كاتب أردني
مع أن المياه تعتبر أساس الحياة، وهي نعمة إلهية تتوفر مجانا للإنسان في الطبيعة، إلا أن بني البشر تعاملوا مع المياه بإهمال، إما من خلال الاستنزاف المستملر وإما من خلال التلوث وأخيرا من خلال تحويل المياه إلى سلعة يمكن بيعها وشراؤها، والأخطر من ذلك يمكن تملكها من قبل مجموعة من الشركات، وذلك تطبيقا لاتفاقية الخدمات البيئية التابعة لمنظمة التجارة العالمية. وبالفعل دخل العالم الآن في زمن العولمة الاقتصادية في عهد تملك المياه.
كان تضمين المياه كأحد أنواع الخدمات التي ستضاف إلى لائحة اتفاقية الغاتس لتحرير التجارة في الخدمات في مؤتمر الدوحة 2001 أحد أهم النتائج السلبية والمثيرة للقلق في المؤتمر حيث أصبحت الموارد المائية بموجب هذا البند "خدمة" وسلعة خاضعة لمنطق السوق ومنطق العولمة.
ويعني ذلك فتح خدمات المياه للقطاع الخاص، بما يعني تشغيل وإدارة المرافق العامة لمياه الشرب ومحطات تنقية المياه وتسعير المياه وخصخصة شركات المياه وجعل السوق ومنطق الأسعار هو الذي يقرر طريقة توزيع المياه. وتصل قيمة التجارة والاستثمار في قطاع المياه في العالم حاليا 300 بليون دولار.
ومع أن الخدمات المائية قد تمت خصخصتها في الكثير من الدول وخاصة الصناعية، إلا أن اسواق الدول النامية تبقى هي الهدف الرئيسي للشركات المائية الكبرى في العالم نظرا لسعة هذه الأسواق والعدد الكبير للمستهلكين، وأهمية المياه كمصدر رئيسي للأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في هذه الدول، وبالتالي النفوذ الاقتصادي والسياسي للشركات التي تحصل على حقوق إدارة الخدمات المائية فيها في المستقبل. ومع وجود المياه كأحد بنود الخدمات في اتفاقية الغات فإن إسواق العالم الثالث قد انفتحت أمام الشركات العالمية على مصراعيها وأهم شركتين في هذا المجال هما سويز وفيفندي الفرنسيتان.
ويقدم المجلس العالمي للمياه والبنك الدولي دعما لفكرة تخاصية المياه، بحجة الإدارة الأفضل والأكفأ في حماية الموارد المائية الشحيحة، ولكن الحقيقة هي أن شركات الإدارة المائية في العالم تعتبر من اسوأ الشركات في معيار السجل البيئي والاجتماعي. ففي بريطانيا قامت وكالة حماية البيئة بعمل لائحة بأسوأ عشر شركات من الناحية البيئية، وظهرت سبع شركات للمياه في هذه القائمة، ومثل هذه الشركات هي التي سوف تؤتمن على مصادر المياه الشحيحة في العالم الثالث وعلى ايصال المياه لبلايين الفقراء والعطاشى في العالم.
وعلى سبيل المثال ، فرض صندوق النقد الدولي على بوليفيا في أوساط التسعينات ضرورة تخصيص الشبكة المائية في الدولة لحصول على قرض جديد من الصندوق، وبالفعل تم تخصيص الشبكة وكانت النتيجة مئات المظاهرات والمسيرات والغضب الشعبي بعد أن أصبح الفقراء غير قادرين على دفع تكلفة المياه بعد أن زادت قيمة الفاتورة بمقدار 20 دولارا في الشهر، وهي حوالي خمس معدل الدخل الفردي في بوليفيا. والأدهى من ذلك أن الشركة أجبرت الناس على دفع قيمة محددة نظير جمع مياه الأمطار عن المنازل، فأصبحت الشركة البريطانية هي صاحبة ملكية مياه الأمطار التي يجود بها الله على عباده. ومع تزايد الاحتجاجات العنيفة انسحبت الشركة البريطانية من إدارة الشبكة بعد أن حققت أرباحها وعادت ملكية المياه للدولة من جديد وأصبحت التجربة واحدة من الأمثلة الكلاسيكية على سوء إدارة الشركات العالمية للمياه في العالم الثالث.
وتعتمد خصخصة موارد المياه على مبدأ "استرجاع الكلفة الكاملة Full Cost Recovery لإدارة المياه، بدءا من الجمع حتى التنقية والتوزيع والصيانة وهذا يعني تلقائيا زيادة اسعار المياه على المستهلك. وهناك نقاش مضاد مفاده أن مثل هذه الإجراءات قد تكون مفيدة من الناحية البيئية ومن ناحية استدامة الموارد لأنها لا تجعل المياه موردا رخيصا أو حتى مجانيا خاضعا للهدر في البلدان التي تعاني من شح المياه بل موردا ثمينا يجب إدارته بفعالية وترشيد، ولكن قبول مبدأ ملكية الموارد المائية للقطاع الخاص غير مقبول. وعلى سبيل المثال، قامت الأردن بتخصيص نصف شركة المياه الأردنية لشركة فرنسية، ولكنها حافظت على ملكية الحكومة للمياه الطبيعية وفتحت التخاصية فقط أمام المرافق المائية مثل محطات التنقية والشبكة المائية الخاصة بالتوزيع كما وضعت أسعارا للمياه تتناسب طرديا مع معدلات الاستهلاك ودعمت ذلك بحملة دعاية وتوعية لترويج أساليب ترشيد استهلاك المياه، وقد يكون ذلك مثالا على سياسة تخصيص ناجحة للموارد المائية.
أما في غانا، والتي يعيش حوالي 60% من سكانها في مستوطنات ريفية عشوائية حول المدن، ويحصلون على أقل من 2 دولار يوميا، فإن ثمن المياه فيها، والذي يعتبره البنك الدولي أقل من قيمة السوق لا يزال أعلى من متناول الغالبية العظمى من سكان غانا وإذا ما طبقت سياسة استرجاع الكلفة المالية الكاملة، فإن هذا يعني كلفة اجتماعية هائلة قد تطيح بالاستقرار السياسي الهش في معظم دول العالم الثالث.
وتشير منظمة اصدقاء الأرض إلى أن البند الاستثنائي حول "حماية البيئة" في اتفاقية الغاتس والذي يسمح للدول بفرض إجراءات تقيد من حرية التجارة لحماية البيئة تضمن فقط الإنسان والكائنات الحية ولا تعتبر أن "الأنظمة البيئية" والمكونات غير الحية في البيئة مثل الأنهار والمياه الجوفية والبحيرات والأراضي الرطبة التي تشكل المصدر الرئيسي للموارد المائية عناصر بيئية يجب حمايتها تحت هذا البند. وبالتالي فإن تشريعات الغاتس تسمح للشركات باستنزاف الموارد المائية من الأنظمة البيئية وتدميرها دون أن تعطي للدولة الحق في تقييد هذه التأثيرات لأنها غير مدرجة ضمن عناصر البيئة التي تسمح الغاتس بحمايتها في شروط معينة واستثنائية وبالتالي لا يحق للدولة فرض تشريعات وقوانين محلية لحماية هذه الموارد المائية الطبيعية المحدودة في كميتها وتوزيعها.
وهناك أيضا عامل الربح، وهو الذي يحرك الشركات العالمية لإدارة الموارد المائية في الدول النامية، وعادة ما يتم حساب احتمالات الربح بطريقة دقيقة، ورسم السياسات وااستراتيجيات الكفيلة بتحقيق هذا الربح، وهذا يعني التركيز في الخدمات على الطبقات الاجتماعية والاقتصادية القادرة على دفع تكلفة خدمة المياه على المدى البعيد على حساب من لا يملكون هذه القدرة وهم الفقراء والمجتمعات الريفية. ولهذا فإن تخصيص الموارد المائيةى يعني منح أفضلية للأثرياء والميسورين ماليا على حساب الفقراء في نوعية الخدمة، وهذا ما يتم تجنبه في الإدارة العامة لمياه من قبل الدولة التي يلزمها واجبها بخدمة جميع المواطنين بلا تمييز بنفس نوعية الخدمات، نظريا على الأقل.
وقدمت منظمة أصدقاء الأرض في أحد إصداراتها ملخصا للسجل البيئي والاجتماعي السئ لثلاثة من أهم وأكبر شركات المياه في العالم وهي فيفندي وشركة السويس وشركة مياه التايمز.
تعتبر شركة فيفندي المنبثقة عن مجموعة فيفندي الإعلامية الفرنسية هي أكبر شركة للخدمات البيئية في العالم، وتتضمن المياه والطاقة وإدارة النفايات والنقل. وقد وثقت منظمة أصدقاء الأرض عدة حالات للرشوة قامت بها الشركة لتسهيل أعمالها. ففي عام 2001 وجدت محكمة فرنسية أحد مدراء فيفندي مذنبا بفضيحة تقديم رئوة لرئيس بلدية ميلانو الايطالية للفوز بعطاء خصخصة المياه في البلدية. كما قامت الشركة عام 1997 برشوة أحد الوزراء الفرنسيين الجدد وهو جان ميشيل بوشيرون بهدف الحصول على أحد العطاءات العامة. ولدى الرشكة أيضا سجل إداري سئ، ففي العام 1995 حصلت على عطاء لتخصيص المياه في بورتوريكو، وخلل سنتين كانت هناك أكثر من 1500 شكوى ضد الشركة، وزاد معدل تسرب المياه من الأنابيب بنسبة 50% وتراجعت حصة الفرد في بورتوريكو من المياه. كما ذكرت الوثيقة العديد من مخالفات التلوث التي تسببت بها شركات أخرى تملكها فيفيندي وتعمل في مجالات الكيماويات وإدارة النفايات.
أما شركة السويس التي أدارت شبكة المياه في بوينوس إيرس العاصمة الإرجنتينية فقد تسببت في رفع أسعار المياه بنسبة 20% بعد التخاصية وفشلت في إصلاح شبكة جمع المياه العادة وكانت النتيجة أن 95% من المياه العادمة في المدينة كان مصيرها التصريف المباشر في نهر ريو ديل بلاتا أكبر الأنهر التي تمر في المدينة. أما في مدينة مانيلا عاصمة الفلبين فقد رفعت شركة السويس سعر المياه بنسبة 50% في نهاية العام 2001. وقد لعبت الشركة ايضا دورا في الرشوة في العالم وثبت عليها رشوة مدير المياه في إحدى مدن جنوب أفريقيا لتأمين الحصول على عطاء إدارة المياه فيها.
أما شركة مياه التايمز البريطانية المملوكة حاليا لشركة ألمانية فإنها واجهت الكثير من الانتقادات بسبب تحالفها مع نظاك سوهارتو القمعي في إندونيسيا في التسعينات وحصولها على غالبية عطاءات إدارة المياه في هذه البلاد ذات العدد الكبير من السكان. وكانت الشركة تعمل في إندونيسيا من خلال شراكة دائمةمع شركة محلية يملكها الإبن الأكبر لسوهارتو. أما في بريطانيا البلد الأم للشركة فقد تعرضت للملاحقة قضائيا بسبب تلويث البيئة 24 مرة ما بين 1996 و 2001 وتم تصنيفها في العام 1999 كأسوأ شركة بريطانية في تلويث البيئة.
أن تملك المياه أصبح الأن أحد النتائج الوخيمة لفلسفة العولمة الاقتصادية وتسليع العالم وفتح أسواق وموارد الدول النامية أمام جشع الشركات الكبرى في الغرب، وفي النهاية سيدفع المواطن العادي في العالم النامي ثمن هذه السياسات.