سعيد أراق
الحوار المتمدن-العدد: 1867 - 2007 / 3 / 27 - 12:03
المحور:
الصحافة والاعلام
في خضم ما يعرفه العالم اليوم من تحولات وصراعات ومواجهات, يحضر الإعلام باعتباره أداة وازنة في رسم ملامح المشهد العالمي وترتيب ردود أفعال الرأي العام وتوضيب مسار توجهاته, وذلك في أفق احتواء العلاقة بين المتلقي والمادة الإعلامية, بما يتماشى مع الرهانات الثاوية خلف الوجوه والواجهات الإعلامية. لقد أضحى الخبر والإخبار رهانا يتجاوز محددات الطقس الإخباري, ليتحول ضمن حركية سيرورته المتفشية في الأوساط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, إلى قوة فاعلة وخارطة طريق تُعَلبُ المواقف وتقولب الأفكار وتتلاعب بالوعي وأنماط التمثل والإدراك. ولا شك أن المتتبع للمشهد الإعلامي العربي والغربي, لا يجد صعوبة كبيرة في استشفاف هده الحقيقة. لكن قوة الآلة الإعلامية العالمية تكمن بالضبط في قدرتها على إبقاء الرأي العام مشدودا إلى خطها التحريري بما له وما عليه, أي بمنطوقه السافر و بمتكتمات خطابه اللابد خلف الصورة والخبر. إن استهلاك المنتوج الإعلامي, يحرك دواليب الأفكار وردود الأفعال ويخلق الحركية والحراك. إنه سلطة حاضرة بكل ما تنطوي عليه أي سلطة من ضبط وتوجيه وإكراه وتعتيم. ومهما كانت مواقفنا المعلنة أو المتسترة المناهضة أو المساندة للإعلام, فلا سبيل إطلاقا للادعاء بأننا قادرين على الاستغناء عنه والعيش بدونه وبعزل عن سياقه الكوني الشامل. إلا أن السؤال الذي يطرح عند التفكير والتأمل في مترتبات السلطة الإعلامية الهادرة التي تصنع الواقع والوقائع والإنسان في العصر الراهن, هو بالضبط:هل الإعلام هو علم الواقع أم هو علم ترتيب الوقائع؟هل هو تجلية للحقيقة أم هو طمس عنيد ومتعمد لها؟هل هو بناء للوعي النقدي الحر أم هو احتواء مسرف لكل المواقف الواقعة خارج التشريط والتعليب والهيمنة؟.
لكي نبني بعض عناصر الجواب عن هذا السؤال, لا بأس أن نعرج على أحد الأسماء البارزة التي دشنت الإطار العام الذي حدد صيغة اشتغال الآلة الإعلامية منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن. إنه "نوربرت واينر" الذي يعتبر مؤسس السبرنتيكا cybernetique وأحد المنظرين الأوائل لنظرية الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أكد "نوربرت واينر" أن الغاية من هذا العلم هي التوجيه والضبط. لأنه آلية تَعَرُّفٍ واستقصاء وتشريط وتحكم. فالإعلام لا يصنع الرأي العام بل يوجهه ويقوده ويحدد سياق انخراطاته وانتظاراته. وبالتالي يمارس الإعلام مدار تأثيره من خلال خلق علاقة القرب والاقتراب من الجمهور, من أجل مواكبة التحولات واحتواء مادتها القابلة للتوظيف الإعلامي والاستثمار الصحفي. إن وكالات الأنباء العالمية أضحت سلطة حقيقية تتحكم في قنوات الوصول السريع للخبر المشكل للمادة الإعلامية, وتقديمه وفق تصورها وخلفيات توجهاتها العامة وسياق خطها التحريري العام. ويبدو أن هذا الأمر قد أضحى بالفعل توجها كونيا هادرا يغذي التصور الحديث لما ينبغي أن يكون عليه العمل الإعلامي في واقع يحتل فيه الخبر واجهة القنوات والصحف والإذاعات. إلا أن أهمية الخبر لا تكمن في ذاته وصفاته فحسب, بل تكمن أيضا في طريقة توظيفه لتحقيق أكبر قدر ممكن من المردودية الإعلامية والسبق المهني والتأثير في الرأي العام والخاص. وذلك دون الاعتداد أحيانا بما قد ينجم عن ذلك من تعتيم أو تشويه للواقع والوقائع. ألم يكن "جوزيف غوبل", المستشار الإعلامي ل"هتلر", يردد دوما –في حملات البروبغاندا النازية- شعار:اكذب ثم اكذب ثم اكذب إلى أن يصدقوك؟بحيث يتحول حد الكذب إلى نقيضه, ويصبح الصدق والتصديق هما التتويج الحاسم لمنطق المراوغة والخداع, وذلك على حساب منطق الواقع الخام الخالص من كل تشريط سياسوي اللكنة وديماغوجي النبرات. فهل "جوزيف غوبل" حالة معزولة طواها التاريخ فانتفت بانتفاء الإيديولوجيا النازية التي كانت توفر لها السند والسماد, أم أنه رمز استعاري لكل شبح الممسكين – في جنح الدجى أو وضح النهار- بخيوط المشاريع الإعلامية الدولية ؟. ما الذي يمنح الإعلام كل هذه السلطة الفاعلة في الناس؟خاصة أن الوعي أصبح اليوم يمر بالضرورة عبر الإعلام وبواسطة مجمل قنواته وصهواته. إذ لم يعد الوعي تتويجا لاستقلالية الفكر وثبات الموقف, بل أضحى- في ظل السلطة المتنامية لثورة الاتصال وفورة الإعلام- وعيا حركيا متشنجا وقلقا لا يتغير بتغير شروطه وتراكم خبراته الذاتية المستقلة, بل يتغير بتغير التوجهات العامة التي يدبرها ويروجها الإعلام تحت ضغط منطق المقتضيات التي تلقي بثقلها على العالم بمتغيراته التي لا ترسي أبدا على بر حاسم نهائي ومستديم. ومعنى هذا أن ثورة الاتصال التي استشرت سلطتها اليوم, أجهزت إلى حد كبير على هامش التدبير المستقل للأفكار والمواقف والرؤى والتمثلات. فما يقدمه الإعلام أصبح يعتبر مرآة للواقع مهما كانت طريقة تعديله للوقائع والمعطيات. ومن هذه الزاوية, نصب الإعلام نفسه طَوْطَمًا جديدا يمارس سلطته في بناء أنماط الوعي وصيغ التفكير. والواقع أن ما وصل إليه العالم من انتصار على زمن الإيديولوجيات والمرجعيات الفكرية والسياسية الكبرى -بعد انهيار النموذج الشيوعي السوفياتي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة-أدى إلى إعادة توجيه الإعلام نحو التركيز على عملية " تطبيع" الوعي وتوحيد النماذج وخلخلة المرجعيات القيمية والنظم الثقافية. فكانت العولمة في بدايتها عولمة إعلامية اتخذت تجلياتها العملية والرمزية من خلال شبكة الأنترنت, التي يعتبرها المختصون في وسائط الاتصال, الوسيلة التي حققت تاريخيا أسرع انتشار في ظرف قصير جدا, بالمقارنة مع باقي وسائط الاتصال الأخرى مثل التلفزة والراديو والهاتف والفاكس والمينيطيل. كما أن تعدد القنوات الفضائية وتكاثرها, يدخل بشكل أو بآخر ضمن هذه العولمة الإعلامية الهادرة المبشرة والمؤسسة لأنماط العولمة الاقتصادية والثقافية والقيمية. لدرجة أن التمثل الحداثي للمجتمع المعاصر, أصبح يقوم على أساس أنه مجتمع الاتصال. وإذا كانت حتى بعض الأصوات الحداثية المعروفة, تنتقد المجتمع الحديث الذي تحول فيه الاتصال إلى بديل رقمي لدفء التواصل الإنساني الحميمي والمباشر, فإن ذلك لا يحد من الإيمان القوي بأن ملامح المستقبل الذي نسير إليه ونبتغيه ونتغياه, هو مجتمع الوسائط الرقمية القمينة بتحقيق أكبر قدر من فائض الاتصال وهادر الإعلام. وذلك بالنظر إلى أن استراتيجات المستقبل هي- شئنا ذلك أم أبينا- استراتيجيات اتصالية ورقمية وإعلامية. بل إنَّ على رأس لائحة المطالب التي تناضل من أجلها اليوم دول العالم الثالث, يوجد مطلب تقليص ما أصبح يسمى في أدبيات نظرية الاتصال الحديثة, ب" الهوة أو الفجوة الرقمية" التي ترتبط في الكثير من الدراسات التحليلية, بواقع التهميش وعدم المساواة الاقتصادية.
لقد كانت معاصر العنب في مدينة "مينز" الألمانية, هي ما استلهم منه "يوهان غوتنبرغ" سنة 1450, فكرة صناعة المطبعة. ومنذ ذلك الحين مرت كثير من المياه تحت الجسور, وتعرض الكثير من المطبعيين للقتل في أوربا, خاصة بسبب ما أقدموا عليه من طبع للكتاب المقدس. وشهد العالم الإسلامي وخاصة في عهد العثمانيين, صراعات شديدة بين مناهضي ومناصري المطبعة. وتم تحريم كل محاولة لطباعة القرآن الكريم. إلا أن كل ذلك, لم يحل دون تجذر البدايات الجنينية لما سيصبح عليه مجتمع الاتصال الحديث. فتوالى اختراع التلغراف والهاتف والراديو والتلفاز. والحصيلة هي ما نشهده اليوم من ثورة عارمة ترسي فعل الاتصال في صلب كل تمثلاتنا لأنفسنا وحاضرنا ومستقبلنا ووضعنا الاعتباري ككائنات إنسانية مدمجة في روح العصر الرقمي الطافح بثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال. ولا شك أن المراهنة على الإعلام الحر والنزيه هو البديل المرتجى للإعلام القائم على التلاعب بالحقائق والوقائع وعقول الجماهير وأدمغة الناس. فكما أن السكين يستعمله الإنسان لإعداد وجبات الأكل في المطبخ, كما يمكن أن يستعمله للإجهاز على حياة إنسان, كذلك يستعمل الإعلام إما للاحتفاء بالحياة وبناء الإنسان أو يزظف على العكس من ذلك, لترويج قيم العدمية والموت والكره وخدمة الاستبداد وتمجيد مداخله ومخارجه ورموزه. وفي كل الحالات, لا تكمن خطورة الإعلام في انتشاره وتجذره في حياتنا وواقعنا اليومي, بل تكمن بالأحرى في صيغ توظيفه وآفاق توجهاته المتسترة أو المعلنة. والواقع أنه كلما كان الإعلام مقوما من مقومات نشر الرأي الحر وثقافة الحوار وتدبير الاختلاف والاعتراف بالآخر والمساهمة في بناء التنمية وتعميق سبل التعايش وقيم الديمقراطية, كلما تحققت مرامي الإعلام الهادف الواعي بدوره المحوري في الرفع من شأن الإنسان. أما حين يتحول الإعلام إلى أداة تحتكرها الهيئات والمؤسسات والجهات المتنفذة ماليا وحزبيا واقتصاديا وسياسيا, من أجل التعتيم والتلاعب المشين بالناس والرأي العام, تصبح المممارسة الإعلامية آنذاك, معول هدم ومقصلة أفكار وشفير هاوية تنهار في أتونها كل الهمم والانتظارات والتطلعات نحو الحرية والمستقبل والكرامة والحياة.
وخلاصة القول إن كل عبور نحو الحرية والديمقراطية في العصر الراهن, لا يمكن أن يتحقق إلا بالمراهنة على الإعلام الحر. ولا إمكانية لقيام إعلام حر إلا بوجود إعلاميين أحرار, يؤمنون بجدوى ما يقومون به, ويسعون لوضعه ضمن سياق تنموي حقيقي يشيع قيم البناء بدل مسببات الهدم. أما ما عدا ذلك من مواقف لاعقلانية, من قبيل تحريم الأنترنت أو تجريم الهاتف النقال, فلا يعدو أن يكون نوعا من الرؤية الرمداء التي تختار السباحة ضد التيار بمناكب فاترة عاجزة عن تسخير قوة هذا التيار لتوسيع هامش الفعل وفتح سبل الانخراط الواعي في روح العصر ويم الحياة بروح مبدعة خلاقة جديدة متجددة ومتحفزة للتجاوز, الذي يحدد ويجدد حركية الخبرة الإنسانية في هذه الحياة.
#سعيد_أراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟