محمد أمين
الحوار المتمدن-العدد: 1865 - 2007 / 3 / 25 - 11:52
المحور:
ملف / الكتاب الشهري - في الذكرى الرابعة للغزو/ الاحتلال الأمريكي للعراق وانهيار النظام البعثي الدكتاتوري , العراق إلى أين؟
أذكر حين أقتحمت دبابات "المحررين" شارعنا في بغداد و الناس تخرج و تهلهل لهم و امرأة طاعنة في السن تحاول ايصال زهرة الى أحد الجنود المتكْىء على احدى الهمرات و رياح التغيير و الديمقراطية تهب بنسيمها العطري الجديد
أول من ذاق طعم الحرية هي مؤسسات الدولة التي رحبت بالجماهير الغفيرة صغارا و كبارا و كاميرات الاعلام العالمي تصور عمليات السلب و النهب أمام انظار "المحررين" الذين اصيبوا بالعمى الوقتي و لم يحركوا ساكنا, و لم تكتف الجماهير "المُحررَه" بتفريغ أبنية الدولة , لا بل تعدى الاحتفال الى أشعال النيران فيها ثم أضحت سكنا "للعوائل" الفقيرة التي جاءت من العدم لا تملك صاعا من القمح سوى عدة سيارات و صحن ساتيلات و بعض الاف من الدولارات التي وجدت في البنوك العراقية المفتوحة للناس البسطاء المصابين حديثا بحمى الديمقراطية
توقفت الدراسة في الجامعات العراقية لمدة ليست بالقصيرة و دعت سلطة الائتلاف المؤقته المولودة حديثا (المحتلة للعراق حسب قرار مجلس الامن) طلبة و اساتذة الجامعات للعودة و ممارسة الفعاليات العلمية و الدراسية , مع انقطاع التيار الكهربائي و انعدام الامن في الشوارع التي تجوبها العصابات الصغيرة آنذاك, اذ لم يكن القتل الطائفي مخترعا في ذلك الوقت
في الشهر الاول بعد "التحرير" تغيرت هيكلية الكليات و المعاهد العالية تماما , فقد تبخرت بعض الكوادر البعثية , و استقال البعض الاخر (من البعثيين و غير البعثيين) , و القسم الاخر تخبط متحيرا لا يعلم هل يستمر أم لا في خضم هذه الاجواء المبهمة, و البعض الاخر كان متعطشا لاستغلال هذا الفراغ التأريخي لتطوير التعليم العالي في العراق
أولى العثرات كانت بالانهيار التام للدولة العراقية التي تحولت خلال أيام قلائل بعد التحرير من دولة ذات حضارة عظيمة بدأت من سلالات وادي الرافدين الى خريطة مجردة مفتوحة الحدود , محروقة الوزارات , معدومة الكهرباء , خالية الخدمات , لا جيش فيها و لا قوات أمن , و بناية وزارة التعليم العالي و البحث العلمي السابقة المحترقة المهدمة المهجورة , التي تعتبر من أجمل أبنية مدينة بغداد ,شاهدة الى الان بعد 4 سنوات من التحرير على دم قراطية الامريكان! تم تعيين مستشارين أمريكيين ,اذ لا يوجد وزراء عراقيون في حكومة التحرير آنذاك بقيادة سلطة الائتلاف المؤقتة لادارة الوزارات العراقية ومنها وزارة التعليم العالي و البحث العلمي , مع
مساعدين أمريكيين و عراقيين. إجتمع هذا المستشار الامريكي بالاكاديميين العراقيين في مختلف الاختصاصات لبحث الوضع الحالي و كيفية التخلص من إرث النظام السابق و تطوير المؤسسات التعليمية العراقية و الارتقاء بها الى مصاف الدول المتقدمة. لم يتمخض عن هذه اللقاءات الروتينية شيء يذكر , فقد حاولت الاحزاب العراقية (المنفية سابقا) اختيار أشخاص ذو ولاءات و انتماءات معينة و زجهم في هذا المجال في مناورة للسيطرة الحزبية و الطائفية و العرقية وسط هذا الفراغ الرهيب
العثرة الثانية كانت الصدام بين " أهل البلد " و بين الذين جاءوا بعد "التحرير" من خارج العراق (مع جنسياتهم الجديدة) و الذين يطلق عليهم لقب المنفيين أو المغتربين. عاد عدد غير قليل من هؤلاء المغتربين لأسباب عديدة , كالحنين الى الوطن أو الاجتماع بالاحبة أو تنفيذا لأوامر حزبية (أو استخباراتية من دول معينة) أو كموظفين في سلطة الائتلاف المؤقتة أو متبرعين لمساعدة العراق. أيا كان سبب العودة, فالحق يقال, أن جمهرة منهم تعتبر من العقول والطاقات العراقية العظيمة التي أستفاد منها الاخرين لسنوات عديدة, و الذين لو أعطيوا الفرصه بعيدا عن المحاصصات الطائفية و العرقية و الاثنية و الحزبية لعمروا البلد و أصلحوا الخراب و أخذوا بيده الى الامام , و لكن كان المخطط مدروسا بدقة رهيبة! لقد أعتبر "أهل البلد" انهم الاحق بالوضائف و التعيينات الحساسة لما عانوه من ظلم و كبت في زمن النظام السابق , في المقابل يرى بعض الساسة (و منهم الامريكيون) أن المغتربين هم "الافضل" لإدارة هذه المرحلة الحساسة في أعادة البناء لتماسهم المباشر بالتطور الحاصل و المستمر و السريع في الدول الغربية
العثرة الثالثة هو أحد الاختراعات الرهيبة "للتحرير" المسمى المحاصصة الطائفية , فقد كانت وزارة التعليم العالي و البحث العلمي من نصيب "العرب السنة" و أضحت احدى الوزارات السنية! و لكن رؤساء الجامعات هم من الشيعة , و أن عمداء الكليات و المعاهد العالية يتم اختيارهم حسب معايير و مقاييس طائفية و حزبية مقيته و ضيقة جدا دون الالتفات للتأريخ العلمي أو حتى الجانب العمري للشخص المكلف
ألعثره الرابعة هي تسييس الجامعات , اذ من المعروف عالميا أن الجامعات و مؤسسات التعليم العالي يجب ان تكون بمنأى عن التوجهات السياسية و المغامرات الحزبية و الانقسامات الطائفية, و لكن أثبت "التحرير" أنه الراعي الاول للتفرقة و عراب الفتن , و ما حصل لطلبة احدى الجامعات في جنوب العراق عام 2005 من "ضرب و إهانة و حتى قتل" للمشاركين في سفرة جامعية بحجة مخالفة الشرع الاسلامي خير دليل! و ما نحن ببعيدين من أغتيال أحد اساتذة الكليات في العاصمة حين ذكر هذا المغدور أسم أحد الاحزاب بسوء في احدى قاعات الدراسة! و ما نحن ببعيدين من التجمعات الطلابية الطائفية في أحدى الكليات في العاصمة أيضا حين أجبروا الطلبة على الاحتفال بفوز أحدى القوائم الطائفية المترشحة لانتخابات ديسمبر 2005 و انتهى الامر بشجار كبير! و ما نحن ببعيدين من ممارسة الشعائر الدينية و رفع اللافتات الطائفية و صور بعض الاشخاص في الحرم الجامعي رغم أنف الآخرين , و كأنك حين تدخل هناك يخيل اليك أنك في وسط مكان عبادة لأحد الطوائف! و كل هذا و "التحرير" هو المغذي الاول بلا منازع لهذه الفتن التي ما عرفها المجتمع العراقي على مدى 3000 سنة من الحضارات المتعاقبة
ألعثرة الخامسة هي تصفية الكوادر العلمية و لكافة الاختصاصات و الفروع العلمية و الانسانية و بصورة منتظمة و دقيقة تكاد تكون يوميه , إذ حين تقرأ نبأ مصرع أحد العلماء أو اساتذة الجامعات العراقية تلمح أن الجميع مستهدفون , بدون الالتفات للجانب العلمي أو الطائفي أو العرقي, فالهدف واحد و هو نخر العراق و تصفيته من عقوله العظيمة , اليك التالي كنموذج صغير
الاستاذ الدكتور محمد الراوي:عضو كلية الاطباء الملكية البريطانية, استاذ الامراض الصدرية و عميد كلية طب بغداد و رئيس جامعة بغداد السابق. عربي سني, عضو مرموق في حزب البعث, اغتيل في عيادته في بغداد بعد أيام قلائل من "التحرير". الاستاذ الدكتور عماد سرسم: زميل كلية الجراحين البريطانية, استاذ امراض العظام و الكسور في كلية طب بغداد. مسيحي مستقل, أغتيل بعد أيام قلائل من "التحرير". كانت هذه العمليتان هي "كاسرة الحياء " لعملية الاغتيالات المنظمة. الاستاذ المساعد حسن الربيعي: أستاذ الفسلجة و معاون عميد كلية طب بغداد. شيعي مستقل. أغتيل مع زوجته في سيارتهما. الاستاذ الدكتور خالد ابراهيم موسى: أستاذ الامراض العصبية و معاون عميد كلية طب بغداد. شيعي كردي مستقل. أغتيل عندما كان في سيارته متوجها لعيادته الخاصة
و القائمة طويلة جدا...علما أن العديد قد تم اغتياله أو خطفه داخل الحرم الجامعي أو من مرآب السيارات التابعة لها و لا من مجيب
اما بالنسبه للذين هجروا العاصمة لتهديدات شخصية أو بعد اطلاق سراحهم من اختطاف أو لتردي الوضع الامني , فقائمتهم أطول بكثير و تحتوي على سنة و شيعة و عرب و اكراد و مسيحيين ...الخ
العثرة السادسة هي استهداف الجامعات و مؤسسات التعليم العالي بما يصطلح عليه "العمليات الارهابية", و ما نحن ببعيدين من الذي فجر نفسه عند مدخل كلية الادارة و الاقتصاد في الطالبية , و ما نحن ببعيدين من الانفجارات المتوالية على الجامعة المستنصرية, التي فقدت المئات من فلذات الاكباد و سقط المئات من الطلبة الابرياء الذين لا ذنب لهم سوى ارتياد العلم و تحصيل الشهادات
لا أدري كيف يدرس الطالب العراقي, من الاستيقاض صباحا و الاستعداد للذهاب للجامعة بدون نور أو كوي الملابس لانقطاع التيار الكهربائي, و بدون الفطور لعدم وجود الغاز السائل للطبخ, الى ازدحام الشوارع و التعرض في اي لحظة لعبوة ناسفة أو سيارة مفخخة, الى السيطرات الوهمية السائلة هل أنت سني او شيعي؟ , الى مجتمع الكلية الحزبي الطائفي الاستخباراتي , الى العودة للبيت (ان كان حيا) للاغتسال ان توفر ماء, الى للدراسة تحت ضوء الفانوس و دفىء "الصوبه" ان توفر النفظ اللازم ...الى...الى ...الى...أين!؟و الله انكم لابطال يا طلبة العراق
بعد 4 سنوات من "التحرير"...االتعليم الجامعي في العراق الى أين؟ العراق الى أين؟
عاشت أمريكا و بريطانيا و بوش و بلير و خليل زاده و نكروبونتي و رايس
عاش الشهيد صدام حسين و حزب البعث و الجيش العراقي السابق
عاشت إيران و سوريا و تركيا و مصر و دول الخليج
عاشت الاحزاب العراقية , القديمة و الجديدة , الكبيرة و الصغيرة , التي ناضلت و التي لم تناضل , في الداخل و الخارج
عاشت المقاومة العراقية و والميليشيات الطائفية
عاش العرب و الكرد و السنة و الشيعة و المسيحيين و الصابئيين و الايزيدين و الشبك و كل العالم
الموت ثم الموت ثم الموت للمواطن العراقي البسيط
الموت ثم الموت ثم الموت للموظف العراقي البسيط
الموت ثم الموت ثم الموت للمتقاعد العراقي البسيط
الموت ثم الموت ثم الموت للاب العراقي و الابن العراقي و الام العراقية و المرأة العراقية و الطفل العراقي و الجنين العراقي و العقل العراقي و الحلم العراقي و الطالب العراقي و الاستاذ العراقي
اللهم أحفظ اساتذتنا و فلذات اكبادنا الطلبة
اللهم احفظ العراق و اهد القلوب
#محمد_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟