بعد مداولات ومحاولات مطولة استمرت أسابيع , ربما اشهر, أعلن عمال شركة نفط الشمال في كركوك عن تأسيسهم لمجلس( سوفيت) عمال شركة نفط الشمال ليدشنوا بذلك بداية مرحلة نضالية جديدة ليس في واقع ومستقبل الحركة العمالية وحسب بل وفي مجري تطور مجمل الأوضاع السياسية في العراق.
إعلان هذا المجلس ليس حدثا عاديا في الأوضاع العراقية الراهنة , وانه يحمل في طياته معان نضالية عميقة ويجسد تطلع الطبقة العاملة نحو الانتقال من مرحلة نضالية محددة إلى مرحلة أرقى تتمثل في توحيد الطبقة العاملة لصفوفها المليونية ومواجهة مختلف تيارات وحركات البرجوازية ليس فقط للدفاع عن مصالحها الآنية , بل ولنزوعها للوقوف بوجه المحاولات الراهنة للحركات البرجوازية لبلورة وتشكيل سلطتها الاستبدادية الرجعية وكذلك من اجل طرح وتفعيل بديلها السياسي المتمثل بالحكومة الاشتراكية .
لتوضيح أهمية الحدث سنحاول إلقاء نظرة سريعة على هذا الحدث من خلال الإشارة إلى بعض المحاور الرئيسية التي تعكس ما أشرنا إليه.
أول ما يثير الانتباه هو إن قيام هذا المجلس جاء في مدينة كركوك النفطية والصناعية والتي تتعرض منذ عقود طويلة إلى محاولات مختلف الحركات القومية الرجعية العربية والكردية والتركمانية لإضفاء طابع قومي محدد عليها واذكاء روح العداء والانعزالية القومية بين سكانها المنتمين إلى قوميات متعددة . في مقدمة هذه الحركات نظام البعث الدموي الذي مارس سياسة استبدادية ووحشية وخاصة ضد سكانها من غير العرب تجسدت بطردهم من شركة النفط وترحيلهم القسري إلى مناطق أخرى من العراق واحلال سكان مناطق أخرى من العراق محلهم, يضاف إلى ذلك حرمان عمال الشركة , كما هو حال بقية سكان العراق , من ابسط الحقوق السياسية والمدنية. ومن جهة أخرى استفادت الأحزاب القومية الكردية والتركمانية من سياسة البعث الشوفيية لتمارس هي الأخرى سياسة العداء والانعزال القومي التي لا تختلف في جوهرها عن سياسة البعث من حيث عدائها للإنسانية وتأثيراتها الضارة علي نضال الطبقة العاملة . إن القاسم المشترك لسياسة البعث والحركات القومية المذكورة هو طمس واقع المواجهة الحقيقية بين نظام البعث الدكتاتوري والطبقة العاملة بكل تركيبتها القومية ومحاولة طمس واقع التناقض العدائي بين مصالح عمال القومية الواحدة أو الشعب الواحد ووحدة تلك المصالح بين عمال جميع الأمم والشعوب والعمل من خلال ذلك علي تقسيم الطبقة العاملة بين مؤيد للنظام ولإحدى الحركات القومية الرجعية , وبالتالي خلق مصاعب جمة أمام توحيد نضال العمال ضد النظام البرجوازي والحركات الرجعية الأخرى .
جاء إعلان العمال لتأسيس مجلسهم صفعة قوية لتلك السياسة المقيتة واللاإنسانية وليؤكد مرة أخرى إن الوحدة الطبقية هي الأساس الواقعي الوحيد الذي يربط مصير ونضال العمال معا ضد الطبقة البرجوازية وان تقسيم أفراد المجتمع وتعريفهم على أساس انتماءاتهم القومية أو الدينية والطائفية ليس إلا سياسة رجعية تعتمدها البرجوازية لتشتيت الطبقة العاملة والسيطرة عليها.
إضافة إلى ذلك , يمثل تشكيل هذا المجلس ضربة قوية لاعداء الحركة الاشتراكية للطبقة العاملة من منظري وساسة البرجوازية بمختلف تلاوينهم الديمقراطية والقومية والإسلامية و كذلك قوى اليسار التقليدي التي تلقت أحداث انهيار الكتلة الشرقية ونموذج رأسمالية الدولة الذي كان سائدا في الكتلة الشرقية لتصورها مع البرجوازية العالمية وكأنها انهيار للشيوعية والأهداف التحررية للطبقة العاملة , وفي العراق استغلت تلك القوى استبداد نظام البعث الدموي ووحشيته تجاه الطبقة العاملة وإنكاره لكل حقوقها الأساسية وتعامله بالحديد والنار مع احتجاجاتها ونضالاتها وفرضه التراجع عليها واستغلت كذلك الآثار المدمرة لسياسة الحصار الوحشية عليها, لتخلص بنتيجة مفادها إن عصر نضال الطبقة العاملة من اجل إسقاط النظام الرأسمالي وتنظيم المجتمع الاشتراكي قد فات أوانه وان على العمال , في احسن الأحوال, إن يقنعوا بما ترضى به الحركات البرجوازية لهم من صدقات تمن بها عليهم . إن تلك القوى توحدت مع النظام الفاشي في عدم الاعتراف بوجود الميل الاشتراكي والشيوعي في صفوف الطبقة العاملة, بل و في إنكار نفس وجود الطبقة العاملة في العراق كما كان البعث وساسة الحركة القومية الكردية يدعون . من هنا فان تشكيل هذا المجلس العمالي الذي يأتي امتدادا لحركة مجالس آذار 1992 في كردستان يؤكد بطلان تلك الادعاءات التافهة ويؤكد حقيقة كون وجود ونضال الميل الاشتراكي في صفوف الطبقة العاملة رغم الاستبداد البعثي الذي استمر لعقود عديدة .
إن تشكيل المجالس العمالية تؤكد إن الطبقة العاملة وبالذات الميل الاشتراكي هي مدركة تماما لمصالحها المستقلة عن مصالح الحركات والأحزاب السياسية الأخرى وإنها يجب إن تعمل بشكل مستقل عن تلك الأحزاب والتيارات , ليس هذا وحسب بل إن ذلك يعني إنها تجسد ذلك المستوى من الوعي بأشكال تنظيمية جماهيرية هي في الواقع بديلها للسلطة السياسية بوجه بدائل البرجوازية المتعددة. إن وعي الطبقة الاجتماعية بأهدافها السياسية والاقتصادية , هي مقولة مجردة إلى حد كبير , وان ما يجسد هذا الوعي بشكل ملموس هو الأشكال والأدوات التنظيمية التي يتم تشكيلها لتحقيق تلك الأهداف. بمعني آخر إن ما يجسد وعي الطبقة العاملة بمصالحها المستقلة عن البرجوازية والمعادية لها هو , إضافة إلى حزبها السياسي , منظمات العمال الجماهيرية . هذا ما أكدته النظرية الماركسية والتجارب الطويلة للحركة العمالية والشيوعية العمالية على مدى اكثر من قرنين .
إن المجالس التي تم تشكيلها في شركة نفط الشمال و حي الأسرى وحي الحرية في كركوك , ليست, أساسا مجالس بلدية أو منظمات لادارة شؤون منطقة محددة أو مصنع محدد ولتقديم الخدمات لسكانها, إنها ليست جمعيات تعمل على تحسين الأوضاع المعيشية لأعضائها عن طريق مطالبة السلطات العليا أو رفع الشكاوي وعرائض التظلم . فهذه الادعاءات والتفسيرات تطلقها أحزاب البرجوازية المختلفة لتحديد ولجم دور هذه المنظمات العمالية والجماهيرية ولافراغ محتوى وجوهر مهامها النضالية .
إن المجالس العمالية والجماهيرية في المراكز العمالية والأحياء السكنية هي أولا أطر تنظيمية لتوحيد صفوف الطبقة العاملة والجماهير المحرومة التي يرتبط حياتها بتطور نضال الطبقة العاملة بوجه كل الحركات والأحزاب البرجوازية وإنها أدواتها التنظيمية التي تمارس من خلالها صراعها ضد كتل وتيارات البرجوازية الحاكمة. وبما أن الميل الاشتراكي , بوصفه الجزء الأكثر وعيا في صفوف الطبقة العاملة , يرى بان تحرر العمال من سلطة البرجوازية لا يتحقق إلا باستلام السلطة السياسية, فان هذه المجالس هي الوسيلة التنظيمية الجماهيرية بيد الطبقة العاملة لاستلام السلطة السياسية وهي من جهة أخرى نموذج لشكل السلطة التي تقيمها في المستقبل , إن كون مسألة حسم السلطة السياسية كمعركة محددة تتوقف على جملة من المسائل الأخرى لا يغير من هذه المسألة شيئا. والي أن يحين ذلك الوقت فان هذه المجالس يجب أن تكون أدوات فعالة لتحقيق المطالب اليومية للعمال والكادحين , يجب أن تدير شؤونهم اليومية في المعامل والأحياء السكنية بوصفها السلطة المحلية في محيط نشاطها وان تعمل على تقوية وتعبئة الحركة الجماهيرية حولها وفرض نفسها كجزء أساسي وحيوي من الحياة اليومية للعامل والمواطن.
من اجل فرض هذا الواقع يجب أن تتحول المجالس إلى حركة جماهيرية واسعة وتعمل على إقامة هذه المجالس في كل أو معظم المعامل والمراكز العمالية والأحياء السكنية وفي كل مدن ومناطق العراق و توحيدها في هيكل تنظيمي رئيسي لكل مناطق ومدن العراق ," كالاتحاد العام للمجالس العمالية والجماهيرية ” أو "المؤتمر العام للمجالس العمالية والجماهيرية" , يجب إقامة علاقات وروابط قوية ومتينة مع باقي المنظمات الجماهيرية الأخرى وتبادل الخبرات والإمكانات معها , من الضروري جدا دعوة منظمات واتحادات العمال والنقابات العالمية لزيارة العراق من اجل الاطلاع عن كثب عما يجري في المعامل والمراكز العمالية والاطلاع علي فعاليات والية عمل هذه المجالس ومطالبتها بأشكال الدعم المختلفة ومنها الاعتراف الرسمي بها على الصعيد الدولي بوصفها ممثلة لعمال العراق وان تعمل كذلك,في الداخل, على سحب الاعتراف الرسمي بهذه المجالس ليس من خلال المفاوضات مع السلطات الأمريكية بل , كما أشرت, من خلال فرض نفسها كجزء أساسي من واقع الحياة اليومية للعامل والمواطن.
جبار مصطفى ( جلال محمد)
13/8/2003