الحياة 2003/08/10
الكل يذكر، بعد الانتصار العسكري السهل الذي حققته قوات العدوان الأميركية والبريطانية في العراق واحتلاله، تلك الموضوعة التي روّجها كثيرون لا سيما ممن لهم غرض فيها وفي تعميمها، والقائلة بنظرية أحجار الدومينو التي تتساقط حجراً بعد حجر إثر سقوط الحجر الأول بإرخاء ثقله على ما يليه فيسقط ما بعده وهكذا.
وترجمة ذلك توقع تداعي مواقف سورية ولبنان وايران وبقية الدول العربية، وفي المقدمة الوضع الفلسطيني بأسره. ولهذا توجه كولن باول وزير الخارجية الاميركية بقائمة طلباته من سورية، وصعّد بوش في تهديداته لايران من جهة، وشمّر عن ساعديه ليطبق "خريطة الطريق" في فلسطين، بعد اغتصابها من "الرباعية" وتكييفها وفقاً لتعديلات حكومة شارون.
نظرة سريعة الى الدول التي اعتُبرت "أحجار دومينو"، وقد مضى حوالى أربعة أشهر على احتلال العراق، تبدد ذلك الاعتبار، أو التقدير، على كل المستويات، وذلك ابتداء من العراق الذي اعتبر أنه أول من سقط في الحضن الأميركي. وإذا بشعبه الشجاع لم يسقط، ولم يهزم عسكرياً أو معنوياً، أو سياسياً، أو نفسياً، فأعلن منذ الاسبوع الأول رفضــــه للاحتلال بما يشــبه الاجماع. وإذا بأميركا في الورطة. وقد راحت تتـــخبط بعد أن تبددت كل تقديراتها حول عراق ما بعد نظام صدام حسين. فبدا المستقبل أمامها مظلماً عدا الكوة الصغيرة التي فتحت لتحيي بعض آمالها مع تشكل "مجلس الحكم"، بسبب مشاركة عدد من القوى الاسلامية والوطنية فيه. وهذه الآمال (الكوة الصغيرة) ستكون سراباً خلباً بدورها، أو نابعة من تقديرات واهمة: لأن لا مجال للمصالحة بين الاحتلال بمشروعه الصهيوني للعراق وللعرب والمسلمين من جهة، والشعب العراقي العربي المسلم (ولا ينبغي للاخوة الأكراد أو التركمان التأذي من السمة العربية للعراق وهم يؤكدون على حقوقهم وهويتهم القومية) من جهة أخرى.
أما على المستوى الفلسطيني والعربي والايراني، فلا يغرب عن النظرة السريعة، ولا حاجة الى أن تكون ثاقبة، أن أميركا أخذت تـــشن بعد قمة شارون ـ بوش في 28/7/2003 حملة جديدة من المواجهات والتأزيم والابتزاز. فكولن باول وزير الخارجية الأميركية عاد هو ورئيسه جورج دبلــيو بوش يوجهان التهديدات الى سورية ويرسلان من خلال الصـــحافة الاسرائيلية وعملية "الموساد" التي استهدفت "حزب الله" في الضاحية الجنوبية من بيروت، رســــائل التحذير والوعـــيد، مما يؤكد، من جانب، عدم الرضوخ للاملاءات الأميركية الظالمة وغير المنطقية أو في الأصح الليكودية المتطرفة، كما يقدم دليلاً من جانب آخر على عدم حدوث ذلك التغيير في الوضع الذي أكد عليه كولن باول وغيره بعد احتلال العراق.
فنظرية "احجار الدومينو" تحتاج الى مراجعة بالتأكيد. وهذا ينطبق أيضاً على الوضع الداخلي المتحدي في لبنان لا سيما وجود المقاومة بقيادة "حزب الله" وما تحظى به من تأييد لبناني وعربي واسلامي وعالمي.
ويمكن أن يقال، ربما، الشيء نفسه كذلك بالنسبة الى تأزم العلاقات الأميركية ـ الايرانية حيث ذهبت كل التهديدات الأميركية ادراج الرياح، فعادت من جديد بعد قمة بوش ـ شارون لتجرب حظها مرة أخرى كما لو أن شيئاً لم يحدث في العراق قط.
أما اللافت، بصورة استثنائية في هذه المرحلة الجديدة، فيتمثل في الهجمة الأميركية ـ الاسرائيلية المفتعلة ضد السعودية ومصر في آن واحد. وقد تكشّف ذلك من خلال تقرير لجنة الكونغرس حول هجمات 11 أيلول (سبتمبر) على نيويورك وواشنطن، حيث وجهت اتهامات، أو ايحاءات، بمشاركة سعوديين رسميين فيها بناء على الظن أساساً. وهذا افتراء ابتزازي، بالتأكيد، لا يقبله منطق ولا تصدقه وقائع. وان كان المقصود مكشوفاً بسبب موقف ولي العهد السعودي الذي رفض التطبيع الفوري مع الدولة العبرية في قمة شرم الشيخ الأخيرة. هذا ويفتضح الأمر أكثر مع فتح الجبهة ضد مصر، وللأسباب نفسها تقريباً، وضمن الاطار ذاته. وذلك من خلال تهديد شارون لمصر بعدم اشراكها في السلام (أي الغاء دورها) إذا لم تطلق عزام عزام الذي يقبع في السجون المصرية منذ سبع سنوات، بقرار محكمة دانه بالتجسس وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً. فهذا الابتزاز المفتعل يدلل على فقدان شارون وبوش أعصابهما نتيجة الفشل في تحقيق الركوع العربي والفلسطيني الجماعي تحت الأقدام خلال الأربعة أشهر الماضية.
على أن التطور الأهم الذي أعاد كل تلك التهديدات التي توارت، أو خُففت، قبيل قمتي شرم الشيخ والعقبة وبعدهما الى قمة شــــارون ـ بوش، فيرجع الى سرعة فشل السياسات الأميركية ـ الاسرائيلية في اطلاق "خريطة الطريق" بطبعتها الشارونية. وقد لعب قرار الهدنة الذي اتخذته "حماس" و"الجهاد" و"كتائب الأقصى" وتعزيزه للموقف الفلســـطيني ـ العربي دوراً رئيساً في توجيه ضربة اعتراضية، سياسياً، ضد الهجمة الأميركية على فلسطين والمنطقة. ويتضح هذا الدور من خلال اسقاط الرهان الأميركي ـ الاسرائيلي الذي ركز على اجهاض الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني تحت مطلب تفكيك منظمات المقاومة، اذ القصد من هذا الرهان تمزيق الصف الفلسطيني لتركه لقمة سائغة بين أنياب شارون.
إذا كان ما تقدم يصف جانباً من الصورة، ويؤكد احتمال جولة جديدة من المواجهات مع اميركا والدولة العبرية، فإن من الضروري ان تجري مراجعة فلسطينية وعربية رسمية تسأل نفسها لماذا لم ينفع مع اميركا كل ما قُدم لها من تنازلات، وأُبدي من مرونة واستعداد للتعاون واقامة علاقات ايجابية وجيدة؟ بل لماذا انتهت محصلة السياسات العربية والفلسطينية عموماً بالرغم من اعتدالها المفرط، والزائد عن الحد، الى المزيد من الضغوط والافتراء والافتئات والعودة الى التهديد والوعيد مما ينذر بمخاطر أشد من تلك التي ظُن ان تلك السياسات تجنبتها من خلال ما أبدته من مرونة وتعاون وايجابية واعتدالية قصوى، إذ لم يبق غير تسليم البلاد لشارون وبوش كما يسلم الميت جسده لمغسّله؟
الجواب، ببساطة، ذو شقين احدهما يتعلق بالاستراتيجية والسياسات المتطرفة لكل من شارون وبوش، وثانيهما بالاستراتيجيات والسياسات العربية التي تبنت قولة: ليقلع كل شوكه بيده، أي التخلي عن التضامن وتوحيد الموقف وعن تحديد سقف الاعتدال الذي لا تراجع بعده حتى لو كانت المواجهة بعد ذلك، إذا ما ارادتها أميركا. فالاعتدال والايجابية وتقبل التعدي على السيادة والكرامة ومواصلة التنازل مع كل ابتزاز، أو تلويح بالعصا، وقوفاً على أرض الخوف تحت دعوى العقلانية، لا يقود إلا الى التأزيم والمواجهة مع قوم يزيدهم ذلك غطرسة وغلواً ثم تمادياً في طلب التنازلات. فهم قوم لا يفهمون إلا لغة الاعتدال القوي. فالاعتدال بلا قوة وثبات في الموقف اســـوأ من التطـــرف والغلو بل هو تطرف وغلو، ولا يستحق ان يتعاطى السياسة أو ينتسب الى العقلانية والواقعية.
هذه المراجعة يجب أن تعود الى التضامن العربي وتنســـيق المواقف وتوحيدها أو تقريبها من بعضها. فإن لم يكن شاملاً فليتشكل عبر محور قوي من قــبل المستهدفين، مع دعم الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسـطيني (شارون يتهيأ لجولة جديدة من المواجهات العنيفة)، والمقاومة في جنوبي لبنان، والمقاومة السلمية والمسلحة بمختلف اشكالها في العراق، ومع اطلاق مبادرات الرأي العام الواسـع قطرياً وعربـياً وإسماع صوته.
ليس ثمة مبالغة في القول، او ابتعاد عن الواقع، أن مثل هذا التغيير في السياسات يُقدّر له ان يجد دعماً عالمياً، رسمياً ورأياً عاماً، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. فالعالم كله ضاق ذرعاً بتطرف سياسات شارون وبوش. ويحتاج الى موقف فلسطيني ـ عربي يعلّق الجرس. فالسياسات الفلسطينية والعربية الراهنة مجهضة أو غير مساعدة للممانعة العالمية، وحتى الأميركية الداخلية ضد ادارة بوش. فعلى سبيل المثال لماذا يُقبل منه أن يشارك في اللعب خارج الأمم المتحدة في العراق، وبعيداً عن الرباعية في فلسطين. وهذا بالضبط هو "الاعتدال" المدمر لذاته، والمحروم من الجدوى.