|
أنماط الشخصية العراقية الحالية وآفاق الوحدة المجتمعية
فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
الحوار المتمدن-العدد: 1873 - 2007 / 4 / 2 - 12:19
المحور:
الحوار المتمدن - الكتاب الشهري 2 : المصالحة والتعايش في مجتمعات الصراع العراق نموذجا
يتردد اليوم على نحو واسع، سؤال تحليلي – أخلاقي، تتداوله أوساط النخبة والعوام على حد سواء، داخل العراق وخارجه: ((هل الفرد العراقي مسؤول عما لحق ببلاده من تشظي و دمار؟)). إن أي مجتمع بشري يتعرض لأزمة وجود ومصير عميقة، لا بد أن يصنف من الناحية السيكولوجية إلى أنماط متنوعة بل ومتناقضة أحياناً من الشخصيات السائدة فيه، ولا معنى لتعميم نمط واحد من الشخصيات أو السلوكيات على كل أفراده. وبمعنى أدق، إن المجتمع بمعناه السوسيولوجي هو المصنع التأريخي لأنماط متباينة ومتنافسة من الشخصيات الاجتماعية في لحظة زمانية معينة. فما الذي يحدث اليوم في مجتمعنا العراقي؟ يمكن القول، وباختزال مقصود لأغراض التحليل والبحث (مستثنياً من هذا التحليل "الشخصية العراقية المقاومة" سواء تلك التي كافحت ضد الفاشية السابقة أو تكافح اليوم ضد الاحتلال الأجنبي والظلم الاجتماعي بشتى أنواع الكفاح)، إن مجتمعنا بات يتألف من شخصيتين رئيستين: "شخصية هدمية عدوانية"، و"شخصية بنـّاءة مسالمة"، دون تجاهل حقيقة أن كلا هاتين الشخصيتين لها شخصياتها الفرعية العديدة.
الشخصية العراقية الهدمية العدوانية
تبلورت هذه الشخصية تدريجياً خلال نصف قرن من الانقلابات والاستبداد والحروب والاحتلال، بوصفها نتاجاً مباشراً للفعل السياسي السادي الذي بوشر بممارسته ضد الفرد العراقي بعد شهور قليلة من قيام النظام الجمهوري وحتى اليوم. وهذه الشخصية، وإن تنوعت انماطها الفرعية النشوئية، إلا إنها تشترك على المستوى الانفعالي – السلوكي بتركيبة متناقضة من العناصر السادو – ماسوشية الممتزجة: - إنها تغلـّب قيم الموت على قيم الحياة في سلوكها، موظفة شعارات "الوطن" و"الدين" و"الواجب" و"الفضيلة" لتبرير أفعالها الهادمة لحياة الآخرين. - تكره خصومها حد العمل على إفنائهم. - تتسم بالسايكوباثية، أي ضعف الضمير، وعدم الاتعاظ بالتجارب، والاندفاع والتهور. - لا تحقق توازنها النفسي أو رضاها الانفعالي إلا عبر مشاهد التدمير والقتل وهدم الحياة. - أي لباس ايديولوجي ترتديه هو قشرة دفاعية ظاهرية تخبيء تحته منظومة متسقة من الميكانزمات العدوانية الموجهة نحو ذاتها أو نحو الآخرين، والتي يحركها الاحباط اللاشعوري العميق، بوصفه العنصر التكويني الأبرز لهذه الشخصية. أما الأنماط الفرعية لهذه الشخصية الهدامة فيمكن تحديدها بوضوح من خلال العودة للعوامل السوسيو– سياسية التي أدت الى نشوئها وتطورها:
1- الشخصية الهدمية الفاشستية: نشأت على مدى أربعين عاماً في أقبية المؤسسة الأمنية والسياسية للنظام الفاشي السابق. تحكمها عقدة الاضطهاد والشك، ولا تجد أي امكانية لاستعادة شعورها بالأمن النفسي المفقود إلا بإقصاء الآخرين وايلامهم واإفنائهم. وهي ما تزال في أوج نشاطها اليوم، بعد أن استبدلت وجهها القوموي السابق بأقنعة متأسلمة جديدة، إذ وفر لها الوضع السياسي الجديد امكانية واعدة لاستمرار اضطرابها النفسي، ودون أي محاولة موضوعية لإعادة تأهيلها والحد من هدميتها.
2- الشخصية الهدمية "الارهابية": تركيبة نفسية مستحدثة منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان/ ابريل 2003م، نتجت عن تلاقح بيضة "الإرهاب" (مع التحفظ على هذا المصطلح) المستنسلة اصطناعياً في مختبرات أنظمة الجوار، بحيمن العولمة الأمريكية المتوحشة التي لا تجد في العراق أكثر من حساب مصرفي مغلق ينبغي اختراق شفرته مخابراتياً عبر كسر شوكة بنيته البشرية الموحدة. ولهذه الشخصية امتداداتها النسيجية مع الشخصية الأولى (الهدمية الفاشستية) بزوغاً وديمومة ومصيراً، إذ تحكمها عقدة الولاء للجمود، والرعب من التطور وتكفيره، والافتتان بعقيدة تقريب الموت من الجميع، فشعارها الضمني: ((عليّ وعلى أعدائي)).
3- الشخصية الهدمية الطائفية: تبلورت ملامحها ببطء نسبي خلال الأعوام الثلاثة التي اعقبت الاحتلال، ثم برزت بجلاء في بداية العام الرابع الذي نشهد اليوم نهايته. كان لفرق الموت التي أنشأها "نيغرو بونتي" اثناء تقلده منصب سفير الولايات المتحدة في العراق على غرار فرق الموت التي سبق أن أسسها في السلفادور في ستينات القرن الماضي، الفضل الأكبر في المباشرة بنشوء هذا النمط من الشخصيات، وعبر تكنيك بسيط جداً: ((بعد أن تنجح بتأسيس نظام سياسي طائفي البنية، عليك أن تبدأ بقتل عدة عشرات من أفراد ينتمون لطائفة معينة يومياً وترمي جثثهم الممزقة في مناطق تسكنها أغلبية من الطائفة الأخرى، والعكس بالعكس، ثم تفتعل في الوقت نفسه اعتداءات مدفوعة الثمن على معابد مقدسة تعود لكلا الطائفتين)). فحدث الاستدراج المنتظر، وانخرطت أعداد محدودة ولكن مؤثرة من أفراد الطائفتين بتأثير مصالح السياسيين ضيقي الأفق، في سلوك "ميليشياوي" متطرف هدفه الانتقام الدموي الأعمى من الطائفة الأخرى، دون أي وعي أو دراية منهم بأبسط مباديء البناء الفقهي لفكر الطائفتين، وما إذا كانت هناك حقاً خلافات عقائدية من أي نوع تستدعي افناء الآخر وتدميره على هذا النحو. وحدث هذا الاستدراج بشكل خاص في القاع الطبقي لأتباع الطائفتين، إذ كلما ازداد الاحباط الشخصي والاجتماعي للفرد وانغلقت أمامه السبل المشروعة للإصلاح واستعادة الحقوق، أصبح أكثر استعداداً للاندفاع اللاعقلاني للتنفيس عن مكبوتاته بالتفتيش عن أي كبش فداء بديل يحوّل ضده كل طاقة اليأس والحرمان والذل التي تغلي في اعماقه. أما المفقس الطائفي الأساسي الذي ما برح يديم وظيفة هذه الشخصية ويشجع على تماهي المجتمع بها، فهو المؤسسات الأمنية التي أسسها ضباط الاحتلال ومستشاريه على نحو يراد به قصم ظهر الدولة المدنية العراقية العتيدة وإظهار عجزها أمام التنامي السرطاني لجماعات ما قبل الدولة في أحشائها. الشخصية العراقية البنـّاءة المسالمة:
هناك، على الضفة الأخرى من نهر الدم العراقي، تسكن هذه الشخصية، بخصائصها التأريخية المتراكمة: ((التسامح، والتحضر، وقوة التحمل، والابتكارية التكيفية، والولع بالثقافة، وتمجيد قيم الحياة، والتفتيش عن ايجابيات الآخر المخالف، والتدين الهاديء))، والتي تشكل بنوعها وكمها المادة الأساسية العظمى من النسيج الاجتماعي العراقي التقليدي. هذه الشخصية أمست تراقب بفزع جيوش الاحتلال وفرق الموت وكتائب الانتحاريين في الشوارع، وتستمع للجنرالات الشقر وزعماء الميليشيات والطوائف الملتحين على شاشات التلفاز، وقد أدركت تماماً أن حضارة البناء والحياة والتسامح يمكن أن تغدو ((رهينة)) الى أجل غير محدود بأيدي عصابات سياسية محلية وكوزموبولتية تحترف الهدم والاستئثار والتعصب. إن مساحة التماس التفاعلي بين الشخصيتين "الهدمية" و"البناءة"، يمكن عدّها هامشية وغير ذات أثر؛ بمعنى أن الفعل السياسي المصطنع من خيوط تقع خارج النسيج الاجتماعي العراقي التقليدي، لم يستطع النفاذ بآلياته "الهدمية" ونتائجه النفسية "العدوانية" الى الشخصية العراقية المسالمة بخصائصها التسامحية المتحضرة، إلا بامتدادات محدودة يمكن وصفها بـ"رد الفعل الانعكاسي الآني" الذي يتصل بتلقائية الاستجابة الميكانيكية لا بالذخيرة القيمية الجمعية بعيدة المدى. إن المتجول المحايد اليوم في بيوت بغداد ومدارسها وجامعاتها وأسواقها، يستطيع أن يتلمس الخصائص العيانية الملموسة لهذه الشخصية العراقية البناءة المغلوبة على أمرها، ومقدار اعتزازها المتجدد الصامت بهويتها الوطنية المحببة، ومبلغ نفورها وازدرائها لسادية الفئات الهدمية المتسلطة عليها. أما الفعل الاحتجاجي الجمعي لاستعادة التوازن، فسيظل مؤجلاً إلى حين، ما دامت المسافة النفسية بين الادراك والفعل لدى الفرد العراقي ما تزال مزروعة بالسلبية والقهر واللاجدوى والعجز المتعلـَّم منذ عقود، وهي خصائص تتصل بالفاعلية السلوكية وتوقعات النجاح والاحباطات المتراكمة أكثر من صلتها بخصائص البناء العقلاني المنجز للشخصية الحضارية للفرد العراقي، وهو ما يجعلنا متفائلين بشأن ما سيؤول اليه المشهد الدموي الحالي. ولكن لا بد أيضاً من تحري الصلة بين مفهومي "الشخصية" و"الهوية":
الهوية العراقية: تأصيل أم تطييف؟!
الهوية الاجتماعية ليست مفهوماً مطلقاً جامداُ يتراوح بين الغياب الكلي والكينونة الكلية، بل بناء اجتماعي مرن، متعدد الغايات والكينونات، قادر على انجاز تحولاته وتمظهراته بما يتلاءم مع سيكولوجية اللحظة الراهنة. والهوية الاجتماعية بكل أشكالها الفرعية: الوطنية، والعرقية، والدينية، والطائفية، والأسرية، هي بدءاً ضرورة تكيفية ونتاج حتمي لرغبة الفرد بالانتماء لكينونة اجتماعية ما، يستمد منها شعوره بالأمن والمكانة والاحترام، حتى في حالات غياب التنافس بين الجماعات الاجتماعية المتجاورة. كما إن متانة الهوية الوطنية لدى جماعة معينة لا يتناقض بالضرورة مع وجود هويات فرعية متعددة لدى تلك الجماعة، بل قد تنشأ حالة من التكامل بين البعدين الوطني والديني للهوية الاجتماعية مثلاً، كما هو الحال في المجتمع الأمريكي الحالي. وعطفاً على المحور السابق حول نمطي الشخصية العراقية: "الهدمي" و"البنـّاء"، يصعب الجزم أن تصدعاً حقيقياً قد أصاب الهوية الوطنية العراقية بمفهومها الجمعي الشامل. فالإغراء والقسر اللذين يواجههما الفرد العراقي اليوم لدفعه نحو الهرولة خلف هويته الطائفية في ظل تراجع النخبة العقلانية العراقية عن ممارسة دورها التأريخي المعهود، يقابله وعي يومي عميق لديه بأن الطائفية لم تجلب له الا انعدام الأمن وفقدان المكانة وغياب الاحترام وانطفاء المعنى الايجابي للحياة. فالعراقيون بطبيعتهم الشغوفة بقيم الحياة وأسئلة الخلود، لم يكونوا مفتونين يوماً بطوائفهم أو أعراقهم على حساب عراقيتهم أو انسانيتهم الأممية حتى في سنوات الاستبداد والحروب. ومرد ذلك هو التداخل الأسري والعشائري والعرقي والاقتصادي والثقافي بين الجماعات البشرية العراقية إلى الحد الذي أصبحت فيه هويتهم الوطنية هي الملاذ الأوفر حظاً لتحصيل الأمن والمكانة والاحترام. يحتاج الفرد العراقي لهويته الوطنية أكثر مما يحتاج لهوياته الفرعية الأخرى. وإن المحاولات الجارية حالياً لقسره على تغيير هذه المعادلة النفسية الموضوعية قد تنجح مؤقتاً في جرفه الى نقطة التردد والصراع بين مفهومي الوطن والطائفة، إلا إن الجذر المتحضر للشخصية العراقية، ونظرتها الواقعية، وتدينها الهاديء اللااصولي، يجعل على الدوام من هويتها الوطنية مفهوماُ قابلاً للمناورة الدفاعية، والتكيف البارع، وإعادة التشكل، ولو بتمظهرات جديدة تحفظ لها ميكانزماتها السيكولوجية الراسخة. لقد حققت الهويات الاجتماعية الفرعية تناغماً سلمياً وتوازناً نفسياً مستقراً بين وظائفها وأدوارها، ضمن اطار الدولة العراقية العلمانية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، بالاستناد الى ضرورات اقتصادية وديموغرافية تتعلق ببنية المجتمع العراقي المعاصر نفسه. كما كشفت السنوات الأربعة الماضية منذ بدء الاحتلال، إن لهذا المجتمع قدرة استثنائية على مقاومة الموت الاجتماعي المفروض عليه، بالرغم من الغياب شبه التام لإطار الدولة الراعية والمنظمة لحركته البشرية. وبتعبير أكثر تحديداً، إن الهوية الوطنية العراقية مفهوم نفسي – حضاري منجز الى حد كبير بفعل الضرورات المجتمعية الداخلية. وإن محاولة تشظيتها بتكنيكات سايكوسياسية مصطنعة تمارسها شركات السلاح الأمريكية الاحتكارية ومخابرات دكتاتوريات الجوار، ضمن رقع جغرافية طائفية أو عرقية متناحرة، سيمنح لهذه الهوية بعداً رومانسياً حميماً، يحفز الجيل الحالي لصيانتها واستعادتها جيوبولوتيكياً لاحقاً، بعد أن انتهى آباؤهم من انجازها سيكولوجياً وثقافياً واقتصادياً.
#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)
Faris_Kamal_Nadhmi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شارع المتنبي في الذاكرة العراقية الجمعية
-
كيف ينظر المثقف العراقي للولايات المتحدة الأمريكية؟ - تقصي م
...
-
وداعاً -عبدالله مهدي الخطيب- آخر فلاسفة الشيوعية في العراق
-
قلق الموت لدى الأستاذ الجامعي العراقي – دراسة ميدانية
-
مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس) 3 -
...
-
مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس) 2 -
...
-
(مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس)(1 –
...
-
عقدة (الطابور) في الشخصية العراقية
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية(دراسة ميداني
...
-
هل كان (مؤيد نعمة) معالجاً نفسياً؟
-
الهوية الاجتماعية العراقية...إلى أين؟
-
يحملون الجنسية العراقية ويسكنون في العراء وتحت الجسور
-
سيكولوجية (الحصة التموينية) لدى فقراء العراق
-
الثقافة الدستورية لدى سكان مدينة بغداد – دراسة ميدانية
-
اللغة البشرية بين فطرية جومسكي وبنيوية بياجيه
-
الـدمـاغ والـعـقـل:جدلية متجددة
-
سيكولوجية الحب الرومانسي لدى المرأة
-
الاضــطرابـات الـنـفـســية الناجمة عن استخدام الحاسوب والانت
...
-
الثقافة العلمية والصحة النفسية للمجتمع
-
ثقافة السلاح تنخر شخصية الطفل العراقي
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
المزيد.....
|