عباس في واشنطن
الزائر فلسطيني والحصاد "إسرائيلي"
عاد السيد محمود عباس من زيارته الأولى كرئيس وزراء للسلطة الفلسطينية إلى واشنطن بخفي حنين. باستثناء عبارات المديح والمجاملة لم تخرج الزيارة بأية نتائج تذكر بما يُخرج "خارطة الطريق" من حالة المراوحة في المكان. وبدا غير مفهوم الحديث عن ثقة تبنيها الإدارة الأمريكية مع "الرجل الطيب" محمود عباس على حد وصف الرئيس بوش، الذي رفض ممارسة أي نوع من الضغوط على الحكومة "الإسرائيلية" رابطاً ذلك بما أسماه "وقف الإرهاب ومحاربته" . في حين تبنى الطرح "الإسرائيلي" حول قضية الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، إذا أعلن أنه "لن يطالب بالإفراج عن معتقلين فلسطينيين، سيرتكبون بعد ذلك أعمالاً "إرهابية". وأضاف: "ينبغي أن تبحث قضية السجناء في كل حالة على حده، فلا أحد يريد بالتأكيد خروج قاتل بلا وازع من السجن ليساهم في تعطيل العملية السلمية، سنواصل الحديث مع الجانبين"، وبدا من كل المباحثات التي اجريت بأن الأمريكيين ركزوا جل اهتمامهم على القضايا الأمنية.
السيدة كونداليزا رايس كما تسرب إلى الصحافة حصرت بحثها مع السيد محمد دحلان حول خطة لشراء الأسلحة التي في حوزة "المجموعات المسلحة"، والتعبير هنا للإعلام الأمريكي، في حين ركز ممثلو الحزبين الديمقراطي والجمهوري الذين التقاهم محمود عباس اهتمامهم وأسئلتهم حول "الجهود التي يبذلها الجانب الفلسطيني لضمان الأمن والتهدئة، وتفاصيل الإصلاح المالي والإداري وفرص الحفاظ على الهدنة". والمعروف أن الإصلاح المالي الذي يقصدونه يعني ضمان عدم وصول أية أموال للأجنحة العسكرية ـ في هذه الحالة المعني الأول كتائب الأقصى "فتح" ـ .
وزير الإعلام الفلسطيني نبيل عمرو في مؤتمره الصحفي الذي عقد في مقر الوزارة بغزة 27/7/2003، لم يجد في الحديث عن ما أسماه تقدماً ملموساً في العلاقات الفلسطينية الأمريكية سوى مؤشر " إرسال وزيرين أمريكيين إلى المنطقة لدراسة الوضع وتقديم مساعدات اقتصادية للشعب الفلسطيني".
أكبر الصفعات جاءت من وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، الذي لم تمنعه ضرورات اللباقة الدبلوماسية، ومراعاة الوضع الحرج والحساس الذي يمر به السيد محمود عباس وحكومته على ضوء فشل كل المباحثات مع الإسرائيليين بعد قمة العقبة في الوصول إلى نتائج ملموسة، فلقد قدم باول هدية غالية لشارون حين صرح بأن "قيام دولة فلسطين في العام 2005 أمر صعب". كون هذا التصريح يسقط آخر الالتزامات المحددة بسقف زمني في نص "خارطة الطريق"، وهو نزول عند البند الثاني من الشروط "الإسرائيلية" على "خارطة الطريق" والذي ينص على أن "التقدم في تطبيق الخطة لا يكون إلا وفقاً لأداء الطرفين، وليس وفقاً لجداول زمنية". "إسرائيل" تكون بهذا الموقف الأمريكي الجديد قد حققت معظم شروطها وأبرزها:
1 ـ المطالبة بشطب حق العودة مقدماً، وهذا ما أشر إليه نص خطاب الرئيس بوش في قمة العقبة، بالتزامه الحفاظ على "طابع يهودية دولة إسرائيل"، مرفقاً بتفسير خاص للنص الوارد في خطة الطريق حول حل مشكلة اللاجئين، حيث يرى الأمريكيون لا واقعية تطبيق حق العودة كونه يمس بأمن دولة "إسرائيل" و"طابعها اليهودي".
2 ـ شطب الجدولة الزمنية الواردة في الخطة، وتركها مفتوحة بحيث يمكن للإسرائيليين تعطيلها لاحقاً عبر إغراقها بالمواضيع التفاوضية التفصيلية.
3 ـ اعتبار أن مدخل الحل أمني، وبالتالي التقدم نحو الحل السياسي لا يكون إلا بتنفيذ الفلسطينيين لكل ما هو مطلوب منهم، والذي تطور إلى مطالبات غبر قابلة للتحقيق. فالإسرائيليون والأمريكيون باتوا يطالبون بحل المنظمات الفلسطينية ذات الأجنحة العسكرية، ولم تعد مطالبتهم تقف عند حدود وقف المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
4 ـ الإلغاء العملي لدور اللجنة الرباعية الدولية، ووضع الرقابة على تطبيق الخطة بيد الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.
5 ـ مفاوضات الحل الدائم "الدولة، الحدود، السيادة، المياه" تكون بمفاوضات مباشرة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وعلى أساس قراري مجلس الأمن 242 ـ 238 ـ لاحظ هنا المطلوب مفاوضات على أساس وليس تنفيذ القرارين ـ كل هذا يعني عملياً تحويل الخارطة من خطة وضعت للتنفيذ كما عبر عنه فهم اللجنة الرباعية الدولية إلى خارطة طريق غير ملزم لمفاوضات مفتوحة ومتشعبة وطويلة ومعقدة، تسقط فيها صفة الإلزام عن الإجراءات المتبادلة، ومن البديهي القول: بأن المستفيد من عدم الالتزام هو المحتل الإسرائيلي، وبهذا تكون خارطة الطريق قد دخلت عملياً في حالة موت سريري، أوصلها إليه تبني الإدارة الأمريكية للشروط الشارونية على خارطة الطريق، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن هذه الخارطة قد جاءت غير متوازنة أصلاً من حيث تقديمها " الأمني على السياسي"، وجعلها الالتزامات "بالتوالي لا بالتوازي" بما يعطي لشارون موقع الخصم والحكم في آن واحد ، بالإضافة إلى المدة الزمنية الطويلة نسبياً والمقسمة إلى ثلاث مراحل، ناهيك عن ترك القضايا الأساسية لمفاوضات المرحلة النهائية.
"الإسرائيليون" لم يضيعوا شيئاً من الوقت في سعيهم لفرض الوقائع على الأرض عبر تغيير الخارطة الجيوسياسية والديمغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة، بحيث تمنع عملياً قيام كيان فلسطيني مستقل وسيد بمصادرتها للجوانب السيادية الفلسطينية، "الأرض، المياه، الأمن، الحدود"، وتحويل أراضي إقليم الدولة الموعودة إلى مجموعة جزر معزولة وبانتوستانات.
ويلاحظ بأن "إسرائيل" استطاعت أن تمرر بناء الأجزاء الأساسية من الجدار العازل الغربي الذي يقسم الأراضي الفلسطينية إلى ثمانية معازل دون أية إشكالات تذكر، علماً بأنه في حال اكتمال جداري العزل الغربي على طول الحدود مناطق 1948، وجدار العزل الشرقي على امتداد الحدود الأردنية الفلسطينية تكون "إسرائيل" قد ضمت إليها فعلياً 42.5% من إجمالي مساحة الضفة الفلسطينية، بما في ذلك 714 ألف فلسطيني يسكنون 186 قرية وبلدة سيشملها الضم، وتقدر المساحة بالكيلومترات: جدار العزل الغربي وجدار العمق 1248 كم2 أي ما يعادل 21.3% من المساحة الإجمالية للضفة الغربية. أما مساحة جدار العزل الشرقي (الأغوار) فتبلغ 1242 كم2 أي ما نسبته 21.2% من مساحة الضفة الغربية. واستطاع "الإسرائيليون" أيضاً أن يزيدوا من عدد المستوطنين بما نسبته 15 ـ 20% سنوياً، حيث ارتفع العدد من 105 آلاف مستوطناً في العام 1993 إلى 211605 مستوطناً في العام 2001، يضاف لهم 215000 مستوطن في القدس المحتلة، في حين بلغ عدد البؤر الاستيطانية 110 بؤرة (راجع التقرير الصادر عن المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان 21/7/2003).
وأعاد "الإٍسرائيليون" فتح باحات المسجد الأقصى للمتطرفين اليهود في محاولة لفرض تهويده كأمر واقع، ومنعوا رفع الآذان في الحرم الإبراهيمي في الخليل. كل هذا في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة "الإسرائيلية" دعمها اللامحدود للمستوطنين مع زيادة سنوية لحجم الاستثمارات الحكومية في المستوطنات تقدر بـ 10% .
من كل ما سبق يتضح لنا بأن الحكومة الإسرائيلية تحاول إظهار مرونة تكتيكية في مواقفها المعلنة، البناء عليها محض وهم يقابله على الأرض خلق وقائع ومعطيات من قبل "الإسرائيليين" تقوض العملية التفاوضية التي انطلقت من جديد مع طرح خارطة الطريق، وعادت السياسات "الإسرائيلية" لتدخلها في نفق التفاصيل الجزئية، مع استمرار التعنت الشاروني الذي ما زال يرفض تجميد أو وقف الاستيطان ويرفض قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، ويرفض حق العودة انطلاقاً من نظرتهم الاحتلالية العنصرية التوسعية التي تعتبر الأراضي الفلسطينية جزءاً لا يتجزأ من الأرض التوراتية لدولة "إسرائيل".
الأمريكيون غير جادون في ممارسة أي نوع من الضغوط على الحكومة الشارونية، وهذا ما أكده تغيير الخطاب الأمريكي في المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيس بوش وشارون في 29/7/2003، حيث عاد الرئيس بوش عن كل انتقاداته للسياسات "الإسرائيلية"، وتبنى المفردات "الإسرائيلية". فبدلاً من مصطلح الجدار العازل استخدم مصطلح الحاجز الأمني، وأكد على التزامه المطلق بأمن "دولة إسرائيل اليهودية"، وتمسكه بضرورة إقدام السلطة الفلسطينية على حل المنظمات التي تمارس العمل المسلح. أما شارون الذي ترك لبوش الدفاع عن مواقفه خصص كلمته لتهنئة بوش على احتلال العراق ومطالبته بمزيد من الضغوط على سوريا وإيران.
ما جرى في واشنطن يشير بوضوح إلى أن إدارة بوش لن تعطي خارطة الطريق أولية في سياساتها بما يعني عملياً وصول هذه الخطة إلى الجدار المسدود وحالة الموت السريري بانتظار رصاصة الرحمة، إذا لم يحدث انقلاب جذري في الموقف الأمريكي لا تلوح في الأفق بوادره حتى الآن.