|
أسرار الحكاية الجديدة
وديع شامخ
الحوار المتمدن-العدد: 1858 - 2007 / 3 / 18 - 10:28
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قراءة في أفكار القاص العراقي المبدع محمد خضير (الحكاية الجديدة في سبع ليال) الحلقة الأولى بسبع محاضرات ( سبع ليال) ومدخل وخاتمة تنكرية أقام المبدع محمد خضير ظهيرا نظريا لحقل اشتغاله في فن القصة القصيرة … ويعد محمد خضير من المبدعين القلائل الذين اخلصوا للحكاية ورعوا أدوار استحالتها بعين العطار وصبر الحرفي ( سليل الصناع الذين يؤثرون العمل اليدوي على الماكنة السريعة …. صفاته ، التأمل ، البطيء، الإخلاص ، الكفاف، زاده الخيال، مادته القطعة الصغيرة المتقنة ). فمنذ قصة ( النيساني ) التي نشرها في مجلة (الأدب العراقي ) قبل اكثر من ثلاثين عاما ، وبعدها البطات البحرية عام 1966م، وقصة الأرجوحة في الآداب البيروتية ، تلك القصة التي لفتت انتباه القراء العرب ، واشار الى أهميتها سهيل إدريس ، وبعدها ( تقاسيم على وتر الربابة ) الذي نوه بأهميتها غسان كنفاني ، وبهذا النحت البطيء في صخرة الإبداع والتأمل في التجربة واحتواء مؤثراتها العامة وهضمها ، قدم الكاتب تمثلات إبداعية لتجربته عبر إصداره مجموعته الأولى ( المملكة السوداء) عام 1972 وبعدها أنجز مجموعته الثانية( في درجة 45مئوي) عام 1978 ، ثم لاذ بصمت البحث والتقصي ليخرج بكتاب مهم ( بصرياثا –صور مدينة)عام 1993، ثم سار بعالمه الإبداعي الى تخوم قصية خارجا من عباءة تجاربه السابقة فاصدر مجموعته ( رؤيا خريف). ان هذا الفارق الزمني والمحطات التي ذكرناها في مسيرة محمد خضير قد لا تشكل مؤشرا لتطور نوعي عند البعض ، ، فمنهم من قال كلمته ومضى ، ومنهم من سقط في فخ الكرار والاجترار ، واخرون أغوتهم الأضواء وهالاتها الكاذبة . لكن محمد خضير ومع قلة من المبدعين مضى الى الهدف يحسب خسارات الوصول الى منبع الرؤى . ونحن هنا نناقش أفكار الكاتب النقدية التي لخصها في كتابة النقدي ( الحكاية الجديدة) الذي يسلط الضوء على تجربته الإبداعية ويدون رؤاه وينتهك الأقنعة إذ يقول ( وما من كاتب تشغله قضايا المجهولية الكبرى للفن إلا ويقدم على تدوين رؤياه في الوقت المناسب قبل ان ينتهك الآخرون قناع تبدلاته ومجهوليته)، هنا يعلن القاص عن فطنة كاملة إزاء اليقين ، فلا بد من إزالة الأقنعة بعد انتهاء الكتابة بوصفها ( حفلة تنكرية ) ، وما الأقنعة إلا تلك الحاضنات الفكرية والمرجعيات الجمالية التي تثري مادة الكتابة الإبداعية . يُشبه محمد خضير ذاكرة الكاتب بدكان العطار( فلا اكبر من دكان العطار ، هي ذاكرة القصاص وقد اختلطت فيها روائح الأعشاب والبذور والزيوت، تلك هي ضمانة القصاص المكتفي بنفسه ، والامين لأسلوبه ، عيناه على الماضي الأثير ، ويده تمتد الى تلك العلب العديدة ، يميز روائحها الأليفة ويلتقط العلبة المطلوبة ) إذن هو القصاص القنوع ليس بالرضا بضاعة الصمت والسكون ، بل بالاغتراف من الكنز الذب لا يفنى . هنا يضع الكاتب قيما أخلاقية ( المكتفي – الزاهد-، الأمين) وهي صفات سوف لا تصمد أمام القراءة المتأنية لفكر محمد خضير وابداعة كما سنرى فيما بعد وكأنه يسعي الى ترحيل قيم من حقل أخلاقي ! الى حقل الكتابة ( حفلة التنكر والأقنعة) ، وكما يقول بيكاسو ( ان المبدع هو سارق كبير وخطير) . كتاب الحكاية الجديدة ، هو كتاب نظري اشتمل على سبع محاضرات كان الكاتب قد ألقاها على جمهور من الطلبة والأدباء وفي أروقة الجامعات ، واتحاد الأدباء ( في البصرة وبغداد والعمارة) . أعاد الكاتب أعدادها على شكل كتاب بسبع محاضرات ، بعد ان أجرى عليها تعديلات وضمنها هوامش جديدة إذ يقول ( لم يسلب الأعداد الثاني للمحاضرات شيئا من طبيعتها التأميلية ) ، كما تضمن الكتاب مقدمة وخُتم بمقابلة مع محمد خضير أجراها رياض إبراهيم مع محمد خضير . وبما ان كتاب ( الحكاية الجديدة) قد جاء في صيغته الشكلية مطابقا لكتاب بورخس ( سبع ليل) وكذلك وجود اكثر من قاسم مشترك على مستوى المرجعية الفكرية بين المبدعين –لا سيما وان محمد خضير قد تعرض الى مثل هذه المقابلات في أعماله القصصية إذ وصفت أعماله بتأثرها بشيئية ( ألن غروب غرييه) ، والواقعية السحرية عند ماركيز، وآخرها البورخسية . وكأن محمد خضير الهادر الأزلي لدم الرؤيا ! فلا بد لنا ان نتفحص كتاب بورخس ( سبع ليال) لنضيء المشترك بين فكر الكاتبين شكلا ومضمونا . كتاب بورخس هو سلسلة من المحاضرات أيضا. ألُقيت في عدد من الجامعات ثم طبعت بشكل مختزل في الملاحق الأدبية لصحيفة ( بوينس ايرس ) ، وبعد مضي سنوات أجرى بورخس تعديلات واسعة على المحاضرات التي خرجت بشكل كتاب . يقول مقدم بورخس في مقدمته ( ان تأملات بورخس الأدبية لا يوجد فيها شيء منهجي ، لان النقد عند بورخس فرع من الأدب التخيلي … الأدب يولّد الخشية في احسن حالاته أو الفزع المقدس) ويشير محمد خضير في مقدمته ( ومازالت هذه المقالات تحتفظ بذلك الطابع التجريبي المنفرد ، فلم تدخل في حساب النقد الأدبي ومنهجيته ، ولا في مداخل النظرية الأدبية ومصادرها …. إلا بما سمح المدخل المشترك بين التجربة الخاصة والمبدأ العام فليتقبلها القارئ على أنها سيرة نظرية) . ويمضي محمد خضير في توصيف كتابه ( واني بدلا من من حصر انفعالات الخلق في مجاريها المتشعبة تركتها تنساب في مجرى مجاور لنهر النص الأدبي وقد جاءت الهوامش والروابط لتمنحها قوام المقالة ، بعد ان استدعى التأمل ان يسلك طريق المحاججة والإقناع ، لا طريق التشتت والتخبط) . يؤكد المسترريد مقدم بورخس على ان محاضرات بورخس شفهية يقصها الأعمى ، حتى أنها تحولت الى سلسلة من التبصرات المنفصلة لا يربطها سوى ذلك الخيط الغرائببي الذي يضفيه عليها انتباه الكاتب نفسه ( ان سحر بورخس المروي يختلف عن بورخس المكتوب… حيث يكون بورخس الرواي اكثر خداعا وتلونا ، ففي الوقت الذي تظهر فيه كتاباته كلعبة فان أحاديثه تصبح ذاتها لعبا وشرطا ..للمفارقات) .ويذهب بورخس في محاضرته عن العمى بالقول( ان الناس يميلون الى تفضيل الشخصي على العام ، المحسوس على المجرد) ويعلق المستر ريد ( بورخس الأعمى يلقي محاضرة عن العمى قد أضفى بعدا اكثر درامية على لغة المحاضرة ). في مدخل الحكاية الجديدة يذكر محمد خضير ( أتذكر أول جلوس لي على المنصة لالقاء محاضرة (ذاكرة العطار) في اتحاد بغداد عام 1987 وما استمتعت به من طلاقة سرد وقائع لم أسجلها في مدونة المحاضرة تتعارض تماما والمواجهة الأولى مع الجمهور لم أتعرفه ولم يتعرفني . فقد كنت أحس لغياب شخصيتي –مؤلفا بعيدا- تأثيرا يفوق تأثيرها – حاكيا- قريبا. وقد جاءت النتائج لتخذل تصوري المعتاد ، وتلغي واحدة من عاداتي التي درجت عليها زمنا ودافعت عنها . لكنها ويا للروعة كانت نتيجة مذهلة ، فقد استدار أفقي نحو احتمال اكثر تطابقا مع نظرتي الأولى ! ان حياة المؤلف في الحضور والمواجهة تعادل غيابه في حياة النص الذي يظهره). وعندما ينهي الستر ريد مقدمته، يواصل محمد خضير كشوفاته النظرية ويبدّل عاداته إذ يقول( ما دام المؤلف بهذه القدرة على الاستبدال ، فانه لا ينكر حق المؤلفين الآخرين في ان يستأثروا بمدار لهم ، او ان يخرجوا الى مدار مشترك ، في حركة من الاقتراب والابتعاد ، التأثير والتأثر ، تمثل هارمونية التأليف الخلاق لرموز الطبيعة والكون والحياة ، التاريخ والأبدية .) يعرف الكاتب ان التجربة عندما تصل الى ( النيرفانا) تبدأ بابتكار مواقدها الخاصة ، فهو الآن النافخ في جمرة تجربته ككينونة انفصلت عن طبيعة النار والخشب . ترى لماذا عمد محمد خضير على إلغاء بورخس من أية إشارة في مدخل حكايته الجديدة؟ اعتقد ان محمد قد افترض نظريا بان بورخس يمثل ذات الواحد الفيثاغورسي ، وانه إذ يقترب منه او من غيره فانه يمارس لعبة محو الصفة الواحدة وانحيازها لوصّاف واحد ، واقترانها منطقيا في المدار الكلي لتلاقح العقول المتكافئة . وأذ يعلن خضير ( ان أمر استباحة رؤيا الآخرين مبالغ فيه ولا بد من النظر الى الأفلاك الميتافيزيقية المشتركة لمجموعة من المؤلفين بعين عاشقة ) ويرى بورخس ( ان القصة التي يؤلفها مؤلف معين قد تكون حتما حلما عند مؤلف آخر) .والحكاية الجديدة كما الليالي السبع تنتهي من مقدمتها لتذهب الى البحث عن أسرار فن القصة القصيرة كما يراها محمد خضير. (بورخس راويا) العميان الرؤيويون قد اكتشفوا في اللون الواحد ( العدد الواحد) قدرة على تناسخهم النوعي فمنذ هوميروس وأبى العلاء المعري وبورخس ، الذي تماهى مع عماه الجسدي ليبحر في رحلة رؤيوية عبر كتابه ( سبع ليال) . يبدأ بورخس بالحديث عن الكوميديا الإلهية بشفافية سلسلة وثقافة موسوعية ، إذ راح يُنقب عن اصلها وفصلها وقراءات الآخرين لها وقد اكمل بهذا الليلة الأولى من الكتاب ، وجاء محمد خضير في حكايته الأولى ليصوغ من ( الجحيم ، المطهر ، الفردوس ) أطوارا للحكاية وينتمي الى عصر الفردوس ، اصل الحكاية ونبعها الاول حيث الحكاية برمتها هي حكاية الإنسان وادوار استحالتها ( طفولة ، شباب ، شيخوخة وموت) والموت هو المقابل للحلم في الفردوس ، يقول( للحكاية ثلاثة عصور ، عصر النشأة ، عصر اكتشاف الحكاية ، عصر العودة الى الحكاية) والذي عاد فيه اكثر الكتاب الى النبع الأصلي . ( حيث البشر يفقدون أنوفهم او يخترقون الجدار بسهولة او يتجاوزون جاذبية الأرض). وبعد رحلة بعيدة يكتشف محمد خضير -كسابقيه الحالمين بالفراديس واليوتوبيات -،على خرائط تدله على ابعد نقطة في اقيانوس العقل البشري( ان حصول أي كاتب معاصر على هذا المجلد العجيب يضعه أمام سؤالين : أي دافع هائل خلف او أمام هذه الرحلة الطويلة؟ ولماذا هذا الانتزاع الرمزي والتحليق فوق الطبيعي على عالم البشر ؟) . لقد وبخ الاسكندر المقدوني سقراط عندما نشر ( كتاب الميتافيزيقيا) ، قائلا له: لقد كانت النخبة وحدها من تعلم بهذا الأمر ، فلماذا فضحته؟ أجاب أرسطو: كنت انسخ مخطوطاتي لوحدي . وكأنه يؤكد فهمه الخاص بان الكتب مثل التماثيل ، ولابد من الحوار لان الحوار يؤكد ضرورة البحث عن الجواب والجواب صياغة اخرى لأسئلة اخرى. ومهما تبدلت الأجوبة على لسان الحكماء او على لسان الطيور والحيوانات وربما الصخور ، تبدأ الحكاية من اليقين لتنتقل الى فضاء الأسئلة. يبدأ محمد خضير ماسكا خيوط الحكاية ، مارا بكشوفاته عن اصلها وروادها ، بعقل كبير وثقافة واضحة . وكما يستحضر بورخس الكتّاب الذين كانوا أدواتا منحوته لجوهر تجربته ، ينتهي خضير بكشوفاته عن النبع الاول لفهمه للحكاية بالقول_( ولكن عصرنا يبدو انه الحقبة الأخيرة من تطور البشرية التي لا نستطيع تخمين حدودها النهائية ، ولا شك في ان الحكاية التي سطعت كومضة تخيلية وحشية ، لا نهائية في رؤيا الوعي البدائي ، تطورت الى شكل نهائي مصطنع من أشكال ميكانيكية العقل المتطور، واستقرت في مملكتها الأخيرة الواسعة الأرجاء) زكما يذهب ( ريلكه) : بان الحياة خبرة أولى للموت ، وكان الموت البيولوجي للأعضاء ليس فقدانا للأثر الجمالي للعقل البشري. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الثانية
(ذاكرة العطار) محمد خضير بين ( القصه خون ) والقصّاص. هذه هي المحاضرة الثانية من كتاب 0( الحكاية الجديدة) الذي يشير فيها الكاتب الى مؤثرات البيئة المحلية والتراث العربي في صياغة نموذج القصاص ( قصاص القصة القصة القصيرة تحديدا) ، هذا النمط الإبداعي المهدد بالانقراض ، يتقدم الكاتب بيقين نحو عمله بالقول( ان كاتب القصة القصيرة يحتاج الى دافع خاص به، دافع محلي ، دافع اكثر التصاقا بشخصيته وتطابقا مع صفاته. على العكس من عالم الرواية ونموذجيتها الفنية وغائيتها الكونية الفكرية ، فان شرط القصة القصيرة ارتباطها بتربة خاصة ، بدرجة حرارة ملائمة ، بباطنية سيمباثية ، طويّة شخصية) وان مثل هذه الشروط تنطبق على ( القصة خون) – اشتق هذا الاسم الجاحظ من الفعل قصّ- ، هذا الحكواتي الذي استمد نجاحه من حضوره الشخصي وقدرته الشفاهية على سرد الحكايات حد التماهي معها – التقمص حسب ستانلافسكي-. ليؤكد خضير هذه الروابط بين ( القصه خون) وبينه ، او قصاصه .( ابحثوا عن أضواء لإثارة تقاطيع وجه القصاص (قصاصي )، ولكنكم لن تحصلوا على شيء جديد في الصورة ، فالحدود مرسومة ، والخصال معروفة تفوقه في مسحة لا زمنية ، أنها تربطه بتقاليد الوراقين والنساخين) ويتابع ( ان أنموذجي الذي احتذيه اقدم من قصاص الخمسينات ، فقد يكون أحد الحكائين المشهورين أمثال ( خال بن زيد ) الملقب خالويه المكدي ،الذي رسم الجاحظ قسماته الطريفة ، أني لاشعر ماشيا في جادة البصرة القديمة ، أزاحم ناسها في أسواق الجمعة ، أخالط رجالها المتلحفين بالبُرد الخشنة ، واني لاسمع السروجي ، وأبا الفتح يحكيان مغامراتهما عن بلاد العرب القصية). ويمضي الكاتب بالدفاع عن فن القصة القصيرة وفق شروطه الخاصة ( وعظمة هذا الفن الصغير انه لا يمتلك مقومات العظمة والبقاء فالقصة القصيرة فن عابر كأوراق الشجر التي تجرفها الرياح) مشيرا في هذا الوصف الى قصة بورخس ( المبارزة) . – الحكاية التي ولدت في الظل تعود الى الظل -. وبين زوال الأشياء وآثارها يميل الكاتب الى ( البصمة) او التوقيع او الإشارة الى بقاء الأثر بزوال صاحبه انتصارا لحضور القصاص في العمل …… ذلك الحضور الأزلي إذ يقول ( وهنا تندحر فكرة اختفاء القصاص وراء عمله ، ولا يرتبط مقياس الجودة بحذق القصاص في الاختفاء ، وانما بحجم الظهور ، فلا بد من يد وان كانت خفية، فلا بد من وجود بصمة او توقيع يشير الى الصانع الماهر ، يترسخ مع الزمن ، كما ترسخ توقيع نجار على باب قديم ، او خزاف على صحن اثري ، او نساخ على هامش مخطوط قديم). لنتوقف هنا أمام قناعات محمد خضير إزاء الأثر الباقي ، النجار والخزاف اللذين ذكرهما محمد فانهما يمثلان بقاء البصمة بوصفها مقتنيات شخصية وفردية. أما الكاتب فتعدو مخطوطته –بعد الطبع- مشاعا عاما لجمهرة من المهمِشين على أثره ، وذلك بنقل هوامشهم-قراءاتهم-، حيواتهم السرية- وتأويلاتهم على المتن الأصلي ، لتصبح المحطوطة لا تنتمي الى نفسها أبدا –وفق منطق القراءة الحديثة التفكيكية للعمل الأدبي –رغم وجود البصمة الأولى التي ستتناسل نوعيا لعدد من القراءات – الكتابات المعادة للنص الأصلي . متوالية من المؤلفين الجدد ، وهذا بالضبط ما ما يجعل الحكاية الصغيرة والنوادر فعاليات ثقافية مضادة لنمط من الحياة المهيمنة لقدرتها على التناسل واقتفاء المؤلف الأصلي لها ( وحدها الكلمات لا تنتمي الى أحد ) إذ أنها خارج الحيازة الشخصية فما يوضحه النجار والخزاف في الغالب هي آثار تاريخية وحرفية ، بينما ترسم متوالية الهوامش على النص الأصلي المكتوب ، نقل الحيازة بالمعنى الفكري والحضاري الشامل ، إنها دورة التواصل والحوار مع ما هو غير مكتمل في البصمة الأولى للمؤلف لاسباب مختلفة. تبررها لجوء المؤلف الى استخدام طاقة الرمز الى أقصاها ، وهو ما لا يحتاجه النجار والخزاف .طالما ان محمد خضير قد كرس مفهوم المؤلف مقترنا بالتخييل واليوتوبيات . فلعبة الكاتب في الحضور والاختفاء هنا تقترن أيضا باختفاء صانع الأثر وتنحدر الى لعبة اخرى يكون طرفاها – قصاص- القاص ، والمتلقي الجديد. يذهب محمد خضير الى مناقشة الأسلوب في محاضرته مكررا مفهوم ( الأسلوب هو الرجل ) إذ يقول( في القصة القصيرة يكون القصاص نفسه ، أسلوبه ، حيث لا انفصال بين الأداة والموضوع ، بين النظرة والمنظور ، هذا الفن قطعة واحدة متماسكة يُلخص القصاص فيها موضوعه بأقصر مساحة ، واقصر زمن ، واصغر انفعال وازهد غاية) . ان محمد خضير وهي يمضي بخياله عن فن القصة القصيرة يوقعنا في التباس نظري مفهومي في اثنين من المبادئ كان قد اعتنقها في بداية المحاضرة وهما: 1- المقاربة بين الحكواتي والقصاص وتناوبهما في قوة الحضور ليقول لنا( ان قصاصي الذي اقتدي به، خرج مع جرابة في الماضي البعيد ، سائرا على الطرق الهوائية نحو ( يوتوبيا) تتكرر في أحلامه ، وسيصل الى هناك في مستقبل غير بعيد) 2- حماسته ويقينه إزاء كاتب القصة وحاجته الى دافع خاص محلي ، وتربة خاصة ، ودرجة حرارة ملائمة ، وطويّة شخصية . هذه العناصر تشكل بالتأكيد الحاضنة الواقعية لمصادر الإبداع عموما . نرى ان محمد خضير قد ذهب بقناعاته السابقة الى منحى جديد إذ يقول ( قد يضيق القصاص في مجاله الحيوي ، مجال الخلق القصصي ، حيث يعرّف مصادر قصصه بأنها مصادر واقعية بحتة) ولكي يؤكد الالتباس في التبني الجديد معاكسا لقناعاته السابقة ، يحاول أيراد أسئلة غامضة عن الواقع ومن الذي يتحول فيه الى قصص وكأن التربة الخاصة ودرجة الحرارة الملائمة وغيرها من الاشتراطات التي يحملها قصاصه الواقعي المحلي في بداية المحاضرة هي غشاوة بفهم واقعية المصادر لعملية الخلق إذ يقول(وما يحتاج الى توضيح هنا وتدقيق هو مسافة الواقع التي يتحرك فيها القصاص ، وأي شيء في هذا الواقع سيتحول الى قصص ، اواقع الصدفة العمياء، اللحظات العابرة والتفاصيل اليومية التي تشير الى الحاضر ، أم الذاكرة الجمعية للناس التي تختلط فيها تناقضات الماضي والحاضر وأحاسيسها ، أم النهر الذي يجري نحو المستقبل ، وكيف سينتقل كل ذلك على صعيد القصة ؟ في أي موقع يكون القصاص ، في التيار او على الضفة؟). بالإضافة الى هاتين النقطتين اللتين لا تشكلان برأيي تطورا لقناعة سابقة ، يعود الكاتب للإصرار بأنه كاتب واقعي ( واصر على أنني كاتب واقعي) ليعقب هذا الإصرار بجملة غاية من الغرابة ( لكن أعطيت مخيلتي حق ان تذهب الى الحافة الخطرة للواقعية) ، وهو الذي تساءل قبل بضعة سطور عن موقع القاص اهو في التيار أم على الضفة !!؟. ثم متى كان الكاتب الواقعي من ( جيل محمد خضير حصرا) يحبس مخيلته في قمقم الواقع؟ ومتى كان الكاتب التأملي الرؤيوي يضيق بواقعه كمنبع ومصدر للإثارة الأولى!! ويبحث عن مكان له في الواقع كما يرى ( لم اكن اكثر وعيا بهذه الخطوة في يوم كما أعيها اليوم ، ليس هناك سراب او ضباب . او عمى او إثقال او سدود ، الحافة واضحة ، وأنا على علم تام بخطوتي التالية) . وللحقيقة فان محمد خضير واحد من كتاب القصة القصيرة الذين اشتغلوا على تطوير متنهم الحكائي بصبر وروية وبخطوات نوعية محسوبة في تحولاتها ، لكن هذا لا يعني ان زملائه قد ساروا الى المناطق الآمنة في طريق ابداعهم ( وليس هنا لالوم زملائي القصاصين الذين يسيرون على الطرق الآمنة كما رسمها لهم الواقعيون الأوائل ، ولانهم يتجنبون السير على الطرق الهوائية . ذالك ان المسألة ، لنا جميعا ، مسألة وسائل ووقت ومواقع واختيارات ). وما ان يبتعد الكاتب عن حمىّ التأمل التنظيري ومحاولته الجادة لاخفاء مرجعياته ( البورخسية تحديدا ) ، يعود الى صفاء القصاص المفتون بالحكاية ، تلك التي فك أسرارها ( غوغل ) وضمها في قصة ( المعطف) التي خرج منها ( سر الحكاية الجديدة) . كما يؤكد الكاتب بان الواقعية لم تأخذ صفاتها ( الغرائبية والسحرية) . من فرسانها المحدثين ( وان البحث عن الشيء المجهول غير الملحوظ في الشيء الواقعي الملحوظ ، وعن الشيء غير المألوف في الشيء المألوف ، عن الكامن والدفين في الشيء الاعتيادي الظاهر ؛ وبعبارة اخرى عن الخيالي في الشيء الواقعي ) ولتبديد القلق عن مصطلح الخيالي يقول( لا ينبغي لنا ان تقلقنا كلمة خيالي . فالمقصود منها ليس المعنى الوهمي او اللامعقول . الخيالي الذي اقصده هو معنى لقوة إشعاع صادرة عن جوهر الشيء الواقعي ، لا تنفصل عنه ، كما لا ينفصل الإشعاع عن قطعة الماس ) ويذكر بالنهاية الخيالية للقصة الواقعية مستشهدا بقصة واقعية ( المعطف) ، ( لكن هذا ما حدث ، هكذا تكتسب الحكاية المسكينة ، دون توقيع ، نهاية خيالية ) . يبدو ان محمد خضير نسيّ العطار القانع بواقعه، الغرائبي . ، وصاحبه ( القصه خون) وهو يمارس سحره على الآخرين عبر حضوره الواقعي ونهاياته المتوالدة. وليثبت الكاتب إخلاصه لفن القصة القصيرة عبر نموذجه ( قصة المعطف) بوصفها ( حكاية) أراد ان يسلب من خلالها الأثر الفاعل للكتاب المعاصرين ، وسحب الفراش من تحتهم ، كمخترعين جدد لفن القصة يقول( لو عدنا الى نهاية قصة ( المعطف) لاصطدمنا بكلمة حكاية ، حيث أراد ( غوغول ) ان يؤكد الأهمية الخاصة للبنية الحكائية في قصته . ان آخرين من كتابنا المعاصرين ، أمثال ، بورخس ، ومركيز ، وكاليفينو ، وبوزاتي ، سيدركون عظمة الاختراع الحكائي الغوغلي ، فينقذون السرد الخيالي من الابتذال الخرافي والغرابة القوطية ، ويضعون أسس الشكل الجديد للقصة الحكائية ، التي استطيع تسميتها بالحكاية الجديدة ). وفي محاولة الى ليّ عنق التقويم الى الانتداب الى الحكاية ، يذهب الكاتب الى تأكيد أهمية الحكاية الشرقية ( ان روح العصر تلتحم بقوة الخلق العجائبي ، السحري ، لدى هؤلاء ، وتجعلنا نلتفت الى ما في شرقنا الكبير من ( حكايات ) دفينة خالدة في كتب خالدة مثل ( ألف ليلة وليلة ) يرتبط الخيال فيها بحياة واقعية حارة وممتعة ) يبدو لنا ونحن نعلّق على محاضرة ذاكرة العطار ، أننا أمام عطار فعلا وليس قصّاص ، فالعطار محمد خضير ، يحتفي بخلطاته وكشوفاته في المجال القصصي ، ناسيا او متناسيا ، ان وصفات العطار وتقابلها ، كشوفات الكاتب النظرية عن مفهوم القصة ، إنما هي اجترار لمفهوم العطار ، وتناصا بالمفهوم النقدي . هنا يضعنا محمد خضير في ورطة المتناص ، او السارق ! ان وجود العطار وذاكرته هو وجود استعاري ، رمزي . لا يُشابه الجهد النظري الذي طرحه الكاتب عن مرجعياته محاولا العبث في أسبقيتها الواقعية على فن القصة العراقية ، وتحديدا في فهم محمد خضير حصرا . ولو وضعنا منجز الكاتب الإبداعي نصب أعيننا ، سوف نخرج باستنتاج واضح ، ان محمد خضير من أوائل الذين خانوا الحكاية بسحرها الشرقي ( في نتاجه المتأخر تحديدا) ، منتميا إبداعيا الى سحر الأسلوب في القصة الحديثة . ان محمد خضير سيواصل مناوراته في بقية حكايته الجديدة . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الثالثة
القصاص المجهول ( تعاقب الحالمين، بحيازة النص) في تجربة طريفة لمحلل نفسي أقامها على مجموعة من الأشخاص وعلى طاولة مستديرة ، وقام بالهمس لاحدهم بسر ما، وطلب منه نقل هذا السر الى الشخص التالي الجالس بجانبه ، وهكذا يقوم كل شخص بنقل السر- الحكاية- الى الآخر حتى اكتمال دائرة الجالسين . فوجد ان السر –الجملة – التي همس بها بأذن الاول قد وصلت الى آخر الجالسين بصيغة مغايرة تماما لجملته الأصلية ، حتى انه شعر بان رسالته الأولى اختفت معالمها بين أشخاص الطاولة المستديرة . ولنا ان نتصور ان الأشخاص ليسوا على طاولة مستديرة ، وانما يقفون بصورة مستقيمة ( كأعمدة التلغراف) وسط الحقول ، واجبهم إرسال البرقيات بأصواتهم كما جاء في قصة ( البرقية للكاتب لسلافوير مروجيك) الذي أستشهد محمد خضير بها ليثبت ان ( الصورة الأصلية لشكل الوجود تبدل أبعادها وألوانها تحت الشعاع المتعاقب لفجر الأرض وغروبها). فكيف يكون مصير الحكاية كأثر مخطوط في تعاقب حيازتها ؟ يجيبنا الكاتب( حين يكون الأثر مخطوطا تصفحته مئات الأيادي ، وخطت على هوامشه مئات الأقلام ، ونظرته مئات العيون نظرات استخلصت من حروفه إكسيرا راقيا للضمير او الذاكرة . ان سلسلة المواد والأرواح المتناسخة تتفحص هذا الأثر لا المؤلف أول لها ولا القارئ الأخير آخرها) . يذهب بورخس في محاضرة الكوابيس من كتاب ( سبع ليال):(في هذه اللحظة احلم بالسيروة الكونية كلها ، احلم تاريخ العالم ، احلم كل شيء … طفولتكم ، مراهقتكم ، حالم بدء يحلم ، احلم أنني القي محاضرة في قاعة ( كارل شاركس) أنني احلمكم وهذا ليس صحيحا ، كل واحد منكم يحلمني ويحلم الآخرين) . هناك معلق مجهول يدلي بالحقيقة . كما يفرق بورخس بين الأحلام وبين الكوابيس كنوع من ( الفزع المقدس) للأثر الادبي، ويستطرد ( الأحلام تعطينا فكرة عن الروح العظيمة وهي متحررة من الجسد ) ، في الأحلام نحلم أننا نقرأ كتابا ، ولكننا في الحقيقة نبتكر كل حرف من الكتاب . بينما يقول محمد خضير ( أنت أيضا وأنا معك، واقفان هناك ، نحلم بأننا واعيان لوجودنا ولوجود المرسلين الذين نجهل مواقفهم . إننا منفردان ومتصلان أيضا ، … يظهر في مرايا الأزمنة خالقون متكررون ينسجون في غسق القرون الآفلة أساطيرهم . الآن جاء دورك لتنسج ، لتلعب : لترسل في التلغراف الخيالي برقيتك ، أرسل فما أنت وحدك ، وما أنت بآخر ، وما نخلقه ارسل مثله خالقون قبلنا ، ولكن لكل خلقه الذي لا يتكرر ولا يعاد إرساله، أي نص اصل في زمانه ، مرحلته الثابتة من مراحل الإرسال) . كما يؤكد بورخس من جهته بأنه( يرى الحالم حلمه في لمحة واحدة كما يرى الله في أزليته الشاسعة ، الصيرورة الكونية برمتها ). ومن النظام الصارم بالإرسال والتلقي الى النظام الاحتمالي يعلق محمد خضير ( نحن مجموعات ، وما لا تلتقطه مجموعة تلتقطه مجموعة اخرى قريبة منها او بعيدة ، ما الفرق؟ نظام احتمالي وقابليات غير متجانسة ، ومسافات متفاوتة ، يطول الانتظار سنوات، ولا يحدث شيء ، لكن وقوع ملا يحسب ببال قد يحدث بين زمن واخر ، الاحتمال قانون قاهر ، كالمصادفة في رحلة الصوت . نحن رسل بلا حدود ، أفراد أخف من الهواء ، واثقل من الصمت ، الصمت الضروري للالتقاط ، الخفة الضرورية للإرسال ، وكما يحصل في قصة ( مروجيك ) البرقية ، أحيانا حين يرّف ( الرجال الأعمدة ) مضمون البرقية حين يكونون مخمورين … فأننا نخطئ في كل مرة نعتقد فيها أننا أتممنا الرسالة ، ولشعورنا العميق بهذا النقص والخلل ، نستمر في رسائلنا دونما توقف) ان الرسالة الإبداعية في رأيي لا ينتجها قانون السببية ولا يوصلها مبدأ الصدفة . ولكن محمد خضير يمضي في طروحاته حول وهمية المؤلف وخداعه يقول: ان الفعل ( ألف) خادع ووهمي كفاعله المؤلف . نحن لا نقصّ عن شيء ، لان قصصنا موجودة قبل كل شيء ، قصصنا لا تعنينا ، فهي تعني وجودها فقط . الوجود السابق على أي وعي وعي او إحساس . ان قصصنا خلقت قبلنا ) . وفي الهامش الخاص بهذه الفقرة يرى محمد خضير انه غير مدين لبورخس وحده( لا أدين بهذا التأويل الأفلاطوني الى بورخس وحده ، إذ تناهى اليّ كذلك من الرسائل الفلسفية العربية القديمة ، حيث لا افتراق بين البرهان والوجود السابق عليه) . ونحن نرى ان هذا الأمر ليس نتاجا بورخسيا ، وانما هو جدل فلسفي قائم بين الفلسفة المثالية التي تؤمن ( بأسبقية الوعي على المادة ) والفلسفة المادية التي تُقر ( بأسبقية المادة على الوعي ) . حيث ان الأشياء السابقة لوجودنا ليست القصص فقط ، وانما المصير البشري كاملا في مفهوم العقل الكلي المطلق. وكما يقول ( بيكاسو ): إنني لا اكتشف ، أنني أجد. للتعبير عن تعاقبية الخلق والحيازة معا . كما ان الأفكار على قارعة الطريق – كما يرى الجاحظ-. (عمى الخالق- المرسل-) ان عمى المبدع الحقيقي إزاء عمله هو قناع آخر لمجهوليته مثل العمى المفترض للكائنات إزاء الخالق الأزلي . ففي الرسائل القديمة ( رسالة الغفران ، منطق الطير، كليلة ودمنة ، الكوميديا الإلهية ) وصل الخيال البشري فيها الى مرحلة كشف الحجاب وتمثل أحوال السماوات كما يتراءى للصوفي وهو يتمثل كلمة ( كن) . وهناك نمط من الرسائل المقفلة ( والتي تثير قابليات التأمل والفراسة) مثل الرسالة التي أرسلها ( عمر بن هند ) بيد (المتلمّس ) الى عامله في البحرين ، يأمره فيها بقتل حاملها . ولكن روائح الموت فاحت منها فأستنشقها حاملها ( الجاهل بالقراءة) بحدوسه وفراسته ورماها في النهر . فاضّا هذه الرسالة وكاشفا أسرارها ، وهو الأعمى أمام المرسل البصير! يفترض محمد خضير للمبدع صفة التجلي لا الانكشاف عند معاينة رسائله المفتوحة والمغلقة ، ويعبر عن هذا بمصطلح شعري ( اختفاء النضج ) . ان اختفاء المؤلف هنا هو قناعه تجاه محاولات كشفه من قبل السائرين على طريق علامات النص . لذا فان خضير لا يريد لرسائله ( أقنعته ) ان تفضّ بمنطق القارئ او الكاتب الآخر وحده ، كما حدث مع قراءة ( سارتر) ل( جان جينه) الذي قال الأخير عنها ( لقد أُصبت بنوع من الغثيان ، ذلك لأنني رأيت نفسي عاريا ومن طرف شخص آخر غيري ، أكيد أنني اكشف عن نفسي تماما في كتبي غير إنني في ذات الوقت ألجأ الى التنكر اللغوي والى المواقف والاحتمالات الخاصة . أنا استعمل نوعا من السحر واحاول ان أصون نفسي قليلا غير ان سارتر عرّاني دونما احتفاء بفظاظة. واول رد فعل كان رغبة في إحراق الكتاب). ان محمد خضير بهذه الجرأة في مقاربة نصوصه العارية له وحده ، مع اعترافات ( جينيه) الخاصة رغم نشرها في أقنعة الكاتب اللغوية والأسلوبية ، إذ انه يصرح جهارا ( بيّ رغبة قاهرة في ان اخفي عن نفسي كل ما اعرفه عن حياة المؤلفين الآخرين ، كي يستمر ألق أعمالهم في خاطري الى أقصى خطوة يخطونها ) . ان رغبة محمد خضير مشروعة بحدود نمط الرسائل المغلقة ( المشفرة في التعبير الحديث) . لكنه وقع في الفخ . فخ عماء المتلقي ، الذي فضحه بورخس -المؤلف الأعمى- بكل شفافية عندما جعل من العماء والحلم والحيازة والأقنعة ( كتابا واحدا نشترك في تأليفه جميعا) فهل نجح محمد خضير في إخفاء رغبته أصلا في حرق القراءة ومصادرة تحولاتها كحلم او رسائل جديدة ؟ هل نستطيع ان نقترح لمحمد خضير محرقة مجوسية لمعرفة الطريق الى ( الباث ) الاول للرسائل المقدسة ؟؟؟ لا شك ان محمد خضير لا يقبل بأقل من الانصراف من الحفلة التنكرية ، وهو يدخل زقاق القصة العراقية ، بأقنعة اخرى . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الرابعة براهين بسيطة يبدو ان الدخول الى ( مفاهيم ) محمد خضير ولا أقول مصطلحاته ، يحتاج الى مجسات حساسة للتفريق ، بين منطقة الخيال عنده بشقيها التنظيري والإبداعي . لان محمد خضير ذاته يسعى جاهدا لاخفاء او إبراز هذا التناقض كنوع من الضبابية المشروعة ، لإيجاد مرونة من النظر أليه ك( فايبر اكلاس ) بوصفها مادة تتألف من ألياف زجاجية وبلاستك صلب . تصلح لصناعة الزوارق التي تستخدم ،للنزهة والهجوم العسكري المباغت ، ولسباقات الرياضة البحرية. لذا فان براهين محمد خضير ستسند على قوة البرهان التعسفية ومرونة البساطة في مناقشته لفن القصة القصيرة ، يقول( تلك البساطة التي نفكر بها وكأنها رؤيا من رؤى الخريف المفاجئة ، ورقة مرتعشة تجرفها الرياح الرطبة على ساحل الواقع او الحلم ، لمسة من لمسات الفكر التي تضيء المخيلة وتملؤها بالإشراق ، رسالة تغص بالعلامات الغامضة التي سقطت من لغة الإنسان ) ، ويستدرك الكاتب ( لكن هذه تأملات لا تحدد البنية المتماسكة المميزة لهذا الفن بقدر ما تنحاز الى طبيعتها الأنزلاقية التي شخّصها - أي .ه. يتيس )-،لهذا اغتنى تاريخ النوع بتعريفات بعيدة عن التحديد او التشخيص البرهاني الذي نتوخاه) . وهو يدخلنا في متاهة الانزلاق بين البرهان واستخدامه ينحاز الى تعريف مخصوص أورده( محمود تيمور) : (بوصف القصة روحا قبل ان تكون مظهر.)وكأنه قد نسيّ ثالثة ورابعة ، او تناسى، احتفاءه بالمثل الأفلاطونية كمصدر أول بعيدا عن فهم بورخس لها !! محاولا سحب القصة القصيرة من تعريفاتها الشائعة ( الفكرة ، الشخصية ، الحبكة ، الايجاز، التكثيف، البراعة ، الجمال) كتكريس لوضعها الأرستقراطي ، النمطي، ليضعها مرة واحدة في الأثير كورق شجر الخريف ، متشظية يتلقفها الكاتب في لحظة رؤيا ، ليصوغ منها نواة للتنكر بقناعه الاول . وبهذه البساطة البرهانية يفترض محمد خضير ان بساطة القصة القصيرة هي بمثابة رؤيا لا يقنصها إلا صياد القصة القصيرة ، متماهيا مع بورخس الذي طرد ( دانتي ) من مملكة الرؤيا في ( الكوميديا الإلهية) بفهمه : -ان الرؤيا هي لحظة قصيرة ، توهج لا يمكن الاستمرار فيها في عمل كالكوميديا الإلهية-. ويؤكد خضير ثانية هذه الفكرة / الرؤيا بوصفها الوهج والبرهان ، ( ان انبثاق قصة ما ، هو لحظة برهانيه عميقة) . وحتى لا تسلب اللحظة بمفهومها الزمني البرهان الفلسفي القائم على المقدمات والنتائج ، او المفهوم الرياضي القائم على المنطوق والمطلوب إثباته والمحصلة البرهان (القصة برهان متكامل على وجود متماسك يتجاوز وجودنا الحسي ) . ان البرهان المقترح من قبل القاص لا يقنعنا كقصة او رؤية ، لشرط هذا الفن المقترن بالرؤيا كحقل لانتاجها فقط. لكن القاص أراد ان يجعل للقصة كحكاية بسيطة ، محمولات فلسفية ورؤيوية ، بمثابة مرور القصة القصيرة الى خان الرؤيا ببساطتها كحكاية لا تنتمي الى زمن مراهقتها الأولى ، شفاهيا. ان محمد خضير عندما انحاز الى بساطة النوع ، يعي انه قد يثبت شرعيته من خلال مرحلتين : 1-الدفاع عن النفس بالهجوم على الواقع ومراوغته 3- وعي التجربة أو رصدها بتقديم البراهين على استمرارها وهنا يبدأ السؤال : ماذا يريد القاص من الحكاية ؟ بعد ان كانت عبارة عن ( مرور التجربة بغربال الوعي ) ، والوعي عنده هو الحلم على طريق تفسير كولد يرج ( ليس المهم ما نحلم به ، بل المهم هو بحثنا عن التفسيرات ) , هنا محمد خضير يمضي بحكايته ( القصة القصيرة) الى مصاف أعلى من بقية الفنون السردية ( لكن لماذا نرفع القصة القصيرة على غيرها من الفنون لحمل مثل هذه المزايا الجوهرية ؟ هذا لسبب رئيس يتعلق ببساطتها الجوهرية ) ماهي البساطة الجوهرية عند محمد خضير ؟ يغادر الكاتب ( الواحد الفيثاغورسي) ليبنى حاضنة محلية ، عربية ليؤكد البساطة الرياضية الواحدية، الغنية بالتماثلات والأرقام والحروف واكتشاف أسرار النصوص من خلال هذا التماثل. يقول: لقد وجد العرب في القصة ( أسموها رسالة) وسيلة رمزية للبحث عن أسرار الوجود الإنساني. كما وجدوا في تناسب الحروف والأعداد دلالة على كمال الوجود . لذا يطرح الكاتب مفهوما يستبطن المركبات العددية الفردية والزوجية ألا متناهية . وما يسبب اتحادها بالأعداد الأولية 2، 3، 4، 5، من فرضيات أساسية لاثبات الكمال والتوحد والانسجام بين الكائنات. وبهذه الطريقة يصلّ محمد خضير الى حقيقة التركيب الخماسي لعناصر القصة القصيرة ( الشخصية ، الحبكة ، الزمان ، المكان، الفكرة)وهي طريقة استعملها ( في الاستنباط العددي تُحيي الطرق القديمة التي استنبط الأدباء قيم الأشياء من قيم الأعداد والحروف التي تناسبها). ان محمد خضير هنا يضع نفسه في خانق نظري بالتعامل مع الفن ، إذ لا حقائق ثابتة ولا طرائق ولا وصفات محددة تؤدي الى الفهم والتشريع للفن. أننا نرى ان محمد خضير عندما وصل الى قناعته الرقمية والحروفية وتعميمها كقانون لفن القصة ، فهو قد وصل الى نتيجة شخصية محضة لا يمكن تعميمها على فن القصة القصيرة عموما . لكن محمد خضير لا يتقبل بطروحاته استنتاجا كهذا ، لانه يدافع عن إثبات البساطة الواحدية الرياضية ، كبساطة جوهرية لفن القصة القصيرة ، ليس بفهمه عنها وكشوفاته فقط ، كذلك يرى إنها سوف ترفع القصة القصيرة الى درجة أعلى من فنون القول الأخرى لحمل هذه المزية! ، وهذا برهان خارج اللحظة /الرؤيا التي ولّدت القصة القصيرة، عن غيرها التي تخضع لقانونها الخاص. ان خضير في بحثه الدائم عن البرهان خارج ( الواحد الفيثاغورسي) ورؤيا بورخس العميقة والبسيطة ، وانتمائه الى طرق عربية برهانيه يستنبط منها قوانين القصة الروؤيوية ، إنما هو محاولة مبدع ( يتناص) مع اكثر من موقد وينبوع لاغناء واذكاء كشوفاته النظرية في حقل القصة القصيرة . لذا نرى ان الكاتب يضيف تعريفا آخر استمده من السينما للقصة ، ( سأضيف اليوم الى تعريفاتي مثالا آخر استوحيته من ( البستاني) الذي مثل دوره ( بيتر سيلرز)، يقول الممثل: مادام النبات سالما فلن يميته الصقيع). ويمضي للتأكيد ( والحقيقة ان البستاني لم يريد تعميم حكمته ، كالقصاص الذي لا يريد ان يبرهن على دقة عمله ببراهين عامة من خارج حدود قصصه –مجال خبرته-) نستطيع ان نقول ان تعريف محمد خضير الجديد هو إحساس بوطأة التنظيرات وصرامتها ، والتي لا تتوافق مع شعرية محمد خضير الذي تورط في التقعيد النظري للرؤيا ومتاهاتها . يقول بورخس (ان الأنا اعظم الأوهام ) . يذهب محمد خضير المفتون ب( النواة) ، برسم دائرة جعل النواة مركزها كمقدمة للبراهين ، ورسم في أغلفتها مدارات المخطوطة ، النص ، القصة ، البحث او السفر، المؤلف الراوي مجهولية المؤلف ، اليوتوبيا ، الواقع ، التمثل الذهني. إذ ان هذه الدوائر والمدارات حول النواة بوصفها لحظة البرهان المشرقة ، لينتهي الى حرق الأغلفة بالاحتراق والتمثل . ( ولعلي هنا أؤكد هذا المنحى حيث أدعو إلى تصميم القصة باعتبارها عملا مدبرا يبرهن على وجود نواة تختفي فيها جينات الثيمات اللامحدودة التي انشطرت عن الموضوعات الخالدة –الحياة، والحب والموت) أين يسير محمد خضير بنواته؟ ( النواة هي لوجوس القصة ، هيولها ، واما ما يتفرع من النواة ثيمات لا حصر لها ) . يريد محمد خضير ان يقول بالبرهان انه نواة في عالم القصة القصيرة وما التناص –او المقابسات – إنما هي ثيمات تحترق في حاضنة النواة الأولى _ هذا ما سنتوسع به في الحلقة التالية_. ان محمد خضير يعي المسافة بين ان تكون نواة او مدارا ، يقول في تعليقة عن قصة المطاردة لاينو بوزاتي)( ومما لا شك فيه ان السرور الذي يغنمه الإنسان من حياة الغنى والرفاه والهناء سرور كبير ، ولكن جاذبية الهاوية اكبر) ، كما يشير الى قصة الأنف ل(غوغول) بالقول( يبدو انه لا يوجد في الكون شيء طويل الأمد ولذلك فان السرور في الدقيقة التالية لم يعد كبيرا ، مثلما كان في الأولى ، أما في الدقيقة الثالثة فقد بات اضعف ، وألتحم في النهاية بالوضع العادي للروح ، كما هو الحال في الماء حين تلتحم الدائرة التي يولّدها وقوع الحجر ، في النهاية بالسطح المستوي). وتزداد صعوبة إدراك المعنى الذي يكمن في نواة قصة رمزية مثل قصة كافكا ( طبيب القرية) ( لقد اتبعت مرة الدق الخاطئ لجرس الليل ، ولن ينصلح الخطأ أبدا). هذه مجموعة من حقول ( النواة ) في القصص المشار إليها كحقيقة مركزية يعتمدها خضير للبحث في صيرورة النواة ، ليس كمهيمنة وراثية ، ولا هي صدى للدوائر الذي يحدثها وقع الحجر في الماء. ان النواة عند محمد خضير هي المدونة الأولى لتاريخ نوع ما . وبما انه ينتمي الى حقل القصة الذي يحتمل وجوده من خلال نواة او مدارات متناثرة لا حصر لها ، سيقرر محمد خضير التالي( ان القصص جميعها تحاول ان تبرهن على نظام المخطوطة ، حيث يتقبل بناؤها ان تعمل عناصر الحبكة والاتجاه المحوري للزمن ، والتصميم التوزيعي للمكان ، على إنها هامش تأطيري للنواة الموضوعية المركزية فيها) . ان محمد خضير هنا انتمى الى النواة ببساطتها الحسابية وانشطارها العددي مبتعدا قي الوقت ذاته عن حاضناتها كما يبدو من خلال الاستكانة الى فطنته في الطرح ، ولكنه أراد ان يُطيح بكل نواة ، ما عدا المخطوطة التي تكون غالبا بلا مؤلف معلوم كالاسطورة –حسب رولان بارت-. وما القصص إلا منطوق للمراد إثباته وهو البرهان . بهذا يضع محمد خضير المخطوطة كأثر أول ، يريد أبعاده عن الحيازة –كنواة- من الجميع. وكأنه يقول : ان المخطوطة لا أب لها . إنها ملقاة في الطريق الى الآخرين ، والمسافرون في حقل القصة، إنما يحومون حولها .كلّ ببرهانه ، المؤدي الى منطوقة الخاص لاثبات وراثته للنواة . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الحلقة الخامسة مجرات التأثير / المقابسة
( كلّ شيء يحترق الأرواح والأجساد وتبقى ( الكرما)- وهي عبارة عن وحدة أفكار بوذية ذهنية تتناسخ عددا لا متناهيا من المرات-) (أن تعبر من حياة الى اخرى كمثل النوم في اسرّة مختلفة في غرف مختلفة- افلوطين) ( في كل لحظة من حياتنا نحن نَنسخ ونُنسسخ) –بورخس- يذهب محمد خضير في هذه المحاضرة الى إشهار اعترافه في التأثروالتاثير بالقول( اعتقد أننا جميعا نمر بالحقول ذاتها ، حقول التأثير)0 ولتأكيده على ضرورة الوعي بالتأثر( لابد من إنارة المدارات الغاطسة في نصف الظلام التي تدور فيها النصوص… المزدحمة بآثار الأقدام … ان محاولة استعادة الآثار، تضع خطواتنا على الطريق الصالحة بين قلاع التأثير وتُعين لنا الاتجاه الصحيح ). وحتى لا نفهم ان محمد خضير قد سلّم بالتأثير وحده او محاولة اكتشاف الانفعال به فقط، فانه سيسعى للكشف عن وعي المنفعل لتشكيل فعله الخاص ، لذا نراه يبتعد عن قانون ( الفعل ورد الفعل ) في الفيزياء الميكانيكية ، لانه يُدرك ان ( تسارع السقوط الحر) نتيجة رد الفعل باعتبارها مساوية للقوة في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه ، ويذهب الى علم المنطق كمعطى فلسفي ، ويستشهد بالمقولتين التاسعة والعاشرة ، اللتان تبحثان في تقبل الأثر : قبول آثر المؤثر والفعل ، أي التأثير في الشيء الذي يقبل الأثر ، يقول( وإذا كانت فرضيات هاتين المقولتين مادية تجريبية فان نتائجها تتجلى في التصور العقلي المحض) ساحبا هذين المفهومين الى الحقل الأدبي ( ان العقول الأدبية هي عقول منفعلة ، وهي عقول فعالة أيضا يؤثر بعضها في بعض اضطرارا واختيارا ، لكن اشرف أنواع التأثير هو الأثير التلقائي … التجاذب المتوازن … الاختيار …. الانتخاب ، الاصطفاء) . ان مفهوم محمد خضير هذا في التأثير ، قد بُحث عميقا في تراثنا النقدي العربي ، وكانت النتائج تتراوح بين السرقة ، والتضمين ، والانتحال…الخ ، حتى جاء وقوع( الحافر على الحافر) أحيانا ليفض الاشتباك في ( خيمة النقد) وينتصر للنصوص . وبين التأثير والتأثر دخل مفهوم الصدفة والسببية وأيهما اكثر فاعلية في الحضور في هذه العملية يعلق محمد خضير ( في المنطقة ذاتها ، دخل التأثير في اشتباك ، لم ينفك حتى اليوم ، مع مفاهيم اخرى مثل الحتمية والسببية والصدفة والاحتمال ) وينتصر الكاتب الى السببية ( ولعل ارتباط التأثير بالسببية أقوى الارتباطات) ، وهو يؤكد مفهوم النقد الحديث ( التناص) الذي جاء به( جيرار جينيت ) حتى تقعد كمصطلح نظريا على يد ( جوليا كرستيفا) أخيرا ، وان محمد خضير يفضل كلمة ( المقابسة ) على ( التناص) ، وهذا يعود في رأيي لما تحمله هذه الكلمة من نورانية تستفز عقل الكاتب الشرقي/ المسلم وعلاقتها بهالة النور ، كما أنها وردة في المقابسات لأبى حيان التوحيدي، سيما ان محمد خضير ينفعل بالكلمات الشعرية والتي تحمل ذات المفهوم نقديا . لكن محمد خضير كما نرى يقع في إشكال واضح في حديثه عن التأثير والتأثر بوصفهما الحقل الشرعي والحقيقي والخصب لولادة النص الأدبي وكاتبه ، نراه يحاول جاهدا ان يحرق مرجعياته وينزع أقنعته قبل ان يكتشفها الآخرون كما صرح اكثر من مرة كما رأينا، وكأنه بوذي يريد إحراق بوذا ( يعتقد البوذيون بأنه ليس المهم ان تثق ببوذا، المهم اتباع تعليمه- من حديث بورخس عن البوذية في كتابه سبع ليال-) وبسخط واضح على الدراسات المقارنة في النقد الأدبي والتي تركز على السياق التاريخي المتعاقب فقط ، يعلق خضير( إننا نتطرق في دراستنا الى تشابه هذا العمل او ذاك ، وغالبا ما يكون الأصلي المقارن … غريبا ، فريدا، مثاليا، أما العمل المتأثر به فهو نسخة طبق الأصل وبذلك لا نلتفت الى الآليات المعقدة لعملية التأثير والتأثر ونضع النسخة الثانية المنفعلة موضع الاتهام والتحقير دون النظر الى صيرورتها الخاصة ومراجعها القوية المتوازنة) ويستشهد الكاتب بتطبيق عملي لمثل هذا التعسف النقدي على النصوص التالية بقوله( وفي تأليفنا المعاصر برهان مماثل على الوجود السابق للأشياء في قول بورخس – الكتب جميعها موجودة قبلنا- او ان – المؤلفين يؤلفون كتابا واحدا – والفكرتان صدى لفكرة – المُثل الأفلاطونية – أي أسبقية صور الأشياء لوجودها المادي). ترى هل ينتصر محمد خضير الى بورخس بوصفه منفعلا واعيا ، أم الى أفلاطون بوصفه النص الاول!!؟. يذهب محمد خضير في هذه المحاضرة لرصد مجمل التأثيرات التي وقعت تحت سطوتها القصة العراقية سلبا وإيجابا ، اذ يشخص أربع تيارات –مجرات –كبيرة وعلى النحو التالي: 1- التيار الواقعي- الروسي، والأمريكي ، والإنجليزي. 2- تيار الوعي 3- التيار الواقعي الجديد والوجودي الشيئي 4- التيار الواقعي الغرائبي والواقية الرمزية . وهذا الأخير الذي هيمن على كتاب الستينات – وهو أحدهم- الى الوقت الحالي مع التجارب القصصية الجديدة ، إذ ان هذه التأثيرات بمجملها ليس لها أثرا تعاقبيا فهي متداخلة ومتفاعلة ومنفعلة في ذات الوقت وعلى كافة الكتاب العراقيين قديما وحديثا. يشخص الكاتب خللا نقديا عربيا لازم التجارب الإبداعية بوصفها تابعة ولا أحد يفكر في تجديد موضوعاتها ، إلى ان يصل الى العقل النقدي الحديث الغربي بقوة جذب مركزية استلبت العقل الشرقي بوصفه فلكا تابعا لمركزيتها المهيمنة ، في حين يجد ان الثقافات الأخرى في أمريكا اللاتينية قد أوجدت مركزيها الخاصة وسحبت إليها عقولا روائية عربية وشرقية من محيط الجذب الغربي ، وصار بدلا من المركز الواحد والجذب الأحادي ، تبرعمت حول محيط المجرة الأولى مراكز جذب عديدة خلقت لها محيطات مستقلة ، حيث ولّد هذا الزخم الجديد لهذه المجرات زخما أقوى من الزخم الكلاسيكي للمجرات الهرمة. يستعرض محمد خضير تجربته الشخصية في كتابة القصة إزاء هذه المؤثرات بالقول( لقد انتقل الكاتب من البصر الى التعقل ،وأستطيع وصف التعددية المرجعية بأنها فضاء يسبح فيه العمل الأدبي وسط تأثيرات متلاحقة لذا يصعب فرز هذه التأثيرات او حصرها) ، وحتى يبرهن على صعوبة الفرز والحصر لمرجعياته يؤكد ان أعماله لا تتسم بقيمة التجريب ( لان التجريب من سمات الأعمال القلقلة إزاء مراجعها ، وافضل التحقيق لانه يؤمن اتصالا وثيقا مع مراجعها ثم تبرهن على هذا الاتصال بأفضل البراهين ) . يخلص أخيرا الى ( المؤلفون الجيدون وسطاء شفافون يتراءى العالم عبرهم بكل أطيافه الحيوية وتذوب فيهم أعراض الفساد). ولكننا رأينا ما ورد عنه في المحاضرة من فهم للتأثير والتأثر وانتصاره للسببية ، نراه يعود الى نقض هذا العامل في آليات اشتغال جديدة عبر ( مجرات من العقول الكبيرة والمتكافئة) يقول ( إنني أؤمن بالمصادفة الكونية التي تجعل كاتبا سابقا على كاتب آخر ، او كاتبا مجاورا لاخر) . فهل كان محمد خضير مصادفة بين العقول والمجرات؟ وأية صدفة تقود للتكافيء؟؟ ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الحلقة السادسة مدينة الرؤيا / البحث عن عالم بديل أرى ان رحلة كلكامش نحو الخلود ، وحلم الإنسان باليوتوبيات يشكلان نواة مشتركة لحل إشكالية ثنائية ،(الحلم والواقع)،( الفناء والخلود) . فكلكامش في بحثه عن الخلود أراد ان يعيد التوازن لبنائه المشترك ( بشري –إلهي) لتغليب صفة الإلوهية ، إذ كان نصب عينيه مثالا للخلود الأبدي . وهذا هو حال المخططين ( في بناء اليوتوبيات الذين اتبعوا مثالا إلهيا أعلى او رؤية فلسفية مطلقة) كما يقول محمد خضير . واليوتوبيات التي يستعرضها تمثل ( أنوات ضخمة) ، أي أنها تشكلت كبديل عن مرجعيتها ، واستحدثت نظمها وقوانينها ، وطريقة الحياة ودرجات وأفراد المجتمع فيها وصفاتهم ، وبحثت بعضها في القيم بوصفا أساسا لها – كما في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة – وهذه المدن تعبر عن ( اوقيانوس المدن المثالية) ، وهي في الوقت ذاته تعبر عن آلية نفسية- حسب تعبير علم النفس ، واستمرارا للبحث الإنساني في محاولته لتصوير واقع آخر. كيف يعيّ محمد خضير الواقع ( واقعه هو)؟ يقول( ان المشكلات الأخلاقية والاقتصادية والبيئية المستجدة لعالم يتسم بالتعقيد والاتساع وتشتت الثروة ، وعرض القوة المسلحة . في عالم مهدد بالنضوب الغذائي والتلوث البيئي والدمار الشامل، يتعرض الحلم القديم بيوتوبيات سعيدة الى انحراف كابوسي مرعب ، يقذف بالإنسان الى مخالب ماكينة تكنوقراطية مركبة من المؤسسة العقلانية والبدائية الغريزية المتعطشة للتسلط والاستبداد المطلق بعقل الإنسان وروحه الى حد المسخ والاستفراغ والطاعة العمياء) . بهذا التشخيص الدقيق للواقع إزاء الرؤيا وصنّاعها يشير الى عملية طرد ثانية يواجهها الإنسان في عالمه الأرضي ، بعد الطرد السماوي الاول من الفردوس. وبعد هذين الطردين ، وبداية رحلة التيه ، يبدو محمد خضير مرتابا من العقل البشري للوصول الى ( رغبته النقية في العدالة والحرية والرفاهية) ، مؤكدا ان السبب هو( ان عالما جديدا شجاعا سيبقى حلما نائيا ما لم يتحقق على ارض الواقع التاريخي ، مجتمع خال من الاضطهاد والاستغلال ). ما الذي يقترحه محمد خضير لمعالجة هذه الإشكالية؟ يقول( يبدو ان الإنسان لن يفضل ان يبقى منفيا في حلمه على يتأبد في مكان شبيه بالحلم ، مهدد في الانتهاء بين لحظة وأخرى) وهو يقوم بفصل الإنسان العادي عن المؤلفين من خلال فهم كل واحد منهما يقول( إما المؤلفين ، فان يوتوبيا لا متحققة هي خير عندهم من حقيقة مبنية على يويوبيا ، ان شرائط اللاتحقق هو محتوى الشكل اللصيق بأي هدف يوتوبي معاصر) ، وهم ( المؤلفون) سيكتفون بوجود هذا الحلم ( كرؤيا) كي تبعدهم عن الواقع كقرين تاريخي لمثالية اليوتوبي. بالإضافة الى هذا فانه يضيف شرطا آخر هو إنها( هي فكرة لم يحن تطبيقها بعد) ، ويعلل ذلك ( لان قدرا كبيرا من العناصر البدائية يتحكم في تركيب المؤسسات المدنية المعاصرة، وفي تصورها لمستقبل المدينة الاجتماعي ، وتجديد قيمها بالسرعة التي يتطلبها نظام يوتوبي متحرر من الأنماط القيمية الأصلية شبه الثابتة ) وهو يُحقق بهذا الفهم ( السفر العقلي الحر الى مدينة الرؤيا أسبقية شرعية على الإقامة الواقعية الأرضية). البحث عن يوتوبيا محمد خضير في خضم بحثه عن أول فكرة لليوتوبيا ، وسياحته الفكرية العميقة في تجلياتها ، ابتداء من جذرها اللغوي وحتى تحققها كرؤية في ذهن مؤلفها ، يجد محمد خضير بعضا من ضالته لشكل اليوتوبيا الذي يرتئيه في رؤيا( جوزيف كنشت) بطل رواية هرمان هسه( لعبة الكريات الزجاجية ) ، يقول( أدرك كنشت التناقض بين السلطة ، والمعرفة ،التأمل والفعل التاريخي ) . ومثلما أشرت في البداية الى بحث كلكامش عن خلوده عبر انحلال البشري فيه ، نجد محمد خضير يقول بثنائية اخرى تكمن في اصل اليوتوبيا هي ( خلود النفس وانحلال الدولة ) كما انه نقب في جمهورية أفلاطون ووجد ( من شرائع الطبيعة ان التطبيق الفعلي لنظرية ، لا يبلغ مبلغ النظرية في الكمال –ص171-) كما يجد عند إفلاطون في الجمهورية أيضا ( خلود الشيء مرتبط بزواله-ص283- )ليخلص الى قناعة تقول( ان قانون افلاطون هذا هو الوحيد المنيع عن الهزء والخرق ، منه تستمد اليوتوبيات شكلها الذي لم يتغير منذ ذلك الحين) ويضيف( تلك اليوتوبيات التي تتسم بحقيقة الرحلة الخيالية ، حقيقة الفكرة التي لا تقاس بتجربة محسوسة ، لأنها رحلة عقلية ذهنية تصورية قبل كل شيء) . ويستمر رحلته مع اليوتوبيات ، فيمر على الفهم اليوتوبي المعاصر المضاد ، كما عبر عنه توماس مور مثلا ( العمل- المساهمة –الثروة) ، او في رواية جورج اورويل( 1984) التي بناها على رؤية سابقة للروائي الروسي ( زاميابتين) في روايته( نحن) . حيث يتحول الإنسان في رواية اورويل الى مجرد رقم من أرقام ماكنة تتعامل مع قيم العاطفة ، والتفكير الحر، بنظام الأخ الأكبر ( المستبد الطاغية ) ، حيث الطاعة العمياء او الجنون. ما هو تصور محمد خضير لمدينة الحلم / الرؤيا.؟ يقول ( لقد فات المهندسين والمخططين والمصلحين ان اليوتوبيات اللامتحققة اصدق في بنيانها المثالي من الحقيقة المبنية على مثال يوتوبي) . وهذا يعود بنا الى أثرة محمد للمُثل وقدرتها على البقاء إزاء انحلال تمثلاتها المادية وزوالها . ويترك الكاتب اليوتوبيات واليوتوبيات المضادة ليبني يوتوبياه المعاصرة – مدينة الكلمات –التي تتحول الى مدينة حقيقية اسمها-بصرياثا- ( في مفترق طرق اليوتوبيا واليوتوبيا المضادة… لا تتطلب بصرياثا نظاما فلسفيا راقيا، او تكنولوجيا راقية، او أيديولوجيا صارمة، . أقصى ما يلزم في هذا المجال حقا، تنفيذ دقيق لمتطلبات نوع قصصي لا يتورع عن قبول شكل قصة المستقبل ، غير متورط في هجاء صورة الحاضر ، لكنه غير مستسلم لتقلباتها) . بهذا الفهم يقيم محمد خضير مدينة الكلمات –بصرياثا- ليسكنها شخصياته الرؤيوية ، من خلال نص مشاع يترك الحالمون هوامشهم عليه لتتوالد يوتوبيات ، او فهما نوعيا لها. حيث يتورط المهمشون بنسج الهوامش وتشخيص المنطقة المعلقة بين المكان واللا مكان او بين بصرياثا وأي مكان لتحققها. تلك هي اليوتوبيا المستمرة التي يقترحها محمد خضير ليبتعد عن التأبد الحسي .وقد اصدر محمد خضير فعلا ، كما أشرنا في الحلقة الأولى كتابا حمل عنوان ( بصرياثا –صور مدينة، عام 1993)، ولسنا هنا بصدد مناقشة- بصرياثا – ومدى امتثالها لشروط الرؤية اليوتوبية ، كما عرضناها في هذه المقالة! ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الليلة السابعة ليلة القبض على الرؤيا لقد حظي الرقم (7) بمكانة خاصة في الميثولوجيا على اختلاف مرجعيتها وعقائدها ،ة بوصفه ثمرة الأيام الست التي استغرقت عملية خلق الكون ، فقد اشتركت الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية والصابئية والبوذية …الخ ، بتعظيم هذا الرقم لما يحمله من ثراء دلالي إزاء وقائع الخلق الغامضة ، انه الرقم الخاتم لإسرار الوجود الكوني. فقد جاء في الكتاب المقدس( وانتهى الله من خلق السماوات والأرض وجميع ما فيها ، واستراح في اليوم السابع من عمله وعن كل ما فعله ، وبارك الله اليوم السابع وجعله مقدسا) .وجاء في القرآن ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش). وتأتى أهمية الرقم (6) في الديانة البوذية من تصورها الخاص لحكاية الخلق وولادة ( بوذا المتنور) ، حيث تقول المعتقدات البوذية ( ان الملكة(مايا-وتعنى الوهم-) زوجة الملك- سودودانا – تحلم ان فيلا ابيض له ستة أنياب ، يتسكع في جبال الذهب ، يدخل في خاصرتها اليسرى دون ان يسبب لهل ألما) . فتستيقظ الملكة من نومها وتجمع المنجمين ، فيقولون لها : ان الأنياب الستة هي بشارة ولادة ( بوذا التنور) الذي سيحكم العالم . وبين هذين الرقمين بدأ سعي الإنسان بطرح أسئلته من خلال تمثله لهذا السفر الكوني ، لكشف رؤاه. وفي التراث الصوفي والعرفاني الإنساني والإسلامي رحلات في غاية الجرأة للتشبه بالله حلولا وحلما . وبما إننا بدأنا في البحث بمقابلة بين كتابي ( الحكاية الجديدة –لمحمد خضير، وكتاب سبع ليال- لبورخس) ، نجد ان الكاتبين قد انفعلا بالأثر المثيولوجي الإنساني واختارا لرحلتهما –كتاباهما- ستة محاضرات –ليال- كي يسدلا الستار في اليوم السابع عن حقيقتهما- رؤيتهما- للنص الأدبي المكتمل ، ففي الليلة – المحاضرة- السابعة لبورخس ( ليلة العمى) فضلا عن البعد الدراماتيكي الذي تحمله هذه المحاضرة( أعمى يتحدث عن أعمي) ، فإنها توكيد على ان الليالي الست ( المحاضرات) كانت تعبيرا عن صيرورة الرؤية ، وهو الآن ينهي رحلته بين السديم والعماء ليزيح آخر أقنعة الرائي المتوارثة ليتجلى في حضور مطلق . كيف تصيرت رؤى محمد خضير في ليلة تمام الرؤيا؟ يستعير محمد من الشاعر محمود البريكان مقطعا شعريا يقول( ان الرؤى تمت، وان الأفق يوشك ان يدور) كبداية ومهاد لمحاضرته السابعة التي أراد لها ان تكون الخلاصة ، لا الكشف كما يقول( ان هذه المحاضرة خلاصات- لا كشوفات – واعادة صياغة قناعات ….. أما الغاية الأخيرة المتوخاة ، فتنقية الأصوات المخنوقة وتحرير المبادرات المكبوتة) ويوضح سبيله الى هذا الفهم بالقول( وسبيلي الى ذلك تحليل أدبي لبواطن تجربة تنبثق كحلم مسترجع من ركام الوعي ، وقاعدتها في هذا المسلك ، ان معلومية الحقيقة قيد لمجهولية القواعد التي تسيرها) . هنا نتلمس وقوع محمد خضير في التباس برهاني ، إذ لا تشفع له الأقنعة دائما حيث يسمي هذه المحاضرات خلاصات لا كشوفات، وهو الذي ينتمي الى البراهين في فن البساطة ( القصة القصيرة) ، تلك البساطة التي توسع في شرحها واستنباط براهينها وقوانينها عبر ( بساطة الواحد الرياضية) ، غير ما قدمه في محاضرات ( القصاص المجهول، ومجرات التأثير وغيرها . حيث ان جهده النظري على طول الكتاب قد ارتبط بالمقولات العلمية الرياضية والفيزيائية من جهة والحقل الفلسفي والمنطق من الجهة الأخرى مستفيدا حتى من التجارب الحروفية العربية لجعل كل هذا ظهيرا ومراجع لصيرورة رؤيته العامة للنص الأدبي . ولان كتاب محمد خضير كتابا نقديا كما نرى ، رغم امتعاضه الشخصي -بعد صدور الكتاب- شفاهيا ليّ، إلا ان امتعاض الكاتب هو قناع آخر يرتديه في حقل النقد لمرور سيرة نصوصه ، وكتابته عنها ربما بسلام -وقت إصدارها لظروف خاصة معروفة في العراق-. لكن الباحث يرى ان محمد خضير يقدم أدلة ناصعة على المسار الفكري لعمله الإبداعي والتنظيري ، يقول( صممت بدقة لكل عمل مسوغاته وبراهينه الخاصة لكي لا يختلطا ، لقد وصلت وبمعونة نظريات القصة الى مشروع الكتاب الموحد للأصول ، او مجموعة القصص المتضامنة في استخراج البراهين ،… وانك لتعثر في نصوصي الأخيرة هذه التدبيرات النظرية التي تمنح الكتاب او مجموعة القصص أهمية استثنائية خاصة تقترن بأهمية الاكتشاف الفلسفي او الاختراع الجديد) . ان الكاتب هنا يكشف عن فطنة عالية لسير اشتغاله الإبداعي المتضمن أقصى استفادة من المنجز المعرفي . فلماذا يصر على ان هذه خلاصات لا كشوفات ؟ ان الجواب هنا يحتمل اكثر من استفهام! إما ان الكاتب قد اقتنع في نهاية رحلته للوصول الى الرؤية التامة ، بان ما قدمه نظريا لم يكن إلا تكرار وصدى للآخرين او تواضعا ، وهذا ما لا يتفق مع جهده المتميز في حقلي الإبداع والتنظير له. وإما ان محمد خضير الذي يرى ان( ادغار آلن بو : أضاف جو الغرابة ، وكررناه في قصصنا على انه تقنية جديدة تمنح أعمالنا بعدا( واقعيا ) أوسع ) ،كان خائفا من فشل نموذجه لإضافة نوعية في المسار الجمعي للإبداع . وهذا الاستفهام لا أرجحه .لان معاينة المنجز الإبداعي الكلي للكاتب وما أثاره من لغط مزدوج ، أعقبه نشوء كتاب قصص مريدين لطريقته ، واخرين حاسدين ، إما الذين افترقوا عنه في البداية والنهاية فلقد رفعوا قبعاتهم لمنجزه . إذن ما هو الجواب ؟. اعتقد ان محمد خضير وفي تقديري الخاص يعاني من تناقض واضح بين ما ُينظر له ، وما يكتبه. في التنظير يضع في حساباته النظرة الشمولية ، لاكتشاف البراهين والقوانين ، لاثبات المطلوب إثباته وفقا لنظرته الشخصية . فنراه يدخل الى حقل التنظير محملا بروح شعرية وخيال خصب ، ومعقد معا . يطرح مجساته الجمالية ويبحث في المعارف الأخرى سبيلا الى صحتها ، وعندما يكتشف وفقا لقانون السببية او المصادفة- لا فرق عنده كما رأينا _ بان استشعراه الجمالي مطابق لها ، يضع منها قانونا يعممه على فن القصة القصيرة ، التي لم تعد تحتمل تقسيماته الخماسية أصلا.والتناقض يحتدم ليس عنده ،فهو لا يعاني مثل هذا الانفصال بين تنظيره وكتابته القصصية ، لانه مبدع منسجم مع نفسه الى درجة التطابق ، من هذا نستلخص بان محمد خضير منظر خطير لإبداعه . والفوضى ستعم إذا ما حاول ان ينقل قوانينه الخاصة الى حقل الأدب القصصي عامة ، لانه سيفشل مرتين ، مرة حين يُنشيء جيوشا من المريدين الذين يذهبون الى المخطوطة بمجانية ، وأخرى حين يغادر هو، هذه القناعات – بسبب القلق الإبداعي الكبير الذي يلازم تجربته – بوصفه محققا ، لا مجربا . صيرورة الرؤى يضع محمد خضير للرؤى بداية ونهاية ويقرنها بالواقع والوعي به. وهذا برأيي مصادرة لابسط حقوق الرؤيا ، في أنها لا تتحقق في كليهما بأدوار استحالة ، تبدأ من الواقع وتنتهي بالوعي فيه. وحين يهرب بالرؤيا الى ( طريق المخطوطة – اليوتوبيا ) باستخدام وسائل وبراهين القصص الفلسفية القديمة ، فإنه يضع خانقا بين الرؤيا وشروط تحققها ، وبما ان الرؤيا هي تحول لا مرئي من قبل التأثيرات المتسلطة ، ونتاجها لا يحمل أدوار استحالتها . فالرؤى تكتمل بمعزل –وليست بعزلة عن شروط بقاء الكم والنوع - .ومحمد خضير الذي أشار سابقا الى ( أني أشير بصورة خاصة هنا الى التناقض الصعب الاجتياز ، أمام قصاص مخير بين اتباع وسائل إقناع تمنحها له سابقا الحقيقة التسجيلية العيانية دون تحوير او تمثيل ، واحتمالات العبور الرؤيوي لاشارات مفاجئة يلّح في الحضور من دون قناع ، لذا تبقى مشكلة قصاص الرؤيا معلقة بالاجتياز القادم كلما تسلم إشارات رؤية قادمة ). وبهذا فقد ابتعد محمد خضير بنفسه عن ان يكون صانعا او قابضا على ( رؤية كلية- شخصانية-) ، ويمضي بالقول( وليقتنع من يبحث عن دليل للاقتناع بان هدف قصاص الرؤيا ليس توفير أدلة بحدوث وقائع ،وسرد حياة وأشخاص ، وانما هو إثبات تشكل صورة لا مرئية بمنظورات البصر الطبيعي ، الانعكاس ، والتميز ، والمقارنة واعادة تمثيل الأدوار ) . فهل تصمد الاعترافات الأخيرة للكاتب في ليلة تمام الرؤى ، مع ما كان يدعيه في محاضراته السابقة من رؤية شمولية لقانون النوع القصصي البسيط والعميق والرؤيوي؟ أرى ان محمد خضير في ليلة القبض على الرؤيا كان ( خان) للرؤى ، ولقد اظهر دهاءا ثقيلا بإخفاء بورخس – النزيل – الحاضر ، المُغيب-، إذ يبدو محمد مالكا لهذا الخان ، الذي تمثّل أجواءه ، وخبر أسرار زائريه –حضورا وغيابا- ، لذا يقترح محمد خضير بعد إن امسك بالسر والصولجان بمملكة قصصية دون علّة او معلول ( لعلنا سنكف يوما عن طلب علّة او مصدر يكفل لنا معلول قصصنا ، فهي ستكون العلة والمعلول معا ، ولعلنا سننتظر ، برهان ، لعلنا نعثر على القصة التي لا تأويل لها ، لأنها رؤية كاملة لا ينقصا التأويل) . ان علامات الاستفهام التي وضعناها على أسئلة محمد خضير في ليلة تمام الرؤى قد أينعت بعد ان اعترف الكاتب بحلمه للوصول الى القصة –العلة والمعلول- ، ان السديم والعماء الاول الذي مارسه محمد خضير في محاضرته الست ، كان جزءا من الصيرورة الكلية لخلق العالم سرديا. فلابصرياثا ولا اليوتوبيات ، ولا اليوتوبيات المضادة، ولا الحلم ، ولا المخطوطة ، ولا الكاتب الأصلي الغائب لها، ولا المُهمشين عليها، ولا غيرهم بقادرين على كتابة رؤيا متكاملة – هي العلة والمعلول- غير المبدع ، كذات يتماهى مع الله المبدع الكبير ، لانتاج مسلاته ورؤاه ، دون هذه الأقنعة التنكرية التي تفوح منها رائحة الخيانة للجنس الأدبي ، و نظرية القراءة والتلقي.وتاريخ الميثولوجيا القصي الذي يعجّ بالتناصات الرؤيوية. أين محمد خضير من هذه الأقنعة التي تورط في نزعها او إخفاءها ؟ وماذا عن حماسته لحلمه الأثير ؟ ما ذا عن القصة القصيرة ، وارثة الرؤيا ، وهي تتطوح بين برهان المخطوطة ، وحظها العاثر بين الحلم والكمال ؟ ان محمد خضير قد وصل – من حيث يدري او لا يدري- الى ما توصل إليه –بورخس – بان القصة هي حلم ، او رؤيا ، وما القصاص إلا ذلك الحالم الذي(يرى في حلمه ، في لمحة واحدة ، كما يرى الله في أزليته الشاسعة ، الصيرورة الإنسانية كلها) . فهل يحتاج – الحالم السارد - ، او الله ، الى رؤيا تتورط في طلب البراءة من باب العلة والمعلول ؟ من قبض أخيرا على الرؤيا الكاملة؟؟ ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، هامش لقد اعتمدنا على مصادر متنوعة في هذه الرحلة ، ما ظهر منها او ما لمحنا عنه هنا او هناك ، لكن غايتنا الأساسية تمثلت في مقاربة بين عقلين مبدعين – محمد خضير وبورخس – لذا اعتمدنا على كتابيهما اللذين يحملان تاريخ صدور مختلف ، يتقدم زمان طباعة واحد منهما – محمد خضير- ، على بورخس لنضمن الأنصاف للرؤيا ، دون الانزلاق وراء فرضيات السبق ، في مفهوم النشر بلغة لا يجيدها أحدهم ، مفترضين ان موت بورخس الجسدي هو علامة فارقة في الطريق الى الرؤى: 1- الحكاية الجديدة ، محمد خضير ، منشورات مؤسسة عبد الحميد شومان ، عمان 1993 . 2- سبع ليال ، بورخس ، ترجمة د. عابد إسماعيل ، منشورات دار الينابيع ، دمشق 1999. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
0
أسرار الحكاية الجديدة
قراءة في أفكار القاص العراقي المبدع محمد خضير (الحكاية الجديدة في سبع ليال)
وديع شامخ استراليا- بيرث
[email protected]
الحلقة الأولى بسبع محاضرات ( سبع ليال) ومدخل وخاتمة تنكرية أقام المبدع محمد خضير ظهيرا نظريا لحقل اشتغاله في فن القصة القصيرة … ويعد محمد خضير من المبدعين القلائل الذين اخلصوا للحكاية ورعوا أدوار استحالتها بعين العطار وصبر الحرفي ( سليل الصناع الذين يؤثرون العمل اليدوي على الماكنة السريعة …. صفاته ، التأمل ، البطيء، الإخلاص ، الكفاف، زاده الخيال، مادته القطعة الصغيرة المتقنة ). فمنذ قصة ( النيساني ) التي نشرها في مجلة (الأدب العراقي ) قبل اكثر من ثلاثين عاما ، وبعدها البطات البحرية عام 1966م، وقصة الأرجوحة في الآداب البيروتية ، تلك القصة التي لفتت انتباه القراء العرب ، واشار الى أهميتها سهيل إدريس ، وبعدها ( تقاسيم على وتر الربابة ) الذي نوه بأهميتها غسان كنفاني ، وبهذا النحت البطيء في صخرة الإبداع والتأمل في التجربة واحتواء مؤثراتها العامة وهضمها ، قدم الكاتب تمثلات إبداعية لتجربته عبر إصداره مجموعته الأولى ( المملكة السوداء) عام 1972 وبعدها أنجز مجموعته الثانية( في درجة 45مئوي) عام 1978 ، ثم لاذ بصمت البحث والتقصي ليخرج بكتاب مهم ( بصرياثا –صور مدينة)عام 1993، ثم سار بعالمه الإبداعي الى تخوم قصية خارجا من عباءة تجاربه السابقة فاصدر مجموعته ( رؤيا خريف). ان هذا الفارق الزمني والمحطات التي ذكرناها في مسيرة محمد خضير قد لا تشكل مؤشرا لتطور نوعي عند البعض ، ، فمنهم من قال كلمته ومضى ، ومنهم من سقط في فخ الكرار والاجترار ، واخرون أغوتهم الأضواء وهالاتها الكاذبة . لكن محمد خضير ومع قلة من المبدعين مضى الى الهدف يحسب خسارات الوصول الى منبع الرؤى . ونحن هنا نناقش أفكار الكاتب النقدية التي لخصها في كتابة النقدي ( الحكاية الجديدة) الذي يسلط الضوء على تجربته الإبداعية ويدون رؤاه وينتهك الأقنعة إذ يقول ( وما من كاتب تشغله قضايا المجهولية الكبرى للفن إلا ويقدم على تدوين رؤياه في الوقت المناسب قبل ان ينتهك الآخرون قناع تبدلاته ومجهوليته)، هنا يعلن القاص عن فطنة كاملة إزاء اليقين ، فلا بد من إزالة الأقنعة بعد انتهاء الكتابة بوصفها ( حفلة تنكرية ) ، وما الأقنعة إلا تلك الحاضنات الفكرية والمرجعيات الجمالية التي تثري مادة الكتابة الإبداعية . يُشبه محمد خضير ذاكرة الكاتب بدكان العطار( فلا اكبر من دكان العطار ، هي ذاكرة القصاص وقد اختلطت فيها روائح الأعشاب والبذور والزيوت، تلك هي ضمانة القصاص المكتفي بنفسه ، والامين لأسلوبه ، عيناه على الماضي الأثير ، ويده تمتد الى تلك العلب العديدة ، يميز روائحها الأليفة ويلتقط العلبة المطلوبة ) إذن هو القصاص القنوع ليس بالرضا بضاعة الصمت والسكون ، بل بالاغتراف من الكنز الذب لا يفنى . هنا يضع الكاتب قيما أخلاقية ( المكتفي – الزاهد-، الأمين) وهي صفات سوف لا تصمد أمام القراءة المتأنية لفكر محمد خضير وابداعة كما سنرى فيما بعد وكأنه يسعي الى ترحيل قيم من حقل أخلاقي ! الى حقل الكتابة ( حفلة التنكر والأقنعة) ، وكما يقول بيكاسو ( ان المبدع هو سارق كبير وخطير) . كتاب الحكاية الجديدة ، هو كتاب نظري اشتمل على سبع محاضرات كان الكاتب قد ألقاها على جمهور من الطلبة والأدباء وفي أروقة الجامعات ، واتحاد الأدباء ( في البصرة وبغداد والعمارة) . أعاد الكاتب أعدادها على شكل كتاب بسبع محاضرات ، بعد ان أجرى عليها تعديلات وضمنها هوامش جديدة إذ يقول ( لم يسلب الأعداد الثاني للمحاضرات شيئا من طبيعتها التأميلية ) ، كما تضمن الكتاب مقدمة وخُتم بمقابلة مع محمد خضير أجراها رياض إبراهيم مع محمد خضير . وبما ان كتاب ( الحكاية الجديدة) قد جاء في صيغته الشكلية مطابقا لكتاب بورخس ( سبع ليل) وكذلك وجود اكثر من قاسم مشترك على مستوى المرجعية الفكرية بين المبدعين –لا سيما وان محمد خضير قد تعرض الى مثل هذه المقابلات في أعماله القصصية إذ وصفت أعماله بتأثرها بشيئية ( ألن غروب غرييه) ، والواقعية السحرية عند ماركيز، وآخرها البورخسية . وكأن محمد خضير الهادر الأزلي لدم الرؤيا ! فلا بد لنا ان نتفحص كتاب بورخس ( سبع ليال) لنضيء المشترك بين فكر الكاتبين شكلا ومضمونا . كتاب بورخس هو سلسلة من المحاضرات أيضا. ألُقيت في عدد من الجامعات ثم طبعت بشكل مختزل في الملاحق الأدبية لصحيفة ( بوينس ايرس ) ، وبعد مضي سنوات أجرى بورخس تعديلات واسعة على المحاضرات التي خرجت بشكل كتاب . يقول مقدم بورخس في مقدمته ( ان تأملات بورخس الأدبية لا يوجد فيها شيء منهجي ، لان النقد عند بورخس فرع من الأدب التخيلي … الأدب يولّد الخشية في احسن حالاته أو الفزع المقدس) ويشير محمد خضير في مقدمته ( ومازالت هذه المقالات تحتفظ بذلك الطابع التجريبي المنفرد ، فلم تدخل في حساب النقد الأدبي ومنهجيته ، ولا في مداخل النظرية الأدبية ومصادرها …. إلا بما سمح المدخل المشترك بين التجربة الخاصة والمبدأ العام فليتقبلها القارئ على أنها سيرة نظرية) . ويمضي محمد خضير في توصيف كتابه ( واني بدلا من من حصر انفعالات الخلق في مجاريها المتشعبة تركتها تنساب في مجرى مجاور لنهر النص الأدبي وقد جاءت الهوامش والروابط لتمنحها قوام المقالة ، بعد ان استدعى التأمل ان يسلك طريق المحاججة والإقناع ، لا طريق التشتت والتخبط) . يؤكد المسترريد مقدم بورخس على ان محاضرات بورخس شفهية يقصها الأعمى ، حتى أنها تحولت الى سلسلة من التبصرات المنفصلة لا يربطها سوى ذلك الخيط الغرائببي الذي يضفيه عليها انتباه الكاتب نفسه ( ان سحر بورخس المروي يختلف عن بورخس المكتوب… حيث يكون بورخس الرواي اكثر خداعا وتلونا ، ففي الوقت الذي تظهر فيه كتاباته كلعبة فان أحاديثه تصبح ذاتها لعبا وشرطا ..للمفارقات) .ويذهب بورخس في محاضرته عن العمى بالقول( ان الناس يميلون الى تفضيل الشخصي على العام ، المحسوس على المجرد) ويعلق المستر ريد ( بورخس الأعمى يلقي محاضرة عن العمى قد أضفى بعدا اكثر درامية على لغة المحاضرة ). في مدخل الحكاية الجديدة يذكر محمد خضير ( أتذكر أول جلوس لي على المنصة لالقاء محاضرة (ذاكرة العطار) في اتحاد بغداد عام 1987 وما استمتعت به من طلاقة سرد وقائع لم أسجلها في مدونة المحاضرة تتعارض تماما والمواجهة الأولى مع الجمهور لم أتعرفه ولم يتعرفني . فقد كنت أحس لغياب شخصيتي –مؤلفا بعيدا- تأثيرا يفوق تأثيرها – حاكيا- قريبا. وقد جاءت النتائج لتخذل تصوري المعتاد ، وتلغي واحدة من عاداتي التي درجت عليها زمنا ودافعت عنها . لكنها ويا للروعة كانت نتيجة مذهلة ، فقد استدار أفقي نحو احتمال اكثر تطابقا مع نظرتي الأولى ! ان حياة المؤلف في الحضور والمواجهة تعادل غيابه في حياة النص الذي يظهره). وعندما ينهي الستر ريد مقدمته، يواصل محمد خضير كشوفاته النظرية ويبدّل عاداته إذ يقول( ما دام المؤلف بهذه القدرة على الاستبدال ، فانه لا ينكر حق المؤلفين الآخرين في ان يستأثروا بمدار لهم ، او ان يخرجوا الى مدار مشترك ، في حركة من الاقتراب والابتعاد ، التأثير والتأثر ، تمثل هارمونية التأليف الخلاق لرموز الطبيعة والكون والحياة ، التاريخ والأبدية .) يعرف الكاتب ان التجربة عندما تصل الى ( النيرفانا) تبدأ بابتكار مواقدها الخاصة ، فهو الآن النافخ في جمرة تجربته ككينونة انفصلت عن طبيعة النار والخشب . ترى لماذا عمد محمد خضير على إلغاء بورخس من أية إشارة في مدخل حكايته الجديدة؟ اعتقد ان محمد قد افترض نظريا بان بورخس يمثل ذات الواحد الفيثاغورسي ، وانه إذ يقترب منه او من غيره فانه يمارس لعبة محو الصفة الواحدة وانحيازها لوصّاف واحد ، واقترانها منطقيا في المدار الكلي لتلاقح العقول المتكافئة . وأذ يعلن خضير ( ان أمر استباحة رؤيا الآخرين مبالغ فيه ولا بد من النظر الى الأفلاك الميتافيزيقية المشتركة لمجموعة من المؤلفين بعين عاشقة ) ويرى بورخس ( ان القصة التي يؤلفها مؤلف معين قد تكون حتما حلما عند مؤلف آخر) .والحكاية الجديدة كما الليالي السبع تنتهي من مقدمتها لتذهب الى البحث عن أسرار فن القصة القصيرة كما يراها محمد خضير. (بورخس راويا) العميان الرؤيويون قد اكتشفوا في اللون الواحد ( العدد الواحد) قدرة على تناسخهم النوعي فمنذ هوميروس وأبى العلاء المعري وبورخس ، الذي تماهى مع عماه الجسدي ليبحر في رحلة رؤيوية عبر كتابه ( سبع ليال) . يبدأ بورخس بالحديث عن الكوميديا الإلهية بشفافية سلسلة وثقافة موسوعية ، إذ راح يُنقب عن اصلها وفصلها وقراءات الآخرين لها وقد اكمل بهذا الليلة الأولى من الكتاب ، وجاء محمد خضير في حكايته الأولى ليصوغ من ( الجحيم ، المطهر ، الفردوس ) أطوارا للحكاية وينتمي الى عصر الفردوس ، اصل الحكاية ونبعها الاول حيث الحكاية برمتها هي حكاية الإنسان وادوار استحالتها ( طفولة ، شباب ، شيخوخة وموت) والموت هو المقابل للحلم في الفردوس ، يقول( للحكاية ثلاثة عصور ، عصر النشأة ، عصر اكتشاف الحكاية ، عصر العودة الى الحكاية) والذي عاد فيه اكثر الكتاب الى النبع الأصلي . ( حيث البشر يفقدون أنوفهم او يخترقون الجدار بسهولة او يتجاوزون جاذبية الأرض). وبعد رحلة بعيدة يكتشف محمد خضير -كسابقيه الحالمين بالفراديس واليوتوبيات -،على خرائط تدله على ابعد نقطة في اقيانوس العقل البشري( ان حصول أي كاتب معاصر على هذا المجلد العجيب يضعه أمام سؤالين : أي دافع هائل خلف او أمام هذه الرحلة الطويلة؟ ولماذا هذا الانتزاع الرمزي والتحليق فوق الطبيعي على عالم البشر ؟) . لقد وبخ الاسكندر المقدوني سقراط عندما نشر ( كتاب الميتافيزيقيا) ، قائلا له: لقد كانت النخبة وحدها من تعلم بهذا الأمر ، فلماذا فضحته؟ أجاب أرسطو: كنت انسخ مخطوطاتي لوحدي . وكأنه يؤكد فهمه الخاص بان الكتب مثل التماثيل ، ولابد من الحوار لان الحوار يؤكد ضرورة البحث عن الجواب والجواب صياغة اخرى لأسئلة اخرى. ومهما تبدلت الأجوبة على لسان الحكماء او على لسان الطيور والحيوانات وربما الصخور ، تبدأ الحكاية من اليقين لتنتقل الى فضاء الأسئلة. يبدأ محمد خضير ماسكا خيوط الحكاية ، مارا بكشوفاته عن اصلها وروادها ، بعقل كبير وثقافة واضحة . وكما يستحضر بورخس الكتّاب الذين كانوا أدواتا منحوته لجوهر تجربته ، ينتهي خضير بكشوفاته عن النبع الاول لفهمه للحكاية بالقول_( ولكن عصرنا يبدو انه الحقبة الأخيرة من تطور البشرية التي لا نستطيع تخمين حدودها النهائية ، ولا شك في ان الحكاية التي سطعت كومضة تخيلية وحشية ، لا نهائية في رؤيا الوعي البدائي ، تطورت الى شكل نهائي مصطنع من أشكال ميكانيكية العقل المتطور، واستقرت في مملكتها الأخيرة الواسعة الأرجاء) زكما يذهب ( ريلكه) : بان الحياة خبرة أولى للموت ، وكان الموت البيولوجي للأعضاء ليس فقدانا للأثر الجمالي للعقل البشري. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الثانية
(ذاكرة العطار) محمد خضير بين ( القصه خون ) والقصّاص. هذه هي المحاضرة الثانية من كتاب 0( الحكاية الجديدة) الذي يشير فيها الكاتب الى مؤثرات البيئة المحلية والتراث العربي في صياغة نموذج القصاص ( قصاص القصة القصة القصيرة تحديدا) ، هذا النمط الإبداعي المهدد بالانقراض ، يتقدم الكاتب بيقين نحو عمله بالقول( ان كاتب القصة القصيرة يحتاج الى دافع خاص به، دافع محلي ، دافع اكثر التصاقا بشخصيته وتطابقا مع صفاته. على العكس من عالم الرواية ونموذجيتها الفنية وغائيتها الكونية الفكرية ، فان شرط القصة القصيرة ارتباطها بتربة خاصة ، بدرجة حرارة ملائمة ، بباطنية سيمباثية ، طويّة شخصية) وان مثل هذه الشروط تنطبق على ( القصة خون) – اشتق هذا الاسم الجاحظ من الفعل قصّ- ، هذا الحكواتي الذي استمد نجاحه من حضوره الشخصي وقدرته الشفاهية على سرد الحكايات حد التماهي معها – التقمص حسب ستانلافسكي-. ليؤكد خضير هذه الروابط بين ( القصه خون) وبينه ، او قصاصه .( ابحثوا عن أضواء لإثارة تقاطيع وجه القصاص (قصاصي )، ولكنكم لن تحصلوا على شيء جديد في الصورة ، فالحدود مرسومة ، والخصال معروفة تفوقه في مسحة لا زمنية ، أنها تربطه بتقاليد الوراقين والنساخين) ويتابع ( ان أنموذجي الذي احتذيه اقدم من قصاص الخمسينات ، فقد يكون أحد الحكائين المشهورين أمثال ( خال بن زيد ) الملقب خالويه المكدي ،الذي رسم الجاحظ قسماته الطريفة ، أني لاشعر ماشيا في جادة البصرة القديمة ، أزاحم ناسها في أسواق الجمعة ، أخالط رجالها المتلحفين بالبُرد الخشنة ، واني لاسمع السروجي ، وأبا الفتح يحكيان مغامراتهما عن بلاد العرب القصية). ويمضي الكاتب بالدفاع عن فن القصة القصيرة وفق شروطه الخاصة ( وعظمة هذا الفن الصغير انه لا يمتلك مقومات العظمة والبقاء فالقصة القصيرة فن عابر كأوراق الشجر التي تجرفها الرياح) مشيرا في هذا الوصف الى قصة بورخس ( المبارزة) . – الحكاية التي ولدت في الظل تعود الى الظل -. وبين زوال الأشياء وآثارها يميل الكاتب الى ( البصمة) او التوقيع او الإشارة الى بقاء الأثر بزوال صاحبه انتصارا لحضور القصاص في العمل …… ذلك الحضور الأزلي إذ يقول ( وهنا تندحر فكرة اختفاء القصاص وراء عمله ، ولا يرتبط مقياس الجودة بحذق القصاص في الاختفاء ، وانما بحجم الظهور ، فلا بد من يد وان كانت خفية، فلا بد من وجود بصمة او توقيع يشير الى الصانع الماهر ، يترسخ مع الزمن ، كما ترسخ توقيع نجار على باب قديم ، او خزاف على صحن اثري ، او نساخ على هامش مخطوط قديم). لنتوقف هنا أمام قناعات محمد خضير إزاء الأثر الباقي ، النجار والخزاف اللذين ذكرهما محمد فانهما يمثلان بقاء البصمة بوصفها مقتنيات شخصية وفردية. أما الكاتب فتعدو مخطوطته –بعد الطبع- مشاعا عاما لجمهرة من المهمِشين على أثره ، وذلك بنقل هوامشهم-قراءاتهم-، حيواتهم السرية- وتأويلاتهم على المتن الأصلي ، لتصبح المحطوطة لا تنتمي الى نفسها أبدا –وفق منطق القراءة الحديثة التفكيكية للعمل الأدبي –رغم وجود البصمة الأولى التي ستتناسل نوعيا لعدد من القراءات – الكتابات المعادة للنص الأصلي . متوالية من المؤلفين الجدد ، وهذا بالضبط ما ما يجعل الحكاية الصغيرة والنوادر فعاليات ثقافية مضادة لنمط من الحياة المهيمنة لقدرتها على التناسل واقتفاء المؤلف الأصلي لها ( وحدها الكلمات لا تنتمي الى أحد ) إذ أنها خارج الحيازة الشخصية فما يوضحه النجار والخزاف في الغالب هي آثار تاريخية وحرفية ، بينما ترسم متوالية الهوامش على النص الأصلي المكتوب ، نقل الحيازة بالمعنى الفكري والحضاري الشامل ، إنها دورة التواصل والحوار مع ما هو غير مكتمل في البصمة الأولى للمؤلف لاسباب مختلفة. تبررها لجوء المؤلف الى استخدام طاقة الرمز الى أقصاها ، وهو ما لا يحتاجه النجار والخزاف .طالما ان محمد خضير قد كرس مفهوم المؤلف مقترنا بالتخييل واليوتوبيات . فلعبة الكاتب في الحضور والاختفاء هنا تقترن أيضا باختفاء صانع الأثر وتنحدر الى لعبة اخرى يكون طرفاها – قصاص- القاص ، والمتلقي الجديد. يذهب محمد خضير الى مناقشة الأسلوب في محاضرته مكررا مفهوم ( الأسلوب هو الرجل ) إذ يقول( في القصة القصيرة يكون القصاص نفسه ، أسلوبه ، حيث لا انفصال بين الأداة والموضوع ، بين النظرة والمنظور ، هذا الفن قطعة واحدة متماسكة يُلخص القصاص فيها موضوعه بأقصر مساحة ، واقصر زمن ، واصغر انفعال وازهد غاية) . ان محمد خضير وهي يمضي بخياله عن فن القصة القصيرة يوقعنا في التباس نظري مفهومي في اثنين من المبادئ كان قد اعتنقها في بداية المحاضرة وهما: 1- المقاربة بين الحكواتي والقصاص وتناوبهما في قوة الحضور ليقول لنا( ان قصاصي الذي اقتدي به، خرج مع جرابة في الماضي البعيد ، سائرا على الطرق الهوائية نحو ( يوتوبيا) تتكرر في أحلامه ، وسيصل الى هناك في مستقبل غير بعيد) 2- حماسته ويقينه إزاء كاتب القصة وحاجته الى دافع خاص محلي ، وتربة خاصة ، ودرجة حرارة ملائمة ، وطويّة شخصية . هذه العناصر تشكل بالتأكيد الحاضنة الواقعية لمصادر الإبداع عموما . نرى ان محمد خضير قد ذهب بقناعاته السابقة الى منحى جديد إذ يقول ( قد يضيق القصاص في مجاله الحيوي ، مجال الخلق القصصي ، حيث يعرّف مصادر قصصه بأنها مصادر واقعية بحتة) ولكي يؤكد الالتباس في التبني الجديد معاكسا لقناعاته السابقة ، يحاول أيراد أسئلة غامضة عن الواقع ومن الذي يتحول فيه الى قصص وكأن التربة الخاصة ودرجة الحرارة الملائمة وغيرها من الاشتراطات التي يحملها قصاصه الواقعي المحلي في بداية المحاضرة هي غشاوة بفهم واقعية المصادر لعملية الخلق إذ يقول(وما يحتاج الى توضيح هنا وتدقيق هو مسافة الواقع التي يتحرك فيها القصاص ، وأي شيء في هذا الواقع سيتحول الى قصص ، اواقع الصدفة العمياء، اللحظات العابرة والتفاصيل اليومية التي تشير الى الحاضر ، أم الذاكرة الجمعية للناس التي تختلط فيها تناقضات الماضي والحاضر وأحاسيسها ، أم النهر الذي يجري نحو المستقبل ، وكيف سينتقل كل ذلك على صعيد القصة ؟ في أي موقع يكون القصاص ، في التيار او على الضفة؟). بالإضافة الى هاتين النقطتين اللتين لا تشكلان برأيي تطورا لقناعة سابقة ، يعود الكاتب للإصرار بأنه كاتب واقعي ( واصر على أنني كاتب واقعي) ليعقب هذا الإصرار بجملة غاية من الغرابة ( لكن أعطيت مخيلتي حق ان تذهب الى الحافة الخطرة للواقعية) ، وهو الذي تساءل قبل بضعة سطور عن موقع القاص اهو في التيار أم على الضفة !!؟. ثم متى كان الكاتب الواقعي من ( جيل محمد خضير حصرا) يحبس مخيلته في قمقم الواقع؟ ومتى كان الكاتب التأملي الرؤيوي يضيق بواقعه كمنبع ومصدر للإثارة الأولى!! ويبحث عن مكان له في الواقع كما يرى ( لم اكن اكثر وعيا بهذه الخطوة في يوم كما أعيها اليوم ، ليس هناك سراب او ضباب . او عمى او إثقال او سدود ، الحافة واضحة ، وأنا على علم تام بخطوتي التالية) . وللحقيقة فان محمد خضير واحد من كتاب القصة القصيرة الذين اشتغلوا على تطوير متنهم الحكائي بصبر وروية وبخطوات نوعية محسوبة في تحولاتها ، لكن هذا لا يعني ان زملائه قد ساروا الى المناطق الآمنة في طريق ابداعهم ( وليس هنا لالوم زملائي القصاصين الذين يسيرون على الطرق الآمنة كما رسمها لهم الواقعيون الأوائل ، ولانهم يتجنبون السير على الطرق الهوائية . ذالك ان المسألة ، لنا جميعا ، مسألة وسائل ووقت ومواقع واختيارات ). وما ان يبتعد الكاتب عن حمىّ التأمل التنظيري ومحاولته الجادة لاخفاء مرجعياته ( البورخسية تحديدا ) ، يعود الى صفاء القصاص المفتون بالحكاية ، تلك التي فك أسرارها ( غوغل ) وضمها في قصة ( المعطف) التي خرج منها ( سر الحكاية الجديدة) . كما يؤكد الكاتب بان الواقعية لم تأخذ صفاتها ( الغرائبية والسحرية) . من فرسانها المحدثين ( وان البحث عن الشيء المجهول غير الملحوظ في الشيء الواقعي الملحوظ ، وعن الشيء غير المألوف في الشيء المألوف ، عن الكامن والدفين في الشيء الاعتيادي الظاهر ؛ وبعبارة اخرى عن الخيالي في الشيء الواقعي ) ولتبديد القلق عن مصطلح الخيالي يقول( لا ينبغي لنا ان تقلقنا كلمة خيالي . فالمقصود منها ليس المعنى الوهمي او اللامعقول . الخيالي الذي اقصده هو معنى لقوة إشعاع صادرة عن جوهر الشيء الواقعي ، لا تنفصل عنه ، كما لا ينفصل الإشعاع عن قطعة الماس ) ويذكر بالنهاية الخيالية للقصة الواقعية مستشهدا بقصة واقعية ( المعطف) ، ( لكن هذا ما حدث ، هكذا تكتسب الحكاية المسكينة ، دون توقيع ، نهاية خيالية ) . يبدو ان محمد خضير نسيّ العطار القانع بواقعه، الغرائبي . ، وصاحبه ( القصه خون) وهو يمارس سحره على الآخرين عبر حضوره الواقعي ونهاياته المتوالدة. وليثبت الكاتب إخلاصه لفن القصة القصيرة عبر نموذجه ( قصة المعطف) بوصفها ( حكاية) أراد ان يسلب من خلالها الأثر الفاعل للكتاب المعاصرين ، وسحب الفراش من تحتهم ، كمخترعين جدد لفن القصة يقول( لو عدنا الى نهاية قصة ( المعطف) لاصطدمنا بكلمة حكاية ، حيث أراد ( غوغول ) ان يؤكد الأهمية الخاصة للبنية الحكائية في قصته . ان آخرين من كتابنا المعاصرين ، أمثال ، بورخس ، ومركيز ، وكاليفينو ، وبوزاتي ، سيدركون عظمة الاختراع الحكائي الغوغلي ، فينقذون السرد الخيالي من الابتذال الخرافي والغرابة القوطية ، ويضعون أسس الشكل الجديد للقصة الحكائية ، التي استطيع تسميتها بالحكاية الجديدة ). وفي محاولة الى ليّ عنق التقويم الى الانتداب الى الحكاية ، يذهب الكاتب الى تأكيد أهمية الحكاية الشرقية ( ان روح العصر تلتحم بقوة الخلق العجائبي ، السحري ، لدى هؤلاء ، وتجعلنا نلتفت الى ما في شرقنا الكبير من ( حكايات ) دفينة خالدة في كتب خالدة مثل ( ألف ليلة وليلة ) يرتبط الخيال فيها بحياة واقعية حارة وممتعة ) يبدو لنا ونحن نعلّق على محاضرة ذاكرة العطار ، أننا أمام عطار فعلا وليس قصّاص ، فالعطار محمد خضير ، يحتفي بخلطاته وكشوفاته في المجال القصصي ، ناسيا او متناسيا ، ان وصفات العطار وتقابلها ، كشوفات الكاتب النظرية عن مفهوم القصة ، إنما هي اجترار لمفهوم العطار ، وتناصا بالمفهوم النقدي . هنا يضعنا محمد خضير في ورطة المتناص ، او السارق ! ان وجود العطار وذاكرته هو وجود استعاري ، رمزي . لا يُشابه الجهد النظري الذي طرحه الكاتب عن مرجعياته محاولا العبث في أسبقيتها الواقعية على فن القصة العراقية ، وتحديدا في فهم محمد خضير حصرا . ولو وضعنا منجز الكاتب الإبداعي نصب أعيننا ، سوف نخرج باستنتاج واضح ، ان محمد خضير من أوائل الذين خانوا الحكاية بسحرها الشرقي ( في نتاجه المتأخر تحديدا) ، منتميا إبداعيا الى سحر الأسلوب في القصة الحديثة . ان محمد خضير سيواصل مناوراته في بقية حكايته الجديدة . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الثالثة
القصاص المجهول ( تعاقب الحالمين، بحيازة النص) في تجربة طريفة لمحلل نفسي أقامها على مجموعة من الأشخاص وعلى طاولة مستديرة ، وقام بالهمس لاحدهم بسر ما، وطلب منه نقل هذا السر الى الشخص التالي الجالس بجانبه ، وهكذا يقوم كل شخص بنقل السر- الحكاية- الى الآخر حتى اكتمال دائرة الجالسين . فوجد ان السر –الجملة – التي همس بها بأذن الاول قد وصلت الى آخر الجالسين بصيغة مغايرة تماما لجملته الأصلية ، حتى انه شعر بان رسالته الأولى اختفت معالمها بين أشخاص الطاولة المستديرة . ولنا ان نتصور ان الأشخاص ليسوا على طاولة مستديرة ، وانما يقفون بصورة مستقيمة ( كأعمدة التلغراف) وسط الحقول ، واجبهم إرسال البرقيات بأصواتهم كما جاء في قصة ( البرقية للكاتب لسلافوير مروجيك) الذي أستشهد محمد خضير بها ليثبت ان ( الصورة الأصلية لشكل الوجود تبدل أبعادها وألوانها تحت الشعاع المتعاقب لفجر الأرض وغروبها). فكيف يكون مصير الحكاية كأثر مخطوط في تعاقب حيازتها ؟ يجيبنا الكاتب( حين يكون الأثر مخطوطا تصفحته مئات الأيادي ، وخطت على هوامشه مئات الأقلام ، ونظرته مئات العيون نظرات استخلصت من حروفه إكسيرا راقيا للضمير او الذاكرة . ان سلسلة المواد والأرواح المتناسخة تتفحص هذا الأثر لا المؤلف أول لها ولا القارئ الأخير آخرها) . يذهب بورخس في محاضرة الكوابيس من كتاب ( سبع ليال):(في هذه اللحظة احلم بالسيروة الكونية كلها ، احلم تاريخ العالم ، احلم كل شيء … طفولتكم ، مراهقتكم ، حالم بدء يحلم ، احلم أنني القي محاضرة في قاعة ( كارل شاركس) أنني احلمكم وهذا ليس صحيحا ، كل واحد منكم يحلمني ويحلم الآخرين) . هناك معلق مجهول يدلي بالحقيقة . كما يفرق بورخس بين الأحلام وبين الكوابيس كنوع من ( الفزع المقدس) للأثر الادبي، ويستطرد ( الأحلام تعطينا فكرة عن الروح العظيمة وهي متحررة من الجسد ) ، في الأحلام نحلم أننا نقرأ كتابا ، ولكننا في الحقيقة نبتكر كل حرف من الكتاب . بينما يقول محمد خضير ( أنت أيضا وأنا معك، واقفان هناك ، نحلم بأننا واعيان لوجودنا ولوجود المرسلين الذين نجهل مواقفهم . إننا منفردان ومتصلان أيضا ، … يظهر في مرايا الأزمنة خالقون متكررون ينسجون في غسق القرون الآفلة أساطيرهم . الآن جاء دورك لتنسج ، لتلعب : لترسل في التلغراف الخيالي برقيتك ، أرسل فما أنت وحدك ، وما أنت بآخر ، وما نخلقه ارسل مثله خالقون قبلنا ، ولكن لكل خلقه الذي لا يتكرر ولا يعاد إرساله، أي نص اصل في زمانه ، مرحلته الثابتة من مراحل الإرسال) . كما يؤكد بورخس من جهته بأنه( يرى الحالم حلمه في لمحة واحدة كما يرى الله في أزليته الشاسعة ، الصيرورة الكونية برمتها ). ومن النظام الصارم بالإرسال والتلقي الى النظام الاحتمالي يعلق محمد خضير ( نحن مجموعات ، وما لا تلتقطه مجموعة تلتقطه مجموعة اخرى قريبة منها او بعيدة ، ما الفرق؟ نظام احتمالي وقابليات غير متجانسة ، ومسافات متفاوتة ، يطول الانتظار سنوات، ولا يحدث شيء ، لكن وقوع ملا يحسب ببال قد يحدث بين زمن واخر ، الاحتمال قانون قاهر ، كالمصادفة في رحلة الصوت . نحن رسل بلا حدود ، أفراد أخف من الهواء ، واثقل من الصمت ، الصمت الضروري للالتقاط ، الخفة الضرورية للإرسال ، وكما يحصل في قصة ( مروجيك ) البرقية ، أحيانا حين يرّف ( الرجال الأعمدة ) مضمون البرقية حين يكونون مخمورين … فأننا نخطئ في كل مرة نعتقد فيها أننا أتممنا الرسالة ، ولشعورنا العميق بهذا النقص والخلل ، نستمر في رسائلنا دونما توقف) ان الرسالة الإبداعية في رأيي لا ينتجها قانون السببية ولا يوصلها مبدأ الصدفة . ولكن محمد خضير يمضي في طروحاته حول وهمية المؤلف وخداعه يقول: ان الفعل ( ألف) خادع ووهمي كفاعله المؤلف . نحن لا نقصّ عن شيء ، لان قصصنا موجودة قبل كل شيء ، قصصنا لا تعنينا ، فهي تعني وجودها فقط . الوجود السابق على أي وعي وعي او إحساس . ان قصصنا خلقت قبلنا ) . وفي الهامش الخاص بهذه الفقرة يرى محمد خضير انه غير مدين لبورخس وحده( لا أدين بهذا التأويل الأفلاطوني الى بورخس وحده ، إذ تناهى اليّ كذلك من الرسائل الفلسفية العربية القديمة ، حيث لا افتراق بين البرهان والوجود السابق عليه) . ونحن نرى ان هذا الأمر ليس نتاجا بورخسيا ، وانما هو جدل فلسفي قائم بين الفلسفة المثالية التي تؤمن ( بأسبقية الوعي على المادة ) والفلسفة المادية التي تُقر ( بأسبقية المادة على الوعي ) . حيث ان الأشياء السابقة لوجودنا ليست القصص فقط ، وانما المصير البشري كاملا في مفهوم العقل الكلي المطلق. وكما يقول ( بيكاسو ): إنني لا اكتشف ، أنني أجد. للتعبير عن تعاقبية الخلق والحيازة معا . كما ان الأفكار على قارعة الطريق – كما يرى الجاحظ-. (عمى الخالق- المرسل-) ان عمى المبدع الحقيقي إزاء عمله هو قناع آخر لمجهوليته مثل العمى المفترض للكائنات إزاء الخالق الأزلي . ففي الرسائل القديمة ( رسالة الغفران ، منطق الطير، كليلة ودمنة ، الكوميديا الإلهية ) وصل الخيال البشري فيها الى مرحلة كشف الحجاب وتمثل أحوال السماوات كما يتراءى للصوفي وهو يتمثل كلمة ( كن) . وهناك نمط من الرسائل المقفلة ( والتي تثير قابليات التأمل والفراسة) مثل الرسالة التي أرسلها ( عمر بن هند ) بيد (المتلمّس ) الى عامله في البحرين ، يأمره فيها بقتل حاملها . ولكن روائح الموت فاحت منها فأستنشقها حاملها ( الجاهل بالقراءة) بحدوسه وفراسته ورماها في النهر . فاضّا هذه الرسالة وكاشفا أسرارها ، وهو الأعمى أمام المرسل البصير! يفترض محمد خضير للمبدع صفة التجلي لا الانكشاف عند معاينة رسائله المفتوحة والمغلقة ، ويعبر عن هذا بمصطلح شعري ( اختفاء النضج ) . ان اختفاء المؤلف هنا هو قناعه تجاه محاولات كشفه من قبل السائرين على طريق علامات النص . لذا فان خضير لا يريد لرسائله ( أقنعته ) ان تفضّ بمنطق القارئ او الكاتب الآخر وحده ، كما حدث مع قراءة ( سارتر) ل( جان جينه) الذي قال الأخير عنها ( لقد أُصبت بنوع من الغثيان ، ذلك لأنني رأيت نفسي عاريا ومن طرف شخص آخر غيري ، أكيد أنني اكشف عن نفسي تماما في كتبي غير إنني في ذات الوقت ألجأ الى التنكر اللغوي والى المواقف والاحتمالات الخاصة . أنا استعمل نوعا من السحر واحاول ان أصون نفسي قليلا غير ان سارتر عرّاني دونما احتفاء بفظاظة. واول رد فعل كان رغبة في إحراق الكتاب). ان محمد خضير بهذه الجرأة في مقاربة نصوصه العارية له وحده ، مع اعترافات ( جينيه) الخاصة رغم نشرها في أقنعة الكاتب اللغوية والأسلوبية ، إذ انه يصرح جهارا ( بيّ رغبة قاهرة في ان اخفي عن نفسي كل ما اعرفه عن حياة المؤلفين الآخرين ، كي يستمر ألق أعمالهم في خاطري الى أقصى خطوة يخطونها ) . ان رغبة محمد خضير مشروعة بحدود نمط الرسائل المغلقة ( المشفرة في التعبير الحديث) . لكنه وقع في الفخ . فخ عماء المتلقي ، الذي فضحه بورخس -المؤلف الأعمى- بكل شفافية عندما جعل من العماء والحلم والحيازة والأقنعة ( كتابا واحدا نشترك في تأليفه جميعا) فهل نجح محمد خضير في إخفاء رغبته أصلا في حرق القراءة ومصادرة تحولاتها كحلم او رسائل جديدة ؟ هل نستطيع ان نقترح لمحمد خضير محرقة مجوسية لمعرفة الطريق الى ( الباث ) الاول للرسائل المقدسة ؟؟؟ لا شك ان محمد خضير لا يقبل بأقل من الانصراف من الحفلة التنكرية ، وهو يدخل زقاق القصة العراقية ، بأقنعة اخرى . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الرابعة براهين بسيطة يبدو ان الدخول الى ( مفاهيم ) محمد خضير ولا أقول مصطلحاته ، يحتاج الى مجسات حساسة للتفريق ، بين منطقة الخيال عنده بشقيها التنظيري والإبداعي . لان محمد خضير ذاته يسعى جاهدا لاخفاء او إبراز هذا التناقض كنوع من الضبابية المشروعة ، لإيجاد مرونة من النظر أليه ك( فايبر اكلاس ) بوصفها مادة تتألف من ألياف زجاجية وبلاستك صلب . تصلح لصناعة الزوارق التي تستخدم ،للنزهة والهجوم العسكري المباغت ، ولسباقات الرياضة البحرية. لذا فان براهين محمد خضير ستسند على قوة البرهان التعسفية ومرونة البساطة في مناقشته لفن القصة القصيرة ، يقول( تلك البساطة التي نفكر بها وكأنها رؤيا من رؤى الخريف المفاجئة ، ورقة مرتعشة تجرفها الرياح الرطبة على ساحل الواقع او الحلم ، لمسة من لمسات الفكر التي تضيء المخيلة وتملؤها بالإشراق ، رسالة تغص بالعلامات الغامضة التي سقطت من لغة الإنسان ) ، ويستدرك الكاتب ( لكن هذه تأملات لا تحدد البنية المتماسكة المميزة لهذا الفن بقدر ما تنحاز الى طبيعتها الأنزلاقية التي شخّصها - أي .ه. يتيس )-،لهذا اغتنى تاريخ النوع بتعريفات بعيدة عن التحديد او التشخيص البرهاني الذي نتوخاه) . وهو يدخلنا في متاهة الانزلاق بين البرهان واستخدامه ينحاز الى تعريف مخصوص أورده( محمود تيمور) : (بوصف القصة روحا قبل ان تكون مظهر.)وكأنه قد نسيّ ثالثة ورابعة ، او تناسى، احتفاءه بالمثل الأفلاطونية كمصدر أول بعيدا عن فهم بورخس لها !! محاولا سحب القصة القصيرة من تعريفاتها الشائعة ( الفكرة ، الشخصية ، الحبكة ، الايجاز، التكثيف، البراعة ، الجمال) كتكريس لوضعها الأرستقراطي ، النمطي، ليضعها مرة واحدة في الأثير كورق شجر الخريف ، متشظية يتلقفها الكاتب في لحظة رؤيا ، ليصوغ منها نواة للتنكر بقناعه الاول . وبهذه البساطة البرهانية يفترض محمد خضير ان بساطة القصة القصيرة هي بمثابة رؤيا لا يقنصها إلا صياد القصة القصيرة ، متماهيا مع بورخس الذي طرد ( دانتي ) من مملكة الرؤيا في ( الكوميديا الإلهية) بفهمه : -ان الرؤيا هي لحظة قصيرة ، توهج لا يمكن الاستمرار فيها في عمل كالكوميديا الإلهية-. ويؤكد خضير ثانية هذه الفكرة / الرؤيا بوصفها الوهج والبرهان ، ( ان انبثاق قصة ما ، هو لحظة برهانيه عميقة) . وحتى لا تسلب اللحظة بمفهومها الزمني البرهان الفلسفي القائم على المقدمات والنتائج ، او المفهوم الرياضي القائم على المنطوق والمطلوب إثباته والمحصلة البرهان (القصة برهان متكامل على وجود متماسك يتجاوز وجودنا الحسي ) . ان البرهان المقترح من قبل القاص لا يقنعنا كقصة او رؤية ، لشرط هذا الفن المقترن بالرؤيا كحقل لانتاجها فقط. لكن القاص أراد ان يجعل للقصة كحكاية بسيطة ، محمولات فلسفية ورؤيوية ، بمثابة مرور القصة القصيرة الى خان الرؤيا ببساطتها كحكاية لا تنتمي الى زمن مراهقتها الأولى ، شفاهيا. ان محمد خضير عندما انحاز الى بساطة النوع ، يعي انه قد يثبت شرعيته من خلال مرحلتين : 1-الدفاع عن النفس بالهجوم على الواقع ومراوغته 3- وعي التجربة أو رصدها بتقديم البراهين على استمرارها وهنا يبدأ السؤال : ماذا يريد القاص من الحكاية ؟ بعد ان كانت عبارة عن ( مرور التجربة بغربال الوعي ) ، والوعي عنده هو الحلم على طريق تفسير كولد يرج ( ليس المهم ما نحلم به ، بل المهم هو بحثنا عن التفسيرات ) , هنا محمد خضير يمضي بحكايته ( القصة القصيرة) الى مصاف أعلى من بقية الفنون السردية ( لكن لماذا نرفع القصة القصيرة على غيرها من الفنون لحمل مثل هذه المزايا الجوهرية ؟ هذا لسبب رئيس يتعلق ببساطتها الجوهرية ) ماهي البساطة الجوهرية عند محمد خضير ؟ يغادر الكاتب ( الواحد الفيثاغورسي) ليبنى حاضنة محلية ، عربية ليؤكد البساطة الرياضية الواحدية، الغنية بالتماثلات والأرقام والحروف واكتشاف أسرار النصوص من خلال هذا التماثل. يقول: لقد وجد العرب في القصة ( أسموها رسالة) وسيلة رمزية للبحث عن أسرار الوجود الإنساني. كما وجدوا في تناسب الحروف والأعداد دلالة على كمال الوجود . لذا يطرح الكاتب مفهوما يستبطن المركبات العددية الفردية والزوجية ألا متناهية . وما يسبب اتحادها بالأعداد الأولية 2، 3، 4، 5، من فرضيات أساسية لاثبات الكمال والتوحد والانسجام بين الكائنات. وبهذه الطريقة يصلّ محمد خضير الى حقيقة التركيب الخماسي لعناصر القصة القصيرة ( الشخصية ، الحبكة ، الزمان ، المكان، الفكرة)وهي طريقة استعملها ( في الاستنباط العددي تُحيي الطرق القديمة التي استنبط الأدباء قيم الأشياء من قيم الأعداد والحروف التي تناسبها). ان محمد خضير هنا يضع نفسه في خانق نظري بالتعامل مع الفن ، إذ لا حقائق ثابتة ولا طرائق ولا وصفات محددة تؤدي الى الفهم والتشريع للفن. أننا نرى ان محمد خضير عندما وصل الى قناعته الرقمية والحروفية وتعميمها كقانون لفن القصة ، فهو قد وصل الى نتيجة شخصية محضة لا يمكن تعميمها على فن القصة القصيرة عموما . لكن محمد خضير لا يتقبل بطروحاته استنتاجا كهذا ، لانه يدافع عن إثبات البساطة الواحدية الرياضية ، كبساطة جوهرية لفن القصة القصيرة ، ليس بفهمه عنها وكشوفاته فقط ، كذلك يرى إنها سوف ترفع القصة القصيرة الى درجة أعلى من فنون القول الأخرى لحمل هذه المزية! ، وهذا برهان خارج اللحظة /الرؤيا التي ولّدت القصة القصيرة، عن غيرها التي تخضع لقانونها الخاص. ان خضير في بحثه الدائم عن البرهان خارج ( الواحد الفيثاغورسي) ورؤيا بورخس العميقة والبسيطة ، وانتمائه الى طرق عربية برهانيه يستنبط منها قوانين القصة الروؤيوية ، إنما هو محاولة مبدع ( يتناص) مع اكثر من موقد وينبوع لاغناء واذكاء كشوفاته النظرية في حقل القصة القصيرة . لذا نرى ان الكاتب يضيف تعريفا آخر استمده من السينما للقصة ، ( سأضيف اليوم الى تعريفاتي مثالا آخر استوحيته من ( البستاني) الذي مثل دوره ( بيتر سيلرز)، يقول الممثل: مادام النبات سالما فلن يميته الصقيع). ويمضي للتأكيد ( والحقيقة ان البستاني لم يريد تعميم حكمته ، كالقصاص الذي لا يريد ان يبرهن على دقة عمله ببراهين عامة من خارج حدود قصصه –مجال خبرته-) نستطيع ان نقول ان تعريف محمد خضير الجديد هو إحساس بوطأة التنظيرات وصرامتها ، والتي لا تتوافق مع شعرية محمد خضير الذي تورط في التقعيد النظري للرؤيا ومتاهاتها . يقول بورخس (ان الأنا اعظم الأوهام ) . يذهب محمد خضير المفتون ب( النواة) ، برسم دائرة جعل النواة مركزها كمقدمة للبراهين ، ورسم في أغلفتها مدارات المخطوطة ، النص ، القصة ، البحث او السفر، المؤلف الراوي مجهولية المؤلف ، اليوتوبيا ، الواقع ، التمثل الذهني. إذ ان هذه الدوائر والمدارات حول النواة بوصفها لحظة البرهان المشرقة ، لينتهي الى حرق الأغلفة بالاحتراق والتمثل . ( ولعلي هنا أؤكد هذا المنحى حيث أدعو إلى تصميم القصة باعتبارها عملا مدبرا يبرهن على وجود نواة تختفي فيها جينات الثيمات اللامحدودة التي انشطرت عن الموضوعات الخالدة –الحياة، والحب والموت) أين يسير محمد خضير بنواته؟ ( النواة هي لوجوس القصة ، هيولها ، واما ما يتفرع من النواة ثيمات لا حصر لها ) . يريد محمد خضير ان يقول بالبرهان انه نواة في عالم القصة القصيرة وما التناص –او المقابسات – إنما هي ثيمات تحترق في حاضنة النواة الأولى _ هذا ما سنتوسع به في الحلقة التالية_. ان محمد خضير يعي المسافة بين ان تكون نواة او مدارا ، يقول في تعليقة عن قصة المطاردة لاينو بوزاتي)( ومما لا شك فيه ان السرور الذي يغنمه الإنسان من حياة الغنى والرفاه والهناء سرور كبير ، ولكن جاذبية الهاوية اكبر) ، كما يشير الى قصة الأنف ل(غوغول) بالقول( يبدو انه لا يوجد في الكون شيء طويل الأمد ولذلك فان السرور في الدقيقة التالية لم يعد كبيرا ، مثلما كان في الأولى ، أما في الدقيقة الثالثة فقد بات اضعف ، وألتحم في النهاية بالوضع العادي للروح ، كما هو الحال في الماء حين تلتحم الدائرة التي يولّدها وقوع الحجر ، في النهاية بالسطح المستوي). وتزداد صعوبة إدراك المعنى الذي يكمن في نواة قصة رمزية مثل قصة كافكا ( طبيب القرية) ( لقد اتبعت مرة الدق الخاطئ لجرس الليل ، ولن ينصلح الخطأ أبدا). هذه مجموعة من حقول ( النواة ) في القصص المشار إليها كحقيقة مركزية يعتمدها خضير للبحث في صيرورة النواة ، ليس كمهيمنة وراثية ، ولا هي صدى للدوائر الذي يحدثها وقع الحجر في الماء. ان النواة عند محمد خضير هي المدونة الأولى لتاريخ نوع ما . وبما انه ينتمي الى حقل القصة الذي يحتمل وجوده من خلال نواة او مدارات متناثرة لا حصر لها ، سيقرر محمد خضير التالي( ان القصص جميعها تحاول ان تبرهن على نظام المخطوطة ، حيث يتقبل بناؤها ان تعمل عناصر الحبكة والاتجاه المحوري للزمن ، والتصميم التوزيعي للمكان ، على إنها هامش تأطيري للنواة الموضوعية المركزية فيها) . ان محمد خضير هنا انتمى الى النواة ببساطتها الحسابية وانشطارها العددي مبتعدا قي الوقت ذاته عن حاضناتها كما يبدو من خلال الاستكانة الى فطنته في الطرح ، ولكنه أراد ان يُطيح بكل نواة ، ما عدا المخطوطة التي تكون غالبا بلا مؤلف معلوم كالاسطورة –حسب رولان بارت-. وما القصص إلا منطوق للمراد إثباته وهو البرهان . بهذا يضع محمد خضير المخطوطة كأثر أول ، يريد أبعاده عن الحيازة –كنواة- من الجميع. وكأنه يقول : ان المخطوطة لا أب لها . إنها ملقاة في الطريق الى الآخرين ، والمسافرون في حقل القصة، إنما يحومون حولها .كلّ ببرهانه ، المؤدي الى منطوقة الخاص لاثبات وراثته للنواة . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الحلقة الخامسة مجرات التأثير / المقابسة
( كلّ شيء يحترق الأرواح والأجساد وتبقى ( الكرما)- وهي عبارة عن وحدة أفكار بوذية ذهنية تتناسخ عددا لا متناهيا من المرات-) (أن تعبر من حياة الى اخرى كمثل النوم في اسرّة مختلفة في غرف مختلفة- افلوطين) ( في كل لحظة من حياتنا نحن نَنسخ ونُنسسخ) –بورخس- يذهب محمد خضير في هذه المحاضرة الى إشهار اعترافه في التأثروالتاثير بالقول( اعتقد أننا جميعا نمر بالحقول ذاتها ، حقول التأثير)0 ولتأكيده على ضرورة الوعي بالتأثر( لابد من إنارة المدارات الغاطسة في نصف الظلام التي تدور فيها النصوص… المزدحمة بآثار الأقدام … ان محاولة استعادة الآثار، تضع خطواتنا على الطريق الصالحة بين قلاع التأثير وتُعين لنا الاتجاه الصحيح ). وحتى لا نفهم ان محمد خضير قد سلّم بالتأثير وحده او محاولة اكتشاف الانفعال به فقط، فانه سيسعى للكشف عن وعي المنفعل لتشكيل فعله الخاص ، لذا نراه يبتعد عن قانون ( الفعل ورد الفعل ) في الفيزياء الميكانيكية ، لانه يُدرك ان ( تسارع السقوط الحر) نتيجة رد الفعل باعتبارها مساوية للقوة في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه ، ويذهب الى علم المنطق كمعطى فلسفي ، ويستشهد بالمقولتين التاسعة والعاشرة ، اللتان تبحثان في تقبل الأثر : قبول آثر المؤثر والفعل ، أي التأثير في الشيء الذي يقبل الأثر ، يقول( وإذا كانت فرضيات هاتين المقولتين مادية تجريبية فان نتائجها تتجلى في التصور العقلي المحض) ساحبا هذين المفهومين الى الحقل الأدبي ( ان العقول الأدبية هي عقول منفعلة ، وهي عقول فعالة أيضا يؤثر بعضها في بعض اضطرارا واختيارا ، لكن اشرف أنواع التأثير هو الأثير التلقائي … التجاذب المتوازن … الاختيار …. الانتخاب ، الاصطفاء) . ان مفهوم محمد خضير هذا في التأثير ، قد بُحث عميقا في تراثنا النقدي العربي ، وكانت النتائج تتراوح بين السرقة ، والتضمين ، والانتحال…الخ ، حتى جاء وقوع( الحافر على الحافر) أحيانا ليفض الاشتباك في ( خيمة النقد) وينتصر للنصوص . وبين التأثير والتأثر دخل مفهوم الصدفة والسببية وأيهما اكثر فاعلية في الحضور في هذه العملية يعلق محمد خضير ( في المنطقة ذاتها ، دخل التأثير في اشتباك ، لم ينفك حتى اليوم ، مع مفاهيم اخرى مثل الحتمية والسببية والصدفة والاحتمال ) وينتصر الكاتب الى السببية ( ولعل ارتباط التأثير بالسببية أقوى الارتباطات) ، وهو يؤكد مفهوم النقد الحديث ( التناص) الذي جاء به( جيرار جينيت ) حتى تقعد كمصطلح نظريا على يد ( جوليا كرستيفا) أخيرا ، وان محمد خضير يفضل كلمة ( المقابسة ) على ( التناص) ، وهذا يعود في رأيي لما تحمله هذه الكلمة من نورانية تستفز عقل الكاتب الشرقي/ المسلم وعلاقتها بهالة النور ، كما أنها وردة في المقابسات لأبى حيان التوحيدي، سيما ان محمد خضير ينفعل بالكلمات الشعرية والتي تحمل ذات المفهوم نقديا . لكن محمد خضير كما نرى يقع في إشكال واضح في حديثه عن التأثير والتأثر بوصفهما الحقل الشرعي والحقيقي والخصب لولادة النص الأدبي وكاتبه ، نراه يحاول جاهدا ان يحرق مرجعياته وينزع أقنعته قبل ان يكتشفها الآخرون كما صرح اكثر من مرة كما رأينا، وكأنه بوذي يريد إحراق بوذا ( يعتقد البوذيون بأنه ليس المهم ان تثق ببوذا، المهم اتباع تعليمه- من حديث بورخس عن البوذية في كتابه سبع ليال-) وبسخط واضح على الدراسات المقارنة في النقد الأدبي والتي تركز على السياق التاريخي المتعاقب فقط ، يعلق خضير( إننا نتطرق في دراستنا الى تشابه هذا العمل او ذاك ، وغالبا ما يكون الأصلي المقارن … غريبا ، فريدا، مثاليا، أما العمل المتأثر به فهو نسخة طبق الأصل وبذلك لا نلتفت الى الآليات المعقدة لعملية التأثير والتأثر ونضع النسخة الثانية المنفعلة موضع الاتهام والتحقير دون النظر الى صيرورتها الخاصة ومراجعها القوية المتوازنة) ويستشهد الكاتب بتطبيق عملي لمثل هذا التعسف النقدي على النصوص التالية بقوله( وفي تأليفنا المعاصر برهان مماثل على الوجود السابق للأشياء في قول بورخس – الكتب جميعها موجودة قبلنا- او ان – المؤلفين يؤلفون كتابا واحدا – والفكرتان صدى لفكرة – المُثل الأفلاطونية – أي أسبقية صور الأشياء لوجودها المادي). ترى هل ينتصر محمد خضير الى بورخس بوصفه منفعلا واعيا ، أم الى أفلاطون بوصفه النص الاول!!؟. يذهب محمد خضير في هذه المحاضرة لرصد مجمل التأثيرات التي وقعت تحت سطوتها القصة العراقية سلبا وإيجابا ، اذ يشخص أربع تيارات –مجرات –كبيرة وعلى النحو التالي: 1- التيار الواقعي- الروسي، والأمريكي ، والإنجليزي. 2- تيار الوعي 3- التيار الواقعي الجديد والوجودي الشيئي 4- التيار الواقعي الغرائبي والواقية الرمزية . وهذا الأخير الذي هيمن على كتاب الستينات – وهو أحدهم- الى الوقت الحالي مع التجارب القصصية الجديدة ، إذ ان هذه التأثيرات بمجملها ليس لها أثرا تعاقبيا فهي متداخلة ومتفاعلة ومنفعلة في ذات الوقت وعلى كافة الكتاب العراقيين قديما وحديثا. يشخص الكاتب خللا نقديا عربيا لازم التجارب الإبداعية بوصفها تابعة ولا أحد يفكر في تجديد موضوعاتها ، إلى ان يصل الى العقل النقدي الحديث الغربي بقوة جذب مركزية استلبت العقل الشرقي بوصفه فلكا تابعا لمركزيتها المهيمنة ، في حين يجد ان الثقافات الأخرى في أمريكا اللاتينية قد أوجدت مركزيها الخاصة وسحبت إليها عقولا روائية عربية وشرقية من محيط الجذب الغربي ، وصار بدلا من المركز الواحد والجذب الأحادي ، تبرعمت حول محيط المجرة الأولى مراكز جذب عديدة خلقت لها محيطات مستقلة ، حيث ولّد هذا الزخم الجديد لهذه المجرات زخما أقوى من الزخم الكلاسيكي للمجرات الهرمة. يستعرض محمد خضير تجربته الشخصية في كتابة القصة إزاء هذه المؤثرات بالقول( لقد انتقل الكاتب من البصر الى التعقل ،وأستطيع وصف التعددية المرجعية بأنها فضاء يسبح فيه العمل الأدبي وسط تأثيرات متلاحقة لذا يصعب فرز هذه التأثيرات او حصرها) ، وحتى يبرهن على صعوبة الفرز والحصر لمرجعياته يؤكد ان أعماله لا تتسم بقيمة التجريب ( لان التجريب من سمات الأعمال القلقلة إزاء مراجعها ، وافضل التحقيق لانه يؤمن اتصالا وثيقا مع مراجعها ثم تبرهن على هذا الاتصال بأفضل البراهين ) . يخلص أخيرا الى ( المؤلفون الجيدون وسطاء شفافون يتراءى العالم عبرهم بكل أطيافه الحيوية وتذوب فيهم أعراض الفساد). ولكننا رأينا ما ورد عنه في المحاضرة من فهم للتأثير والتأثر وانتصاره للسببية ، نراه يعود الى نقض هذا العامل في آليات اشتغال جديدة عبر ( مجرات من العقول الكبيرة والمتكافئة) يقول ( إنني أؤمن بالمصادفة الكونية التي تجعل كاتبا سابقا على كاتب آخر ، او كاتبا مجاورا لاخر) . فهل كان محمد خضير مصادفة بين العقول والمجرات؟ وأية صدفة تقود للتكافيء؟؟ ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الحلقة السادسة مدينة الرؤيا / البحث عن عالم بديل أرى ان رحلة كلكامش نحو الخلود ، وحلم الإنسان باليوتوبيات يشكلان نواة مشتركة لحل إشكالية ثنائية ،(الحلم والواقع)،( الفناء والخلود) . فكلكامش في بحثه عن الخلود أراد ان يعيد التوازن لبنائه المشترك ( بشري –إلهي) لتغليب صفة الإلوهية ، إذ كان نصب عينيه مثالا للخلود الأبدي . وهذا هو حال المخططين ( في بناء اليوتوبيات الذين اتبعوا مثالا إلهيا أعلى او رؤية فلسفية مطلقة) كما يقول محمد خضير . واليوتوبيات التي يستعرضها تمثل ( أنوات ضخمة) ، أي أنها تشكلت كبديل عن مرجعيتها ، واستحدثت نظمها وقوانينها ، وطريقة الحياة ودرجات وأفراد المجتمع فيها وصفاتهم ، وبحثت بعضها في القيم بوصفا أساسا لها – كما في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة – وهذه المدن تعبر عن ( اوقيانوس المدن المثالية) ، وهي في الوقت ذاته تعبر عن آلية نفسية- حسب تعبير علم النفس ، واستمرارا للبحث الإنساني في محاولته لتصوير واقع آخر. كيف يعيّ محمد خضير الواقع ( واقعه هو)؟ يقول( ان المشكلات الأخلاقية والاقتصادية والبيئية المستجدة لعالم يتسم بالتعقيد والاتساع وتشتت الثروة ، وعرض القوة المسلحة . في عالم مهدد بالنضوب الغذائي والتلوث البيئي والدمار الشامل، يتعرض الحلم القديم بيوتوبيات سعيدة الى انحراف كابوسي مرعب ، يقذف بالإنسان الى مخالب ماكينة تكنوقراطية مركبة من المؤسسة العقلانية والبدائية الغريزية المتعطشة للتسلط والاستبداد المطلق بعقل الإنسان وروحه الى حد المسخ والاستفراغ والطاعة العمياء) . بهذا التشخيص الدقيق للواقع إزاء الرؤيا وصنّاعها يشير الى عملية طرد ثانية يواجهها الإنسان في عالمه الأرضي ، بعد الطرد السماوي الاول من الفردوس. وبعد هذين الطردين ، وبداية رحلة التيه ، يبدو محمد خضير مرتابا من العقل البشري للوصول الى ( رغبته النقية في العدالة والحرية والرفاهية) ، مؤكدا ان السبب هو( ان عالما جديدا شجاعا سيبقى حلما نائيا ما لم يتحقق على ارض الواقع التاريخي ، مجتمع خال من الاضطهاد والاستغلال ). ما الذي يقترحه محمد خضير لمعالجة هذه الإشكالية؟ يقول( يبدو ان الإنسان لن يفضل ان يبقى منفيا في حلمه على يتأبد في مكان شبيه بالحلم ، مهدد في الانتهاء بين لحظة وأخرى) وهو يقوم بفصل الإنسان العادي عن المؤلفين من خلال فهم كل واحد منهما يقول( إما المؤلفين ، فان يوتوبيا لا متحققة هي خير عندهم من حقيقة مبنية على يويوبيا ، ان شرائط اللاتحقق هو محتوى الشكل اللصيق بأي هدف يوتوبي معاصر) ، وهم ( المؤلفون) سيكتفون بوجود هذا الحلم ( كرؤيا) كي تبعدهم عن الواقع كقرين تاريخي لمثالية اليوتوبي. بالإضافة الى هذا فانه يضيف شرطا آخر هو إنها( هي فكرة لم يحن تطبيقها بعد) ، ويعلل ذلك ( لان قدرا كبيرا من العناصر البدائية يتحكم في تركيب المؤسسات المدنية المعاصرة، وفي تصورها لمستقبل المدينة الاجتماعي ، وتجديد قيمها بالسرعة التي يتطلبها نظام يوتوبي متحرر من الأنماط القيمية الأصلية شبه الثابتة ) وهو يُحقق بهذا الفهم ( السفر العقلي الحر الى مدينة الرؤيا أسبقية شرعية على الإقامة الواقعية الأرضية). البحث عن يوتوبيا محمد خضير في خضم بحثه عن أول فكرة لليوتوبيا ، وسياحته الفكرية العميقة في تجلياتها ، ابتداء من جذرها اللغوي وحتى تحققها كرؤية في ذهن مؤلفها ، يجد محمد خضير بعضا من ضالته لشكل اليوتوبيا الذي يرتئيه في رؤيا( جوزيف كنشت) بطل رواية هرمان هسه( لعبة الكريات الزجاجية ) ، يقول( أدرك كنشت التناقض بين السلطة ، والمعرفة ،التأمل والفعل التاريخي ) . ومثلما أشرت في البداية الى بحث كلكامش عن خلوده عبر انحلال البشري فيه ، نجد محمد خضير يقول بثنائية اخرى تكمن في اصل اليوتوبيا هي ( خلود النفس وانحلال الدولة ) كما انه نقب في جمهورية أفلاطون ووجد ( من شرائع الطبيعة ان التطبيق الفعلي لنظرية ، لا يبلغ مبلغ النظرية في الكمال –ص171-) كما يجد عند إفلاطون في الجمهورية أيضا ( خلود الشيء مرتبط بزواله-ص283- )ليخلص الى قناعة تقول( ان قانون افلاطون هذا هو الوحيد المنيع عن الهزء والخرق ، منه تستمد اليوتوبيات شكلها الذي لم يتغير منذ ذلك الحين) ويضيف( تلك اليوتوبيات التي تتسم بحقيقة الرحلة الخيالية ، حقيقة الفكرة التي لا تقاس بتجربة محسوسة ، لأنها رحلة عقلية ذهنية تصورية قبل كل شيء) . ويستمر رحلته مع اليوتوبيات ، فيمر على الفهم اليوتوبي المعاصر المضاد ، كما عبر عنه توماس مور مثلا ( العمل- المساهمة –الثروة) ، او في رواية جورج اورويل( 1984) التي بناها على رؤية سابقة للروائي الروسي ( زاميابتين) في روايته( نحن) . حيث يتحول الإنسان في رواية اورويل الى مجرد رقم من أرقام ماكنة تتعامل مع قيم العاطفة ، والتفكير الحر، بنظام الأخ الأكبر ( المستبد الطاغية ) ، حيث الطاعة العمياء او الجنون. ما هو تصور محمد خضير لمدينة الحلم / الرؤيا.؟ يقول ( لقد فات المهندسين والمخططين والمصلحين ان اليوتوبيات اللامتحققة اصدق في بنيانها المثالي من الحقيقة المبنية على مثال يوتوبي) . وهذا يعود بنا الى أثرة محمد للمُثل وقدرتها على البقاء إزاء انحلال تمثلاتها المادية وزوالها . ويترك الكاتب اليوتوبيات واليوتوبيات المضادة ليبني يوتوبياه المعاصرة – مدينة الكلمات –التي تتحول الى مدينة حقيقية اسمها-بصرياثا- ( في مفترق طرق اليوتوبيا واليوتوبيا المضادة… لا تتطلب بصرياثا نظاما فلسفيا راقيا، او تكنولوجيا راقية، او أيديولوجيا صارمة، . أقصى ما يلزم في هذا المجال حقا، تنفيذ دقيق لمتطلبات نوع قصصي لا يتورع عن قبول شكل قصة المستقبل ، غير متورط في هجاء صورة الحاضر ، لكنه غير مستسلم لتقلباتها) . بهذا الفهم يقيم محمد خضير مدينة الكلمات –بصرياثا- ليسكنها شخصياته الرؤيوية ، من خلال نص مشاع يترك الحالمون هوامشهم عليه لتتوالد يوتوبيات ، او فهما نوعيا لها. حيث يتورط المهمشون بنسج الهوامش وتشخيص المنطقة المعلقة بين المكان واللا مكان او بين بصرياثا وأي مكان لتحققها. تلك هي اليوتوبيا المستمرة التي يقترحها محمد خضير ليبتعد عن التأبد الحسي .وقد اصدر محمد خضير فعلا ، كما أشرنا في الحلقة الأولى كتابا حمل عنوان ( بصرياثا –صور مدينة، عام 1993)، ولسنا هنا بصدد مناقشة- بصرياثا – ومدى امتثالها لشروط الرؤية اليوتوبية ، كما عرضناها في هذه المقالة! ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الليلة السابعة ليلة القبض على الرؤيا لقد حظي الرقم (7) بمكانة خاصة في الميثولوجيا على اختلاف مرجعيتها وعقائدها ،ة بوصفه ثمرة الأيام الست التي استغرقت عملية خلق الكون ، فقد اشتركت الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية والصابئية والبوذية …الخ ، بتعظيم هذا الرقم لما يحمله من ثراء دلالي إزاء وقائع الخلق الغامضة ، انه الرقم الخاتم لإسرار الوجود الكوني. فقد جاء في الكتاب المقدس( وانتهى الله من خلق السماوات والأرض وجميع ما فيها ، واستراح في اليوم السابع من عمله وعن كل ما فعله ، وبارك الله اليوم السابع وجعله مقدسا) .وجاء في القرآن ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش). وتأتى أهمية الرقم (6) في الديانة البوذية من تصورها الخاص لحكاية الخلق وولادة ( بوذا المتنور) ، حيث تقول المعتقدات البوذية ( ان الملكة(مايا-وتعنى الوهم-) زوجة الملك- سودودانا – تحلم ان فيلا ابيض له ستة أنياب ، يتسكع في جبال الذهب ، يدخل في خاصرتها اليسرى دون ان يسبب لهل ألما) . فتستيقظ الملكة من نومها وتجمع المنجمين ، فيقولون لها : ان الأنياب الستة هي بشارة ولادة ( بوذا التنور) الذي سيحكم العالم . وبين هذين الرقمين بدأ سعي الإنسان بطرح أسئلته من خلال تمثله لهذا السفر الكوني ، لكشف رؤاه. وفي التراث الصوفي والعرفاني الإنساني والإسلامي رحلات في غاية الجرأة للتشبه بالله حلولا وحلما . وبما إننا بدأنا في البحث بمقابلة بين كتابي ( الحكاية الجديدة –لمحمد خضير، وكتاب سبع ليال- لبورخس) ، نجد ان الكاتبين قد انفعلا بالأثر المثيولوجي الإنساني واختارا لرحلتهما –كتاباهما- ستة محاضرات –ليال- كي يسدلا الستار في اليوم السابع عن حقيقتهما- رؤيتهما- للنص الأدبي المكتمل ، ففي الليلة – المحاضرة- السابعة لبورخس ( ليلة العمى) فضلا عن البعد الدراماتيكي الذي تحمله هذه المحاضرة( أعمى يتحدث عن أعمي) ، فإنها توكيد على ان الليالي الست ( المحاضرات) كانت تعبيرا عن صيرورة الرؤية ، وهو الآن ينهي رحلته بين السديم والعماء ليزيح آخر أقنعة الرائي المتوارثة ليتجلى في حضور مطلق . كيف تصيرت رؤى محمد خضير في ليلة تمام الرؤيا؟ يستعير محمد من الشاعر محمود البريكان مقطعا شعريا يقول( ان الرؤى تمت، وان الأفق يوشك ان يدور) كبداية ومهاد لمحاضرته السابعة التي أراد لها ان تكون الخلاصة ، لا الكشف كما يقول( ان هذه المحاضرة خلاصات- لا كشوفات – واعادة صياغة قناعات ….. أما الغاية الأخيرة المتوخاة ، فتنقية الأصوات المخنوقة وتحرير المبادرات المكبوتة) ويوضح سبيله الى هذا الفهم بالقول( وسبيلي الى ذلك تحليل أدبي لبواطن تجربة تنبثق كحلم مسترجع من ركام الوعي ، وقاعدتها في هذا المسلك ، ان معلومية الحقيقة قيد لمجهولية القواعد التي تسيرها) . هنا نتلمس وقوع محمد خضير في التباس برهاني ، إذ لا تشفع له الأقنعة دائما حيث يسمي هذه المحاضرات خلاصات لا كشوفات، وهو الذي ينتمي الى البراهين في فن البساطة ( القصة القصيرة) ، تلك البساطة التي توسع في شرحها واستنباط براهينها وقوانينها عبر ( بساطة الواحد الرياضية) ، غير ما قدمه في محاضرات ( القصاص المجهول، ومجرات التأثير وغيرها . حيث ان جهده النظري على طول الكتاب قد ارتبط بالمقولات العلمية الرياضية والفيزيائية من جهة والحقل الفلسفي والمنطق من الجهة الأخرى مستفيدا حتى من التجارب الحروفية العربية لجعل كل هذا ظهيرا ومراجع لصيرورة رؤيته العامة للنص الأدبي . ولان كتاب محمد خضير كتابا نقديا كما نرى ، رغم امتعاضه الشخصي -بعد صدور الكتاب- شفاهيا ليّ، إلا ان امتعاض الكاتب هو قناع آخر يرتديه في حقل النقد لمرور سيرة نصوصه ، وكتابته عنها ربما بسلام -وقت إصدارها لظروف خاصة معروفة في العراق-. لكن الباحث يرى ان محمد خضير يقدم أدلة ناصعة على المسار الفكري لعمله الإبداعي والتنظيري ، يقول( صممت بدقة لكل عمل مسوغاته وبراهينه الخاصة لكي لا يختلطا ، لقد وصلت وبمعونة نظريات القصة الى مشروع الكتاب الموحد للأصول ، او مجموعة القصص المتضامنة في استخراج البراهين ،… وانك لتعثر في نصوصي الأخيرة هذه التدبيرات النظرية التي تمنح الكتاب او مجموعة القصص أهمية استثنائية خاصة تقترن بأهمية الاكتشاف الفلسفي او الاختراع الجديد) . ان الكاتب هنا يكشف عن فطنة عالية لسير اشتغاله الإبداعي المتضمن أقصى استفادة من المنجز المعرفي . فلماذا يصر على ان هذه خلاصات لا كشوفات ؟ ان الجواب هنا يحتمل اكثر من استفهام! إما ان الكاتب قد اقتنع في نهاية رحلته للوصول الى الرؤية التامة ، بان ما قدمه نظريا لم يكن إلا تكرار وصدى للآخرين او تواضعا ، وهذا ما لا يتفق مع جهده المتميز في حقلي الإبداع والتنظير له. وإما ان محمد خضير الذي يرى ان( ادغار آلن بو : أضاف جو الغرابة ، وكررناه في قصصنا على انه تقنية جديدة تمنح أعمالنا بعدا( واقعيا ) أوسع ) ،كان خائفا من فشل نموذجه لإضافة نوعية في المسار الجمعي للإبداع . وهذا الاستفهام لا أرجحه .لان معاينة المنجز الإبداعي الكلي للكاتب وما أثاره من لغط مزدوج ، أعقبه نشوء كتاب قصص مريدين لطريقته ، واخرين حاسدين ، إما الذين افترقوا عنه في البداية والنهاية فلقد رفعوا قبعاتهم لمنجزه . إذن ما هو الجواب ؟. اعتقد ان محمد خضير وفي تقديري الخاص يعاني من تناقض واضح بين ما ُينظر له ، وما يكتبه. في التنظير يضع في حساباته النظرة الشمولية ، لاكتشاف البراهين والقوانين ، لاثبات المطلوب إثباته وفقا لنظرته الشخصية . فنراه يدخل الى حقل التنظير محملا بروح شعرية وخيال خصب ، ومعقد معا . يطرح مجساته الجمالية ويبحث في المعارف الأخرى سبيلا الى صحتها ، وعندما يكتشف وفقا لقانون السببية او المصادفة- لا فرق عنده كما رأينا _ بان استشعراه الجمالي مطابق لها ، يضع منها قانونا يعممه على فن القصة القصيرة ، التي لم تعد تحتمل تقسيماته الخماسية أصلا.والتناقض يحتدم ليس عنده ،فهو لا يعاني مثل هذا الانفصال بين تنظيره وكتابته القصصية ، لانه مبدع منسجم مع نفسه الى درجة التطابق ، من هذا نستلخص بان محمد خضير منظر خطير لإبداعه . والفوضى ستعم إذا ما حاول ان ينقل قوانينه الخاصة الى حقل الأدب القصصي عامة ، لانه سيفشل مرتين ، مرة حين يُنشيء جيوشا من المريدين الذين يذهبون الى المخطوطة بمجانية ، وأخرى حين يغادر هو، هذه القناعات – بسبب القلق الإبداعي الكبير الذي يلازم تجربته – بوصفه محققا ، لا مجربا . صيرورة الرؤى يضع محمد خضير للرؤى بداية ونهاية ويقرنها بالواقع والوعي به. وهذا برأيي مصادرة لابسط حقوق الرؤيا ، في أنها لا تتحقق في كليهما بأدوار استحالة ، تبدأ من الواقع وتنتهي بالوعي فيه. وحين يهرب بالرؤيا الى ( طريق المخطوطة – اليوتوبيا ) باستخدام وسائل وبراهين القصص الفلسفية القديمة ، فإنه يضع خانقا بين الرؤيا وشروط تحققها ، وبما ان الرؤيا هي تحول لا مرئي من قبل التأثيرات المتسلطة ، ونتاجها لا يحمل أدوار استحالتها . فالرؤى تكتمل بمعزل –وليست بعزلة عن شروط بقاء الكم والنوع - .ومحمد خضير الذي أشار سابقا الى ( أني أشير بصورة خاصة هنا الى التناقض الصعب الاجتياز ، أمام قصاص مخير بين اتباع وسائل إقناع تمنحها له سابقا الحقيقة التسجيلية العيانية دون تحوير او تمثيل ، واحتمالات العبور الرؤيوي لاشارات مفاجئة يلّح في الحضور من دون قناع ، لذا تبقى مشكلة قصاص الرؤيا معلقة بالاجتياز القادم كلما تسلم إشارات رؤية قادمة ). وبهذا فقد ابتعد محمد خضير بنفسه عن ان يكون صانعا او قابضا على ( رؤية كلية- شخصانية-) ، ويمضي بالقول( وليقتنع من يبحث عن دليل للاقتناع بان هدف قصاص الرؤيا ليس توفير أدلة بحدوث وقائع ،وسرد حياة وأشخاص ، وانما هو إثبات تشكل صورة لا مرئية بمنظورات البصر الطبيعي ، الانعكاس ، والتميز ، والمقارنة واعادة تمثيل الأدوار ) . فهل تصمد الاعترافات الأخيرة للكاتب في ليلة تمام الرؤى ، مع ما كان يدعيه في محاضراته السابقة من رؤية شمولية لقانون النوع القصصي البسيط والعميق والرؤيوي؟ أرى ان محمد خضير في ليلة القبض على الرؤيا كان ( خان) للرؤى ، ولقد اظهر دهاءا ثقيلا بإخفاء بورخس – النزيل – الحاضر ، المُغيب-، إذ يبدو محمد مالكا لهذا الخان ، الذي تمثّل أجواءه ، وخبر أسرار زائريه –حضورا وغيابا- ، لذا يقترح محمد خضير بعد إن امسك بالسر والصولجان بمملكة قصصية دون علّة او معلول ( لعلنا سنكف يوما عن طلب علّة او مصدر يكفل لنا معلول قصصنا ، فهي ستكون العلة والمعلول معا ، ولعلنا سننتظر ، برهان ، لعلنا نعثر على القصة التي لا تأويل لها ، لأنها رؤية كاملة لا ينقصا التأويل) . ان علامات الاستفهام التي وضعناها على أسئلة محمد خضير في ليلة تمام الرؤى قد أينعت بعد ان اعترف الكاتب بحلمه للوصول الى القصة –العلة والمعلول- ، ان السديم والعماء الاول الذي مارسه محمد خضير في محاضرته الست ، كان جزءا من الصيرورة الكلية لخلق العالم سرديا. فلابصرياثا ولا اليوتوبيات ، ولا اليوتوبيات المضادة، ولا الحلم ، ولا المخطوطة ، ولا الكاتب الأصلي الغائب لها، ولا المُهمشين عليها، ولا غيرهم بقادرين على كتابة رؤيا متكاملة – هي العلة والمعلول- غير المبدع ، كذات يتماهى مع الله المبدع الكبير ، لانتاج مسلاته ورؤاه ، دون هذه الأقنعة التنكرية التي تفوح منها رائحة الخيانة للجنس الأدبي ، و نظرية القراءة والتلقي.وتاريخ الميثولوجيا القصي الذي يعجّ بالتناصات الرؤيوية. أين محمد خضير من هذه الأقنعة التي تورط في نزعها او إخفاءها ؟ وماذا عن حماسته لحلمه الأثير ؟ ما ذا عن القصة القصيرة ، وارثة الرؤيا ، وهي تتطوح بين برهان المخطوطة ، وحظها العاثر بين الحلم والكمال ؟ ان محمد خضير قد وصل – من حيث يدري او لا يدري- الى ما توصل إليه –بورخس – بان القصة هي حلم ، او رؤيا ، وما القصاص إلا ذلك الحالم الذي(يرى في حلمه ، في لمحة واحدة ، كما يرى الله في أزليته الشاسعة ، الصيرورة الإنسانية كلها) . فهل يحتاج – الحالم السارد - ، او الله ، الى رؤيا تتورط في طلب البراءة من باب العلة والمعلول ؟ من قبض أخيرا على الرؤيا الكاملة؟؟ ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، هامش لقد اعتمدنا على مصادر متنوعة في هذه الرحلة ، ما ظهر منها او ما لمحنا عنه هنا او هناك ، لكن غايتنا الأساسية تمثلت في مقاربة بين عقلين مبدعين – محمد خضير وبورخس – لذا اعتمدنا على كتابيهما اللذين يحملان تاريخ صدور مختلف ، يتقدم زمان طباعة واحد منهما – محمد خضير- ، على بورخس لنضمن الأنصاف للرؤيا ، دون الانزلاق وراء فرضيات السبق ، في مفهوم النشر بلغة لا يجيدها أحدهم ، مفترضين ان موت بورخس الجسدي هو علامة فارقة في الطريق الى الرؤى: 1- الحكاية الجديدة ، محمد خضير ، منشورات مؤسسة عبد الحميد شومان ، عمان 1993 . 2- سبع ليال ، بورخس ، ترجمة د. عابد إسماعيل ، منشورات دار الينابيع ، دمشق 1999. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
0
أسرار الحكاية الجديدة
قراءة في أفكار القاص العراقي المبدع محمد خضير (الحكاية الجديدة في سبع ليال)
وديع شامخ استراليا- بيرث
[email protected]
الحلقة الأولى بسبع محاضرات ( سبع ليال) ومدخل وخاتمة تنكرية أقام المبدع محمد خضير ظهيرا نظريا لحقل اشتغاله في فن القصة القصيرة … ويعد محمد خضير من المبدعين القلائل الذين اخلصوا للحكاية ورعوا أدوار استحالتها بعين العطار وصبر الحرفي ( سليل الصناع الذين يؤثرون العمل اليدوي على الماكنة السريعة …. صفاته ، التأمل ، البطيء، الإخلاص ، الكفاف، زاده الخيال، مادته القطعة الصغيرة المتقنة ). فمنذ قصة ( النيساني ) التي نشرها في مجلة (الأدب العراقي ) قبل اكثر من ثلاثين عاما ، وبعدها البطات البحرية عام 1966م، وقصة الأرجوحة في الآداب البيروتية ، تلك القصة التي لفتت انتباه القراء العرب ، واشار الى أهميتها سهيل إدريس ، وبعدها ( تقاسيم على وتر الربابة ) الذي نوه بأهميتها غسان كنفاني ، وبهذا النحت البطيء في صخرة الإبداع والتأمل في التجربة واحتواء مؤثراتها العامة وهضمها ، قدم الكاتب تمثلات إبداعية لتجربته عبر إصداره مجموعته الأولى ( المملكة السوداء) عام 1972 وبعدها أنجز مجموعته الثانية( في درجة 45مئوي) عام 1978 ، ثم لاذ بصمت البحث والتقصي ليخرج بكتاب مهم ( بصرياثا –صور مدينة)عام 1993، ثم سار بعالمه الإبداعي الى تخوم قصية خارجا من عباءة تجاربه السابقة فاصدر مجموعته ( رؤيا خريف). ان هذا الفارق الزمني والمحطات التي ذكرناها في مسيرة محمد خضير قد لا تشكل مؤشرا لتطور نوعي عند البعض ، ، فمنهم من قال كلمته ومضى ، ومنهم من سقط في فخ الكرار والاجترار ، واخرون أغوتهم الأضواء وهالاتها الكاذبة . لكن محمد خضير ومع قلة من المبدعين مضى الى الهدف يحسب خسارات الوصول الى منبع الرؤى . ونحن هنا نناقش أفكار الكاتب النقدية التي لخصها في كتابة النقدي ( الحكاية الجديدة) الذي يسلط الضوء على تجربته الإبداعية ويدون رؤاه وينتهك الأقنعة إذ يقول ( وما من كاتب تشغله قضايا المجهولية الكبرى للفن إلا ويقدم على تدوين رؤياه في الوقت المناسب قبل ان ينتهك الآخرون قناع تبدلاته ومجهوليته)، هنا يعلن القاص عن فطنة كاملة إزاء اليقين ، فلا بد من إزالة الأقنعة بعد انتهاء الكتابة بوصفها ( حفلة تنكرية ) ، وما الأقنعة إلا تلك الحاضنات الفكرية والمرجعيات الجمالية التي تثري مادة الكتابة الإبداعية . يُشبه محمد خضير ذاكرة الكاتب بدكان العطار( فلا اكبر من دكان العطار ، هي ذاكرة القصاص وقد اختلطت فيها روائح الأعشاب والبذور والزيوت، تلك هي ضمانة القصاص المكتفي بنفسه ، والامين لأسلوبه ، عيناه على الماضي الأثير ، ويده تمتد الى تلك العلب العديدة ، يميز روائحها الأليفة ويلتقط العلبة المطلوبة ) إذن هو القصاص القنوع ليس بالرضا بضاعة الصمت والسكون ، بل بالاغتراف من الكنز الذب لا يفنى . هنا يضع الكاتب قيما أخلاقية ( المكتفي – الزاهد-، الأمين) وهي صفات سوف لا تصمد أمام القراءة المتأنية لفكر محمد خضير وابداعة كما سنرى فيما بعد وكأنه يسعي الى ترحيل قيم من حقل أخلاقي ! الى حقل الكتابة ( حفلة التنكر والأقنعة) ، وكما يقول بيكاسو ( ان المبدع هو سارق كبير وخطير) . كتاب الحكاية الجديدة ، هو كتاب نظري اشتمل على سبع محاضرات كان الكاتب قد ألقاها على جمهور من الطلبة والأدباء وفي أروقة الجامعات ، واتحاد الأدباء ( في البصرة وبغداد والعمارة) . أعاد الكاتب أعدادها على شكل كتاب بسبع محاضرات ، بعد ان أجرى عليها تعديلات وضمنها هوامش جديدة إذ يقول ( لم يسلب الأعداد الثاني للمحاضرات شيئا من طبيعتها التأميلية ) ، كما تضمن الكتاب مقدمة وخُتم بمقابلة مع محمد خضير أجراها رياض إبراهيم مع محمد خضير . وبما ان كتاب ( الحكاية الجديدة) قد جاء في صيغته الشكلية مطابقا لكتاب بورخس ( سبع ليل) وكذلك وجود اكثر من قاسم مشترك على مستوى المرجعية الفكرية بين المبدعين –لا سيما وان محمد خضير قد تعرض الى مثل هذه المقابلات في أعماله القصصية إذ وصفت أعماله بتأثرها بشيئية ( ألن غروب غرييه) ، والواقعية السحرية عند ماركيز، وآخرها البورخسية . وكأن محمد خضير الهادر الأزلي لدم الرؤيا ! فلا بد لنا ان نتفحص كتاب بورخس ( سبع ليال) لنضيء المشترك بين فكر الكاتبين شكلا ومضمونا . كتاب بورخس هو سلسلة من المحاضرات أيضا. ألُقيت في عدد من الجامعات ثم طبعت بشكل مختزل في الملاحق الأدبية لصحيفة ( بوينس ايرس ) ، وبعد مضي سنوات أجرى بورخس تعديلات واسعة على المحاضرات التي خرجت بشكل كتاب . يقول مقدم بورخس في مقدمته ( ان تأملات بورخس الأدبية لا يوجد فيها شيء منهجي ، لان النقد عند بورخس فرع من الأدب التخيلي … الأدب يولّد الخشية في احسن حالاته أو الفزع المقدس) ويشير محمد خضير في مقدمته ( ومازالت هذه المقالات تحتفظ بذلك الطابع التجريبي المنفرد ، فلم تدخل في حساب النقد الأدبي ومنهجيته ، ولا في مداخل النظرية الأدبية ومصادرها …. إلا بما سمح المدخل المشترك بين التجربة الخاصة والمبدأ العام فليتقبلها القارئ على أنها سيرة نظرية) . ويمضي محمد خضير في توصيف كتابه ( واني بدلا من من حصر انفعالات الخلق في مجاريها المتشعبة تركتها تنساب في مجرى مجاور لنهر النص الأدبي وقد جاءت الهوامش والروابط لتمنحها قوام المقالة ، بعد ان استدعى التأمل ان يسلك طريق المحاججة والإقناع ، لا طريق التشتت والتخبط) . يؤكد المسترريد مقدم بورخس على ان محاضرات بورخس شفهية يقصها الأعمى ، حتى أنها تحولت الى سلسلة من التبصرات المنفصلة لا يربطها سوى ذلك الخيط الغرائببي الذي يضفيه عليها انتباه الكاتب نفسه ( ان سحر بورخس المروي يختلف عن بورخس المكتوب… حيث يكون بورخس الرواي اكثر خداعا وتلونا ، ففي الوقت الذي تظهر فيه كتاباته كلعبة فان أحاديثه تصبح ذاتها لعبا وشرطا ..للمفارقات) .ويذهب بورخس في محاضرته عن العمى بالقول( ان الناس يميلون الى تفضيل الشخصي على العام ، المحسوس على المجرد) ويعلق المستر ريد ( بورخس الأعمى يلقي محاضرة عن العمى قد أضفى بعدا اكثر درامية على لغة المحاضرة ). في مدخل الحكاية الجديدة يذكر محمد خضير ( أتذكر أول جلوس لي على المنصة لالقاء محاضرة (ذاكرة العطار) في اتحاد بغداد عام 1987 وما استمتعت به من طلاقة سرد وقائع لم أسجلها في مدونة المحاضرة تتعارض تماما والمواجهة الأولى مع الجمهور لم أتعرفه ولم يتعرفني . فقد كنت أحس لغياب شخصيتي –مؤلفا بعيدا- تأثيرا يفوق تأثيرها – حاكيا- قريبا. وقد جاءت النتائج لتخذل تصوري المعتاد ، وتلغي واحدة من عاداتي التي درجت عليها زمنا ودافعت عنها . لكنها ويا للروعة كانت نتيجة مذهلة ، فقد استدار أفقي نحو احتمال اكثر تطابقا مع نظرتي الأولى ! ان حياة المؤلف في الحضور والمواجهة تعادل غيابه في حياة النص الذي يظهره). وعندما ينهي الستر ريد مقدمته، يواصل محمد خضير كشوفاته النظرية ويبدّل عاداته إذ يقول( ما دام المؤلف بهذه القدرة على الاستبدال ، فانه لا ينكر حق المؤلفين الآخرين في ان يستأثروا بمدار لهم ، او ان يخرجوا الى مدار مشترك ، في حركة من الاقتراب والابتعاد ، التأثير والتأثر ، تمثل هارمونية التأليف الخلاق لرموز الطبيعة والكون والحياة ، التاريخ والأبدية .) يعرف الكاتب ان التجربة عندما تصل الى ( النيرفانا) تبدأ بابتكار مواقدها الخاصة ، فهو الآن النافخ في جمرة تجربته ككينونة انفصلت عن طبيعة النار والخشب . ترى لماذا عمد محمد خضير على إلغاء بورخس من أية إشارة في مدخل حكايته الجديدة؟ اعتقد ان محمد قد افترض نظريا بان بورخس يمثل ذات الواحد الفيثاغورسي ، وانه إذ يقترب منه او من غيره فانه يمارس لعبة محو الصفة الواحدة وانحيازها لوصّاف واحد ، واقترانها منطقيا في المدار الكلي لتلاقح العقول المتكافئة . وأذ يعلن خضير ( ان أمر استباحة رؤيا الآخرين مبالغ فيه ولا بد من النظر الى الأفلاك الميتافيزيقية المشتركة لمجموعة من المؤلفين بعين عاشقة ) ويرى بورخس ( ان القصة التي يؤلفها مؤلف معين قد تكون حتما حلما عند مؤلف آخر) .والحكاية الجديدة كما الليالي السبع تنتهي من مقدمتها لتذهب الى البحث عن أسرار فن القصة القصيرة كما يراها محمد خضير. (بورخس راويا) العميان الرؤيويون قد اكتشفوا في اللون الواحد ( العدد الواحد) قدرة على تناسخهم النوعي فمنذ هوميروس وأبى العلاء المعري وبورخس ، الذي تماهى مع عماه الجسدي ليبحر في رحلة رؤيوية عبر كتابه ( سبع ليال) . يبدأ بورخس بالحديث عن الكوميديا الإلهية بشفافية سلسلة وثقافة موسوعية ، إذ راح يُنقب عن اصلها وفصلها وقراءات الآخرين لها وقد اكمل بهذا الليلة الأولى من الكتاب ، وجاء محمد خضير في حكايته الأولى ليصوغ من ( الجحيم ، المطهر ، الفردوس ) أطوارا للحكاية وينتمي الى عصر الفردوس ، اصل الحكاية ونبعها الاول حيث الحكاية برمتها هي حكاية الإنسان وادوار استحالتها ( طفولة ، شباب ، شيخوخة وموت) والموت هو المقابل للحلم في الفردوس ، يقول( للحكاية ثلاثة عصور ، عصر النشأة ، عصر اكتشاف الحكاية ، عصر العودة الى الحكاية) والذي عاد فيه اكثر الكتاب الى النبع الأصلي . ( حيث البشر يفقدون أنوفهم او يخترقون الجدار بسهولة او يتجاوزون جاذبية الأرض). وبعد رحلة بعيدة يكتشف محمد خضير -كسابقيه الحالمين بالفراديس واليوتوبيات -،على خرائط تدله على ابعد نقطة في اقيانوس العقل البشري( ان حصول أي كاتب معاصر على هذا المجلد العجيب يضعه أمام سؤالين : أي دافع هائل خلف او أمام هذه الرحلة الطويلة؟ ولماذا هذا الانتزاع الرمزي والتحليق فوق الطبيعي على عالم البشر ؟) . لقد وبخ الاسكندر المقدوني سقراط عندما نشر ( كتاب الميتافيزيقيا) ، قائلا له: لقد كانت النخبة وحدها من تعلم بهذا الأمر ، فلماذا فضحته؟ أجاب أرسطو: كنت انسخ مخطوطاتي لوحدي . وكأنه يؤكد فهمه الخاص بان الكتب مثل التماثيل ، ولابد من الحوار لان الحوار يؤكد ضرورة البحث عن الجواب والجواب صياغة اخرى لأسئلة اخرى. ومهما تبدلت الأجوبة على لسان الحكماء او على لسان الطيور والحيوانات وربما الصخور ، تبدأ الحكاية من اليقين لتنتقل الى فضاء الأسئلة. يبدأ محمد خضير ماسكا خيوط الحكاية ، مارا بكشوفاته عن اصلها وروادها ، بعقل كبير وثقافة واضحة . وكما يستحضر بورخس الكتّاب الذين كانوا أدواتا منحوته لجوهر تجربته ، ينتهي خضير بكشوفاته عن النبع الاول لفهمه للحكاية بالقول_( ولكن عصرنا يبدو انه الحقبة الأخيرة من تطور البشرية التي لا نستطيع تخمين حدودها النهائية ، ولا شك في ان الحكاية التي سطعت كومضة تخيلية وحشية ، لا نهائية في رؤيا الوعي البدائي ، تطورت الى شكل نهائي مصطنع من أشكال ميكانيكية العقل المتطور، واستقرت في مملكتها الأخيرة الواسعة الأرجاء) زكما يذهب ( ريلكه) : بان الحياة خبرة أولى للموت ، وكان الموت البيولوجي للأعضاء ليس فقدانا للأثر الجمالي للعقل البشري. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الثانية
(ذاكرة العطار) محمد خضير بين ( القصه خون ) والقصّاص. هذه هي المحاضرة الثانية من كتاب 0( الحكاية الجديدة) الذي يشير فيها الكاتب الى مؤثرات البيئة المحلية والتراث العربي في صياغة نموذج القصاص ( قصاص القصة القصة القصيرة تحديدا) ، هذا النمط الإبداعي المهدد بالانقراض ، يتقدم الكاتب بيقين نحو عمله بالقول( ان كاتب القصة القصيرة يحتاج الى دافع خاص به، دافع محلي ، دافع اكثر التصاقا بشخصيته وتطابقا مع صفاته. على العكس من عالم الرواية ونموذجيتها الفنية وغائيتها الكونية الفكرية ، فان شرط القصة القصيرة ارتباطها بتربة خاصة ، بدرجة حرارة ملائمة ، بباطنية سيمباثية ، طويّة شخصية) وان مثل هذه الشروط تنطبق على ( القصة خون) – اشتق هذا الاسم الجاحظ من الفعل قصّ- ، هذا الحكواتي الذي استمد نجاحه من حضوره الشخصي وقدرته الشفاهية على سرد الحكايات حد التماهي معها – التقمص حسب ستانلافسكي-. ليؤكد خضير هذه الروابط بين ( القصه خون) وبينه ، او قصاصه .( ابحثوا عن أضواء لإثارة تقاطيع وجه القصاص (قصاصي )، ولكنكم لن تحصلوا على شيء جديد في الصورة ، فالحدود مرسومة ، والخصال معروفة تفوقه في مسحة لا زمنية ، أنها تربطه بتقاليد الوراقين والنساخين) ويتابع ( ان أنموذجي الذي احتذيه اقدم من قصاص الخمسينات ، فقد يكون أحد الحكائين المشهورين أمثال ( خال بن زيد ) الملقب خالويه المكدي ،الذي رسم الجاحظ قسماته الطريفة ، أني لاشعر ماشيا في جادة البصرة القديمة ، أزاحم ناسها في أسواق الجمعة ، أخالط رجالها المتلحفين بالبُرد الخشنة ، واني لاسمع السروجي ، وأبا الفتح يحكيان مغامراتهما عن بلاد العرب القصية). ويمضي الكاتب بالدفاع عن فن القصة القصيرة وفق شروطه الخاصة ( وعظمة هذا الفن الصغير انه لا يمتلك مقومات العظمة والبقاء فالقصة القصيرة فن عابر كأوراق الشجر التي تجرفها الرياح) مشيرا في هذا الوصف الى قصة بورخس ( المبارزة) . – الحكاية التي ولدت في الظل تعود الى الظل -. وبين زوال الأشياء وآثارها يميل الكاتب الى ( البصمة) او التوقيع او الإشارة الى بقاء الأثر بزوال صاحبه انتصارا لحضور القصاص في العمل …… ذلك الحضور الأزلي إذ يقول ( وهنا تندحر فكرة اختفاء القصاص وراء عمله ، ولا يرتبط مقياس الجودة بحذق القصاص في الاختفاء ، وانما بحجم الظهور ، فلا بد من يد وان كانت خفية، فلا بد من وجود بصمة او توقيع يشير الى الصانع الماهر ، يترسخ مع الزمن ، كما ترسخ توقيع نجار على باب قديم ، او خزاف على صحن اثري ، او نساخ على هامش مخطوط قديم). لنتوقف هنا أمام قناعات محمد خضير إزاء الأثر الباقي ، النجار والخزاف اللذين ذكرهما محمد فانهما يمثلان بقاء البصمة بوصفها مقتنيات شخصية وفردية. أما الكاتب فتعدو مخطوطته –بعد الطبع- مشاعا عاما لجمهرة من المهمِشين على أثره ، وذلك بنقل هوامشهم-قراءاتهم-، حيواتهم السرية- وتأويلاتهم على المتن الأصلي ، لتصبح المحطوطة لا تنتمي الى نفسها أبدا –وفق منطق القراءة الحديثة التفكيكية للعمل الأدبي –رغم وجود البصمة الأولى التي ستتناسل نوعيا لعدد من القراءات – الكتابات المعادة للنص الأصلي . متوالية من المؤلفين الجدد ، وهذا بالضبط ما ما يجعل الحكاية الصغيرة والنوادر فعاليات ثقافية مضادة لنمط من الحياة المهيمنة لقدرتها على التناسل واقتفاء المؤلف الأصلي لها ( وحدها الكلمات لا تنتمي الى أحد ) إذ أنها خارج الحيازة الشخصية فما يوضحه النجار والخزاف في الغالب هي آثار تاريخية وحرفية ، بينما ترسم متوالية الهوامش على النص الأصلي المكتوب ، نقل الحيازة بالمعنى الفكري والحضاري الشامل ، إنها دورة التواصل والحوار مع ما هو غير مكتمل في البصمة الأولى للمؤلف لاسباب مختلفة. تبررها لجوء المؤلف الى استخدام طاقة الرمز الى أقصاها ، وهو ما لا يحتاجه النجار والخزاف .طالما ان محمد خضير قد كرس مفهوم المؤلف مقترنا بالتخييل واليوتوبيات . فلعبة الكاتب في الحضور والاختفاء هنا تقترن أيضا باختفاء صانع الأثر وتنحدر الى لعبة اخرى يكون طرفاها – قصاص- القاص ، والمتلقي الجديد. يذهب محمد خضير الى مناقشة الأسلوب في محاضرته مكررا مفهوم ( الأسلوب هو الرجل ) إذ يقول( في القصة القصيرة يكون القصاص نفسه ، أسلوبه ، حيث لا انفصال بين الأداة والموضوع ، بين النظرة والمنظور ، هذا الفن قطعة واحدة متماسكة يُلخص القصاص فيها موضوعه بأقصر مساحة ، واقصر زمن ، واصغر انفعال وازهد غاية) . ان محمد خضير وهي يمضي بخياله عن فن القصة القصيرة يوقعنا في التباس نظري مفهومي في اثنين من المبادئ كان قد اعتنقها في بداية المحاضرة وهما: 1- المقاربة بين الحكواتي والقصاص وتناوبهما في قوة الحضور ليقول لنا( ان قصاصي الذي اقتدي به، خرج مع جرابة في الماضي البعيد ، سائرا على الطرق الهوائية نحو ( يوتوبيا) تتكرر في أحلامه ، وسيصل الى هناك في مستقبل غير بعيد) 2- حماسته ويقينه إزاء كاتب القصة وحاجته الى دافع خاص محلي ، وتربة خاصة ، ودرجة حرارة ملائمة ، وطويّة شخصية . هذه العناصر تشكل بالتأكيد الحاضنة الواقعية لمصادر الإبداع عموما . نرى ان محمد خضير قد ذهب بقناعاته السابقة الى منحى جديد إذ يقول ( قد يضيق القصاص في مجاله الحيوي ، مجال الخلق القصصي ، حيث يعرّف مصادر قصصه بأنها مصادر واقعية بحتة) ولكي يؤكد الالتباس في التبني الجديد معاكسا لقناعاته السابقة ، يحاول أيراد أسئلة غامضة عن الواقع ومن الذي يتحول فيه الى قصص وكأن التربة الخاصة ودرجة الحرارة الملائمة وغيرها من الاشتراطات التي يحملها قصاصه الواقعي المحلي في بداية المحاضرة هي غشاوة بفهم واقعية المصادر لعملية الخلق إذ يقول(وما يحتاج الى توضيح هنا وتدقيق هو مسافة الواقع التي يتحرك فيها القصاص ، وأي شيء في هذا الواقع سيتحول الى قصص ، اواقع الصدفة العمياء، اللحظات العابرة والتفاصيل اليومية التي تشير الى الحاضر ، أم الذاكرة الجمعية للناس التي تختلط فيها تناقضات الماضي والحاضر وأحاسيسها ، أم النهر الذي يجري نحو المستقبل ، وكيف سينتقل كل ذلك على صعيد القصة ؟ في أي موقع يكون القصاص ، في التيار او على الضفة؟). بالإضافة الى هاتين النقطتين اللتين لا تشكلان برأيي تطورا لقناعة سابقة ، يعود الكاتب للإصرار بأنه كاتب واقعي ( واصر على أنني كاتب واقعي) ليعقب هذا الإصرار بجملة غاية من الغرابة ( لكن أعطيت مخيلتي حق ان تذهب الى الحافة الخطرة للواقعية) ، وهو الذي تساءل قبل بضعة سطور عن موقع القاص اهو في التيار أم على الضفة !!؟. ثم متى كان الكاتب الواقعي من ( جيل محمد خضير حصرا) يحبس مخيلته في قمقم الواقع؟ ومتى كان الكاتب التأملي الرؤيوي يضيق بواقعه كمنبع ومصدر للإثارة الأولى!! ويبحث عن مكان له في الواقع كما يرى ( لم اكن اكثر وعيا بهذه الخطوة في يوم كما أعيها اليوم ، ليس هناك سراب او ضباب . او عمى او إثقال او سدود ، الحافة واضحة ، وأنا على علم تام بخطوتي التالية) . وللحقيقة فان محمد خضير واحد من كتاب القصة القصيرة الذين اشتغلوا على تطوير متنهم الحكائي بصبر وروية وبخطوات نوعية محسوبة في تحولاتها ، لكن هذا لا يعني ان زملائه قد ساروا الى المناطق الآمنة في طريق ابداعهم ( وليس هنا لالوم زملائي القصاصين الذين يسيرون على الطرق الآمنة كما رسمها لهم الواقعيون الأوائل ، ولانهم يتجنبون السير على الطرق الهوائية . ذالك ان المسألة ، لنا جميعا ، مسألة وسائل ووقت ومواقع واختيارات ). وما ان يبتعد الكاتب عن حمىّ التأمل التنظيري ومحاولته الجادة لاخفاء مرجعياته ( البورخسية تحديدا ) ، يعود الى صفاء القصاص المفتون بالحكاية ، تلك التي فك أسرارها ( غوغل ) وضمها في قصة ( المعطف) التي خرج منها ( سر الحكاية الجديدة) . كما يؤكد الكاتب بان الواقعية لم تأخذ صفاتها ( الغرائبية والسحرية) . من فرسانها المحدثين ( وان البحث عن الشيء المجهول غير الملحوظ في الشيء الواقعي الملحوظ ، وعن الشيء غير المألوف في الشيء المألوف ، عن الكامن والدفين في الشيء الاعتيادي الظاهر ؛ وبعبارة اخرى عن الخيالي في الشيء الواقعي ) ولتبديد القلق عن مصطلح الخيالي يقول( لا ينبغي لنا ان تقلقنا كلمة خيالي . فالمقصود منها ليس المعنى الوهمي او اللامعقول . الخيالي الذي اقصده هو معنى لقوة إشعاع صادرة عن جوهر الشيء الواقعي ، لا تنفصل عنه ، كما لا ينفصل الإشعاع عن قطعة الماس ) ويذكر بالنهاية الخيالية للقصة الواقعية مستشهدا بقصة واقعية ( المعطف) ، ( لكن هذا ما حدث ، هكذا تكتسب الحكاية المسكينة ، دون توقيع ، نهاية خيالية ) . يبدو ان محمد خضير نسيّ العطار القانع بواقعه، الغرائبي . ، وصاحبه ( القصه خون) وهو يمارس سحره على الآخرين عبر حضوره الواقعي ونهاياته المتوالدة. وليثبت الكاتب إخلاصه لفن القصة القصيرة عبر نموذجه ( قصة المعطف) بوصفها ( حكاية) أراد ان يسلب من خلالها الأثر الفاعل للكتاب المعاصرين ، وسحب الفراش من تحتهم ، كمخترعين جدد لفن القصة يقول( لو عدنا الى نهاية قصة ( المعطف) لاصطدمنا بكلمة حكاية ، حيث أراد ( غوغول ) ان يؤكد الأهمية الخاصة للبنية الحكائية في قصته . ان آخرين من كتابنا المعاصرين ، أمثال ، بورخس ، ومركيز ، وكاليفينو ، وبوزاتي ، سيدركون عظمة الاختراع الحكائي الغوغلي ، فينقذون السرد الخيالي من الابتذال الخرافي والغرابة القوطية ، ويضعون أسس الشكل الجديد للقصة الحكائية ، التي استطيع تسميتها بالحكاية الجديدة ). وفي محاولة الى ليّ عنق التقويم الى الانتداب الى الحكاية ، يذهب الكاتب الى تأكيد أهمية الحكاية الشرقية ( ان روح العصر تلتحم بقوة الخلق العجائبي ، السحري ، لدى هؤلاء ، وتجعلنا نلتفت الى ما في شرقنا الكبير من ( حكايات ) دفينة خالدة في كتب خالدة مثل ( ألف ليلة وليلة ) يرتبط الخيال فيها بحياة واقعية حارة وممتعة ) يبدو لنا ونحن نعلّق على محاضرة ذاكرة العطار ، أننا أمام عطار فعلا وليس قصّاص ، فالعطار محمد خضير ، يحتفي بخلطاته وكشوفاته في المجال القصصي ، ناسيا او متناسيا ، ان وصفات العطار وتقابلها ، كشوفات الكاتب النظرية عن مفهوم القصة ، إنما هي اجترار لمفهوم العطار ، وتناصا بالمفهوم النقدي . هنا يضعنا محمد خضير في ورطة المتناص ، او السارق ! ان وجود العطار وذاكرته هو وجود استعاري ، رمزي . لا يُشابه الجهد النظري الذي طرحه الكاتب عن مرجعياته محاولا العبث في أسبقيتها الواقعية على فن القصة العراقية ، وتحديدا في فهم محمد خضير حصرا . ولو وضعنا منجز الكاتب الإبداعي نصب أعيننا ، سوف نخرج باستنتاج واضح ، ان محمد خضير من أوائل الذين خانوا الحكاية بسحرها الشرقي ( في نتاجه المتأخر تحديدا) ، منتميا إبداعيا الى سحر الأسلوب في القصة الحديثة . ان محمد خضير سيواصل مناوراته في بقية حكايته الجديدة . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الثالثة
القصاص المجهول ( تعاقب الحالمين، بحيازة النص) في تجربة طريفة لمحلل نفسي أقامها على مجموعة من الأشخاص وعلى طاولة مستديرة ، وقام بالهمس لاحدهم بسر ما، وطلب منه نقل هذا السر الى الشخص التالي الجالس بجانبه ، وهكذا يقوم كل شخص بنقل السر- الحكاية- الى الآخر حتى اكتمال دائرة الجالسين . فوجد ان السر –الجملة – التي همس بها بأذن الاول قد وصلت الى آخر الجالسين بصيغة مغايرة تماما لجملته الأصلية ، حتى انه شعر بان رسالته الأولى اختفت معالمها بين أشخاص الطاولة المستديرة . ولنا ان نتصور ان الأشخاص ليسوا على طاولة مستديرة ، وانما يقفون بصورة مستقيمة ( كأعمدة التلغراف) وسط الحقول ، واجبهم إرسال البرقيات بأصواتهم كما جاء في قصة ( البرقية للكاتب لسلافوير مروجيك) الذي أستشهد محمد خضير بها ليثبت ان ( الصورة الأصلية لشكل الوجود تبدل أبعادها وألوانها تحت الشعاع المتعاقب لفجر الأرض وغروبها). فكيف يكون مصير الحكاية كأثر مخطوط في تعاقب حيازتها ؟ يجيبنا الكاتب( حين يكون الأثر مخطوطا تصفحته مئات الأيادي ، وخطت على هوامشه مئات الأقلام ، ونظرته مئات العيون نظرات استخلصت من حروفه إكسيرا راقيا للضمير او الذاكرة . ان سلسلة المواد والأرواح المتناسخة تتفحص هذا الأثر لا المؤلف أول لها ولا القارئ الأخير آخرها) . يذهب بورخس في محاضرة الكوابيس من كتاب ( سبع ليال):(في هذه اللحظة احلم بالسيروة الكونية كلها ، احلم تاريخ العالم ، احلم كل شيء … طفولتكم ، مراهقتكم ، حالم بدء يحلم ، احلم أنني القي محاضرة في قاعة ( كارل شاركس) أنني احلمكم وهذا ليس صحيحا ، كل واحد منكم يحلمني ويحلم الآخرين) . هناك معلق مجهول يدلي بالحقيقة . كما يفرق بورخس بين الأحلام وبين الكوابيس كنوع من ( الفزع المقدس) للأثر الادبي، ويستطرد ( الأحلام تعطينا فكرة عن الروح العظيمة وهي متحررة من الجسد ) ، في الأحلام نحلم أننا نقرأ كتابا ، ولكننا في الحقيقة نبتكر كل حرف من الكتاب . بينما يقول محمد خضير ( أنت أيضا وأنا معك، واقفان هناك ، نحلم بأننا واعيان لوجودنا ولوجود المرسلين الذين نجهل مواقفهم . إننا منفردان ومتصلان أيضا ، … يظهر في مرايا الأزمنة خالقون متكررون ينسجون في غسق القرون الآفلة أساطيرهم . الآن جاء دورك لتنسج ، لتلعب : لترسل في التلغراف الخيالي برقيتك ، أرسل فما أنت وحدك ، وما أنت بآخر ، وما نخلقه ارسل مثله خالقون قبلنا ، ولكن لكل خلقه الذي لا يتكرر ولا يعاد إرساله، أي نص اصل في زمانه ، مرحلته الثابتة من مراحل الإرسال) . كما يؤكد بورخس من جهته بأنه( يرى الحالم حلمه في لمحة واحدة كما يرى الله في أزليته الشاسعة ، الصيرورة الكونية برمتها ). ومن النظام الصارم بالإرسال والتلقي الى النظام الاحتمالي يعلق محمد خضير ( نحن مجموعات ، وما لا تلتقطه مجموعة تلتقطه مجموعة اخرى قريبة منها او بعيدة ، ما الفرق؟ نظام احتمالي وقابليات غير متجانسة ، ومسافات متفاوتة ، يطول الانتظار سنوات، ولا يحدث شيء ، لكن وقوع ملا يحسب ببال قد يحدث بين زمن واخر ، الاحتمال قانون قاهر ، كالمصادفة في رحلة الصوت . نحن رسل بلا حدود ، أفراد أخف من الهواء ، واثقل من الصمت ، الصمت الضروري للالتقاط ، الخفة الضرورية للإرسال ، وكما يحصل في قصة ( مروجيك ) البرقية ، أحيانا حين يرّف ( الرجال الأعمدة ) مضمون البرقية حين يكونون مخمورين … فأننا نخطئ في كل مرة نعتقد فيها أننا أتممنا الرسالة ، ولشعورنا العميق بهذا النقص والخلل ، نستمر في رسائلنا دونما توقف) ان الرسالة الإبداعية في رأيي لا ينتجها قانون السببية ولا يوصلها مبدأ الصدفة . ولكن محمد خضير يمضي في طروحاته حول وهمية المؤلف وخداعه يقول: ان الفعل ( ألف) خادع ووهمي كفاعله المؤلف . نحن لا نقصّ عن شيء ، لان قصصنا موجودة قبل كل شيء ، قصصنا لا تعنينا ، فهي تعني وجودها فقط . الوجود السابق على أي وعي وعي او إحساس . ان قصصنا خلقت قبلنا ) . وفي الهامش الخاص بهذه الفقرة يرى محمد خضير انه غير مدين لبورخس وحده( لا أدين بهذا التأويل الأفلاطوني الى بورخس وحده ، إذ تناهى اليّ كذلك من الرسائل الفلسفية العربية القديمة ، حيث لا افتراق بين البرهان والوجود السابق عليه) . ونحن نرى ان هذا الأمر ليس نتاجا بورخسيا ، وانما هو جدل فلسفي قائم بين الفلسفة المثالية التي تؤمن ( بأسبقية الوعي على المادة ) والفلسفة المادية التي تُقر ( بأسبقية المادة على الوعي ) . حيث ان الأشياء السابقة لوجودنا ليست القصص فقط ، وانما المصير البشري كاملا في مفهوم العقل الكلي المطلق. وكما يقول ( بيكاسو ): إنني لا اكتشف ، أنني أجد. للتعبير عن تعاقبية الخلق والحيازة معا . كما ان الأفكار على قارعة الطريق – كما يرى الجاحظ-. (عمى الخالق- المرسل-) ان عمى المبدع الحقيقي إزاء عمله هو قناع آخر لمجهوليته مثل العمى المفترض للكائنات إزاء الخالق الأزلي . ففي الرسائل القديمة ( رسالة الغفران ، منطق الطير، كليلة ودمنة ، الكوميديا الإلهية ) وصل الخيال البشري فيها الى مرحلة كشف الحجاب وتمثل أحوال السماوات كما يتراءى للصوفي وهو يتمثل كلمة ( كن) . وهناك نمط من الرسائل المقفلة ( والتي تثير قابليات التأمل والفراسة) مثل الرسالة التي أرسلها ( عمر بن هند ) بيد (المتلمّس ) الى عامله في البحرين ، يأمره فيها بقتل حاملها . ولكن روائح الموت فاحت منها فأستنشقها حاملها ( الجاهل بالقراءة) بحدوسه وفراسته ورماها في النهر . فاضّا هذه الرسالة وكاشفا أسرارها ، وهو الأعمى أمام المرسل البصير! يفترض محمد خضير للمبدع صفة التجلي لا الانكشاف عند معاينة رسائله المفتوحة والمغلقة ، ويعبر عن هذا بمصطلح شعري ( اختفاء النضج ) . ان اختفاء المؤلف هنا هو قناعه تجاه محاولات كشفه من قبل السائرين على طريق علامات النص . لذا فان خضير لا يريد لرسائله ( أقنعته ) ان تفضّ بمنطق القارئ او الكاتب الآخر وحده ، كما حدث مع قراءة ( سارتر) ل( جان جينه) الذي قال الأخير عنها ( لقد أُصبت بنوع من الغثيان ، ذلك لأنني رأيت نفسي عاريا ومن طرف شخص آخر غيري ، أكيد أنني اكشف عن نفسي تماما في كتبي غير إنني في ذات الوقت ألجأ الى التنكر اللغوي والى المواقف والاحتمالات الخاصة . أنا استعمل نوعا من السحر واحاول ان أصون نفسي قليلا غير ان سارتر عرّاني دونما احتفاء بفظاظة. واول رد فعل كان رغبة في إحراق الكتاب). ان محمد خضير بهذه الجرأة في مقاربة نصوصه العارية له وحده ، مع اعترافات ( جينيه) الخاصة رغم نشرها في أقنعة الكاتب اللغوية والأسلوبية ، إذ انه يصرح جهارا ( بيّ رغبة قاهرة في ان اخفي عن نفسي كل ما اعرفه عن حياة المؤلفين الآخرين ، كي يستمر ألق أعمالهم في خاطري الى أقصى خطوة يخطونها ) . ان رغبة محمد خضير مشروعة بحدود نمط الرسائل المغلقة ( المشفرة في التعبير الحديث) . لكنه وقع في الفخ . فخ عماء المتلقي ، الذي فضحه بورخس -المؤلف الأعمى- بكل شفافية عندما جعل من العماء والحلم والحيازة والأقنعة ( كتابا واحدا نشترك في تأليفه جميعا) فهل نجح محمد خضير في إخفاء رغبته أصلا في حرق القراءة ومصادرة تحولاتها كحلم او رسائل جديدة ؟ هل نستطيع ان نقترح لمحمد خضير محرقة مجوسية لمعرفة الطريق الى ( الباث ) الاول للرسائل المقدسة ؟؟؟ لا شك ان محمد خضير لا يقبل بأقل من الانصراف من الحفلة التنكرية ، وهو يدخل زقاق القصة العراقية ، بأقنعة اخرى . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، الحلقة الرابعة براهين بسيطة يبدو ان الدخول الى ( مفاهيم ) محمد خضير ولا أقول مصطلحاته ، يحتاج الى مجسات حساسة للتفريق ، بين منطقة الخيال عنده بشقيها التنظيري والإبداعي . لان محمد خضير ذاته يسعى جاهدا لاخفاء او إبراز هذا التناقض كنوع من الضبابية المشروعة ، لإيجاد مرونة من النظر أليه ك( فايبر اكلاس ) بوصفها مادة تتألف من ألياف زجاجية وبلاستك صلب . تصلح لصناعة الزوارق التي تستخدم ،للنزهة والهجوم العسكري المباغت ، ولسباقات الرياضة البحرية. لذا فان براهين محمد خضير ستسند على قوة البرهان التعسفية ومرونة البساطة في مناقشته لفن القصة القصيرة ، يقول( تلك البساطة التي نفكر بها وكأنها رؤيا من رؤى الخريف المفاجئة ، ورقة مرتعشة تجرفها الرياح الرطبة على ساحل الواقع او الحلم ، لمسة من لمسات الفكر التي تضيء المخيلة وتملؤها بالإشراق ، رسالة تغص بالعلامات الغامضة التي سقطت من لغة الإنسان ) ، ويستدرك الكاتب ( لكن هذه تأملات لا تحدد البنية المتماسكة المميزة لهذا الفن بقدر ما تنحاز الى طبيعتها الأنزلاقية التي شخّصها - أي .ه. يتيس )-،لهذا اغتنى تاريخ النوع بتعريفات بعيدة عن التحديد او التشخيص البرهاني الذي نتوخاه) . وهو يدخلنا في متاهة الانزلاق بين البرهان واستخدامه ينحاز الى تعريف مخصوص أورده( محمود تيمور) : (بوصف القصة روحا قبل ان تكون مظهر.)وكأنه قد نسيّ ثالثة ورابعة ، او تناسى، احتفاءه بالمثل الأفلاطونية كمصدر أول بعيدا عن فهم بورخس لها !! محاولا سحب القصة القصيرة من تعريفاتها الشائعة ( الفكرة ، الشخصية ، الحبكة ، الايجاز، التكثيف، البراعة ، الجمال) كتكريس لوضعها الأرستقراطي ، النمطي، ليضعها مرة واحدة في الأثير كورق شجر الخريف ، متشظية يتلقفها الكاتب في لحظة رؤيا ، ليصوغ منها نواة للتنكر بقناعه الاول . وبهذه البساطة البرهانية يفترض محمد خضير ان بساطة القصة القصيرة هي بمثابة رؤيا لا يقنصها إلا صياد القصة القصيرة ، متماهيا مع بورخس الذي طرد ( دانتي ) من مملكة الرؤيا في ( الكوميديا الإلهية) بفهمه : -ان الرؤيا هي لحظة قصيرة ، توهج لا يمكن الاستمرار فيها في عمل كالكوميديا الإلهية-. ويؤكد خضير ثانية هذه الفكرة / الرؤيا بوصفها الوهج والبرهان ، ( ان انبثاق قصة ما ، هو لحظة برهانيه عميقة) . وحتى لا تسلب اللحظة بمفهومها الزمني البرهان الفلسفي القائم على المقدمات والنتائج ، او المفهوم الرياضي القائم على المنطوق والمطلوب إثباته والمحصلة البرهان (القصة برهان متكامل على وجود متماسك يتجاوز وجودنا الحسي ) . ان البرهان المقترح من قبل القاص لا يقنعنا كقصة او رؤية ، لشرط هذا الفن المقترن بالرؤيا كحقل لانتاجها فقط. لكن القاص أراد ان يجعل للقصة كحكاية بسيطة ، محمولات فلسفية ورؤيوية ، بمثابة مرور القصة القصيرة الى خان الرؤيا ببساطتها كحكاية لا تنتمي الى زمن مراهقتها الأولى ، شفاهيا. ان محمد خضير عندما انحاز الى بساطة النوع ، يعي انه قد يثبت شرعيته من خلال مرحلتين : 1-الدفاع عن النفس بالهجوم على الواقع ومراوغته 3- وعي التجربة أو رصدها بتقديم البراهين على استمرارها وهنا يبدأ السؤال : ماذا يريد القاص من الحكاية ؟ بعد ان كانت عبارة عن ( مرور التجربة بغربال الوعي ) ، والوعي عنده هو الحلم على طريق تفسير كولد يرج ( ليس المهم ما نحلم به ، بل المهم هو بحثنا عن التفسيرات ) , هنا محمد خضير يمضي بحكايته ( القصة القصيرة) الى مصاف أعلى من بقية الفنون السردية ( لكن لماذا نرفع القصة القصيرة على غيرها من الفنون لحمل مثل هذه المزايا الجوهرية ؟ هذا لسبب رئيس يتعلق ببساطتها الجوهرية ) ماهي البساطة الجوهرية عند محمد خضير ؟ يغادر الكاتب ( الواحد الفيثاغورسي) ليبنى حاضنة محلية ، عربية ليؤكد البساطة الرياضية الواحدية، الغنية بالتماثلات والأرقام والحروف واكتشاف أسرار النصوص من خلال هذا التماثل. يقول: لقد وجد العرب في القصة ( أسموها رسالة) وسيلة رمزية للبحث عن أسرار الوجود الإنساني. كما وجدوا في تناسب الحروف والأعداد دلالة على كمال الوجود . لذا يطرح الكاتب مفهوما يستبطن المركبات العددية الفردية والزوجية ألا متناهية . وما يسبب اتحادها بالأعداد الأولية 2، 3، 4، 5، من فرضيات أساسية لاثبات الكمال والتوحد والانسجام بين الكائنات. وبهذه الطريقة يصلّ محمد خضير الى حقيقة التركيب الخماسي لعناصر القصة القصيرة ( الشخصية ، الحبكة ، الزمان ، المكان، الفكرة)وهي طريقة استعملها ( في الاستنباط العددي تُحيي الطرق القديمة التي استنبط الأدباء قيم الأشياء من قيم الأعداد والحروف التي تناسبها). ان محمد خضير هنا يضع نفسه في خانق نظري بالتعامل مع الفن ، إذ لا حقائق ثابتة ولا طرائق ولا وصفات محددة تؤدي الى الفهم والتشريع للفن. أننا نرى ان محمد خضير عندما وصل الى قناعته الرقمية والحروفية وتعميمها كقانون لفن القصة ، فهو قد وصل الى نتيجة شخصية محضة لا يمكن تعميمها على فن القصة القصيرة عموما . لكن محمد خضير لا يتقبل بطروحاته استنتاجا كهذا ، لانه يدافع عن إثبات البساطة الواحدية الرياضية ، كبساطة جوهرية لفن القصة القصيرة ، ليس بفهمه عنها وكشوفاته فقط ، كذلك يرى إنها سوف ترفع القصة القصيرة الى درجة أعلى من فنون القول الأخرى لحمل هذه المزية! ، وهذا برهان خارج اللحظة /الرؤيا التي ولّدت القصة القصيرة، عن غيرها التي تخضع لقانونها الخاص. ان خضير في بحثه الدائم عن البرهان خارج ( الواحد الفيثاغورسي) ورؤيا بورخس العميقة والبسيطة ، وانتمائه الى طرق عربية برهانيه يستنبط منها قوانين القصة الروؤيوية ، إنما هو محاولة مبدع ( يتناص) مع اكثر من موقد وينبوع لاغناء واذكاء كشوفاته النظرية في حقل القصة القصيرة . لذا نرى ان الكاتب يضيف تعريفا آخر استمده من السينما للقصة ، ( سأضيف اليوم الى تعريفاتي مثالا آخر استوحيته من ( البستاني) الذي مثل دوره ( بيتر سيلرز)، يقول الممثل: مادام النبات سالما فلن يميته الصقيع). ويمضي للتأكيد ( والحقيقة ان البستاني لم يريد تعميم حكمته ، كالقصاص الذي لا يريد ان يبرهن على دقة عمله ببراهين عامة من خارج حدود قصصه –مجال خبرته-) نستطيع ان نقول ان تعريف محمد خضير الجديد هو إحساس بوطأة التنظيرات وصرامتها ، والتي لا تتوافق مع شعرية محمد خضير الذي تورط في التقعيد النظري للرؤيا ومتاهاتها . يقول بورخس (ان الأنا اعظم الأوهام ) . يذهب محمد خضير المفتون ب( النواة) ، برسم دائرة جعل النواة مركزها كمقدمة للبراهين ، ورسم في أغلفتها مدارات المخطوطة ، النص ، القصة ، البحث او السفر، المؤلف الراوي مجهولية المؤلف ، اليوتوبيا ، الواقع ، التمثل الذهني. إذ ان هذه الدوائر والمدارات حول النواة بوصفها لحظة البرهان المشرقة ، لينتهي الى حرق الأغلفة بالاحتراق والتمثل . ( ولعلي هنا أؤكد هذا المنحى حيث أدعو إلى تصميم القصة باعتبارها عملا مدبرا يبرهن على وجود نواة تختفي فيها جينات الثيمات اللامحدودة التي انشطرت عن الموضوعات الخالدة –الحياة، والحب والموت) أين يسير محمد خضير بنواته؟ ( النواة هي لوجوس القصة ، هيولها ، واما ما يتفرع من النواة ثيمات لا حصر لها ) . يريد محمد خضير ان يقول بالبرهان انه نواة في عالم القصة القصيرة وما التناص –او المقابسات – إنما هي ثيمات تحترق في حاضنة النواة الأولى _ هذا ما سنتوسع به في الحلقة التالية_. ان محمد خضير يعي المسافة بين ان تكون نواة او مدارا ، يقول في تعليقة عن قصة المطاردة لاينو بوزاتي)( ومما لا شك فيه ان السرور الذي يغنمه الإنسان من حياة الغنى والرفاه والهناء سرور كبير ، ولكن جاذبية الهاوية اكبر) ، كما يشير الى قصة الأنف ل(غوغول) بالقول( يبدو انه لا يوجد في الكون شيء طويل الأمد ولذلك فان السرور في الدقيقة التالية لم يعد كبيرا ، مثلما كان في الأولى ، أما في الدقيقة الثالثة فقد بات اضعف ، وألتحم في النهاية بالوضع العادي للروح ، كما هو الحال في الماء حين تلتحم الدائرة التي يولّدها وقوع الحجر ، في النهاية بالسطح المستوي). وتزداد صعوبة إدراك المعنى الذي يكمن في نواة قصة رمزية مثل قصة كافكا ( طبيب القرية) ( لقد اتبعت مرة الدق الخاطئ لجرس الليل ، ولن ينصلح الخطأ أبدا). هذه مجموعة من حقول ( النواة ) في القصص المشار إليها كحقيقة مركزية يعتمدها خضير للبحث في صيرورة النواة ، ليس كمهيمنة وراثية ، ولا هي صدى للدوائر الذي يحدثها وقع الحجر في الماء. ان النواة عند محمد خضير هي المدونة الأولى لتاريخ نوع ما . وبما انه ينتمي الى حقل القصة الذي يحتمل وجوده من خلال نواة او مدارات متناثرة لا حصر لها ، سيقرر محمد خضير التالي( ان القصص جميعها تحاول ان تبرهن على نظام المخطوطة ، حيث يتقبل بناؤها ان تعمل عناصر الحبكة والاتجاه المحوري للزمن ، والتصميم التوزيعي للمكان ، على إنها هامش تأطيري للنواة الموضوعية المركزية فيها) . ان محمد خضير هنا انتمى الى النواة ببساطتها الحسابية وانشطارها العددي مبتعدا قي الوقت ذاته عن حاضناتها كما يبدو من خلال الاستكانة الى فطنته في الطرح ، ولكنه أراد ان يُطيح بكل نواة ، ما عدا المخطوطة التي تكون غالبا بلا مؤلف معلوم كالاسطورة –حسب رولان بارت-. وما القصص إلا منطوق للمراد إثباته وهو البرهان . بهذا يضع محمد خضير المخطوطة كأثر أول ، يريد أبعاده عن الحيازة –كنواة- من الجميع. وكأنه يقول : ان المخطوطة لا أب لها . إنها ملقاة في الطريق الى الآخرين ، والمسافرون في حقل القصة، إنما يحومون حولها .كلّ ببرهانه ، المؤدي الى منطوقة الخاص لاثبات وراثته للنواة . ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الحلقة الخامسة مجرات التأثير / المقابسة
( كلّ شيء يحترق الأرواح والأجساد وتبقى ( الكرما)- وهي عبارة عن وحدة أفكار بوذية ذهنية تتناسخ عددا لا متناهيا من المرات-) (أن تعبر من حياة الى اخرى كمثل النوم في اسرّة مختلفة في غرف مختلفة- افلوطين) ( في كل لحظة من حياتنا نحن نَنسخ ونُنسسخ) –بورخس- يذهب محمد خضير في هذه المحاضرة الى إشهار اعترافه في التأثروالتاثير بالقول( اعتقد أننا جميعا نمر بالحقول ذاتها ، حقول التأثير)0 ولتأكيده على ضرورة الوعي بالتأثر( لابد من إنارة المدارات الغاطسة في نصف الظلام التي تدور فيها النصوص… المزدحمة بآثار الأقدام … ان محاولة استعادة الآثار، تضع خطواتنا على الطريق الصالحة بين قلاع التأثير وتُعين لنا الاتجاه الصحيح ). وحتى لا نفهم ان محمد خضير قد سلّم بالتأثير وحده او محاولة اكتشاف الانفعال به فقط، فانه سيسعى للكشف عن وعي المنفعل لتشكيل فعله الخاص ، لذا نراه يبتعد عن قانون ( الفعل ورد الفعل ) في الفيزياء الميكانيكية ، لانه يُدرك ان ( تسارع السقوط الحر) نتيجة رد الفعل باعتبارها مساوية للقوة في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه ، ويذهب الى علم المنطق كمعطى فلسفي ، ويستشهد بالمقولتين التاسعة والعاشرة ، اللتان تبحثان في تقبل الأثر : قبول آثر المؤثر والفعل ، أي التأثير في الشيء الذي يقبل الأثر ، يقول( وإذا كانت فرضيات هاتين المقولتين مادية تجريبية فان نتائجها تتجلى في التصور العقلي المحض) ساحبا هذين المفهومين الى الحقل الأدبي ( ان العقول الأدبية هي عقول منفعلة ، وهي عقول فعالة أيضا يؤثر بعضها في بعض اضطرارا واختيارا ، لكن اشرف أنواع التأثير هو الأثير التلقائي … التجاذب المتوازن … الاختيار …. الانتخاب ، الاصطفاء) . ان مفهوم محمد خضير هذا في التأثير ، قد بُحث عميقا في تراثنا النقدي العربي ، وكانت النتائج تتراوح بين السرقة ، والتضمين ، والانتحال…الخ ، حتى جاء وقوع( الحافر على الحافر) أحيانا ليفض الاشتباك في ( خيمة النقد) وينتصر للنصوص . وبين التأثير والتأثر دخل مفهوم الصدفة والسببية وأيهما اكثر فاعلية في الحضور في هذه العملية يعلق محمد خضير ( في المنطقة ذاتها ، دخل التأثير في اشتباك ، لم ينفك حتى اليوم ، مع مفاهيم اخرى مثل الحتمية والسببية والصدفة والاحتمال ) وينتصر الكاتب الى السببية ( ولعل ارتباط التأثير بالسببية أقوى الارتباطات) ، وهو يؤكد مفهوم النقد الحديث ( التناص) الذي جاء به( جيرار جينيت ) حتى تقعد كمصطلح نظريا على يد ( جوليا كرستيفا) أخيرا ، وان محمد خضير يفضل كلمة ( المقابسة ) على ( التناص) ، وهذا يعود في رأيي لما تحمله هذه الكلمة من نورانية تستفز عقل الكاتب الشرقي/ المسلم وعلاقتها بهالة النور ، كما أنها وردة في المقابسات لأبى حيان التوحيدي، سيما ان محمد خضير ينفعل بالكلمات الشعرية والتي تحمل ذات المفهوم نقديا . لكن محمد خضير كما نرى يقع في إشكال واضح في حديثه عن التأثير والتأثر بوصفهما الحقل الشرعي والحقيقي والخصب لولادة النص الأدبي وكاتبه ، نراه يحاول جاهدا ان يحرق مرجعياته وينزع أقنعته قبل ان يكتشفها الآخرون كما صرح اكثر من مرة كما رأينا، وكأنه بوذي يريد إحراق بوذا ( يعتقد البوذيون بأنه ليس المهم ان تثق ببوذا، المهم اتباع تعليمه- من حديث بورخس عن البوذية في كتابه سبع ليال-) وبسخط واضح على الدراسات المقارنة في النقد الأدبي والتي تركز على السياق التاريخي المتعاقب فقط ، يعلق خضير( إننا نتطرق في دراستنا الى تشابه هذا العمل او ذاك ، وغالبا ما يكون الأصلي المقارن … غريبا ، فريدا، مثاليا، أما العمل المتأثر به فهو نسخة طبق الأصل وبذلك لا نلتفت الى الآليات المعقدة لعملية التأثير والتأثر ونضع النسخة الثانية المنفعلة موضع الاتهام والتحقير دون النظر الى صيرورتها الخاصة ومراجعها القوية المتوازنة) ويستشهد الكاتب بتطبيق عملي لمثل هذا التعسف النقدي على النصوص التالية بقوله( وفي تأليفنا المعاصر برهان مماثل على الوجود السابق للأشياء في قول بورخس – الكتب جميعها موجودة قبلنا- او ان – المؤلفين يؤلفون كتابا واحدا – والفكرتان صدى لفكرة – المُثل الأفلاطونية – أي أسبقية صور الأشياء لوجودها المادي). ترى هل ينتصر محمد خضير الى بورخس بوصفه منفعلا واعيا ، أم الى أفلاطون بوصفه النص الاول!!؟. يذهب محمد خضير في هذه المحاضرة لرصد مجمل التأثيرات التي وقعت تحت سطوتها القصة العراقية سلبا وإيجابا ، اذ يشخص أربع تيارات –مجرات –كبيرة وعلى النحو التالي: 1- التيار الواقعي- الروسي، والأمريكي ، والإنجليزي. 2- تيار الوعي 3- التيار الواقعي الجديد والوجودي الشيئي 4- التيار الواقعي الغرائبي والواقية الرمزية . وهذا الأخير الذي هيمن على كتاب الستينات – وهو أحدهم- الى الوقت الحالي مع التجارب القصصية الجديدة ، إذ ان هذه التأثيرات بمجملها ليس لها أثرا تعاقبيا فهي متداخلة ومتفاعلة ومنفعلة في ذات الوقت وعلى كافة الكتاب العراقيين قديما وحديثا. يشخص الكاتب خللا نقديا عربيا لازم التجارب الإبداعية بوصفها تابعة ولا أحد يفكر في تجديد موضوعاتها ، إلى ان يصل الى العقل النقدي الحديث الغربي بقوة جذب مركزية استلبت العقل الشرقي بوصفه فلكا تابعا لمركزيتها المهيمنة ، في حين يجد ان الثقافات الأخرى في أمريكا اللاتينية قد أوجدت مركزيها الخاصة وسحبت إليها عقولا روائية عربية وشرقية من محيط الجذب الغربي ، وصار بدلا من المركز الواحد والجذب الأحادي ، تبرعمت حول محيط المجرة الأولى مراكز جذب عديدة خلقت لها محيطات مستقلة ، حيث ولّد هذا الزخم الجديد لهذه المجرات زخما أقوى من الزخم الكلاسيكي للمجرات الهرمة. يستعرض محمد خضير تجربته الشخصية في كتابة القصة إزاء هذه المؤثرات بالقول( لقد انتقل الكاتب من البصر الى التعقل ،وأستطيع وصف التعددية المرجعية بأنها فضاء يسبح فيه العمل الأدبي وسط تأثيرات متلاحقة لذا يصعب فرز هذه التأثيرات او حصرها) ، وحتى يبرهن على صعوبة الفرز والحصر لمرجعياته يؤكد ان أعماله لا تتسم بقيمة التجريب ( لان التجريب من سمات الأعمال القلقلة إزاء مراجعها ، وافضل التحقيق لانه يؤمن اتصالا وثيقا مع مراجعها ثم تبرهن على هذا الاتصال بأفضل البراهين ) . يخلص أخيرا الى ( المؤلفون الجيدون وسطاء شفافون يتراءى العالم عبرهم بكل أطيافه الحيوية وتذوب فيهم أعراض الفساد). ولكننا رأينا ما ورد عنه في المحاضرة من فهم للتأثير والتأثر وانتصاره للسببية ، نراه يعود الى نقض هذا العامل في آليات اشتغال جديدة عبر ( مجرات من العقول الكبيرة والمتكافئة) يقول ( إنني أؤمن بالمصادفة الكونية التي تجعل كاتبا سابقا على كاتب آخر ، او كاتبا مجاورا لاخر) . فهل كان محمد خضير مصادفة بين العقول والمجرات؟ وأية صدفة تقود للتكافيء؟؟ ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الحلقة السادسة مدينة الرؤيا / البحث عن عالم بديل أرى ان رحلة كلكامش نحو الخلود ، وحلم الإنسان باليوتوبيات يشكلان نواة مشتركة لحل إشكالية ثنائية ،(الحلم والواقع)،( الفناء والخلود) . فكلكامش في بحثه عن الخلود أراد ان يعيد التوازن لبنائه المشترك ( بشري –إلهي) لتغليب صفة الإلوهية ، إذ كان نصب عينيه مثالا للخلود الأبدي . وهذا هو حال المخططين ( في بناء اليوتوبيات الذين اتبعوا مثالا إلهيا أعلى او رؤية فلسفية مطلقة) كما يقول محمد خضير . واليوتوبيات التي يستعرضها تمثل ( أنوات ضخمة) ، أي أنها تشكلت كبديل عن مرجعيتها ، واستحدثت نظمها وقوانينها ، وطريقة الحياة ودرجات وأفراد المجتمع فيها وصفاتهم ، وبحثت بعضها في القيم بوصفا أساسا لها – كما في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة – وهذه المدن تعبر عن ( اوقيانوس المدن المثالية) ، وهي في الوقت ذاته تعبر عن آلية نفسية- حسب تعبير علم النفس ، واستمرارا للبحث الإنساني في محاولته لتصوير واقع آخر. كيف يعيّ محمد خضير الواقع ( واقعه هو)؟ يقول( ان المشكلات الأخلاقية والاقتصادية والبيئية المستجدة لعالم يتسم بالتعقيد والاتساع وتشتت الثروة ، وعرض القوة المسلحة . في عالم مهدد بالنضوب الغذائي والتلوث البيئي والدمار الشامل، يتعرض الحلم القديم بيوتوبيات سعيدة الى انحراف كابوسي مرعب ، يقذف بالإنسان الى مخالب ماكينة تكنوقراطية مركبة من المؤسسة العقلانية والبدائية الغريزية المتعطشة للتسلط والاستبداد المطلق بعقل الإنسان وروحه الى حد المسخ والاستفراغ والطاعة العمياء) . بهذا التشخيص الدقيق للواقع إزاء الرؤيا وصنّاعها يشير الى عملية طرد ثانية يواجهها الإنسان في عالمه الأرضي ، بعد الطرد السماوي الاول من الفردوس. وبعد هذين الطردين ، وبداية رحلة التيه ، يبدو محمد خضير مرتابا من العقل البشري للوصول الى ( رغبته النقية في العدالة والحرية والرفاهية) ، مؤكدا ان السبب هو( ان عالما جديدا شجاعا سيبقى حلما نائيا ما لم يتحقق على ارض الواقع التاريخي ، مجتمع خال من الاضطهاد والاستغلال ). ما الذي يقترحه محمد خضير لمعالجة هذه الإشكالية؟ يقول( يبدو ان الإنسان لن يفضل ان يبقى منفيا في حلمه على يتأبد في مكان شبيه بالحلم ، مهدد في الانتهاء بين لحظة وأخرى) وهو يقوم بفصل الإنسان العادي عن المؤلفين من خلال فهم كل واحد منهما يقول( إما المؤلفين ، فان يوتوبيا لا متحققة هي خير عندهم من حقيقة مبنية على يويوبيا ، ان شرائط اللاتحقق هو محتوى الشكل اللصيق بأي هدف يوتوبي معاصر) ، وهم ( المؤلفون) سيكتفون بوجود هذا الحلم ( كرؤيا) كي تبعدهم عن الواقع كقرين تاريخي لمثالية اليوتوبي. بالإضافة الى هذا فانه يضيف شرطا آخر هو إنها( هي فكرة لم يحن تطبيقها بعد) ، ويعلل ذلك ( لان قدرا كبيرا من العناصر البدائية يتحكم في تركيب المؤسسات المدنية المعاصرة، وفي تصورها لمستقبل المدينة الاجتماعي ، وتجديد قيمها بالسرعة التي يتطلبها نظام يوتوبي متحرر من الأنماط القيمية الأصلية شبه الثابتة ) وهو يُحقق بهذا الفهم ( السفر العقلي الحر الى مدينة الرؤيا أسبقية شرعية على الإقامة الواقعية الأرضية). البحث عن يوتوبيا محمد خضير في خضم بحثه عن أول فكرة لليوتوبيا ، وسياحته الفكرية العميقة في تجلياتها ، ابتداء من جذرها اللغوي وحتى تحققها كرؤية في ذهن مؤلفها ، يجد محمد خضير بعضا من ضالته لشكل اليوتوبيا الذي يرتئيه في رؤيا( جوزيف كنشت) بطل رواية هرمان هسه( لعبة الكريات الزجاجية ) ، يقول( أدرك كنشت التناقض بين السلطة ، والمعرفة ،التأمل والفعل التاريخي ) . ومثلما أشرت في البداية الى بحث كلكامش عن خلوده عبر انحلال البشري فيه ، نجد محمد خضير يقول بثنائية اخرى تكمن في اصل اليوتوبيا هي ( خلود النفس وانحلال الدولة ) كما انه نقب في جمهورية أفلاطون ووجد ( من شرائع الطبيعة ان التطبيق الفعلي لنظرية ، لا يبلغ مبلغ النظرية في الكمال –ص171-) كما يجد عند إفلاطون في الجمهورية أيضا ( خلود الشيء مرتبط بزواله-ص283- )ليخلص الى قناعة تقول( ان قانون افلاطون هذا هو الوحيد المنيع عن الهزء والخرق ، منه تستمد اليوتوبيات شكلها الذي لم يتغير منذ ذلك الحين) ويضيف( تلك اليوتوبيات التي تتسم بحقيقة الرحلة الخيالية ، حقيقة الفكرة التي لا تقاس بتجربة محسوسة ، لأنها رحلة عقلية ذهنية تصورية قبل كل شيء) . ويستمر رحلته مع اليوتوبيات ، فيمر على الفهم اليوتوبي المعاصر المضاد ، كما عبر عنه توماس مور مثلا ( العمل- المساهمة –الثروة) ، او في رواية جورج اورويل( 1984) التي بناها على رؤية سابقة للروائي الروسي ( زاميابتين) في روايته( نحن) . حيث يتحول الإنسان في رواية اورويل الى مجرد رقم من أرقام ماكنة تتعامل مع قيم العاطفة ، والتفكير الحر، بنظام الأخ الأكبر ( المستبد الطاغية ) ، حيث الطاعة العمياء او الجنون. ما هو تصور محمد خضير لمدينة الحلم / الرؤيا.؟ يقول ( لقد فات المهندسين والمخططين والمصلحين ان اليوتوبيات اللامتحققة اصدق في بنيانها المثالي من الحقيقة المبنية على مثال يوتوبي) . وهذا يعود بنا الى أثرة محمد للمُثل وقدرتها على البقاء إزاء انحلال تمثلاتها المادية وزوالها . ويترك الكاتب اليوتوبيات واليوتوبيات المضادة ليبني يوتوبياه المعاصرة – مدينة الكلمات –التي تتحول الى مدينة حقيقية اسمها-بصرياثا- ( في مفترق طرق اليوتوبيا واليوتوبيا المضادة… لا تتطلب بصرياثا نظاما فلسفيا راقيا، او تكنولوجيا راقية، او أيديولوجيا صارمة، . أقصى ما يلزم في هذا المجال حقا، تنفيذ دقيق لمتطلبات نوع قصصي لا يتورع عن قبول شكل قصة المستقبل ، غير متورط في هجاء صورة الحاضر ، لكنه غير مستسلم لتقلباتها) . بهذا الفهم يقيم محمد خضير مدينة الكلمات –بصرياثا- ليسكنها شخصياته الرؤيوية ، من خلال نص مشاع يترك الحالمون هوامشهم عليه لتتوالد يوتوبيات ، او فهما نوعيا لها. حيث يتورط المهمشون بنسج الهوامش وتشخيص المنطقة المعلقة بين المكان واللا مكان او بين بصرياثا وأي مكان لتحققها. تلك هي اليوتوبيا المستمرة التي يقترحها محمد خضير ليبتعد عن التأبد الحسي .وقد اصدر محمد خضير فعلا ، كما أشرنا في الحلقة الأولى كتابا حمل عنوان ( بصرياثا –صور مدينة، عام 1993)، ولسنا هنا بصدد مناقشة- بصرياثا – ومدى امتثالها لشروط الرؤية اليوتوبية ، كما عرضناها في هذه المقالة! ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الليلة السابعة ليلة القبض على الرؤيا لقد حظي الرقم (7) بمكانة خاصة في الميثولوجيا على اختلاف مرجعيتها وعقائدها ،ة بوصفه ثمرة الأيام الست التي استغرقت عملية خلق الكون ، فقد اشتركت الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية والصابئية والبوذية …الخ ، بتعظيم هذا الرقم لما يحمله من ثراء دلالي إزاء وقائع الخلق الغامضة ، انه الرقم الخاتم لإسرار الوجود الكوني. فقد جاء في الكتاب المقدس( وانتهى الله من خلق السماوات والأرض وجميع ما فيها ، واستراح في اليوم السابع من عمله وعن كل ما فعله ، وبارك الله اليوم السابع وجعله مقدسا) .وجاء في القرآن ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش). وتأتى أهمية الرقم (6) في الديانة البوذية من تصورها الخاص لحكاية الخلق وولادة ( بوذا المتنور) ، حيث تقول المعتقدات البوذية ( ان الملكة(مايا-وتعنى الوهم-) زوجة الملك- سودودانا – تحلم ان فيلا ابيض له ستة أنياب ، يتسكع في جبال الذهب ، يدخل في خاصرتها اليسرى دون ان يسبب لهل ألما) . فتستيقظ الملكة من نومها وتجمع المنجمين ، فيقولون لها : ان الأنياب الستة هي بشارة ولادة ( بوذا التنور) الذي سيحكم العالم . وبين هذين الرقمين بدأ سعي الإنسان بطرح أسئلته من خلال تمثله لهذا السفر الكوني ، لكشف رؤاه. وفي التراث الصوفي والعرفاني الإنساني والإسلامي رحلات في غاية الجرأة للتشبه بالله حلولا وحلما . وبما إننا بدأنا في البحث بمقابلة بين كتابي ( الحكاية الجديدة –لمحمد خضير، وكتاب سبع ليال- لبورخس) ، نجد ان الكاتبين قد انفعلا بالأثر المثيولوجي الإنساني واختارا لرحلتهما –كتاباهما- ستة محاضرات –ليال- كي يسدلا الستار في اليوم السابع عن حقيقتهما- رؤيتهما- للنص الأدبي المكتمل ، ففي الليلة – المحاضرة- السابعة لبورخس ( ليلة العمى) فضلا عن البعد الدراماتيكي الذي تحمله هذه المحاضرة( أعمى يتحدث عن أعمي) ، فإنها توكيد على ان الليالي الست ( المحاضرات) كانت تعبيرا عن صيرورة الرؤية ، وهو الآن ينهي رحلته بين السديم والعماء ليزيح آخر أقنعة الرائي المتوارثة ليتجلى في حضور مطلق . كيف تصيرت رؤى محمد خضير في ليلة تمام الرؤيا؟ يستعير محمد من الشاعر محمود البريكان مقطعا شعريا يقول( ان الرؤى تمت، وان الأفق يوشك ان يدور) كبداية ومهاد لمحاضرته السابعة التي أراد لها ان تكون الخلاصة ، لا الكشف كما يقول( ان هذه المحاضرة خلاصات- لا كشوفات – واعادة صياغة قناعات ….. أما الغاية الأخيرة المتوخاة ، فتنقية الأصوات المخنوقة وتحرير المبادرات المكبوتة) ويوضح سبيله الى هذا الفهم بالقول( وسبيلي الى ذلك تحليل أدبي لبواطن تجربة تنبثق كحلم مسترجع من ركام الوعي ، وقاعدتها في هذا المسلك ، ان معلومية الحقيقة قيد لمجهولية القواعد التي تسيرها) . هنا نتلمس وقوع محمد خضير في التباس برهاني ، إذ لا تشفع له الأقنعة دائما حيث يسمي هذه المحاضرات خلاصات لا كشوفات، وهو الذي ينتمي الى البراهين في فن البساطة ( القصة القصيرة) ، تلك البساطة التي توسع في شرحها واستنباط براهينها وقوانينها عبر ( بساطة الواحد الرياضية) ، غير ما قدمه في محاضرات ( القصاص المجهول، ومجرات التأثير وغيرها . حيث ان جهده النظري على طول الكتاب قد ارتبط بالمقولات العلمية الرياضية والفيزيائية من جهة والحقل الفلسفي والمنطق من الجهة الأخرى مستفيدا حتى من التجارب الحروفية العربية لجعل كل هذا ظهيرا ومراجع لصيرورة رؤيته العامة للنص الأدبي . ولان كتاب محمد خضير كتابا نقديا كما نرى ، رغم امتعاضه الشخصي -بعد صدور الكتاب- شفاهيا ليّ، إلا ان امتعاض الكاتب هو قناع آخر يرتديه في حقل النقد لمرور سيرة نصوصه ، وكتابته عنها ربما بسلام -وقت إصدارها لظروف خاصة معروفة في العراق-. لكن الباحث يرى ان محمد خضير يقدم أدلة ناصعة على المسار الفكري لعمله الإبداعي والتنظيري ، يقول( صممت بدقة لكل عمل مسوغاته وبراهينه الخاصة لكي لا يختلطا ، لقد وصلت وبمعونة نظريات القصة الى مشروع الكتاب الموحد للأصول ، او مجموعة القصص المتضامنة في استخراج البراهين ،… وانك لتعثر في نصوصي الأخيرة هذه التدبيرات النظرية التي تمنح الكتاب او مجموعة القصص أهمية استثنائية خاصة تقترن بأهمية الاكتشاف الفلسفي او الاختراع الجديد) . ان الكاتب هنا يكشف عن فطنة عالية لسير اشتغاله الإبداعي المتضمن أقصى استفادة من المنجز المعرفي . فلماذا يصر على ان هذه خلاصات لا كشوفات ؟ ان الجواب هنا يحتمل اكثر من استفهام! إما ان الكاتب قد اقتنع في نهاية رحلته للوصول الى الرؤية التامة ، بان ما قدمه نظريا لم يكن إلا تكرار وصدى للآخرين او تواضعا ، وهذا ما لا يتفق مع جهده المتميز في حقلي الإبداع والتنظير له. وإما ان محمد خضير الذي يرى ان( ادغار آلن بو : أضاف جو الغرابة ، وكررناه في قصصنا على انه تقنية جديدة تمنح أعمالنا بعدا( واقعيا ) أوسع ) ،كان خائفا من فشل نموذجه لإضافة نوعية في المسار الجمعي للإبداع . وهذا الاستفهام لا أرجحه .لان معاينة المنجز الإبداعي الكلي للكاتب وما أثاره من لغط مزدوج ، أعقبه نشوء كتاب قصص مريدين لطريقته ، واخرين حاسدين ، إما الذين افترقوا عنه في البداية والنهاية فلقد رفعوا قبعاتهم لمنجزه . إذن ما هو الجواب ؟. اعتقد ان محمد خضير وفي تقديري الخاص يعاني من تناقض واضح بين ما ُينظر له ، وما يكتبه. في التنظير يضع في حساباته النظرة الشمولية ، لاكتشاف البراهين والقوانين ، لاثبات المطلوب إثباته وفقا لنظرته الشخصية . فنراه يدخل الى حقل التنظير محملا بروح شعرية وخيال خصب ، ومعقد معا . يطرح مجساته الجمالية ويبحث في المعارف الأخرى سبيلا الى صحتها ، وعندما يكتشف وفقا لقانون السببية او المصادفة- لا فرق عنده كما رأينا _ بان استشعراه الجمالي مطابق لها ، يضع منها قانونا يعممه على فن القصة القصيرة ، التي لم تعد تحتمل تقسيماته الخماسية أصلا.والتناقض يحتدم ليس عنده ،فهو لا يعاني مثل هذا الانفصال بين تنظيره وكتابته القصصية ، لانه مبدع منسجم مع نفسه الى درجة التطابق ، من هذا نستلخص بان محمد خضير منظر خطير لإبداعه . والفوضى ستعم إذا ما حاول ان ينقل قوانينه الخاصة الى حقل الأدب القصصي عامة ، لانه سيفشل مرتين ، مرة حين يُنشيء جيوشا من المريدين الذين يذهبون الى المخطوطة بمجانية ، وأخرى حين يغادر هو، هذه القناعات – بسبب القلق الإبداعي الكبير الذي يلازم تجربته – بوصفه محققا ، لا مجربا . صيرورة الرؤى يضع محمد خضير للرؤى بداية ونهاية ويقرنها بالواقع والوعي به. وهذا برأيي مصادرة لابسط حقوق الرؤيا ، في أنها لا تتحقق في كليهما بأدوار استحالة ، تبدأ من الواقع وتنتهي بالوعي فيه. وحين يهرب بالرؤيا الى ( طريق المخطوطة – اليوتوبيا ) باستخدام وسائل وبراهين القصص الفلسفية القديمة ، فإنه يضع خانقا بين الرؤيا وشروط تحققها ، وبما ان الرؤيا هي تحول لا مرئي من قبل التأثيرات المتسلطة ، ونتاجها لا يحمل أدوار استحالتها . فالرؤى تكتمل بمعزل –وليست بعزلة عن شروط بقاء الكم والنوع - .ومحمد خضير الذي أشار سابقا الى ( أني أشير بصورة خاصة هنا الى التناقض الصعب الاجتياز ، أمام قصاص مخير بين اتباع وسائل إقناع تمنحها له سابقا الحقيقة التسجيلية العيانية دون تحوير او تمثيل ، واحتمالات العبور الرؤيوي لاشارات مفاجئة يلّح في الحضور من دون قناع ، لذا تبقى مشكلة قصاص الرؤيا معلقة بالاجتياز القادم كلما تسلم إشارات رؤية قادمة ). وبهذا فقد ابتعد محمد خضير بنفسه عن ان يكون صانعا او قابضا على ( رؤية كلية- شخصانية-) ، ويمضي بالقول( وليقتنع من يبحث عن دليل للاقتناع بان هدف قصاص الرؤيا ليس توفير أدلة بحدوث وقائع ،وسرد حياة وأشخاص ، وانما هو إثبات تشكل صورة لا مرئية بمنظورات البصر الطبيعي ، الانعكاس ، والتميز ، والمقارنة واعادة تمثيل الأدوار ) . فهل تصمد الاعترافات الأخيرة للكاتب في ليلة تمام الرؤى ، مع ما كان يدعيه في محاضراته السابقة من رؤية شمولية لقانون النوع القصصي البسيط والعميق والرؤيوي؟ أرى ان محمد خضير في ليلة القبض على الرؤيا كان ( خان) للرؤى ، ولقد اظهر دهاءا ثقيلا بإخفاء بورخس – النزيل – الحاضر ، المُغيب-، إذ يبدو محمد مالكا لهذا الخان ، الذي تمثّل أجواءه ، وخبر أسرار زائريه –حضورا وغيابا- ، لذا يقترح محمد خضير بعد إن امسك بالسر والصولجان بمملكة قصصية دون علّة او معلول ( لعلنا سنكف يوما عن طلب علّة او مصدر يكفل لنا معلول قصصنا ، فهي ستكون العلة والمعلول معا ، ولعلنا سننتظر ، برهان ، لعلنا نعثر على القصة التي لا تأويل لها ، لأنها رؤية كاملة لا ينقصا التأويل) . ان علامات الاستفهام التي وضعناها على أسئلة محمد خضير في ليلة تمام الرؤى قد أينعت بعد ان اعترف الكاتب بحلمه للوصول الى القصة –العلة والمعلول- ، ان السديم والعماء الاول الذي مارسه محمد خضير في محاضرته الست ، كان جزءا من الصيرورة الكلية لخلق العالم سرديا. فلابصرياثا ولا اليوتوبيات ، ولا اليوتوبيات المضادة، ولا الحلم ، ولا المخطوطة ، ولا الكاتب الأصلي الغائب لها، ولا المُهمشين عليها، ولا غيرهم بقادرين على كتابة رؤيا متكاملة – هي العلة والمعلول- غير المبدع ، كذات يتماهى مع الله المبدع الكبير ، لانتاج مسلاته ورؤاه ، دون هذه الأقنعة التنكرية التي تفوح منها رائحة الخيانة للجنس الأدبي ، و نظرية القراءة والتلقي.وتاريخ الميثولوجيا القصي الذي يعجّ بالتناصات الرؤيوية. أين محمد خضير من هذه الأقنعة التي تورط في نزعها او إخفاءها ؟ وماذا عن حماسته لحلمه الأثير ؟ ما ذا عن القصة القصيرة ، وارثة الرؤيا ، وهي تتطوح بين برهان المخطوطة ، وحظها العاثر بين الحلم والكمال ؟ ان محمد خضير قد وصل – من حيث يدري او لا يدري- الى ما توصل إليه –بورخس – بان القصة هي حلم ، او رؤيا ، وما القصاص إلا ذلك الحالم الذي(يرى في حلمه ، في لمحة واحدة ، كما يرى الله في أزليته الشاسعة ، الصيرورة الإنسانية كلها) . فهل يحتاج – الحالم السارد - ، او الله ، الى رؤيا تتورط في طلب البراءة من باب العلة والمعلول ؟ من قبض أخيرا على الرؤيا الكاملة؟؟ ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، هامش لقد اعتمدنا على مصادر متنوعة في هذه الرحلة ، ما ظهر منها او ما لمحنا عنه هنا او هناك ، لكن غايتنا الأساسية تمثلت في مقاربة بين عقلين مبدعين – محمد خضير وبورخس – لذا اعتمدنا على كتابيهما اللذين يحملان تاريخ صدور مختلف ، يتقدم زمان طباعة واحد منهما – محمد خضير- ، على بورخس لنضمن الأنصاف للرؤيا ، دون الانزلاق وراء فرضيات السبق ، في مفهوم النشر بلغة لا يجيدها أحدهم ، مفترضين ان موت بورخس الجسدي هو علامة فارقة في الطريق الى الرؤى: 1- الحكاية الجديدة ، محمد خضير ، منشورات مؤسسة عبد الحميد شومان ، عمان 1993 . 2- سبع ليال ، بورخس ، ترجمة د. عابد إسماعيل ، منشورات دار الينابيع ، دمشق 1999.
#وديع_شامخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوجود في ظلمة النفق
-
أيام على اسفلت البلاد
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|