من الظواهر المثيرة للاهتمام في المجتمعات العربية في أواخر القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة، وبعد عقود من محاولات نشر الفكر التنويري ، الميل الواسع لمختلف الشرائح الطبقية والمذهبية من المواطنين في البلدان العربية، ولمختلف مراحل العمر ـ بما في ذلك الشباب ـ باتجاه الوعي والثقافة الغيبية القريبة من ثقافة الانحطاط ، والتي تتستر أحياناً بالستار الديني، والدين من معظمها بريء.. ففي الوقت الذي تتراجع فيه نسبة المهتمين بالفكر الحضاري والعلماني ، يلاحظ انتشار واسع للفكر الغيبي، والذي يأخذ في كثير من الأحيان أشكالاً متعددة من الانحطاط .. ويستغل مروجو الفكر الغيبي المنحط الأزمات التي تعاني منها الأحزاب والحركات التنويرية ، والتضييق الذي تمارسه الأنظمة على نشاطها، وهامش الحرية الواسع للنشاط الاجتماعي المتستر بالدين.. فتزداد مبيعات الكتب الغيبية، ويرتفع عدد المحجّبات، ويزداد تعداد الحشود المتهافتة لحضور جلسات دعاة، من مختلف المذاهب والطوائف، يريدون العودة بنا القهقرى لقرون خلت لمعالجة شؤون حاضرنا ومستقبلنا، ويهتدي كثيرون من المثقفين، وحملة الشهادات الجامعية، لمعالجة شؤون الحياة والمستقبل بمحاضرات ودروس يقدمها دعاة لا يحوزون على شهادات متوسطة... وتغص وتضيق دور العبادة برواد الدروس الدينية ، فينتقلون إلى المنازل والمدارس ، ورياض الأطفال ..
ومن الظواهر الملفتة للانتباه ، على سبيل المثال، انتشار نشاط ما يسمى بالقبيسيات في منازل المسلمين في سورية ، نسبة إلى الآنسة منيرة القبيسي التي درست العلوم الطبيعية، قبل أن تدخل كلية الشريعة في جامعة دمشق بأمر من الشيخ، ثم تحولت إلى داعية. وتمارس الشيخة منيرة القبيسي ،التي تعاني مرضاً عضالاً، نشاطها بالاعتماد على داعيات ينتشرن في مختلف مدن البلاد ، لينشرن الدعوة الإسلامية .. ومن المعروف أنّ لأتباع الشيخة رياض أطفال، وحضانات يتم تمويلها من خلال رسوم التسجيل والتبرعات والمساعدات...
وفي الوقت الذي يحظر فيه نشاط المنتديات، ليس السياسية فحسب، بل حتى الثقافية، يسمح للنشطاء المتدينين بإنشاء جمعيات ومعاهد دينية متنوعة ، فتجد خطيب مسجد يشغل منصب المدير العام لمجمع ديني يضم جمعيات خيرية، وعشرات المجمعات الخاصة غير الرسمية ، ومعاهد دينية تخرج علماء ودعاة .. هكذا تنتشر الجمعيات والمعاهد الدينية في جميع المدن العربية .. بينما لا يسمح لأديب ومفكر أن يدعو لمنتدى فكري أو ثقافي .. ومع التأكيد على أنّ وجود تلك الجمعيات والمعاهد مؤشر إيجابي، ولا تعني عملية رصد ودراسة نشاطها أي إنقاص من حقوقها في الوجود والعمل، أو الدعوة إلى وقف هذا النشاط إطلاقاً، إنما لا بد من التنويه إلى أنّ وجود هذه الجمعيات والمعاهد بمفردها، إنما هو أمرٌ يبقى ناقصاً.. وتكتمل إيجابيته الاجتماعية عندما تتاح هذه الإمكانيات للاتجاهات الدينية، والثقافية، والعلمانية بالوجود والنشاط على قدم المساواة ..
أما عدم المساواة ، وإفساح المجال لأتباع اتجاه معين أن ينشطوا ويعلنوا كل ما يريدونه ويرونه حقيقة ، وأن يستخدموا كل الوسائل لنشر فكرهم، باسم الدين، والذي قد يكون مناقضاً للدين أحياناً، وحجب هذا الحق عن المثقفين والسياسيين العلمانيين، فإنّه يساهم في خلق حالة مشوهة في تطور الوعي الاجتماعي ..
يخفف البعض من خطر هذه الظاهرة لأنّها لا تشكل خطراً سياسياً آنياً على مواقعهم ومصالحهم، خاصة وأنّها لا تطرح شعارات سياسية مباشرة ، بل تعمل وفق مبدأ التقية .. إلا أنّ التمعن في هذه الظاهرة، باعتبارها فعل تاريخي تراكمي، يفضي إلى تساؤل حول نتيجة هذه الظاهرة، وإلى أين ستقود المجتمع، في الوقت الذي يحصل فيه إفراغه من أي عمل سياسي وإبداع عقلاني، وإملاء هذا الفراغ بفكر أحادي اللون والخصائص؟ ألن يراكم ذلك لحالة لا تساعد في تقدم المجتمع ومجاراته للتطور الحضاري العالمي ..؟ فالنظام السياسي العربي بممارسته العملية هذه، يساهم في نشوء مثل هذا الخلل بتغذيته وتقويته لفكر يرى فيه البعض حقيقة ، ولا يسمح بخلق الآليات السليمة لتعريضه للنقد، نتيجة إلغاء كافة أشكال المعارضة .. فأساس الخلل داخلي ، وليس المؤامرات الاستعمارية بمفردها .. مع عدم نكران وجود عوامل خارجية مساعدة مادياً ومعنوياً ..
أجل إنّ هيمنة اتجاه فكري واحد فقط ، يخلق تربة ومناخاً مناسباً لبعض الغلاة لنشر فكرهم المنحط، وما ينجم عن ذلك من آثار مخيفة.. ولا يقتصر الأمر على هيمنة الفكر الغيبي المنحط على العقول في بعض قاعات الدروس، بل ينتقل إلى الممارسة اليومية لأبناء المجتمع؛ فتجد في أواخر القرن العشرين مهندسين وأطباء ، وخريجي معاهد علمية عالية وجامعات ، وأعضاء تنظيمات حزبية تدعي العلمانية، في البلدان العربية، يطلقون أحكاماً، ويقومون بممارسات، كان أميون في أوائل القرن العشرين يخجلون من القيام بها ...
ويرتفع سؤال مشروع حول أسباب ذلك .. ولماذا انقلب التنوير انحطاطاً ؟
أهم أسباب الخلل تكمن في أساليب الحكم وقيادة المجتمع
سنحاول التركيز على جانب ملح وأساسي ، في زعمنا، ألا وهو دور أساليب الحكم في انحطاط المجتمعات العربية، وانتشار الفكر الغيبي والظلامي فيها، وما ينجم عن ذلك من ويلات.. مع التأكيد على البون الشاسع ما بين الدين والفكر الظلامي ، فالدين حالة بين الإنسان والله، يحتل مكانة محترمة ذات إجلال في الفكر والمجتمع، والدين يساعد بني البشر في بحثهم عن الطمأنينة ، وهو حاجة ملحة في ظروف معينة.. وقد مرّت الديانات بمراحل متعددة، ولعبت أدواراً مختلفة في مسيرة تطور البشرية.. أما البنيان الاجتماعي العصري فهو بحاجة إلى فكر وعلم ينبثقان من حاجته للتطور والتقدم ، فكر يعتمد على العقل وينطلق من الواقع ، بالتالي مع إعطاء الدين حقه وحفظ مكانته السامية في العالم الروحي للإنسان ، من الضروري تبني نظرة علمية واقعية تستند على العقل لفهم سيرورة المجتمع وتطوره .
من دروس النهضة في أوروبا
لتلمس العقبات التي تقف حائلة أمام تقدم ونهضة وتحضر مجتمعاتنا، من المفيد التعرف على الممهدات الضرورية التي ساهمت في نقل أوروبا تلك النقلة التاريخية من الانحطاط إلى الحضارة.. وفي هذا المجال لا بد من التوقف عند تلك التطورات الاقتصادية والاجتماعية، التي ترافقت مع تقدم نوعي في مختلف العلوم والأدب والموسيقى والفنون الأخرى ، والتي مهدت لظهور العقلانية والتنوير في أوروبا، في القرن السابع عشر الميلادي، ومن أهم ما قام به أعلام تلك النهضة، بفضل تلك التطورات، القطيعة شبه الكاملة مع فكر العصور الوسطى .. وهذا ما لم يحصل في البلدان العربية .. ومن المسائل الهامة التي عالجها التنوير في أوروبا مسألة السلطة، ومصدر شرعيتها بالإضافة إلى القضايا السياسية والاجتماعية التي تلعب دوراً هاماً في تطور المجتمع، فتناولوا الأوضاع السياسية والاجتماعية بروح نقدية، ونادوا بالتغيير الجذري والقضاء على الحكم الاستبدادي القائم، وإنهاء تأثير رجال الدين وحلفائهم على الحياة السياسية والاجتماعية .. وفيما يخص مسألة مصدر السلطة فقد أكد المفكرون الأوروبيون وفي طليعتهم جان جاك روســو (1712-1778) أن شرعيتها تستمد من " العقد الاجتماعي" . وهكذا فالعقلانية التنويرية قد ساهمت مساهمة كبيرة في زعزعة طغيان الأنظمة، حين خرج الناس يطالبون بالحرية، وبالعدل، والمساواة، والحقوق، وافلحوا في تحقيق البعض منها ، وحينما وقفوا في وجه سلطة الكهنوت، ورفعت يد الاستبداد عن الوصاية على العقل والضمير. وأكد رواد التنوير أن الدول لا ترقى، ولا تتطور، وتستقر، وتطور بشكل دينامي سليم إلاّ بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية.
أساليب الحكم العلمانية ـ الثيوقراطية في دول النهضة العربية
اعتبرت الأحزاب القومية والماركسية العربية وقياداتها التي تدعو للنهضة والتنوير، والتي استولت على الحكم في البلدان العربية، منذ أواسط القرن العشرين ، في ظل ظروف وصراعات محلية ودولية حادة ؛ أنّه لا نهضة ولا تنوير من دونها، وبالتالي رأت في ذاتها الغاية والهدف، وأخذت تنسخ تجربة لدول عاشت في ظروف غير ظروفها، عن طريق إقامة بنيان اجتماعي اقتصادي أوامري شمولي شبه عسكري، صور وكأنّه الجنة الموعودة ، في الوقت الذي فقد فيه الأفق ، وأضحت البنية السائدة عائقاً أمام التطور والتقدم. وزاد الطين بلة، تراكم الأخطاء في هذه الدول من دون معالجة حتى وصلت إلى حدود الانهيار .
إذا كانت حركة التنوير الأوروبية قد انطلقت من مبدأ فصل الدين عن السياسة والحكم، فإنّ حركة التنوير العربية اعتمدت في البداية من قبل رجال الدين ثم جرت المطالبة بفصل الدين عن السياسة، وانتصر هذا الاتجاه بانتصار الفكر العَلماني ووصول الأحزاب العلمانية عن طريق الانقلابات إلى سدة الحكم، فعملت على فصل الدين عن السياسة، وأقامت حكم الأحزاب العلمانية، التي تحول فكرها شيئاً فشيئاً إلى دين جديد . وأسوة بالمحرمات الدينية، أوجدت الأحزاب التنويرية الجديدة ( القومية والماركسية والشيوعية) محرمات ومقدسات لا يسمح المساس بها ، وأقرت نظريات عدت مسلمات لا تحمل أدنى ريبة أو شك .. وطالما الشك ممنوع فالإبداع مستحيل ، وفي هذه الحالة يتحول الفكر التنويري إلى أداة تجهيل. كلّ ذلك بالإضافة إلى الدور المعرقل للبنى الاجتماعية والسياسية المستوردة من أوروبا الشرقية، والتي تخلت عنها شعوب تلك الدول، بعد أن بينت الممارسة العملية أنّها معيقة للتطور ، والتي تتمسك بها الأنظمة في بعض البلدان العربية ، لأنّها تحقق مصالح الفئات والطبقات الاستغلالية البيروقراطية والطفيلية الجديدة التي خلقتها، وتوج ذلك بخزعبلات سميت بالفكر، وشبّه أنّه فكر تنويري، وفي الحقيقة تحوّل إلى فكر الأنظمة، وأضحت غايته الدفاع عن هذه الأنظمة ، وأحاط هذا الفكر قادة تلك الأنظمة بهالة من التقديس التي تفوق قداسة الآلهة . وأصبح من المنكر انتقاد هذه الأحزاب أو قادتها ، وبالتالي فالتنوير الذي بدأ بشعار فصل الدين عن الدولة، وصل إلى الأزمة التي بدأ منها، ألا وهي تحوله في دين جديد متخلف عن الأديان السماوية، يحظر ويمنع أية معارضة، أو نقد ؛ إنّه دين متشدد ومتخلف عن الديانات التي عرفتها البشرية والتي عرفت بالتسامح ، فمن المدون في الكتب السماوية، أنّ الخالق العزيز القدير استمع إلى إبليس الذي عارضه، ولم يلغيه، بينما قادة هذه الأحزاب ترفض الاستماع حتى إلى الأصدقاء، إن وجهوا أقل ملاحظة على سلوكهم، ولو كانت لخدمة شعوبهم . إنّ هذا المأزق الذي قادت الأحزاب القومية والماركسية شعوبها إليه، بإقامتها أنظمة في ظاهرها علمانية ، وفي جوهرها ثيوقراطية ـ والتي تحتاج إلى مصطلح جديد لا ديني ولا علماني (ديني ـ نيوجية ) ـ خلق كل المبررات النظرية والعملية لعودة الفكر الديني والغيبي إلى الواجهة والحكم .. وأخذ يطرح سؤال مشروع ، فحواه أنّه طالما تحكمون وفق آلية علمانية الشكل وثيوقراطية الجوهر ، فلماذا لا يتم الحكم وفق آلية ثيوقراطية الشكل والمحتوى ..
من مآسي أنظمة الحكم الشمولية :
تميزت آليات الحكم والأنظمة التي قادت بها بعض الأحزاب العلمانية شعوبها بخصائص فريدة.. اتفق علم الاجتماع الحديث على تسمية أنظمة الحكم هذه بالشمولية .. ومن المعروف أن الأنظمة الشمولية ترى أنّها تمثل الكمال في كل زمان ومكان ، والحاكم ينوب عن الشعب، الذي يعبأ في بنى لا حول لها ولا قوة .. وتقود آلية الحكم هذه إلى تغييب ليس المعارضة فحسب، بل والشعوب أيضاً .. وتسود الاقتصاد والمجتمع حالة من السبات والتخلف، يدعوها المستفيدون منها بالاستقرار.. وللاستمرار في مواقعهم ينظمون المهرجانات الكرنفالية التي يسوقون فيها العباد سوق النعاج ، وهم ينادون بأبدية الأمين العام والحاكم ، متجاهلين سنن الحياة والكون .. فيعيش أبناء المجتمع حالة من التناقض ، ويبحثون بمختلف السبل عن الحقيقة، التي يراها أغلبهم في صفاء ونقاوة الأخلاق والدين الحقيقي ، لا الدين الجديد القائم على تقديس وأبدية الأمناء العامين والحكام، ويستغل المشعوذون نقاط الضعف والخلل ويركبون موجة التيار..
الركود رماد يخبئ اللظى
يعم الركود في الأنظمة الشمولية، ويشمل البنى والأحزاب والمؤسسات الاجتماعية، التي تميل نحو البيروقراطية، والحالة العامة من اللامسؤولية، والانحطاط ، مما يقود إلى انسداد الأفق وانعدام أي مجال للأمل ـ كما بيناـ. هذا ما يؤدي إلى إضعاف النظام الاجتماعي ككل، مع كل ما ينجم عن ذلك من آثار. وتولد هذه الحالة من تشوه المؤسسات والبنى الاجتماعية والاقتصادية، وركودها تشوهاً في القوانين ، والأخلاق ، وتوتراً اجتماعياً، ولا يستثني الركود الهيئات الحاكمة والقضاء...
ولإبداء المعارضة لنهج الفساد وتقييد الحريات، يقوم الكثيرون بالبحث عن متنفس، ووسيلة للتعبير عن عدم الرضى، فيأخذ المواطن الذي يرى في البوليس شبحاً ضاغطاً على نفسه، متابعاً لتحركاته كظله؛ يبحث عن فسحة تنفس يرتاح فيها من ذلك الضغط ، ولا يجد إلاّ الجمعيات الدينية ملاذاً له..
حدثني مثقف علماني متنور ، لا يجد حرجاً في عدم قطع عمله لأداء الصلاة، قال: "كنت في مقر عملي عندما زارني رجل بوليس مكلف بمراقبة شؤون الناس، ثقيل الظل، غير متدين ولا يأبه بطقوس العبادة.. لم أر سبيلاً للتخلص من هذا الوقت العصيب الضائع، ومرارة الجلوس معه. وفجأة علا صوتٌ من أحد دور العبادة ينقذني، إذ نودي للصلاة ، فتأبطته من ذراعه واصطحبته إلى أقرب مكان لأداء الصلاة ، لأنني أعلم أنّه يرى في ذلك عقوبة له.."
فالذي يدفع بالمجتمعات إلى الحالة الجزائرية أو البلقانية المأساوية، ليس دعاة المجتمع المدني، كما استنتج بعض جهابذة الأنظمة الشمولية ـ لأسباب واضحة ـ بل إنّ طبيعة الأنظمة والبنى البائسة التي تحمي مصالحهم، هي التي تقود إلى تلك الحالات المأساوية..
إنّ المجتمع الذي لا يسمح فيه بتشكل معارضة، تتكون في أعماقه معارضة حقيقية بشكل جنيني ، ونظراً لعدم إتاحة المجال لها لتعلن عن نفسها بشكل ديموقراطي متحضر ، فإنّها تكمن في أعماق المجتمع والشعب..
ونتيجة لترافق ذلك بالقصور الفكري والأيديولوجي للأحزاب العلمانية المهيمنة، يبدأ أفراد المجتمع بالبحث عن البديل الأيدولوجي، فلا يمكن لأي مجتمع أن يعيش من دون فكر، ومتى حصل أي فراغ فكري في أية لحظة تاريخية من تطور أي شعب من الشعوب، يتم التعويض عن هذا الفراغ بالموروث والمخزون الفكري لدى هذا الشعب ، وفي مقدمته الفكر الديني ، والموروث الغيبي ، ذلك الموروث الذي إن تم الاعتماد عليه لوحده فقط، من دون أخذ مستجدات التطور الحضاري العالمي بعين الاعتبار ، لن يساهم في تقدم المجتمع ..
إنّ هذه التراكمات المشوهة الناجمة عن أساليب الحكم الشمولية المدعمة بالقوانين الاستثنائية الطارئة، في الأنظمة العربية ، هي من أصل البلاء، والمسبب الرئيس لخلق التربة المناسبة لنمو وترعرع الوعي والثقافة الغيبية القريبة من ثقافة الانحطاط ، والتي تتستر أحياناً بالستار الديني.. وهي السبب في ازدياد تعداد الحشود المتهافتة لحضور جلسات دعاة شبه أميين يريدون العودة بنا القهقرى لقرون خلت لمعالجة شؤون حاضرنا ومستقبلنا ـ كما بينا ـ .. وما يترافق مع ذلك من بنى وتنظيمات مستترة كامنة .. وإفراغ المجتمع من البنى والتنظيمات التي تساهم في بنائه على أسس متحضرة ، تواكب الحضارة العالمية.. فالمجتمعات ذات التنظيمات والمؤسسات الراكدة المتخلفة المتكلسة، مجتمعات مأزومة، تحمل في أحشائها وتحت السطح، قوى كامنة، ثقتها مفقودة بالأشكال المحيطة بها من علاقات ومؤسسات وتنظيمات ... وبما أنّ المجتمعات حية ، ومن غير الممكن القضاء على ما هو حيوي في داخلها ، فإنّ هذه الطبيعة الحيوية وعملية التطور التاريخي تدفعان تلك القوى الكامنة إلى ممارسة نشاطات متنوعة مموهة للتعويض عن الفراغ والنقص الذي يسببه الركود، وعملية حظر تشكيل معارضة بشكل ديموقراطي متحضر...
ـ الحرية والديموقراطية من ضرورات الدواء
تتطلب مسألة وقف الانحطاط ، والسير بالمجتمع على طريق التطور والحضارة، معالجة الأسباب التي قادتنا إلى هذا الانحطاط، تلك الأسباب التي أسفرت عن سقوط أقوى الأنظمة التي عرفتها المجتمعات البشرية في القرن العشرين، والكامنة في جوهر الأنظمة الشمولية، المولدة لحالة الركود، والمدعمة بالقوانين الاستثنائية الطارئة، تلك القوانين التي تتحول مهمتها والغاية من الاستمرار في العمل بها ، ليس إلى حماية الوطن، بل حماية الحالة السائدة، والتي يهيمن فيها الجمود والفساد، ولا تقتصر على حماية الفساد ، بل تساعد في خلق التربة والظروف الملائمة لتفريخه وإنتاجه يومياً .. والمخرج السليم من حالة الركود الاجتماعي والاقتصادي يكمن في الإصلاح السياسي الوطني الديموقراطي .. والمناخ والنهج السليم الرئيس الذي يمكن في إطاره العمل على معالجة التشوهات الاجتماعية ، هو المناخ الديموقراطي الذي يحظى بموجبه جميع أفراد المجتمع، المتدينين ، وغير المتدينين، على نصيب من العدالة، والحق في ممارسة العمل السياسي، الذي يعد فضـيلة اجتــماعية وحقاً وواجباً، لا منة، ويضمن قانونية العمل السياسي و التنظيمي، وحرية الصحافة والعلانية، كي تبنى المجتمعات بشكل علمي دينامي سليم، وتتشكل المعارضة المتحضرة، لا أن تشوه، بل تظهر على حقيقتها، مع حقها في التحول إلى أغلبية، وحقها في التداول السلمي للحكم .. أما طرق الالتفاف على عملية التطور التاريخي، بإطلاق التصريحات والخطب الجميلة، وعدم تطبيقها على أرض الواقع، وهزّ العربة للإيحاء بأنّ القطار يسير.. فإنّها لن تجدي نفعاً، بل ستراكم اللظى تحت رماد الركام، فمن يعمل على لوي عنق التاريخ سيطأه التاريخ خلال مسيرته .. ولمعالجة أزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من الضروري بناء مجتمعاتنا على أسس ديموقراطية دينامية حضارية متمدنة، كفيلة بحماية وجودنا، وتحرير أراضينا المحتلة، والدفاع عن حقوقنا في وجه تهديدات مروجي السياسة الشمولية الجديدة المبنية على مبادئ أحادية القطب والمصلحة الأنانية الضيقة ..
طرطوس 10/8/2003 شاهر أحمد نصر
[email protected]