|
الصلة بين الشعر والسحر 1-2
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 1867 - 2007 / 3 / 27 - 09:11
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
".. والشّعرُ مــن عُقَدِ السّحْـرِ .." (أبو نؤاس) مدخل عُرف د. مبروك المناعي في فضاء النقد الأدبي العربي الحديث بأطروحته الضخمة والمهمة عن تلك العلاقة الملتبسة ما بين الشعر العربي القديم والمال. ففي ما يربو على السبعمائة والسبعين صفحة من القطع الكبير، راح الناقد التونسي يوضح العلاقة بين الشعر والمال ليثبت إن المال له دور كبير في قول الشعر وإحداثه وإبداعه وقد استدل على ذلك بأمثلة من واقع تاريخ الشعراء العرب حيث بين إن الشاعر يمكنه أن يبدع في شعره وقصيدته ويطيل فيها ويحسنها وينمقها ويقوي من جمال أبياتها كلما زاد المال وزاد العطاء. في كتابه الصادر حديثا عن دار الغرب الإسلامي ببيروت بعنوان "الشعر والسحر" يتقدم د. مبروك المناعي خطوة أخرى على طريق التعيين النقدي والدرس العلمي مقتربا أكثر هذه المرة من تخوم شعرنا العربي الحديث. فتغدو أشعار ودواوين بدر شاكر السياب ويوسف الصائغ ومظفر النواب وخزعل الماجدي وآدم فتحي ومنصف الوهايبي ومحمد الغزي ومنصف المزغني ومحمود درويش وأدونيس قيد نظر القارئ ومحط اهتمام الباحث في آليات إبداع شعرنا العربي الجديد استمرارا وربما انطلاقا من جذور تاريخنا الأدبي الموغلة في القدم بقدر ما هي موغلة في الحداثة. ولهذا وحده ان لم يكن غيره، يجب تقريظ هذا المجهود العلمي الأكاديمي وهو يغامر في لعبة النقد.
صلة أم تعالق؟
صرّح كثير من الشّعراء وأهل النّظر في البلاغة والنّقد ومن المشتغلين بالشعر، بوجود صلة نوعيّة بين الشّعر والسّحر، ولكنّ تصريحاتهم لم تتجاوز الحدس في الغالب إلى الدّرس والفحص النقديين، فظلّت هذه الصّلة محتفظة إلى اليوم بطابع باهت المعالم تستوجب محاولة تجسيمه أن يذرع الباحث مجالات علوم عدّة منها علم اجتماع الأدب والأنتروبولوجيا الثقافيّة والّتاريخ الدّيني والتّحليل النّفسي وفلسفة اللّغة والبلاغة والإنشائيّة والسيميائيّة وعلم العلامات ونظريّة الأدب وغيرها. ولقد تساءل توماس غرين (Thomas. Greene) - وهو من أبرز مَن قالوا بشرعيّة البحث في هذه المسألة وبجدارتها بالدّرس وأهميّة النّتائج التي قد تترتّب على ذلك - تساءل هذا الباحث: هل الطّابع "السّحري" أو الطّابع "السّاحر" في الشّعر مجرّد أستعارة وكلام مجازي؟ أم هل له مبرّر بنيويّ ؟ كما تساءل عن مظاهر الائتلاف ومظاهر الاختلاف بين ما سمّاه "النصّ الفتنة" وما سمّاه "النصّ القصيدة"(Le Texte charme et le Texte Poème). ويأتي كتاب د. مبروك المناعي كمحاولة جادة وهامة في هذا السبيل. اذ يحاول إلقاء شيء من الضّوء على مسألة هامّة بعيدة الغور ويعقد عنوانه صلةَ تعالق بين ظاهرتين كلتاهما حولها هالة من العجب وكثافة من ضباب دلالي. إنّ العلاقة بين الشّعر والسّحر مسألة متشعّبة، كما يصرح بذلك المؤلف في صدر كتابه، وبقول إنّ عمله هذا هو سعي نظري إلى استكناه الظّاهرة الشّعريّة يجعل البحث في الصّلة المفترضّة بين الشعر والسحر غايته ضمن المجال الشّعري العربي، وإن كان يتوسّل برؤًى نقديّة معاصرة، وهو نظر موضوعي في ظاهرة ذاتية يستخدم خلاصات النّقد اللّساني ويستأنس بنتائج مباحث العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. يوافق المؤلف الآراء والوقائـع القائلة أنّ معطيات كثيرة في الشّعر ودلائل متنوّعة تبيح لنا فعلاً أن نرجع فروعه إلى أصول تعبّديّة، سحريّة-دينيّة، موغلة في القدم بعيدة الغور في التّاريخ، وأنّنا، كما يقول د. المناعي، إذا قلّبنا ثنائيّة "الشعر" و"السّحر" على مختلف جوانبها ظفرنا بعناصر دالّة دلالةً لافتة للانتباه على متانة هذه العلاقة، ومن بين هذه الجوانب جانب الاشتقاق. ويعرج الباحث في طريقه على تلك النظريّة الاجتماعيّة التي بإمكاننا اليوم أن ننعتها "بالكلاسيكيّة" لأنّ مجالها الزّمني انتهى بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقريبًا، والتي قسّمت تاريخ الاجتماع البشري - من حيث مقاربة العالم والنّظرة إلى الكون - إلى ثلاثة عصور: عصر السّحر وعصر الدّين وعصر العلم، وتصوّرت تلك النظرية أنّ هذه العصور حلقات حضاريّة كبرى تتعاقب تعاقبًا "تطوّريًّا" وينقض بعضها بعضًا. ولكنّ نتائج هذه النّظريّة فنّدتها، في علم الاجتماع الحديث نظريّة ثانية قالت بتعايش هذه الظّواهر في جميع العصور وبتقاطع نفوذ كلّ منها بنسب تقوى وتضعف تبعًا لأحوال المجتمعات. وقد تبيّن في العصر الحديث أيضًا، والعهدة على مؤلف هذا الكتاب الذي نعرض له اليوم، أنّ العلم ليس نقيضًا تامّا للسّحر، بل إنّهما يتماسّان ويتنافسان - وإن اختلفت الوسائل - في الطّموح إلى اكتناه غوامض الكون والإنسان سعيًا إلى التحكّم فيها. كتاب "الشعر والسحر" يبين بجلاء لكل من يتناوله إنّ الذي يتصدّى اليوم إلى البحث في الشّعر بحثًا نظريّا لا بُدّ له من أن يستخدم نتائج اللّسانيات - وهي نتائج ذات صبغة علميّة وصفيّة كان البحث المؤدّي إليها مستندًا إلى نظرة لا تقول "بقداسة" اللّغة و"نجاعة" الكلمة واتّحاد اللّفظ والمعنى. ويضعنا الباحث منذ البداية أمام ترسيمة نقدية تظل مهيمنة على جزء كبير من مخططه الدلالي. فيشير إلى أن في البحث النّظري والنقدي في الشّعر، حتّى في خضمّ ازدهار البحث اللّساني وبعده، مشادّةً واضحة وازدواجا - في التّصوّر وفي الخطاب معًا - بين نمطيْن من التّناول ومن التّفكير نمط "وصلي" ونمط "فصلي": النّمط الوصلي يرى أنّ اللّفظ لا يحيل على شيء خارجه بل يتماهى بالشّيء تمامًا فيصير وإيّاه واحدًا ومن ثمّ يفقد طابعه الاعتباطي التّواضعي وتنتفي المسافة بينه وبين المرجع الذي يحيل عليه فإذا هو هو. أمّا النّمط الفصلي فيقول باعتباطيّة العلامة اللّغويّة وبطابعها التّواضعي وبكون التّمايز بيْن الكلمة ومرجعها أمرًا مفروغًا منه. ويلاحظ ناقدنا في هذا الصّدد أنّ هذيْن النّمطيْن من النّظر ليسا متعاقبيْن تاريخيّا أيضًا - إلاّ في الغالب العامّ - وإنّما هما متعايشان متشادّان: فبين التّفكير الوصلي المستند إلى تصوّر أسطوري سحري والتّفكير الفصلي الصّادر عن تصوّر لساني توجد حينئذ مشادّة، في النّظر إلى مكانة اللّغة في العمل الشّعري وإلى وظيفتها، هي مظهر من مظاهر مشادّة أوسع، مجالها الحضارة الحديثة، بدأت تزدهر منذ القرن السّابع عشر واقترنت بطلائع الحركة الرّومانسيّة في الفكر الغربي ثمّ العالمي، ولكنّها وُجدت منذ اليونان وكان ظهورها في الثقافة العربيّة وفي النّظر إلى الشّعر العربي منذ أواخر الجاهليّة وبدايات التّاريخ الإسلامـي. ويأتي لنا بأمثلة على ذلك مثــل قول الشّاعر أبي ذؤيب الهذلي (تـ. 28 هـ) في أواخر الجاهليّة أو في صدر الإسلام معزّيًا بعض النّساء: لَوْ أنّ مِدْحةَ حيٍّ أَنْشَرتْ أحدًا/ أحْيَا أُبوّتَكِ الشُّمَّ الأَماديــحُ يثبت الوصل والفصل معًا، إذ هو يرشح باعتقاد قديم في أنّ الشعر، شعر المدح، يحيي الميت، ولكنّه يعبّر عن وعي مؤكّد في حاضر الشّاعر باستحالة الأمر أي بكون "النّجاعة" المرجوّة من قول الشّعر (المدحي) على البشر غير حاصلة ضرورة :"فخلافا للفكر السّحري الذي يلغي المسافة بين الكلمة والشّيء يوجد حينئذ تقليد يفصل كليْهما عن الآخر، وهو تقليد يبدو اليوم، بحسب الدكتور مبروك المناعي، مهيمنًا. ولكنّ ازدهار النّظريات النّقديّة المستندة إلى الأساطير وإلى السّحر، بشكلٍ من الأشكال، خلال القرنيْن الماضييْن يبدو دليلاً على أنّ هذا الفكر الفصلي لم يقض تمامًا على نقيضه". ولكن في الوقت نفسه يعترف الكاتب إنّه يصعب - في دراسة الشّعر ومحاولات تشخيص الشّعريّة - تحديد نتائج هذه المشادّة وهذا الصّراع المستمرّ بين المقاربة الموضوعيّة والمقاربة الذّاتيّة، اذ يعتقد أنّه صراع مفيد ملائم لطبيعة الظّاهرة الشّعريّة من حيث كون الشّعر خطاب إثارة وفتنة يقوم على الكشف والإخفاء معًا، ومن حيث كونه تقنية لغويّة من إنتاج نمط من الوعي غامض معتم: ومن ثَمَّ يظلّ أمر تحليل بنيته اللّغوية قاصرًا عن شرح جميع غوامضه، ذلك أنّ "كلّ إنتاج جدير بالاهتمام الجمالي ذو نكهة خاصّة به يحاول النّاقد جاهدًا وصفها بواسطة حشد من النّعوت، مستعينًا في ذلك بالأسى الناعـم والغربة المتوحّشة أو بالعظمة الفاتنة الوَقور، إلاّ أنّ هذه الإجراءات التّحليليّة، كما يحذرنا الباحث، ينبغي أن لا تمنع عنّا رؤية الطّابع الفريد الغامض لنكهة لا سبيل إلى إدراك ملامحها الخاصّة ووحدتها الفعليّة اعتمادًا على الوصف اللّفظي وحده ومجرّد حشد النّعوت" . وبالرّغم من أنّ قسمًا هامًّا من الشّعر القديم اقترن بالتّعاويذ والعزائم فمن الثّابت على حد زعم المؤلف، أنّ الشّعر - على ما نعرف منه اليوم - قد اختلف عنها وبان. ولعلّه من المجدي البحث في نقاط الائتلاف ونقاط الاختلاف بين السّحر والشّعر والنّظر في نوعيّة العلاقة بينهما: أهي تاريخيّة فحسب؟ أمْ تاريخيّة وأونطولوجيّة معًا أي قائمة في طبيعة كلتا الظّاهرتيْن بشكل يكاد يوحّد بينهما في الماضي ويعسر معه التّمييز النّهائيّ في الحاضر، لاسيما في ما بين الشعر الغنائي والسّحر اللّفظي؟ وإذا كانت الصّلة تاريخيّةً فحسب ففيمَ يختلف الشّعرُ عن أصله؟ إنّ التّراث الثّقافي العالمي والعربي والتّراث الشّعري العالمي والعربي يحظيان، في اعتقاد المؤلف، بأهميّة بالغة في دراسة هذه المسألة. فقد كشفت المباحث التّاريخيّة والأنتروبولوجية عن أنّ صيّاد العصر الحجري كان يرسم على جدران الكهوف رسومًا ويصوّر تصاوير تمثّل الطّرائد وهي جريحة أو قتيلة بسهامه، وأنّ أصحاب العزائم كانوا يصنعون الرّقى والتّعاويذ لإشفاء المرضى أو يعالجون إصابات الصّرع باستنفار الجنّ، وأنّ المحاربين كانوا يصنعون دمًى من شمع وغيره يمثّلون بها أعداءهم ويغرزون فيها قلامة أظافرهم ويذيبونها في النّار كي ينتصروا عليهم، وأنّ العشّاق كانوا يكرّرون على رُقًى يشربونها عبارات ذات "نجاعة" خاصّة كي يحظوا برضى من يحبّون، وأنّ المزارعين كانوا يهرقون الماء على الأرض لضمان نزول المطر… وكان العرب إذا أصاب إبلهم العرُّ والجرب يكوون السّليمَ منها ليذهب العرُّ عن السّقيم، ويعلّقون الحلي والجلاجل على اللّديغ ليفيق، ويفقؤون عين الفحل إذا بلغت إبل أحدهم الألف يدفعون عنها بذلك الغارة والعيْن، ويوقدون النّار خلف المسافر الذي يكرهون رجوعه، ويضربون الثّيران إذا امتنعت البقر عن الماء يقولون إنّ الجنّ تركب الثّيران فتصدّ البقر عن الشرب، ويحدفون سنّ الصّبي إذا سقطت في عين الشّمس ويقول الواحد منهم : أبدليني بها أحسن منها، ويعقدون السّلْعَ والعُشَرَ في أذناب الثّيران ويُصعدونها في الجبال يستسقون بها السّماء، وكان عشّاقهم يشقّ الواحد منهم ثوب حبيبته وتشقّ هي ثوبه كي يدوم حبّهما ولا تحول دونه الحوائل أو يذكر اسم حبيبته إذا خدرت رجله كي يزول خدرها… هذه الممارسات نقل الشّعر القديم منها أمثلة صالحة من بينها قول النّابغة الذبياني (ت. حوالي 600 م) عن الأفعى: يُسهَّدُ من ليْلِ التّمامِ سليمُها/ لحَلْي النّساءِ في يديْهِ قعاقِعُ وقول الأعشى (تـ. 7 هـ) في تشبيه نفسه: لَكالثّورِ والجنّيُّ يركبُ ظهرَه/ وما ذنبُهُ أنْ عافتِ الماءَ مَشْرَبَا وقول سحيم عبد بني الحسحاس: فكم قد شقَقْنا من رداءِ محبَّرٍ / ومن بُرقعٍ عن طَفلةٍ غير عانسِ/ إذا شُقّ بُردٌ شُقَّ بالبُرد مثلُه/ دَواليْكَ حتّى كُلُّنا غَيْرُ لاَبــسِ وقول بشّار (تـ. 167 هـ) : إذا خدِرتْ رجلي شَفيتُ بذكرها / أذَاها فأَهْفوا باسمها حين تُنـكَبُ . وقد ارتأى توماس غرين في مقام ذي صلة بما الباحث التونسي بصدده أنّ المشترك بيْن مثل هذه الممارسات أنّها تتضمّن أعمالاً ترمي إلى أهداف حيويّة وتكمن وراء كلٍّ منهـا مطامح ورغائب تتوسّل بالعزم السّحري إلى تحقيق ما تصبو إليه. ولا يهمّه هنا ما تنقله الثقافة القديمة - بما فيها الشّعر - من الممارسة السّحريّة مطلقا بقدر ما يهمّنا ما تحتفظ به من أعمال دالّة على صرف الشّعر في الغايات السّحريّة ومجسِّمة للطّابع السّحري للفنّ عامّة وللصّلة بين الشّعر والسّحر خاصّة. وينطلق اهتمام صاحب "الشعر والسحر" بهذا الأمر من افتراضين اثنين: افتراض تاريخي إجماله أنّ الشّعر ربّما كان متحدّرًا من السّحر نابعًا منه، وافتراض أنطولوجي مؤدّاه أنّ الصّلة بينهما قد تكون ماثلة في طبيعة العمليْن أصلاً وأنّ بين الظّاهرتيْن تقاطعًا مثيرًا قد يكون ما في الشّعر من "سحـر" وما في السّحر من "شعر". وقد قاده في الإقدام على هذا البحث كما يثبت ذلك في الصفحة 15 من الكتاب أنّ قراءة النّصوص الكبرى في الشّعر ونقده والنّصوص الكبرى في أنتروبولوجيا الفنّ تكاد تلغي الفواصل بين الظّاهرة الشّعريّة والظّاهرة السّحريّة وتجعل القارئ يدلف بسهولة من إحداهما إلى الأخرى : ذلك أنّ موادّ السّحر اللّفظي وإجراءاته قريبة جدًّا من موادّ الشّعر وإجراءاته، وأنّ الخطابيْن البلاغي والنّقدي قد استخدما - في الماضي وفي الحاضر - موادّ السّحر وإجراءات السّاحر في الحديث عن موادّ الشّعر وإجراءات الشّـاعر. ويقتبس من د. جابر عصفور رأيه أنّ غاية الشّعر التّأثير وأنّ البداية الأولى للتّأثير هي تقديم الحقيقة تقديمًا يبهر المتلقّي ويَبْدَهُهُ، وذلك يتمّ بضرب بارع من الصّياغة "ينطوي على قدر من التّمويه تتّخذ معه الحقائــق أشكالاً تخلب الألباب وتسحـر العقول" ، وبدأ جان كوهين (Jean Cohen) كتابه "الكلام السّامي بقوله : "إنّ الشّعر قوّة ثانية للكلام، وهو نفوذ من سحر وخلب تهدف الشّعريّة إلى اكتشـاف أسراره…" ولئن كان من الممكن حمل مثل هذه الأقوال على المجاز فإنّها تفتح الممارستيْن بعضهما على بعض وتغري بإمكان أن يكون للمجاز مستند من نواة حقيقة جديرة بالدّرس. على أن مبروك المناعي ينبهنا في سياق مماثل إلى ضرورة تحسس أن ما هو أخطر من هذه الأقوال هو قول الشّعر عن نفسه وقول الشّاعر عن الشّعر إنّه "سحر" لأنّه قول صادر عن منبر مختلف، نابع من داخل الظّاهرة الشّعريّة، فهو لذلك أبعد، في رأينا، مدًى وأعمق دلالة. فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني أنّ الشّاعر ربيعة الرّقــّي (ت. 170هـ) جاءته امرأة فقالت: تقول لك فلانة إنّ بنت مولاتي محمومة. فقال: اكتبْ لها يا أبا بشر هذه العُوذة أي التعويذة: ثِفُوا ثِفُوا باســم إلاهي الذي/ لا يعرضُ السّقمُ لمَنْ قد شَفَى / أعيذ موْلاتــي ومولاتَــها / وأمَّها بِعُوذَةِ المصطفَـــى/ مِنْ شرِّ ما يعرضُ من عِلــّةٍ/ في الصّبح واللّيلِ إذا أَسْدَفَا (1) وقال أبو نواس (تـ. 198 هـ) : وليْلٍ لنا قدْ جاوزَ في طولِه القَدْرا / كَشفْنَا لَهُ عنْ وجْه قيْنتِنَا الخِدْرَا / فَولَّى بِرُعْبٍ قبْلَ وقتِ انتصافهِ / كأنّا أَلَحْنَا عند ذاكَ له الفَجـْرَا/ وأقْبلَ صُبْحٌ قبْلَ وقتِ مجيئـهِ/ فأدْبَرَ مَرْعوبًا وقد كُسِيَ الذعْرَا/ وظــنّ بأنّ اللّه أحدثَ بعدَهُ/ ضياءً منيرًا أو قَضَى بعده أمْرَا/ فبتنا بلاَ ليْلٍ وقمْنَا بلا ضُحًى/ كأنّا نصبْناها لِذاكَ وذا سِحْرَا (2). ولئن خفف أبو نواس في قوله هذا من إجراء الشّعر "السّاحر" وليّن حِدّة الصّورة المعجزة التي أحدثها للقيْنة بالشّعر بواسطة التّخييل "الظنّي" بأنّ اللّه هو فاعلُ ذلك وبواسطة التّمويه بالتّشبيه في عجز البيت الأخير "كأنّا نصبناها… سِحْرًا" - وذلك لإنقاذ فعل التلقّي من الإرباك أو من سوء التّأويل - فإنّ قوله الآخر في جارية كان يتعشّقها: فمازلتُ بالأشعار في كلِّ مَشْهَدٍ/ أليّنُها، والشّعرُ مــن عُقَدِ السّحْـرِ/ إلى أنْ أجابتْ للوصال وأقبلتْ/ على غَيْر ميعادٍ إليَّ مع العَصــْر(1) يكتسي عند المناعي أهميّة بالغة لكونه قد أفضتْ فيه، وبه، التّجربة الشّعريّة ذاتها إلى الممارسة السّحريّة، وانفتحت فيه، وبه، على حرَم السّحر وأسراره وعجائبيّته كوّة لطيفة وإنْ كانت - مع الأسف - سرعان ما انغلقت: فقد قال أبو نواس في هذا الكلام ما إنْ أردنا فهمه وتوضيحه وجب علينا أن نسلك إليه مسالك وعرة متشعّبــة سنبدأ بأقربها وهو الّلغة، وذلك بعد تمهيد نراه ضروريّا هو المقارنة بين العزميْن السحري والشعري. على أن البعد اللغوي المتمثّل في تقارب الأصول الاشتقاقيّة يمكن أن يكون منطلقًا للنّظر في أبعاد أخرى جديرة بالدرس أهمّها الاشتراك أو التقارب الشديد في بعض المفاهيم الأساسيّة والأسس النظريّة التي يلتقي فيها التصوّران والإجراءان... إلى هذا ينضاف ماله صلة بالوسائل والممارسات والأهداف والغايات وغير ذلك ممّا ستتولّى فقرات هذا البحث تفصيله. وقد كان المنطلق، بالنسبة لباحثنا، في اختيار مدوّنة نصوص الشواهد الكفيلة بتجسيم فكرة البحث، اعتماد الشعر العربي القديم، ولكنّ صلاحيّة أساس الفكرة جعلته نوسّع دائرة التمثيل والتشخيص كي تشمل الشّعر الحديث أيضًا. كما أنّ البعديْن التاريخي والأنطولوجي للمسألة قد أعزياه، ذات لحظة من لحظات البحث، بأن يبحث لأوّلهما عن دعم في الشّعر القديم ولثانيهما عن تأييد في الشّعر الحديث. غير أنّ ما أفضى به إليه النّظر من تداخل البُعدين وتكاملهما صرفنا عن التصوّر الأوّل فتداخل في تجسيم فكرة البحث، تبعًا لهذا، قديمُ الشّعر وحديثُه وامّحت بينهما الحدود، لاسيما في ما سمّاه "التقارب الأنطولوجي".
العزم السّحري والعزم الشعري
ليس المقصود بلفظ "العزم" في هذا المقام مجرّد الطموح إلى إحراز شيء أو إيجاده بعد عُدم أو إحضاره بعد غيبة أو صرفه عن وجه إلى وجه، وإنّما هو أكثر من ذلك: إنّه التعبئة النفسيّة الكبرى والتركيز الذهني الحادّ الصّادر عن إيمان لا يكاد يداخله شكّ في قدرة الذات على التحكّم في الأشياء والذوات والظواهر وإجبارها على الامتثال لأوامر صارمة تحرّكها رغبة عارمة في أن يكون الشيء ما نريد أن يكون أو في أن يدخل حيّز تأثيرنا ودائرة نفوذنا. على أنّ الأشياء والظواهر والذوات قابلة - في العقيدة السحريّة وفي التصوّر الشعري معًا - لأن تكون ما نريد أن تكون وأن تشبه ما نريد أن تشبه وتسلك ما نرغب في أن تسلكه من صنوف السلوك، شريطة أن تكون للإنسان معرفة دقيقة بالوسائل والإجراءات الكفيلة بحملها على ذلك : أي أنّ للعزم - في العمل السحري أو في العمل الشعري - "لغة" ينبغي أن يتكلّمها واحتياطات يجب أن يحتاط بها، كما أنّ له "سلاحًا" ترتهن به نجاعته هو، بالنسبة إلى الشّعر والسّحر اللفظي، كثافة العبارة لا غير. ذلك أنّه من خصائص أسلوب الفتنة الهادف إلى تغيير وضع مّا، ودائما مع مبروك المناعي، أن يعوّل على نجاعة الملفوظ: فعندما تكون غايتنا أن نفتن وأن نثير وأن نلقي بكلام قابل لأن يتحوّل إلى أحداث وأشياء، فإنّنا نفضّل في اللفظ كلّ المظاهر التي تمنحه حضورًا كثيفًا. وقد أضحى من شبه المسلّم به اليوم حسب المؤلف، أنّ الخطاب الشعري قد نشأ - في نطاق الثقافة البشريّة عامّة - باعتباره أداة من أدوات العزم، وأنّ الشعر لم يكن في أصل نشأته في عصور البشريّة الأولى تعبيرًا عن الجمال المحض أو التماسًا لإحداثه، وإنّما كان تقنية يلجأ إليها الإنسان كي يسهّل حدوث شيء أو يمنع حدوثه (1)، وأنّه كان يعمد - كي يتسنّى له ذلك - إلى تمثيل ذلك الشيء بالكلام. كما أنّ قواعد عمل الشعر ومحسّنات الخطاب الشعري - من وزن وقافية وتجنيس ومطابقة وإيقاع وتكرار وتشبيه واستعارة وكنايــة ومجاز - لم تكن تهدف في الأصل إلى التعجيب وإحداث الفنّ، وإنّما إلى الحثّ والتحضيض والإثارة والتعزيم والتحسين والتقبيح والتمويه والخلب... وأنّ عزم الفتنة هذا لا يزال عالقًا بالشعر ملتبسًا به التباسًا: فعندما يستخدم النصّ الشعري أساليب النّداء والحثّ والتحضيض والدعاء والطلب والأمر والنهي فهو يعبّر عن العزم الأصلي المنوط بالكلام الطامح إلى النجاعة ويحتفظ بحاجة الشاعر القديم إلى أن يقول للشيء "كنْ ما أريد" أو "كنْ كما أريد"... (1) يكفي أن يشحن الشّاعر كلامه كما يرى المناعي بطاقة الإثارة اللاّزمة، وأن يحرّضه على إنجاز ما يريده أن ينجز. وهو يورد هنا مقطعيْن لمحمود درويش من مجموعته "أرى ما أريد" التي يخدم عنوانها فكرته هذه أيّما خدمة. يقول في الأوّل: "يا نشيدُ خُذِ العناصر كلّها واصعدْ بنا سفحًا فسفحَا واهبطِ الوديانَ، هيّا يا نشيدُ فأنت أدرى بالمكانِ وأنت أدرى بالزمانِ وقوّةِ الأشياء فينا..." (2) ويقول في الثاني: "يا هدهد الأسرارْ جاهدْ كي نشاهد في الحبيب حبيبَنا حلِّقْ بنا، لمْ تبقَ منّا غيرُ رحلتنا إليه، ودُلّنا يومًا على شجر وُلدْنا تحته، وعلى الطفولةِ دُلّنا ولعلّنا سنطيرُ في يومٍ من الأيّامِ ... إنّ الناسَ طيْرٌ لا تطير". (1) يكتب د. المناعي بهذا الخصوص قائلا: لقد شحن الشّاعر في المقطع الأوّل "نشيده" أي قصيدته بجماع "العناصر" وأناط به عزمه المستمدّ من "قوّة الأشياء" على الإفلات من حتميّة المكان والزّمان، ثمّ استبدله في المقطع الثاني "بهدهد الأسرار"، محرّضًا رمزيّة الهدهد على اكتناه الغيب وامتلاك مفاتيح القدرة، جاعلاً في قوله "جاهدْ كي نشاهدَ في الحبيب حبيبنا" بذل الجهد سبيلاً إلى نجاح العزم (جاهدْ/ نشاهدْ)... وفي قصيدة "أحمد الزّعتر" يستخدم محمود درويش أسلوب العزائم مثلما استخدمه السحرة تمامًا تقريبًا، وذلك قوله: سنذهبُ في الحصارِ حتّى نهاياتِ العواصمْ فاذهب عميقًا في دمي اذهبْ براعمْ واذهبْ عميقًا في دمي اذهبْ خواتمْ واذهبْ عميقًا في دمي اذهبْ سلالمْ يا أحمدُ العربيُّ... قاومْ !
وهذا كلام يضيف إلى التعزيم مقوّمات سحريّة أخرى حاسمة أهمّها التكرار والصّرف، بمعنى التغيير، الذي يجسّم تمامًا فكرة التحويل "كُنْ كذا..." وهي فكرة أصيلة في مبادئ السّحر وعمله. وعند الشاعر العراقي خزعل الماجدي أدلّة كثيرة باهرة على استحواذ الشّعر على العزم السحري من بينها هذا القطع الغزلي الذي منه قوله: "للتي ضاعتْ وضيّعتُ إليها مبتغايَ ضُمّني يَا وَعْلُ، واسكُبْ من غصوني بَارِقًا فوق جبيني... وتَطرّزْ برياحينِ هوايَ وَلْتَنَمْ ما بيْن كفّيْها وتسْعى في الفِراش العطِرِ الأسودِ تطويها وبالجمرة تكويها وبالسهدِ تهدّ النَومَ في أجفانها يا وَعْلُ كلّمْني وقُدْني يا غاقُ، ويا هُدهدُ، يا قَشْعَمُ، يا وَصْعُ تعالوْا صَوْبَ أُنثايَ وحيُّوا بذَخًا ترفُلُ فيه...
ومثلما يستخدم النصّ الشعري أساليب الطلب بغية العرض والحثّ والأمر والنهي والنّداء والدّعاء، فهو يستخدم طاقات أخرى لها دور في تحقيق كثافة الكلام المجسّمة للعزم : من هذه الطّاقات طاقة الوزن والتقفية والتوقيع والتجنيس، وهي خاصيّة في الكلام السّحري وفي الكلام الشعري يتولّى بواسطتها السّاحر والشاعر مخاتلة الشيء أو الشخص أو الظاهرة التي يتعلّق بها عزمه وإلقاؤه عليها الإلقاء المناسب الذي لا ينفرها ولا يجفلها بل يجعلها تذعن فتستسلم فتنقاد إلى رغبتـه أو تزيل رهبته... ومن هذه الطاقات أيضًا طاقة المجاز والرّمز، وهي خاصيّة أخرى في الخطابيْن السحري والشعري تتكشّف عن محاولة لتجسيم العزم نفسه، وتتمثّل في ابتكار صيغ من التشبيهات والمجازات والاستعارات والكنايات وفي اتخاذها أقنعة ورموزًا صالحة لأن يُهتدى بها إلى الأسماء المناسبة والصفات الملائمة والصّيغ الناجعة الصالحة لاستجلاب ودّ العناصر واستمالتها وحملها على التجاوب والعطف... ويضيق الباحث إلى الطاقات السابقة طاقة التكرار والترديد التي تتمثّل في استهلاك العزم كلّه عبر استنفاد كامل الأثر المرجوّ من اللفظ أو الصيغة من خلال تسليطها على العنصر أو الشيء أو الشخص وتكرارها عددًا من المرّات كفيلاً باستغلال كامل ما يُناط بها من أهداف النجاعة... ونظرًا إلى أهميّة هذه الطاقات، طاقات التنغيم والتمثيل والتكرار، في العمليْن السّحري والشّعري وفي الخطابيْن السّحري والشعري فإنّ المؤلف يفرد لها فصولاً أطول في كتابه الشيق هذا. وحسبه في هذا المقام أن نؤكّد أنّ الشعر لمّا كان، في جانب هامّ منه على الأقلّ، تجسيمًا للرّغبة في أن تنصرف الأمور عن حقائق أوضاعها كي تلائم أوضاعًا يريدها الشعراء، ولمّا كانت أداة هذا التجسيم لا تعدو صحّة العزم على حسن الكلام "على" الأشياء، فإنّ الخطاب الشعري يبدو جهدًا لمعرفة "اللغة" التي يفهمها الكون أو ذواته وأشياؤه، وممارسة لكلام "جميل" غايته تحقيق عزم "نفعي"، والعمل الشعري - شأنه شأن العمل السحري - يصل الفرد بالعالم بواسطة شبكة من صلات التجاوب والتجاذب الخفيّ تقوم على معرفة الوسائط اللغويّة الملائمة المفيدة، وهو محاولة "لفرض الرّقابة البشريّة على زاوية من زوايا الكون تظلّ، لولا النّداء الوسائطي الذي يضمّها إلى حيّز التملّك العاطفي، غامضة ممتنعة مخيفة..." . من هذه الزاوية تكتسب عبارة "اللغة الشعريّة" معنى "اللغة الناجعة" وهي لغة خاصّة هاجسُ الإنسان فيها هو السعي إلى صياغة تسمية ملائمة لحدود عزمه كفيلة بأن "تستحوذ" فعلاً على ما يريد وبأن تتحكّم في الأشياء وتسخّرها لأغراضه وأمانيه. ومن هذا المنطلق قد تصبح "البلاغة" لا تألّقًا وزخرفة وبذخًا (un luxe) وإنّما احتياجًا وضرورة (une necessité). ويحوصل لنا الكاتب نظرته الخاطفة تلك قائلا أنّ الشعر كالسحر تمثيل لرغبة وتلبية لعزم، وذلك انطلاقًا من عقيدة ضاربة في القدم قوامها إلغاء الحدود بين الفكرة وموضوعها وبين الكلمات والأشياء وحقيقة صورتها أن يصنع الإنسان رموزه ويلقيها على العالم لتنظيمه بصورة تحقّق رغبته أو تهدّئ من روعه. على أنّ الفكر اللّغوي والمباحث اللّسانيّة قد اتّجها - منذ اليونان ثمّ خلال عصر النّهضة الغربيّة ثمّ ابتداءً من دي سوسير (F. De Saussure) في العصـر الحديث بالخصوص - إلى القول باعتباطيّة العلاقة بين الدّوالّ والمدلولات، وإنْ كان جانب من النّظرة القديمة القائلة بحضور الأشياء في الكلمات لا يزال حيًّّا يُستدعى باستمرار في التّعامل مع الخطاب الشّعري بالخصوص : فقد اعتبر موريس بلاشو (M. Blanchot) أنّ الكلمة الشّعريّة طاقة غامضة شبيهة بالتّعويذة التي تُخضع الأشياء وتجبرها على الحضور خارج ذواتها" ولا يزال علماء اللّسانيات يتحدّثون - في حسرة غير خافية أحيانًا - عن "النّفوذ الحدسي" الكامن في استخدام اللّغة. هذا الصّراع المستمرّ بين منطق الفصل ومنطق الوصل، يلاحظ المؤلف، له انعكاسات خطيرة على دراسة الشّعر تمتدّ القصيدة بمقتضاها إلى مناخات خارج ملفوظها فتظلّ مضطرّة إلى خلق خطة تسمية متغيّرة في كلّ مرّة، كفيلة بمحاصرة دوالّها لمدلـولات معتمة و"أشباح معـان" متحرّكة "قائمة في الوهم" على حدّ قول أبي نواس : ذلك أنّ الشّعر في الكثير من مظاهره خطاب "ظنّ" يؤلّفه الشّاعر "من نفسه" ثمّ يلقيه على العالم ويقتلع له كلمات من أماكنها في اللّغة - كحجارة المباني القديمة - ثمّ يعركها في رؤيا اللّحظة الحاضرة عركًا آخر يحاول بذلك أن يسمّي ما يقع من وعيه في العتمة أو يعيّنه، ولكنّ هذا التّعيين لا يحدّد من الكيان الشّعري للأشياء والذوات والظّواهر سوى ملامح وأبعاد، في حين يظلّ غيرها غيرَ ظاهر وإنّما كامن في إمكان الظهور فحسب، وما دام كذلك فهو يتشكّل لكلٍّ متلقّ في شكل ويلوح لكلِّ متصوِّر في صورة. قال أبو نواس: ومواتي الطّرْفِ عفِّ اللّسانِ مُطْمِعِ الإطراقِ عاصي العِنَانِ مازجٍ لي من رجاءٍ بيـأسٍ نازحٍ بالفعل والقـــولِ، دانِ فإذا خاطبكَ الجِدُّ عنـــه أكذبَ الجدَّ حديثُ الأمانـــي غيْرَ أنّي قائلٌ ما أتانــي من ظنوني مكذبٌ للعيـــانِ آخذٌ نفسي بتأليف شــيءٍ واحدٍ في اللّفظِ شتّى المعانــي قائمٍ في الوَهمِ حتّى إذا مـا رُمْتُهُ رُمْتُ معمَّى المكـــانِ فكأنّي تابعٌ حُسْنَ شــيءٍ من أمامي ليْسَ بالمستبانِ…
إنّ الشّعر فضاءُ إحضار وعالم مصغّر مخلوق من رغبة الشّعراء في أن يحوّلوا العالم على ما يشتهون، بقليل من العقل وكثير من العزم العاطفي، وهي رغبة أن يملكوا ما لا يُملك امتلاكًا تُنجزه الشّهوة في الخيال وتُستخدَم له اللّغة وتبيحه بمنطق النّحو والتّركيب وتشرّعه بالمجاز وتزيّنه بالصّور وإجراءات الوزن والتّنغيم… إنّ الشّاعر إذْ يقول: غرّدَ الدّيكُ الصَّدوحُ فاسقني طابَ الصَّبُوحُ واسقني حتّى تراني حسَنًا عندي القبيحُ…
لا يتصوّر ديكا وإنّما يصوّره من عزمه بالّلغة ويلقي به في رحم العالم، وهولا يتحدّث عنه وإنّما يُحدثه، على ما يشتهي، فيجعله "يغرّد" و"يصدح" بدل أن "يصقع" لأنّه يتّخذه نوّاس آلة الكون الزّمنيّة المبشّر بحلول موعد الإفطار على "الصّبوح"، خمر الصّباح. وهو يثير "الصّباح" بواسطة إجراءات هي "الدّيك" و"الصّداح" و"الصّبوح" أو يأتي به - ساعة إنشاء القصيدة - صباحًا خاصًّا مفلتًا من دورة الوقت إلى دورة زمن الذات فيجعله وقتًا شخصيًّا صالحًا لانتفاء القبح من الوجود: واسقني حتّى ترانــي حسنًا عندي القبيحُ… وهو في باقي القصيدة - وهي مدحيّة - يوزّع صياح الدّيك على لوازم الممدوح فيحوّل - بإجراء سحري ذي لوازم لغويّة - صوت الحاء إلى صورة : بُحَّ صوتُ المــالِ ممّا منكَ يَشْكُو ويصيـحُ فيقيم توازيًا بين رؤيتيْن كلتاهما ماثلة في "الوهم" كما قال هما: صياح ديك الزّمن إيذانًا باللذة وصياح مال الممدوح إيذانًا بالجود… إنّ صلة ما بين الممارسات السّحريّة القديمة والتّهذيب الشّعري المتجدّد لهي كامنة في "هذه العادة التي لم تُهجر كلّيًا والمتمثّلة في اشتهاء أن تكون للكلمات والعلامات سلطة إثارة على ما تصوّره… إنّنا نحمل في أنفسنا على ما يبدو هذه الأمنية الملحّة في تغيير الدنيا… وإنّ الشعر ليبدو ظلاًّ لتقنية فقدت ثقتها البدائيّة ولكنّها تأبى أن تزول…"
الأصول المفهوميّة والأسس النّظرية
يدلّ (شعُر) و(شعَر) في العربيّة على "العلم والفطنة" كما تدلّ (شاعر) على مَن "يشعر ما لا يشعر غيره" أي "يعلم" . قال الرّاغب الأصفهاني : "وسمّي الشّاعر شاعرًا لفطنته ودقّة معرفته. فالشّعر في الأصل اسم للعلم الدّقيق في قولهم: ليت شعري، وصار في التّعارف اسمًا للموزون المقفّى من الكلام" . وقد ورد (شعُر) في القرآن بمعنى المعرفة بواسطة الحدس وبمعنى التّوقّع والتّنبّؤ، و(الشّاعر) بمعنى العارف بطريـق الإلهام . وذهب بروكلمان في تدقيق هذا المعنى إلى أنّ الشّاعر عالم "لا بمعنى أنّه كان عالمًا بخصائص فنّ أو صناعة معيّنة، بل بمعنى أنّه كان شاعرًا بقوّة شعره السّحريّة" . على أنّ التّقارب في الأصل اللّغوي - بل التّداخل والتّماهي أحيانًا - ربّما كان أوضح وأبلغ دلالة في لغات أخــرى : فكلمــة (Poésie) من اللاّتينيّة (Poesis) واليونانيّة (Poiêsis) التي تعني "الخلق"، وكلمة (Charme) متحدّرة من الأصل اللاّتيني (Carmen) الذي يعني "الكلام السّحري" والفعل الفرنسي (Enchanter) من الفعل اللاّتيني (Incantare) الذي يعطـــــي (Incantation) أي "التّعزيم"، وهو استنفار الأرواح باستخدام عبارات سحريّة، وهو أيضًا الخلب والسّحر جملة. "وتستمدّ هذه العلاقة أصلها، في الثّقافة الغربيّة، من المعنى المزدوج لكلمتــــي (Cantus) و(Carmen) اللّتين تدلاّن في الوقت نفسه على "السّحر" وعلى "الشّعر"… ولا يجد مؤلف كتاب "الشعر والسحر" نفسه في حاجة إلى إطالة هذه القائمة حتّى يستنتج ما سبق أن ألمع إليه من "أنّ الكلام الشّعري قد دخل إلى الثقافة البشريّة - في كلّ مكان من العالم - باعتباره أداة لتجسيم الطّموح والإرادة". يجمع بين الشّعر والسّحر إذن معنًى لغوي أوّل هو العلم والفطنة والحكمة، ويقرّب بينهما الأصل الاشتقاقي الدّالّ على اتّحاد المشارب في جُلّ ما نعرف من لغات وثقافات. ويلتقي الشّعر بالسّحر مفهوميًّا - في التّصوّر العربي القديم، بل في عموم التّصوّر البشري قديمه وحديثه - في التمويه والتخييل والخُدعة، فالشّعر يُري الباطل في صورة الحقّ والحقّ في صورة الباطل ويخيّل الشّيء على غير حقيقته، وهو "يبلغ من ثنائه أنّه يمدح الإنسان فيصدق فيه حتّى يصرف القلوب إلى قوله، ثمّ يذمّه فيصدق فيه حتّى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنّه قد سحر السّامعين بذلك . وترتدّ معاني "السّحر" إلى الخفاء واللّطف والإلهاء والصّرف والاستمالة. وكلّ أمرٍ خفي سببه وخُيِّلَ على غير حقيقته وجرى مجرى التّمويه والخداع فهو سحر. وقد وجد البلاغيون في بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرّسول ما به شرّعوا للعلاقة بين "البيان" و"السّحر" وجعلوهما بمعنى في خبر معروف تناقله بعضهم عن بعض. وقال رؤبة (تـ. 145 هـ) : لقد خَشِيتُ أنْ تكونَ سَاحِرَا/ راويةً مَرًّا ومرًّا شاعــِرَا/ فقرن الشّعر أيضًا بالسّحر لتلك العلّة" . وقالوا في تعريف الاستعـارة - وهي أخصّ خصائص الشّعر - إنّها "نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللّغة إلى غيره" ، وهو تعريف يلتقي تمامًا بتعريف السّحر في لسان العرب. ويلتقي الشّعر بالسّحر فيما يحدثه كلاهما في متلقيه من البهَت النّاجم عن انخداع العقل بالتّخييل، وهو ما سمّاه ابن منظور - في معرض حديثه عن السّحر - "الأُخْذَة التي تأخذ العين حتّى يُظنّ أنّ الأمر كما يُرى" ، وهو معنى يلتقي، من جهة أخرى، بقول عبد اللّه التّستري عن المعرفة الصّوفيّة: "المعرفة غايتها شيئان: الدَّهَشُ والحيرة" . ويلاحظ د. مبروك أنّ التّخييل في ذاته عمليّة سحريّة كما أنّ السّحر عمليّة تخييليّة، وقد قيل فعلاً إنّه لئن كان كلّ سحر خيالاً، فإنّ كلّ عمليّة تخييل إنّما هي عمليّة سحريّة . ويرتدّ السّحر إلى ثنائيّة الخير والشرّ: السّحر النّافع والسّحر الضّارّ أو السّحر "الأبيض" والسّحر "الأسود"، كما يرتدّ الشّعر - في المجال العربي الذي يهمّنا في المقام الأوّل وفي التّصوّر التّقليدي على الأقلّ - إلى ثنائيّة المدح والذمّ، وإن كانت شعوب أخرى قد عرفت أيضًا "شعرًا أبيض" و"شعرًا أسود" وهي تسمية متحدّرة مباشرة من السحر كما هو واضح. والشّعر عملٌ فردي، وكذلك السّحـر - على عكس الدّين مثلاً - عقيدة وممارسة لا تدخل ضمن الطّقوس الجماعيّة، المنظّمة. ثمّ إنّ السّحر هو الإخراج المعقّد المقنّن لأبنية حدسيّة يتطلّب من البشر وضعهم أن يفرضوها على الواقع لتغييره لفائدتهم ولصرفه عن حقيقته غير المرضيّة إلى حقيقة جديدة ترضيهم: ومن ثَمَّ يبدو السّحر أداة من أدوات فرض الإرادة ورغبةً في إخضاع الظّواهر والأشياء والأشخاص، وهو يذكّر بالشّعر في مختلف هذه الجزئيّات. ويلتقي الشّعر بمبدأين أساسيين في السّحـر - أو نوعين منه - أولهما مبدأ "المشاكلة" أو سحر المحاكاة الذي يقضي بأنّ الأشباه تدعو نظائرها: ومنه عمل السّاحر على الوصول إلى نتيجة معيّنة عن طريق تقليدها كأن يثير المطر بعمل رمزي مصغّر يحاكيه فيه، أو يقيم صورة لشخص - يصنعها من جماد أو يمثّلها بحيوان - ثمّ يفعل بها، عن بُعد، فعلاً معيّنًا فيحدث، عن ذلك، للمسحور ما أراد ساحره: وهو ما احتفظ التّراث العربي بشواهد منه نادرة ولكنّها دالّة على ما نبتغي في هذا المقام: فقد كان عرب الجاهليّة "إذا غدر الرّجل (…) انطلق أحدهم حتّى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر (…) فإنْ أعتبَ وإلاّ جُعل له مِثْلُ مثاله في رمح فَنُصِبَ بعكاظ فلُعن ورُجم. وتتوفر في الشّعر ظلال شبيهة بهذه قد تشي بما نتطلّبه من وجود صلة لطيفة بين الفهمين والممارستين السّحريّة والشّعريّة ينبغي التماسها في شعر الحرب خاصّة حيث يقيم الشّاعر صورة للخصم المحارب "كاملة" ثمّ يفصّل انتصـاره عليه - في حــرب لم تقعْ أو لمّا تقعْ غالبًا - ويشوّه ما كان أقام من تلك الصّورة الأولى "الكاملة" المهولة، وذلك لأنّ الإنسان يحتاج إلى غريم أو عدوّ كي يكون ويتحدّد بالنسبة إليه، فإذا لم يجده صنعه، وحقيقة هذا المبدإ "أنّ السحر البدائي قام على فكرة إمكانيّة السيطرة على الواقع عن طريق خلق الإيهام بالسيطرة عليه (لذلك) فإنّ الصيّادين الذين كانت الحركات الإيمائيّة الطقوسيّة تشحذ هممهم كانوا بالفعل أمهر ممّن سبقهم"... . والمبدأ نفسه يوجد في عموم شعـر الرّثاء، ويمثّله خيـر تمثيل قـول متمّـم بن نويـرة (تـ. 30 هـ) في رثاء أخيه مالك وقد قُتــل في حروب الرّدّة : وقالوا أتبكي كلَّ قبْرٍ رَأيتَـــهُ لقبْرٍ ثوَى بيْن اللِّوَى فالدَّكــادكِ فقلتُ لهم إنّ الأسى يبعثُ الأسى دعونـي، فهذا كلّهُ قبْرُ مَالكِ
والمبدأ الثّاني من مبادئ السّحر أو النّوع الثّاني منه الذي برى له د. المناعي له مثيلاً ظاهرًا في الشّعر هو مبدأ "الأتّصال" أو "سحر العدوى"، وهو يتمثّل في أنّ الأشياء التي كانت بينها صلة، في وقت ما، يظلّ بعضها مؤثّرًا في بعض حتّى بعد أن تنبتّ تلك الصّلة وتنقطع. ومنه اعتقاد السّاحر أنّ ما يفعلــه بجزئيّة مادّيّة من خواصّ شخص معيّن يسري تأثيره إلى الشّخص الذي كان ذلك الشّيء متّصلاً به، معتمدًا في ذلك على مبدإ "الاتّصال" وعلى قدرة الجزء على تمثيل الكلّ : ومن هذا القبيل قيمة الاسم والظلّ والأسنان والرّيق وقُلامة الأظافر ومُشاقة الشّعر في السّحر إذ هي تمثّل الشّخص برمّته وتُعتبر امتدادًا له، وإدخالها في العمل السّحري ينجم عنه تأثير بواسطتها في الشّخص المسحور لا شكّ فيه لدى السّاحر… وربّما كان لما في شعر النّسيب والغزل من ذكر لمنزل المرأة أو اسمها وريقها وشعرها وآثارها في مجال حركتها عمومًا بعض الصّلة بهذه الطّقوس السّحريّة التي تهدف إلى التحكّم عبر التّمثيل. وكذلك انتشار طيب النّساء وبقاؤه في الأماكن التي تقلّبن فيها أو علوقه بثياب عاشقيهنّ علوقًا مزمنا، ومن أمثلة اتصال أصداء هذا المبدإ في الشعر الحديث ما يمثّله هذا المقطع من شعر يوسف الصّائغ: "أستحلفكنّ بناتِ البصرة إنْ كان بكنّ حنينٌ يُنضجُ في شفتيّ الطلْعَ له فَمِلْنَ عليّ إذنْ وامسحْنَ على جسدي منكنّ فبيْتُ حبيبي تعبٌ وسريرُه من خشب القاربِ نقّعهُ الماءُ قرونًا وأهمله الصيّادون... (3)
ومن أمثلته هذان المقطعان من مطوّلة مظفّر النوّاب "وتريّات ليليّة" : حملتني ريحُ الغيْبِ إلى دَرْبٍ تترقرق فيه بواكيرُ الصّبحِ وأوّلُ عصفورٍِ زقزق في الأفق الأزرقِ ملتهبًا أيقظ خبزي أيقظ في القرية رائحةَ الخبزِ (...) وأحسستُ بأوجاعٍ في كلِّ مكانٍ من جسدي وأحسستُ بأوجاعٍ في الحائط أوجاعٍ في الغاباتِ وفي الأنهار، وفي الإنسان الأوّلْ... (1)
والحقّ أنّ هذا المبدأ ذا الأصل السحري عامّ في الممارسة الشعريّة، موجود في مختلف العصور، ظاهر في الأغراض والمقامات التي "للصّلة" فيها أهميّة خاصّة، ولا سيما صلة المدح
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكمت الحاج.........ما معنى أن أكون موجودا، ولماذا علي أن أمو
...
-
قراءة في أصل التفاوت بين الناس ل جان جاك روسو منقولا الى الع
...
-
د. رجاء بن سلامة: الحجاب مهما تجدّد شكله واستعماله يتناقض مع
...
-
قراءة فلسفية في مجموعة شعرية/ بقلم الناقد التونسي الزاهي بلع
...
-
النِّسْرُ وَالصَّيَاْدُ
-
حجر الجنون للشاعر فرناندو ارابال
-
الفيلسوف التونسي د. فتحي التريكي في حوار مع حكمت الحاج حول ا
...
-
ذلكَ -الْجَازْمَانْ- المُذْهل المُتَحَكّم في الصمتْ
-
نصّ مدهش عائد إلى لغته الأمّ : قصيدة نثر طويلة عن بستانيّ ال
...
-
لا تَتَبَاهَ يَا موتُ بنفْسِكَ
-
سائلي عن العراق نحن عراقات كثيرة
-
نقش على ضريح الطاغية
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|