|
الإعلام العربي: سلطة الإيديولوجيا ومقتضيات العصر
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1857 - 2007 / 3 / 17 - 13:08
المحور:
الصحافة والاعلام
لا يمكن تصور وجود سلطة من غير سند إيديولوجي/ معرفي تقوم عليه، أو تشرف على إنشائه وإعادة إنتاجه. فالإيديولوجيا ذاتها تكون بلا معنى، أو فاعلية خارج إطار ممارسات السلطة. وكلما كانت السلطة فاقدة للشرعية، أو كانت شرعيتها موضع شك أباحت استخدام آليات لنشر وإشاعة إيديولوجيا هي، بطريقة ما، عملية لتكريس أوهام، أو فتك بالحقائق، وهذا يقع في ضمن دائرة لعبة السلطة وممارساتها ـ أقصد السلطة بأنواعها؛ دينية، سياسية، اجتماعية، الخ.. وفي عالمنا المعاصر تكون الأداة الرئيسة، في ذلك، هي الإعلام، بتقنياته الحديثة ووسائله الفعالة وبلاغته المؤثرة، ليساهم في تشكيل وعي الملايين من البشر، أو بعبارة أدق في صناعة الرأي العام على نطاق واسع، مؤثراً في نظم القيم، واتجاهات السلوك والمواقف. فالإعلام اليوم هو اللاعب الأكبر في الساحة، يصنع الشخصيات وأدوارهم، يختار اللعبة وقوانينها، متحكماً، في الغالب، بنتائجها. فالإعلام ما عاد يقتصر على ملاحقة الحدث ونقله، بل هو يتدخل، أحياناً، وإلى حد ما، في صنعه أيضاً، فالإعلام ليس عنصراً حيادياً موضوعياً في نسيج العالم الحديث وثقافته، وإنما هو عنصر فعال لا ينقل صورة العالم فحسب، بل يعيد صياغة تلك الصورة، مغيراً بهذه الدرجة أو تلك وبحسابات محددة، وبما ينسجم وموجهاته الإيديولوجية من شكلها ومحتواها. وعموماً، لا أحد بإمكانه الخروج على قواعد اللعبة.. قد يحدث تحايل أو التفاف، أو استغلال ثغرات، لكن الأمر، في نهاية المطاف، هو أن ما تسمى بحرية الإعلام، وحتى في العالم الرأسمالي على وفق تصور تشومسكي، متوفرة، وهذا صحيح (فقط ) بالنسبة لأولئك الذين تمثلوا أو استبطنوا القيم والمعايير المطلوبة. أو بمعنى آخر أن الموجِّه الإيديولوجي؛ قيماً ومعايير، يلعب دور الضابط السري في صياغة المعلومات وتسويقها ( لغةً وأسلوباً وتوقيتاً ) أي أن إنشاء الخطاب الإعلامي هو فعل سلطة ما، وحضورها عبر إيديولوجيتها وقوة نفوذها. إن أي مجتمع، في الوضع الراهن، وبدرجات متفاوتة، بين مجتمع وآخر، يخضع لميكانزمات ظاهرة وخفية تيسر عملية التحكم به، وجعله تحت السيطرة، سواء وعى ذلك أو لا، ولا يستثنى المشتغلون في قطاع الإعلام من هذا الأمر فهم إلى جانب استبطانهم لقواعد إنشاء الخطاب الإعلامي التي لا تخرج عن محددات مصالح سلطة المؤسسة المعنية التي يعملون في ظلها ورؤاها يكونون مرتهنين بأهدافها كذلك. يقول تشومسكي " إن وسائل الإعلام داعمة لمصالح السلطة، فهي تشوه وتكذب في الغالب من أجل الحفاظ على تلك المصالح، لكن ذلك الموقف ليس بالإستطاعة تفسيره" وتشومسكي، هنا، يتحدث عن الإعلام في أميركا والعالم الغربي، حيث تبدو مساحة حرية الرأي والتعبير وتهريب المعلومات كبيرة. لكن المسألة بنظره أعقد من هذا، وأن تحت الواقع الظاهر شيء آخر. وقبل عقود أشار هربرت ماركيوز في كتابه ذائع الصيت ( الإنسان ذو البعد الواحد ) إلى مجتمع التحكم ودور الإعلان والإعلام في ذلك. وإنْ كان ماركيوز قد نشر كتابه في وقت لم تكن فيه للإعلام مثل هذه السطوة فإن تشومسكي يتكلم عن حقبة مغايرة، ويكشف عن منطق آخر، فالكيفية التي يقدّم بها الإعلام نفسه شيء والحقيقة شيء مختلف. فهناك قدر كبير من التمويه لا يمكن تلمسه بسهولة، فوسائل الإعلام التي تقدم نفسها "على أنها عرضة للانتقاد، وخصم للسلطة، وربما أنها مخربة، فإن ذلك يشكل إسهاماً ضخماً للوظيفة الدعائية، وعند ذاك يقولون؛ انظروا كم نحن منتقدين للسلطة. كيف يستطيع أي شخص أن يذهب إلى أبعد مما ذهبنا إليه" على حد تعبير تشومسكي. ولا يقتصر الأمر على الفاعلين الإعلاميين، وإنما يطول المتلقين ( الجمهور ) أيضاً، وطبقاً لتشومسكي مرة أخرى فإن إدارة أية إذاعة على سبيل المثال، على الصعيد التجاري لها أهدافها وهي؛ "أن يكون لديها جمهور مطيع غير فعال من المتفرجين. في الميدان السياسي غير مشاركين. مستهلكون في الميدان التجاري، وبالتأكيد ليسوا صنّاع قرار، ومشاركين. مجتمع من الناس الذين هم مقسمون إلى ذرات ومعزولون، وبالتالي لا يستطيعون أن ينتظموا لوضع مواردهم المحدودة مع بعضها بحيث يصبحوا قوة مركّزة". إذن، الإيديولوجيا عنصر من عناصر تكوين أية سلطة، ولا تقوم قائمة للسلطة ما لم تكن مدعمة بإيديولوجيا تستخدمها وسيلةً للاستحواذ والسيطرة. والإعلام هو واحد من أهم أدواتها في ذلك. إن الإعلام المعاصر، مهما تبجح بالموضوعية والحياد فهو، في الأغلب الأعم، بتأثير الموجِّه الإيديولوجي يقع تحت طائلة الانحياز، سواء من خلال اختيار معلومات بعينها وحجب أخرى، أو التركيز على بعضها وتهميش أخرى، أو في طريقة بث وتقديم المعلومة، والتفسيرات المصاحبة لها، مع الإشارة إلى معلومات سابقة تعزز وجهة نظر القناة الإعلامية. وينطبق القول نفسه على عرض الصور، والتعليق عليها. ليحصل ما يشبه عملية غسيل المخ، أو تخدير الوعي إذ يؤول الأمر إلى اقتناع المتلقي بما يقرأ ويسمع ويرى، والتوهم بأن ما صار يعتقده هو فحوى قناعته الذاتية منذ البدء.. تستبدل الحقيقة بمنتجات الخيال، ليست الإبداعية الخلاقة ولكن تلك التي تحجب الرؤية، أو تمنح أملاً كاذباً، وهنا كما يقول إدواردو غاليانو "على الأغلبية أن تتعود على استهلاك الخيال، فأوهام الثروة تباع للفقراء، وأوهام الحرية للمضطهدين، وأحلام النصر للمهزومين، وأحلام القوة للضعفاء". مع فوكو نعرف أن "السلطة والمعرفة تستلزمان بعضهما بعضاً، وانه لا توجد علاقة سلطوية دون تكوين متلازم لحقل معرفي، ولا توجد معرفة لا تستلزم ولا تكوّن في الوقت نفسه علاقات سلطوية". من هنا، ومع فوكو أيضاً نصل إلى فكرة أن "الحقيقة ليست خارج السلطة، ولا بدون سلطة... الحقيقة هي من هذا العالم، وهي منتجة فيه بفضل متطلبات عدة".. وليس المقصود بالحقيقة عند فوكو "مجموع الأشياء الصحيحة التي ينبغي اكتشافها أو الاقتناع بها، بل مجموع القواعد التي بمقتضاها نميز الصحيح من الخطأ، ونلصق بالصحيح مفاعيل خاصة بالسلطة". لا توجد الإيديولوجيا في فراغ.. إنها متلبسة مع توجهات وميول ومصالح قوى وفئات معينة، أي أنها منشبكة في علاقات سلطة، وهي لهذا تنبث في نسيج ومفاصل البنى الاجتماعية، وتحدد، إلى حد بعيد، السلوك السياسي، وتؤطر المجال المعرفي، أو ما يمكن أن نسميه مجال صياغة الحقائق، أو ما يُتوهم بأنها حقائق. * * * يفضي التدفق المفرط للمعلومات، والتي هي مزيج من الحقائق وأنصاف الحقائق والأكاذيب إلى تشويش الصورة عند الملايين من المتلقين. وفي الغالب يقوم كل شخص بانتقاء المعلومات المرغوبة له، والمنسجمة مع توجهاته وقناعاته المسبقة، واستبعاد تلك التي تناقضها وتنسفها، مع غياب القدرة، في الغالب أيضاً، على القراءة والتمحيص والنقد. وهنا تُدعم الأفكار الوثوقية ( الإيديولوجيات الدوغمائية ). أي أن افتقار كثر من وسائل الإعلام إلى أطر منهجية لمعالجة المعلومات وفرزها وتصنيفها وربطها بموضوعية مع المعلومات الأخرى ذات العلاقة وتحليلها وتقويمها يخلق العماء بدل شحذ الرؤية، كما يذهب إلى ذلك ريجيس دوبريه. يناقش كريسوفر نوريس في كتابه ( نظرية لا نقدية؛ ما بعد الحداثة، المثقفون، وحرب الخليج ) ادعاءات بودريار المرتكز على تخريجات ما بعد الحداثة، من أن حرب الخليج الثانية ( 1991 ) لم تقع بعدما قال قبل وقوعها بأنها لن تقع، في ضوء أن "هذا السيل القاسي من التغطية الإعلامية قد أعد لإتخام ملكاتنا المعرفية واستجاباتنا على نقطة يصبح من المستحيل معها رسم الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال". وعلى الرغم من أن نوريس يرى في استنتاج بودريار عبثاً، ذلك الاستنتاج القائل بأننا ببساطة لا نملك أن نعرف فيما إذا كانت الحرب في الواقع قد نشبت مقارنة بالصور المتخيلة عن الحرب التي سبقت الحدث واستمرت بعده كمصدر وحيد للأخبار والمعلومات، إلا أنه يوافقه في مقدمته التي ينطلق منها وهي أنه "يصبح من الصعب الهروب من استنتاجه ( بودريار ) الساخر من أن ما من أحد يمكن أن يدّعي المعرفة خارج إطار ما يقدّم عبر الآلة الرسمية للرقابة والتضليل الإعلامي المنسق حكومياً". وإذا كان نوريس وبودريار مشغولين بنطاق التغطية الإعلامية وتلقيها في الغرب حيث تقاليد الصحافة والإعلام عموماً أكثر رسوخاً، مع انسيابية لا تنكر في نقل المعلومات والتعبير عن الرأي فإننا عربياً نواجه مشاكل أكثر تعقيداً، يقف على رأسها قضية حجب المعلومة، إلى جانب تحريفها، وبهذا تمنع عن المواطن العربي فرصة الرؤية الواضحة، وإصدار أحكام صائبة بشأنها، فيضطر أحياناً إلى الاعتماد على الشائعة أو الحدس، أو التقاط ما تجود به الإعلام الخارجي من معلومات تتعلق بوضع بلاده وسياسة حكومته. في مقابل عدم وجود تقاليد عمل وحرفية مبدعة في المجال الإعلامي العربي مما يعيق التواصل الإعلامي الحر والفاعل، ويجعله مشوشاً وشاحباً. إن مشكلة المتلقي العربي مع الإعلام تكمن في أنه يقع بين شكلين من التضليل يأتيان من مصدرين مختلفين على الأقل؛ الأول، ذو بعد إستراتيجي تمارسه قوى الرأسمالية المعولمة عبر الترويج لثقافتها التي تريدها كونية، وهذه القيم بحسب بيار بورديو هي "في حقيقة الأمر قيم خاصة تم إضفاء الكونية عليها ( الثقافة الكونية هي ثقافة المسيطرين )". والحقائق، ها هنا، يجري تشويهها أو تمويهها أو تزويرها، أو تجزئتها، أو تكييف صورتها إعلامياً بما ينسجم وغايات ورؤى المؤسسات المعنية. أما المصدر الثاني فذو بعد ديماغوجي تمارسه أجهزة الإعلام العربية الرسمية، حيث تهيمن مؤسسات الدولة عليها وتوجهها على وفق خطابها، أو غير الرسمية التي تكون في كثير من الأحيان تحت هيمنة تيارات واتجاهات محكومة بإيديولوجيات ومصالح محددة. لمدة طويلة بقي الإعلام العربي ـ ولا يزال جزء كبير منه ـ حكراً بيد الأنظمة الحاكمة، تروج من خلاله لإيديولوجياتها ورؤاها السياسية والاقتصادية، وتسوّغ ممارساتها، وبذا كانت المعلومات لا تصل إلى المتلقي العربي إلا مقولبة ومشذبة ومحدودة.. كانت الأنظمة تلك تحجب المعلومات التي تحس إزاءها بالانزعاج أو الخطر، ولا تتردد في بتر أو تزوير كثر من المعلومات الأُخر حيثما تطلبت مصالحها. وكان البث، عبر قنوات الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ذو اتجاه واحد، إذ على المتلقي تقبل ما يبث له والإيمان به بلا تمحيص أو نقد أو مساءلة. كان هذا الإعلام فاشياً في طبيعته وشكله وطروحاته، يستند إلى مبدأ تمثيل الدولة للمجتمع والفرد ـ من غير تفويض بطبيعة الحال ـ ذوبان الفرد في المجتمع وانقياد المجتمع لمنطق الدولة. وكانت الدولة مختزلة في قيادتها السياسية العليا، وهذه الأخيرة مختزلة في شخص الزعيم الأوحد مثلما يصفه جورج أورويل في روايتــــــــه ذائعــــة الصيت ( 1948 ) بأنه "صورة دائمة على الشاشة، وصوت دائم في المذياع". بين معلومات مقننة، محددة، مزوقة، مفبركة، لا تخلو من الكذب والزيف، وهي التي ظل إعلام الأنظمة الحاكمة الرسمي يضخها، بلا كلل، طوال عقود، وبين الانفتاح غير المسبوق إعلامياً، والذي تتيحه قنوات التلفاز الفضائية وشبكة الإنترنت العنكبوتية الآن، في هذه الفجوة يحس المواطن العربي بالصدمة والحيرة، وربما باللايقين أيضاً.. هل كان مخدوعاً طوال الوقت؟ ومن عليه أن يصدق، في الوقت الحاضر، ومن عليه أن يكذِّب؟. لا شك أن هذا المواطن لا يفتقر إلى الذكاء، وفي أحوال عديدة يستطيع بفطرته السليمة تمييز الحقائق من الأكاذيب. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فالمشكلة الإعلامية هي جزء من مشكلة أكبر، وأكثر تعقيداً.. قطعاً، يستطيع الإعلام نفسه إذا ما توفرت نوايا حسنة، وظروف مؤاتية أن يحل بعضاً من مشكلته، أن يكون أكثر دينامية، وموضوعية، وتأثيراً. غير أن العلّة هي في أنظمة الحكم، وفي السلطات التي تنافسها أيضاً، اجتماعية كانت أو دينية، والتي تعاني هي الأخرى، وربما بدرجة اكبر، من قصر النظر السياسي، والجمود العقائدي.، هذه السلطات التي باتت لها منابر وقنوات إعلامية فعالة، إنما تعاني من الأزمة ذاتها، وتمارس سياستها الإعلامية بالمنطق ذاته. أي أنها مازالت واقعة تحت سطوة الموجهات الإيديولوجية لتكوينها، والتي لا تختلف في بنيتها وآلياتها كثيراً عن إيديولوجيات الأنظمة الحاكمة نفسها. وأقصد بالإيديولوجيا، هنا، ما ذهب إليه محمد أركون بأنها "تلك الإرادة التعسفية لفئة ما، أو حتى لقائد ما في نشر معناه، أو ( قيمه ) لكي تشمل الجميع، أو تسيطر على الجميع". وبعبارة أخرى، إن خطاب الإعلام العربي الرسمي، وقطاع واسع من الإعلام العربي غير الرسمي يستبطن خطاب الأنظمة العربية والتيارات السياسية العربية التقليدية، حتى وإن ادعى غير ذلك. فما يزال قطاع واسع من الإعلام العربي واقعاً تحت هيمنة النسق الإيديولوجي المنتج في الفضاء الثقافي التقليدي الذي أسس بنى الأنظمة وغذى خطابها السياسي والإعلامي، ذلك الخطاب المستند إلى بلاغة ذات نبرة انفعالية تعبر عن الغضب العاجز واليائس، وترضي الغرور المقهور لأناس مهزومين في دواخلهم، وتنطلق من العواطف ( الحب والكره والخوف والحقد ) بأوجهها المتشنجة، من غير الاحتكام إلى العقل، ومن غير تمحيص موضوعي/ نقدي.. تخاطب الانفعالات السريعة التأجج، والسريعة الهمود. إن خطاب هذا القطاع من الإعلام العربي ينتج عن تفكير ذي بعد واحد، ويخلق، أو يسعى إلى خلق تفكير مماثل عند المتلقين. والسؤال هو؛ كيف أن خطاب هذا الإعلام ذو بعد واحد؟.. بدءاً نجد أن هذا الخطاب يتناول بعض جوانب الواقع، ويحاول إخفاء أو تهميش جوانب أخرى، فهو تجزيئي، وأحياناً متناقض.. إنه متحيز وانتقائي، تتحكم به الأمزجة والأهواء الذاتية فتفقد صفة الموضوعية، لا يستطيع التعامل مع اللحظة الآنية من دون التفكير بالبعد الإيديولوجي، وبالمقابل يفتقر للحس التاريخي.. خطاب إعلامي لا يتساءل بقدر ما يجزم، يشوش ولا يوضح، يسوّغ أو يشجب، لكنه لا ينتقد، وإن انتقد فنقده لا يطول الجذور والأسباب الخفية، ولا يحيط بالمعضلات في سياقها الموضوعي وخلفيتها.. إن خطاب الإعلام العربي، غالباً ما، لا يحظى بالثقة لأنه غير مقنع، وليس باستطاعته خلق رأي عام ضاغط حقيقي. فهو إعلام مؤدلج يركز على جزء من الحدث، أو الحقيقة، مسلطاً عليه ضوءاً ساطعاً، وهو ذلك الجزء الذي يدعم موجهات ذلك الإعلام لتبقى الأجزاء الأخرى في حالة من العتمة الشديدة، مما يجعل الصورة الكلية للحدث/ الحقيقة مشوشة، مضللة. يحصل هذا في التعامل مع القضايا الأساسية، أو الجوهرية المتعلقة بالأمة إذ يزاود بها ذلك الإعلام ويتبناها، على حساب جزئيات كثيرة تُهمل أو تشوه. فانتقاء جوانب من حقيقة حدث ما، أو تشويه صورته، أو نقل خبر بطريقة محرّفة، يجعلنا ليس إزاء مشكلة خطأ في نقل المعلومة، وإنما في مواجهة معضلة أخلاقية مؤلمة. فماذا نقول عن الإعلامي الذي يحرِّف الحدث، أو يقرأه قسراً بطريقة خاطئة لتتواءم قراءته مع موجهاته الإيديولوجية فيموّه عليه، كما جرى في الواقع، زماناً ومكاناً وتفاصيل، مسقطاً عليه فكرته هو، ورغبته هو، أو وهمه هو؟!.
إن تقسيم العالم إلى أبيض وأسود، خير وشر، حق وباطل، مع الإقرار المسبق بأن الأبيض والخير والحق سمات خانتنا نحن إطلاقاً، وإن الأسود والشر والباطل سمات خانة الآخر إطلاقاً، يضعنا دوماً في حالة من اعوجاج الرؤية، وخطأ التقدير، وخطل الأحكام. ولذا فنحن، في عصر المعلوماتية ووسائل الاتصال الحديثة والتعولم، بحاجة إلى إعلام مهني ممأسس على قواعد إستراتيجية، تسعى إلى الموضوعية والشمول والعمق والرؤية النقدية، وهذا مع عوامل أخرى كثيرة هو الذي سيمنحنا فرصة أن ننهض ثانية، وأن تكون لنا شراكة فعلية مع الآخرين في صنع عالم الغد. * * * المصادر (1) كريستوفر نوريس ( نظرية لا نقدية: ما بعد الحداثة، المثقفون، وحرب الخليج ) ترجمة: د. عابد إسماعيل.. دار الكنوز الأدبية/ بيروت.. ط1/ 1999 .. (2) نعوم تشومسكي (ضبط الرعاع: حوارات أجراها معه: ديفيد بارساميان ) ترجمة: هيثم علي حجازي.. الأهلية للنشر والتوزيع/ عمان ـ الأردن.. ط1/ 1997. (3) أوبير دريفوس، وبول رابينوف ( ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية ) ترجمة: جورج ابي صالح.. منشورات؛ مركز الإنماء القومي ـ بيروت.. الطبعة وسنة النشر لم تذكر. (4) محمد أركون ( الإسلام، أوروبا، الغرب/ رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ) ترجمة: هاشم صالح.. دار الساقي/ بيروت.. ط1/1995.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سنة موت ريكاردو ريس: المخيلة تنتهك التاريخ
-
السياسة والكذب
-
النخب العراقية ومعضلة تأصيل الهوية الوطنية
-
عن الربيع والموسيقى والقراءة
-
السياسة التي خربت نصف أعمارنا!!
-
( بورخس: مساء عادي في بوينس آيرس )
-
كوميديا عراقية سوداء
-
مغامرة الكتابة الروائية
-
الحلم العراقي
-
لماذا علينا نقد المثقف؟
-
تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة
-
المثقف بين الممنوع والممتنع
-
صنّاع السعادة.. صنّاع التعاسة
-
في بلاد حرة: نيبول ورواية ما بعد الكولونيالية
-
الجمال في حياتنا
-
لعنة حلقة الفقر
-
الرواية وعصر المعلوماتية
-
قصة قصيرة؛ أولاد المدينة
-
السياسة موضوعةً في الرواية
-
إنشاء المفاهيم
المزيد.....
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|