كاتب عربي يقيم في وارسو
بعد مقتل الجنود البريطانيين الستة في المجر الكبير زاد الضغط على حكومة بلير من أجل وضع استراتيجية للخروج من العراق. وقد كان ميجر رئيس الوزراء البريطاني السابق واضحا في مطلبه حينما أكد " أننا نحتاج لأن نتحدث عن استراتيجية خروج ( من العراق ) بحيث يرى أولئك الناس الذي ينشرون الدعاية بأننا سنبقى لمدة طويلة بأن حججهم مدحوضة بحقيقة أننا نتحدث علنا عن استراتيجية للمغادرة ". فلم يعد الضغط قاصرا على فئات من أقصى اليسار البريطاني، بل يتقاطع التعبير عن الرغبة في وضع خطة للخروج من المأزق العراقي بين الفئات السياسية البريطانية المتنوعة التوجهات.
لكن مقتل الجنود البريطانيين ليس السبب في هذه الدعوة، وإن كان المناسبة للجهر بها من أطراف مختلفة. وقد أثبت غزو العراق حتى الآن أنه كارثة سياسية وإعلامية للولايات المتحدة وبريطانيا، وهما يتخوفان أن يكون كارثة عسكرية واقتصادية. لقد بنى بوش وبلير، على ما يبدو، استراتيجيتهما على أن ممارسة الإفك السياسي في إعداد العالم لقبول حربهما ضد العراق سيذهب به إلى ديار النسيان قبول هادر من جماهير الناس في العراق بمن حرروهم من ظلم كبير كان واقعا بهم على امتداد عقود طويلة. وتظهر قناعة الأمريكان بحصول الترحيب العراقي بهم أنهم لم يخططوا لاحتمال وقوع البديل الأسوأ.
وحينما شرعت جماهير العراقيين المليونية تصرخ مطالبة بمغادرة قوات الاحتلال لبلادها أسقط في يد الأمريكان. وحينما بدأ العراقيون يرفضون التعيينات الأمريكية والبريطانية بمظاهرات الاحتجاج غالبا، وبالطلقات أحيانا زاد حنقهم. وبات العري الأمريكي البريطاني من رداء الترحيب الجماهيري كاشفا لكل العورات الأخرى. حينذاك أصبح البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق هواية مفتشي الأمم المتحدة، وملاحقة معارضي الحرب، بل واهتمام قسم متزايد من النخبة في كلا البلدين. وأصبحت القضية تهدد مستقبل بوش وبلير السياسي، بعد أن أطاحت بسمعة بلديهما على المستوى العالمي.
وقد امتزج التمرد والاحتجاج السلميين للعراقيين بتصاعد المقاومة المسلحة، حتى بات يتعرض الأمريكان في مواقعهم ودورياتهم إلى هجمات مسلحة تعادل اثني عشر هجوما يوميا. وأراد الأمريكان أن يصرفوا الأنظار عنها بالزعم أن هذه الهجمات يقوم بها فلول النظام السابق.
ولكن هذه الدعاوى لم تعد تقنع أحدا، لأن مظاهر الاحتجاج العام على الاحتلال ممارسة يومية وشاملة لكل العراقيين. كما أن ممارسات وتصرفات قوات الاحتلال الأمريكية أصبحت روايات الصحف حتى الأمريكية. ثم إن فلول النظام التي تخلت عنه في معركة بغداد حينما كانت خيوطها بين أصابعه، ليس من المعقول أن تبادر إلى رفع رايته بعد أن أصبح مطاردا يلتقط أفراده البارزين بين ساعة وأخرى.
وقد حاول الإعلام الغربي تسليط الأنظار على الأحداث في مناطق السنة لإثبات مقولته. وجاءت حادثة المجر الكبير بحكم حجمها لتكشف عن أن المقاومة شأن عراقي شعبي، وليست شأنا مذهبيا. بل ربما معارضة الشيعة أكثر فعالية وتأثيرا في الرأي العام في هذين البلدين. فقد كانت محل ظلم النظام وملاحقة زبانيته. وحينما يطلق آية الله السيستاني فتواه بعدم التعاون مع قوات الاحتلال فليس محل ظن أنه من فلول النظام، تماما حينما تقتل عشائر الجنوب المتعاونين أو الجنود البريطانيين فلن يصدق أحد مقولة فلول النظام. هذه هي أهمية الأحداث في البصرة والناصرية والعمارة والمجر الكبير والكوت والحلة.
لقد بدت الحرب على العراق قبيل وقوعها استثمارا استراتيجيا مجديا، السيطرة على النفط التي ترسخ الحملة الأمريكية للهيمنة الكاملة على العالم، وتساقط كل المعارضة للحل الإسرائيلي. فإذا بالأمريكان لا يستطيعون ضخ النفط من حقول العراق في الأنابيب القديمة ناهيك عن أن يضخوها في الأنابيب الجديدة. وإذا بأمريكا التي كانت تظن تساقط الورقة الفلسطينية تضغط على أوروبا كي تضغط على حماس حتى تعلن هدنة. وحينما يستمع المرء إلى بوش يتحدث عن حماس يظن أنها أصبحت قوة عظمى. لكن الحقيقة الساطعة أن القوة العظمى لا تجد طريقها كما تصورت في بلاد العرب، فقد ظنت العرب ظلالا لحكوماتهم. فهي تسير الآن في المنطقة خبط عشواء، تهديد للقوى الفلسطينية، وتهديد لسوريا وإيران.
وهذا شأن من قد خاب ظنه وأحبط مراده لا يملك إلا أن يرعد ويزبد. وتبدو الحماقة الأمريكية في أجلى صورها. فهي تهدد إيران وسوريا والفلسطينيين أن يقبلوا هيمنتها سلما أم حربا. وهي تظن أن بإمكان سوريا وإيران أن يطفئوا أنوار المقاومة في فلسطين، وأن يئدوا شعلتها في العراق. وحالها كمن يريد أن يقتل غريمه دون أن يخدش منه. كما أن قصر نظرها في ظنها أن المقاومة تحتاج إلى إذن. ولو افترضنا أن حماس خنعت، فهل سيعجز الشعب الفلسطيني أن يجد حماسا أخرى. ولو خضعت إيران وضغطت على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، فهل سيعجز الجنوب العراقي أن يصنع مجالس أخرى للثورة الإسلامية.
كم هو متهافت الظن أن الأحزاب تولد المقاومة، وليس المقاومة هي التي تصنع الأحزاب.
ولا أظن أن القيادات الحزبية الرئيسية العراقية لا تعرف أنها تخاطر بالتردد في إعلان المقاومة، أن تجد نفسها على قارعة الطريق حينما تتخطاها قوى المقاومة المتصاعدة. بل أن الفصيلين الكرديين سيجدان إن لم يركبا موجة المطالبة بخروج الاحتلال من العراق فصائل تخرج من رحم كردستان العراق تنادي بخروجه. هذه هي دروس التاريخ البعيدة وعبره القريبة.
ولأن بريطانيا مجرد تابع لأمريكا، فقد بدأت النخبة فيها تستفيق على عدم جدوى الاستثمار الأمريكي في العراق. وأخذت ترى أن المستنقع واسع ووحله عميق، وأن من التبصر النظر في كيفية الخروج قبل أن تزداد الكلف. وحديث ميجر يدل على حنكة سياسية، لأنه يرى أن إعداد جدول الخروج من الآن يقلل من حجم الكارثة السياسية والعسكرية والاقتصادية. فالخروج المبرمج لا يشي بالضعف، وقد يعبر عن حسن النية.
بينما الخروج القسري كما حدث في جنوب لبنان فهو يدل على الهزيمة ويشجع الجميع ضعاف الإرادة وأقويائها على التمرد. وليس العراق فيتنام، فالفوضى التي خلفتها أمريكا في فيتنام كان لها أثر قليل على مصالحها ومصالح أوروبا. غير أن الفوضى في العراق التي قد تطول المنطقة إن طال مكوث الأمريكان وعنادهم سيلحق الضرر بالأمريكان وبحجم أكبر بالأوروبيين.
لقد أصبح الأمريكان والبريطانيون في ورطة حقيقية. فالخروج السريع وئد لمشروعهم الاستثماري، وإخفاق للاستفراد الأمريكي. أما التلكؤ في الخروج الذي قد يفرض الخروج القسري مستقبلا فنتائجه بالغة القسوة ليس أقلها تهديد الوجود الإسرائيلي. ويقف بوش وبلير الآن أمام بديل قصير الأجل قد يطيح بطموحاتهما السياسية، وبديل طويل الأجل قد يقصف ظهر المصالح الأمريكية في المنطقة، النفطية والإسرائيلية. هذا ما نحتاج لمراقبته.
كنعان