قاله بركلي معتقدان أنهما اكتشفا الحل لتخبطهما بين المثالية و المادية ، معتبران أنهما توصلا إلى شيء جديد بالقول بالأنا و البيئة بصورة فجة ، كما هو الشأن بالنسبة لفيخته الذي يقول أنه ربط "بصورة لا انفصام لعراها" بين "أنا" و "البيئة" بين الإدراك و الشيء باستخلاصه أن الإنسان لا يمكنه أن ينعزل عن نفسه بالذات ، مما يجعله يقول بما قاله بركلي الذي يقول :"إني لا أحس بأحاسيسي ، و لا يحق لي أن أفترض "المواضيع في حد ذاتها" خارج أحاسيسي " ، و علاقة آراء بركلي في عام 1710 و فيخته في عام 1801 و أفيناريوس في أعوام 1891 ـ 1894 لا جدال فيها متطابقة ، يبقى الفرق الوحيد بينها هو في التعبير و أسلوب التعبير عن نفس الآراء ، ذلك لأنها يحكمها "خط المثالية الذاتية الفلسفي الأساسي" كما يقول لينين ، و القول ب"الواقعية الساذجة" ما هو إلا محاولة لتغطية عرى المذهب الماخي المفضوح ، و لا يمكن لإنسان عادي إلا أن يقول بفصل أحاسيسنا عن العالم الخارجي ، عن البيئة ، إن أحاسيسنا ، إدراكنا ليس إلا صورة عن العالم الخارجي ، هذا ما يمكن أن يتعلمه كل إنسان من تجربته الخاصة في الحياة ، لكونه ليس مستقلا عن العالم الخارجي فقط بل مستقل عن الناس الآخرين أيضا ، و "التنسيق المبدئي" عند أفيناريوس ما هو إلا مثالية كما يقر بذلك جميع من إطلع على آرائه و ليس فيها انحياز إلى المادية ، و يقول فوندت بأن الكمونية ليست إلا وجها آخر لفلسفة بركلي مع شيء من التعديل ، و يقول نورمان سميت عن نظرية أفيناريوس أن نتائجها الإيجابية وهمية .
و يواصل لينين نقده لأفيناريوس الذي حاول الخروج من تناقضاته مع العلوم الطبيعة التي تقر أن الطبيعة هي الأولى بينما الفكر هو الثاني و أن المادة العضوية ما هي إلا نتاج تطور الحياة في الطبيعة فيما بعد ، محاولا التخلص من تناقضاته مع الطبيعة حين وضع ما يسميه العضو المركزي" الموجود بالقوة" في التنسيق الذي يلخصه في الصلة التي "لا انفصام لعراها" بين أنا و البيئة ، و ذلك بالقول بالنظام الجنيني "العضو المركزي الموجود بالقوة حيال البيئة الفردية المقبلة" ، مما يلزم على النقاد التجريبيون بالقول أن التنسيق لا تنفصم عراه من أجل إنقاذ أسس فلسفتهم المثالية ، حيث أن الإنسان العضو المركزي لهذا التنسيق ، و لقد تحفظ فوندت كما رأينا حول آراء أفيناريوس في قوله "إن البيئة ليست عدو الميتافيزيقا" و يجيب في الأخير " بالتغميض الصوفي لمفهوم التجربة" عبر ما يسميه أفيناريوس ب"موجود بالقوة" الذي لا يقبل القول بالتنسيق ، و أفيناريوس لا يريد السير بطريقته إلى أبعد من ذلك إذ يقول ب"الوجود بالقوة" في المستقبل و لكن يتجاهل الماضي .
و شوبرت ـ رولدرت يستشهد بهذه النظرية من أجل أن يستخلص إستنتاجات لاهوتية و قال عنه ماخ يقترب بعمله هذا من الماخية ، و يكون الحق مع إنجلس في لومه لدوهرينغ في ترك آثار اللاهوتية في فلسفته ، و يذهب بعض الآخذين بالماخية إلى أن يعتبروا أنفسهم من الماركسيين ، و يضيف أفيناريوس أن العلوم الطبيعية من وجهة نظر النقد التجريبي تطرح مسألة مراحل بيئتنا ، إذ لا يمكن التخلص من استحضار نفسك في دراسة الطبيعة قبل ظهور الكائنات الحية كمن يقوم بمراقبة الكواكب الأخرى أو أنظمة شمسية أخرى من أرضنا ، إذ لا يمكن أن نتخلص من ذاتنا لآن الشيء لا يوجد بصورة مستقلة عن إدراكنا ، هذا هو شأن الوضعية الحديثة التي لا تستطيع فصل ذات الإنسان عند تناول أمور الطبيعة و يلتقي أفيناريوس مع فيخته في هذا الرأي ، و التوفيق بين المذهب التجريبي و العلوم الطبيعية لا يمكن إذ يسلم أفيناريوس بما تنفيه العلوم الطبيعية ، و ماخ و أفيناريوس يقولان أن الطبيعة مركب أحاسيس و بعبارة أخرى الأجسام مركبات أحاسيس الذي يتماثل فيه النفسي و الفيزيائي ، و الطبيعة يسميها أفيناريوس عضو مضاد الذي لا يمكن أن يكون فيها العضو المركزي مما جعل لينين أن ينعت نظريته بالظلامية الفلسفية.
و يقول بتسولدت أن الفلسفة الماخية قد أسسها ثلاثة فلاسفة وهم أفيناريوس و ماخ و شوبه و لكنه يقر أن "أنا" عند أفيناريوس ليست "أنا" عند شوبه الذي يقول "إن كل شيء عند أفيناريوس يرتكز إلى أنا فقط" إذ يقول لا يمكن أن نتصور البيئة منعزلة عن الإنسان ، و بتسولدت لا يستطبع التقدم بآرائه لأنه يقر أن المسألة هنا ليست مسألة عرفان بل هي هل يحق له أن يتصور بيئة مستقلة عن التقكير الفردي أي مستقلة عن الذات ، وهو في قوله هذا يكون قد عبر عن عدم قدرته عن الإستقلال عن آراء الماخيين ، و يستخلص لينين أن نظرية أفيناريوس هي نظرية فكر بلا دماغ في أوائل فلسفته 1876 و مثالية في أواخرها ما بين 1891 و 1894 ، و يقول لينين عن بتسولدت أنه بإدخال قانون السببية يكون قد خرج من نطاق مثالية أفيناريوس و السوليبسيسم باستعمال الكانطية ، إذ أن عامل الموضوع غير متكامل عند أفيناريوس في نظرته التي تتعارض مع العلوم الطبيعية مما يحل فلسفته إلى خانة المثالية الذاتية ، و جعل بتسولدت يتمسك بالسببية يكون قد ساهم في القضاء على نظرية مركبات الأحاسيس دون أن يستطيع الخروج من تناقضات الماخية ، لأنه لم يستطع القول بأن العالم الخارجي يعكسه وعينا و هو موجود بصورة مستقلة عن إدراكنا ، هذا المبدأ المادي الذي يتفق مع العلوم الطبيعية الذي يمكن أن يحل مبدأ السببية ماديا بعيدا كل البعد عن مثالية ماخ و أفيناريوس و بتسولدت .
و طرح الناقد التجريبي فيللي صعوبة الجواب عن مسألة السببية في فلسفة أفيناريوس الذي يقول :"نحن ننتقل إلى الماضي بالفكر" و ليس إجباريا أن نفهم التجربة بتجربة الإنسان ما دامت الماخية تأخذ تجربة الحيوان بالإرتباط بالتجربة العامة ، و يحاول بتسولدت إنقاذ آرائه من سخافة أفيناريوس بالقول ب"قانون وحدة المدلول" الذي حاكمه الناقد التجريبي فيللي الذي قال أن القول بوجود العالم قبل وجود الإنسان يجعلنا نقع ثانية في مقولة الأشياء في ذاتها ، مقارنا الوقت بالأشياء و ما دام الوقت ليس شيئا في ذاته مما يدل على أن الأشياء خارج الإنسان عبارة عن تصورات مستخلصا في الأخير أنه لا مناص من الإختيار بين المادية أو السوليبسيسم .
يقول لينين في محاكمته لهم :" تكلم أمامنا ثلاثة من عرافي المذهب النقدي التجريبي بذلوا قصارى جهدهم للتوفيق بين فلسفتهم و العلوم الطبيعية ، لرفء فتق السوليبسيسم . و قد ردد أفيناريوس حجة فيخته و استعاض عن العالم الفعلي بعالم متخيل ، و ابتعد بتسولدت عن المثالية الفيختية و اقترب من المثالية الكانطية . أما فيللي الذي مني بالفشل مع "الدودة" فقد تملكه اليأس و أفتى الحقيقة عن غير قصد : "إما المادية ، و إما السوليبسيسم أو حتى عدم الإعتراف عن أي شيء ما عدا اللحظة الراهنة ".
و ينتقل لينين إلى محاكمة الماخيين الروس و كيف فهموا مسألة الطبيعة و الإنسان و ينطلق من بازاروف في كتابه "دراسات "في" فلسفة الماركسية" الذي تناول فيه آراء بليخانوف انطلاقا من فهمه لها ، بالحديث على لسان بليخانوف متسائلا عن الزمن و المكان و السببية في علاقتها مع القول بوجود العالم قبل الإنسان ، في الوقت الذي يقر فيه بليخانوف أن فلسفة كانط لا تفيد في هذا الشأن ، و أن المثالية تقول بعدم إمكانية وجود الموضوع بدون ذات إلا أن تاريخ الأرض يبين عكس ذلك حيث وجود الأرض قبل الذات بزمن طويل قبل وجود المواد العضوية التي تملك درجة معينة من الوعي ، و لكن المطروح هنا قول بليخانوف بهذا الجواب الذي يقول أن فلسفة كانط لا تستطيع الجواب لأنها لا تتوافق و العلم المعاصر ، و يقر أن التاريخ يقر المادية و الشيء في ذاته إلا أن بليخانوف يقول أننا لا نملك أية فكرة عن الأشياء كما هي في ذاتها ، و كل ما نعرف هو ظواهرها و نتائج فعلها في أعضاء حواسنا و لها فقط الصورة الموجودة في أعضاء الحواس منذ زمن طويل ، "العهد الثانوي" في عهد الإيكتيوسورات و الأركيوبتيريكس ، و نعجز عن السير إلى الأمام مع السوليبسيسم .
و يرد عليه لينين من خلال حكمه هذا على المادي بليخانوف الذي يقول عنه أنه يعتبر أن الأشياء في ذاتها ليست لها صورة عدا الفعل في أعضاء حواستا و بمعنى آخر أنها ليس لها وجود في العهد الثانوي إلا كصور ، بمعنى أن الصور هي نتيجة فعل الأشياء في ذاتنا ، في أعضاء حواسنا ، مما يجعل الأشياء غير مستقلة عن أعضاء الحواس ، ذلك أن بازاروف لم يفهم أقوال بليخانوف إذا ما افترضنا أن ذلك صحيح و هو يريد أن يكون ممثلا للماخيين في المادية بتشويهه لآراء بليخانوف المادية ، و كأنه لا يعرف أن من أسس المادية الإعتراف بالعالم الخارجي بوجود الأشياء خارج إدراكنا و بصورة مستقلة ، شأنه شأن بركلي الذي لام الماديين على القول ب"المواضيع في حد ذاتها".
و يقول بليخانوف في موضوع الطبيعة و الإنسان :" لا موضوع بدون الذات بنظر المثالية و أن الموضوع يوجد بنظر المادية بصورة مستقلة عن الذات و معكوسا بقدر متفاوت من الصحة في إدراكنا" ، إذ لا يمكن لأي مادي أن يكذب قول بليخانوف هذا و أن المادية و الطبيعية قبل الإنسان ، و بازاروف هنا يريد التشويش على القراء في فهم الماركسية و الفرق بينها و بين المثالية ، و يعتبر فلسفة فويرباخ الحلقة الوسطى بين مادية ماركس و إنجلس و مثالية هيكل و يقول فويرباخ :"إن الطبيعة ليست موضوع الإنسان أو الوعي هي ، بالطبع ، بالنسبة للفلسفة التأملية أو ، على الأقل ، بالنسبة للمثالية ، شيء كانطي في ذاته"، و يقر أن العلوم الطبيعية تحرج المثالية و ربط وجود الأشياء بوعي الإنسان لكن هذا لا يعني أنها لم تكن موجودة قبل الإنسان ، و بذلك دحض فويرباخ الفلسفة المثالية لأفيناريوس دون أن يكون على علم ب"الوضعية الحديثة" ، و كذلك بالنسبة لفالتتينوف المعجب ببازاروف و الذي يتحدث عن بركلي و كأنه مادي و عن أفيناريوس "الواقعي".
و أصبح الماخيون الروس يدافعون على الماخية دون وعي بأخطائها الفادحة معتبرين أنفسهم من الماركسيين في محاولة منهم لدحض آراء بليخانوف ، جاهلين أنهم في محاولة دحضهم لبليخانوف محاولة لدحض الماركسية باعتباره أقوى الماديين كما اعتبره لينين ، الذي يحاول بازاروف بكل وقاحة النيل من آرائه خاصة في قوله ب"إن الوعي هي الحالة الداخلية للمادة" ، و يقر بذلك أن الدماغ هو المسؤول عن التفكير الذي يتناقض مع أقوال إفيناريوس و ماخ حول علاقة الإنسان بالطبيعة ، ذلك ما لا يعجب بازاروف الذي يحارب مادية ماركس و إنجلس و فويرباخ حيث يلتقي مع أفيناريوس و ماخ اللذان ينكران أن التفكير وظيفة فيزيولوجية و لا تمثل الحالة المادية للدماغ ، و يقران أن التصورات ليست عملية فيزيولوجية لدماغ الإنسان و بمعنى آخر أن الأحاسيس لا تمثل العملية المادية للدماغ ، عكس أقوال إنجلس التي تقول بأن التفكير و الإدراك ما هي إلا نتاج للدماغ البشري ، و أننا ندرك العالم الخارجي بواسطة حواسنا و نحن ننتمي إلى هذا العالم الذي يعتبر العالم الواقعي الوحيد ، و أن التفكير و الإدراك نتاج للدماغ الذي يعتبره جهازا ماديا معتبرا الروح مستوى أعلى من نتاج المادة .
و يرفض أفيناريوس هذه الإستنتاجات المادية و يسمي تفكير الدماغ ب"فتشية العلوم الطبيعية" في تعارض تام مع العلوم الطبيعية كما هو الشأن بالنسبة لماخ و جميع الماخيين و أنصار الكمونية ، و هو يتهم المادية ب"أنها تتبنى وجهة نظر مادية عفوية غير واعية" مما جعله يعارض علم النفس الحديث الذي يقول عنه أنه "حقن" بشكل جائز الفكرة في الدماغ و ذلك بإدخال الأفكار في دماغنا و الأحاسيس فينا ، مما يجعل المذهب النقدي التجريبي الذي يرفض "حقن" الدماغ يتعارض مع العلوم الطبيعية ، و يقول عنه لينين أنه يحاول التظاهر بمحاربة المثالية في الوقت الذي يحول فيه العالم الخارجي إلى أحاسيس و تصورات عكس اعتبار الأنا و البيئة حقيقة واحدة دون إدخال العالم الخارجي في الدماغ ، و أفيناريوس يعمل على تشويش ذهن القراء باستعمال كلمات يسميها "جديدة" في نظرية "جديدة" دون أن يستطيع التخلص من مقدماته المثالية.
و يقول بوغدانوف عن مذهبه عن "الحقن" الذي اكتشفه أفيناريوس أن "الحقن" موجه ضد المثالية ، في الوقت الذي ينكر فيه الوظيفة المادية للدماغ و الجهاز العصبي المركزي لدى الإنسان تلك الوظيفة التي تقرها الفيزيولوجيا ، و بذلك تكون آراؤه متعارضة مع حقائق العلوم الطبيعية و في إقراره ذلك يكون ضد المادية و ليس ضد المثالية ، معتبرا أن ما أنجزه أفيناريوس في اكتشافه الجديد هو "إثنينية" الروح و الجسد التي تدحض المثالية في الوقت الذي يعتبر فيه أفيناريوس أن الأفكار و الأحاسيس ليست نتاج المادة و أساسية و ليست ثانوية ، و يقول عنه لينين أن كل ما فعل أفيناريوس بالإثنينية هو دحض وجود الموضوع بدون ذات ، وجود المادة بدون فكر ، وجود العالم الخارجي بصورة مستقلة عن الأحاسيس و ذلك بطريقة مثالية ، و يقول فوندت في لومه لأفيناريوس الذي يلوم المادية ، لكونها تقول بأن الدماغ ينتج التفكير و يملك الفكر الشيء الذي لا يمكن التحقق فيه في الواقع مما يجعله يقر بأن الإنسان يفكر بدون دماغ ، يقول عنه أن نظرية الحقن موصولة من الخارج ب"مذهب الحقن" بطريقة إصطناعية ، و يقول عنه إيفالد أن "مذهب الحقن" قد تم اختلاقه للمذهب النقدي التجريبي للتغاضي عن أخطائه ، و يقول عنه نورما سميت أنه ينكر كل ما نملك حول علاقة الفكر بالدماغ ، و يكون بيرسون واضحا في حكمه حين ينكر جميع الأغطية التي حاول أفيناريوس إستعمالها متمسكا بالمثالية الذاتية الخالصة ، و يقول عنه فوندت إن مذهبه "الجديد" عبارة عن سكولاستية خالصة ، و يقول عنه فيللي إن أفيناريوس يساوره حلم اكتشاف البيوميكاانيك إلا أن أسلوبه لا يرتكز إلى ما يمكن أن يصل به إلى فهم حياه الدماغ.
و يعتبر لينين أن المثالية الذاتية منطلق المذهب النقدي التجريبي من خلال مقولة أن العالم هو عبارة عن أحاسيس ، و لف هذه المقولة بمجموعة من الكلمات التي يستعملها أفيناريوس و ماخ ، من أجل التغطية على تناقضاتها مع العلوم الطبيعية ، و تؤدي آراء الماخية هذه إلى السير في منحى السوليبسيسم ، و يحاول الماخيون الروس تبرئة ماخ من المثالية و السوليبسيسم بالقول بأن إتهامات ماخ بذلك ما هو إلا "ذاتية متطرفة" كما يقول بوغدانوف ، مما يتناقض و أحكام كل الكتاب حول الفلسفة الماخية المثالية الذاتية ، الشيء الذي يدل على "ذاتية" عدم المعرفة لدى الماخيين الروس الذي يعتبرون أنفسهم ماركسيين كما يقول لينين ، حيث أن جميع الفلاسفة يتعاطفون مع المثالية دون لومها عكس الماركسيين ، و ما يقوم به الفلاسفة هو معارضة منهاج ماخ المثالي يمنهاج آخر مثالي .

خلاصـــــــة :

لقد دأب الماخيون على محاولة تفسير العلاقة بين الطبيعة و الإنسان إلا أنهم في محاولاتهم لتطوير المذهب النقدي التجريبي ، يكرسون التناقض الذي يشوب آراءهم في محاولاتهم لإصلاح ما أفسدته منطلقاتهم المثالية المتناقضة مع العلوم الطبيعية ، و هم سائرون في تعميق تناقضاتهم عند الوصول إلى ما يسمى "إثنينية الروح و الجسد" و "مذهب الحقن" الذي حاولوا من خلاله القضاء على إثنينية الروح و الجسد ، و هنا تكمن أخطاؤهم إذ أن الأحادية المثالية تقول إن الروح ليست الوظيفة المادية للجسد بينما الأحادية المادية تقول بأن الروح هي الوظيفة المادية للجسد ، و هما أسلوبان متناقضان لا ثالث لهما كما يحاول الماخيون إيجاد ذلك للتمويه على آرائهم المثالية في محاربتهم للماركسية.
و تعتبر اكتشافات لينين رائدة في مجال الدياليكتيك على المستوى المعرفي باعتباره النظرية المعرفية الماركسية التي وضع أسسها ماركس و إنجلس ، خلال أزيد من نصف قرن من النضال ضد بقايا الأفكار المثالية الكانطية في محاكمتهما لهيكل و فويرباخ ، إلا أن جهودهما من أجل ترسيخ المذهب الماركسي لم تسلم من هجوم الماخيين الذي يريدون إعادة الفكر البشري إلى الخلف ، لتكريس مثالية بركلي التي قادها كل من ماخ و أفيناريوس ضد المادية الدياليكتيكية محاولين في بعثهم لفلسفة بركلي المثالية دحض المذهب الماركسي ، و حاول الماخيون الروس الهجوم على آراء بليخانوف باعتباره الماركسي الروسي الذي تشبث بالمذهب الماركسي ، و يشكل الدياليكتيك المعرفي النظرية الماركسية اللينينية التي اكتشفها لينين من خلال محاكمته لآراء الماخيين و المذهب النقدي التجريبي ، و الذي لعب دورا أساسيا في ترسيخ المذهب الماركسي من خلال صياغة النظرية الفلسفية المادية الدياليكتيكية على مستوى المعرفة التي ترتكز إلى جوهر النظرية الماركسية الخالصة على المستوى المعرفي ، و بذلك تكون الماركسية اللينينية هي جوهر النظرية الماركسية و سلاح المادية في صراعها مع المثالية الذاتية و السوليبسيسم .
و استطاع المذهب الماركسي اللينيني دحض جميع المذاهب التي تصب جميعها في بحر المثالية الذاتية و السوليبسيسم ، و يقول لينين حول نظرية المعرفة : " في نظرية المعرفة ، كما في جميع ميادين العلم الأخرى ، تجب المحاكمة بطريقة دياليكتيكية ، و هذا يعني أنه يجب علينا لا أن نفترض معرفتنا ناجزة و ثابتة لا تتغير ، بل أن نحلل و نبحث بأي طريقة تظهر المعرقة من اللامعرفة ، بأي طريقة تصبح المعرفة غير الكاملة و غير الدقيقة أكمل و أدق ".
و قد عمل على وضع أسس المعرفة الماركسية اللينينية من خلال مقارنة المذهب النقدي التجريبي بالدياليكتيك الماركسي ، من أجل تبيان العرفانية الرجعية الملازمة لآراء النقاد التجريبيين ، الذين حاولوا إتخاذ المصطلحات المختلفة للتغطية على أسس مذهبهم المثالي في محاولة للتمييز عن أخطاء المثالية و اللاعرفانية ، و هم في عملهم هذا عمل الماخيون على الجمع بين المذهب النقدي التجريبي و الماركسية من أجل ضرب أسس الماركسية ، و المذهب الماركسي اللينيني يوضح كيف أن الفلسفية المادية نقيض للمذهب النقدي التجريبي باستعمال الدياليكتيك على المستوى المعرفي ، و أوضح لينين مكانة هؤلاء النقاد التجريبيون باعتبارهم أساتذة في مدارس فلسفية صغيرة و أن المذهب النقدي التجريبي ما هو إلا مدرسة صغيرة من بين المدارس الصغيرة الأخرى في العصر الحديث ، و أوضح كيف أن أفيناريوس و ماخ كانت إنطلاقتهما من الفلسفة الكانطية محاولان الوصول إلى المادية لكنهما عصفت بهما آراؤهما المتضارب في منحى المثالية الذاتية و السوليبسيسم للوصول إلى الهيومية و البركلية ،
و في نقده للماخية يؤكد لينين على الصلة بينها و بين مدارس العلوم الطبيعية إذ نجد دائما أغلب الطبيعيين إلى جانب المادية و خاصة الفيزيائيين ، لكن فقط الأقلية منهم أنزلقت بهم أفكارهم حول النسبية إلى المثالية ، و ذلك ناتج عن جهلهم للدياليكتيك الماركسي و انبهارهم أمام تقدم العلوم الطبيعية التي استطاعت دحض النظريات القديمة ، و تعتبر أزمة العلوم الفيزيائية في بداية القرن 20 أهم الأسباب التي جعلت الفيزيائيين يقعون في تناقضاتهم مع المادية ، كما أن الصراع بين المادية و المثالية منذ فلسفة سقراط و أفلاطون المثالية و فلسفة ديمقريدس و أبيقور المادية هو صراع حزبي ، و لا يجب إغفال الواجهة السياسية لهذا الصراع إذ أن الفلسفة المثالية يتم توظيفها من طرف الطبقات البورجوازية ضد البروليتاريا .
إن المذهب النقدي التجريبي يخدم الطبقة البورجوازية في نضالها ضد المادية و خاصة المادية التاريخية ، و استطاعت الماركسية اللينينية بلورة النظرية الدياليكتيكية الماركسة على جميع المستويات المعرفية :
ـ على المستوى الفلسفي بدحض المذهب النقدي التجريبي و تنوير الطريق للعلماء الطبيعيين التقدميين الذين أحرزوا نتاج هامة على مستوى الإكتشافات العلمية .
ـ على المستوى الإقتصادي باكتشاف الأسس النظرية للرأسمال المالي في عصر الرأسمالية الإمبريالية .
ـ على المستوى السياسي من خلال بلورة مفهوم الصراع الطبقي ببلورة أسس الحزب الثوري و بلورة مفهوم الحركة الثورة و إنجاز الثورة الإشتراكية الروسية .
و بذلك تكون الماركسية اللينينية هي النظرية المادية الناجعة في عصر الرأسمالية الإمبريالية و لا غرابة أن نجد من يسمون أنفسهم بالماركسيين يتنكرون للماركسية اللينينية ، محاولين بث التشويش في أذهان القراء بأن الماركسية اللينينية قد سقطت بسقوط جدار برلين و أن عهد الصراع الطبقي و إنجاز الثورة قد ولى ، و في ادعاءاتهم هذه جهل بأن الماركسية اللينينية هي جوهر الدياليكتيك الماركسي على المستوى المفرقي قي جميع الميادين ، و مهمة دحض آرائهم التحريفية موكولة للماركسيين اللينينيين اليوم و سنعمل في مواضيع قادمة على دحض إدعاءاتهم .

تارودانت في : 01 أبريل 2007
امال الحسين

المراجـــع المعتمدة :

- موضوعات عن فورباخ كتبها كارل ماركس في ربيع عام 1845.
- بيان الحزب الشيوعي .
- نقد برنامج غوتا .
- مختارات من كتاب -رأس المال .
- مصائر مذهب كارل ماركس التاريخية لينين بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاة كارل ماركس.
- ثورة كارل ماركس في نظرية المعرفة - عبد السلام المؤذن .
- موجز رأس المال انجلز ترجمة فالح الجبار .
- حول السلطة كتبها فريدريك انجلز سنة 1872 في إيطاليا. ترجمة و إعداد رقمي: وجدي حمدي.
- الماركسية و النزعة التحريفية - -لينين- (مارس 1908) .
- فريديريك انجلز - حياته و اثاره - لينين .
- الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - لينين .
- إلى الفلاحين الفقراء - لينين .
- المادية و المذهب النقدي التجريبي ـ لينين .
- أسس اللينينية - جوزيف ستالين .
- كراس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية - جوزيف ستالين - ترجمة :حسقيل قوجمان .



#امال_الحسين (هاشتاغ)       Lahoucine_Amal#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الخامس عشر
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الرابع عشر
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الثالث عشر
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الثاني عشر
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الحادي عشر
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء العاشر
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء التاسع
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الثامن
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء السابع
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء السادس
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الخامس
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الرابع
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الثالث
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الثاني
- الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الأول
- الماركسية اللينينية و دحض الفكر البورجوازي و الماركسي التحري ...
- الماركسية اللينينية و دحض الفكر البورجوازي و الماركسي التحري ...
- الماركسية اللينينية و دحض الفكر البورجوازي و الماركسي التحري ...
- الماركسية اللينينية و دحض الفكر البورجوازي و الماركسي التحري ...
- الماركسية اللينينية و دحض الفكر البورجوازي و الماركسي التحري ...


المزيد.....




- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
- متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
- نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
- اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا ...
- الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
- اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
- مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع ...


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - امال الحسين - الماركسية اللينينية جوهر الدياليكتيك الماركسي