وجهة نظر عراقية
د. سيّار الجميل
( مؤرخ عراقي ، تورنتو – كندا )
تابعت باهتمام شديد ما كتبه الاخ اياد ابو شقرا في جريدة الشرق الاوسط يوم 27 / 7 ، ثم رد الاخ علي الخفاجي عليه ، ثم الرد على الرد من قبل ابو شقرا يوم 1/8 ، وليدعني كل منهما ان ادلي ببعض ملاحظاتي المتواضعة ليس دفاعا عن الاخ الخفاجي ، بل دفاعا عن بعض المعاني والافكار التي اراها مقاربة للحقيقة ويريدها البعض من الاخوة العرب مجالا للاستلاب كما تعودوا دوما وخصوصا عندما كان العراقيون مغيبين عن الادلاء بارائهم بكل جرأة وحرية في عهود مضت .. واليوم لا نسمح ابدا ان نبقى تلامذة عند معلمين فاشلين ليس لهم الا القاء المواعظ والدروس في معاني الوطنية والعزة القومية وقد توضح لكل عقل راجح كم هي سوق المزايدات العربية رابحة على امتداد خمسين سنة اوهم اولئك الكتاب من الوعاظ وائمة الشرف العربي الرفيع الجماهير العربية بسلسلة من الاوهام والاكاذيب والتلفيقات وخديعة المؤامرات التي ربما آمنوا بها منذ صغرهم من دون ان يدركوا حقائق التاريخ ولا معاني ما يدور في العالم وكيفية تعامل الضعفاء مع الكبار ضمن اي نظام دولي .. فضلا عن كونهم لا يرون الا انفسهم في هذا الوجود وكأن العالم كله لا هم ولا شاغل له الا العرب .. وكأن مشاكل العرب كلها قد انبثقت من مؤامرات ومشروعات ولو فكروا قليلا لوجد العرب انفسهم انهم هم قد ساهموا في حرق كل اولوياتهم تحت ذرائع شتى واوهام لا حصر لها !
واذا كان البعض يكره امريكا وسياساتها ، فاعتقد ان من الافضل له ان يبحث له عن ميدان آخر غير العراق لمقاتلتها ، اما ان يصبح العراق ميدان صراع من نوع جديد ليفنى شباب العراق من جديد فهو امر لا اعتقد بأي حال من الاحوال ان يقبل به كل العراقيين الشرفاء العقلاء .. واذا كان البعض ينتقد امريكا في اسلوب قتل عدي وقصي فهي تصفية حسابات الحرب قبل تصفية حسابات العراقيين لهما ! واذا وصف الاخ ابو شقرا العراقيين انهم " ما زالوا يفضلون الاستغراق في التفكير بالماضي المؤلم بدلاً من التأهب لاستحقاقات المستقبل" فلأنه ليس عراقيا ولم يدرك بعد حجم المعاناة وثقلها التاريخي على امتداد 35 سنة فمن السذاجة ان يطلب منا الاخوة العرب نسيان تلك الاثقال ومرارات السنين والتي سيكتب عنها التاريخ كثيرا فمن الاشياء التي لا يدركها بعض الاخوة ان العراق يمتلك ثقلا تاريخيا لا يمتلكه الاخرون وعلى امثال هؤلاء ان يقيسوا حجم ما صدر من ادبيات في اللغات الاساسية عن العراق ويقارنوها بحجم ما لديهم عن اوطانهم !
واود ان اقول بأننا نحن العراقيين قد علمتنا السنين ومنذ سنين الابتعاد عن اللهو والتلهي ( وفش الخلق ) ونحن نعرف كيفية تقدير مصالحنا وصناعة مستقبلنا بمعزل عن تدخلات الاخرين ودروسهم ومواعظهم ! ان العراقيين لم يهاجموا العرب " بروح انعزالية سلبية للغاية " – كما تقول - الا بعد ان اكتووا بنار العرب وعانوا من طول لسانهم وسوء تدخلاتهم ، وتزييف معلوماتهم ، وشتم ساستهم ورجالهم وتغييب ادوارهم والتعتيم على مآسيهم وخصوصا بعد اثبت اغلب العرب بالدليل القاطع وقوفهم الى جانب الطاغية في كل سيئاته حتى اللحظة الاخيرة وما زال الرهان عند الكثيرين على رجوعه ! ولا يمكن ان يقنعنا احد بأن هناك من وقف الى جانب العراقيين في محنتهم القاسية واهوال ما عانوه وليدرك كل اصحاب الاقلام البائسة ان دولا ومجتمعات ومنظمات غربية وانسانية في اوروبا وامريكا الشمالية واستراليا ونيوزيلندا وقفت جميعا الى جانب العراقيين في محنتهم القاسية سواء من خلال اللجوء او الهجرة او فرص العمل او الاقامة الدائمة او التأشيرة ! في حين تعرضنا في البلاد العربية الى اقسى انواع المهانة من دون ان يرتفع صوت واحد الى جانبنا .. اما ان يبدأ العراقيون كما تقول " بالتفكير عملياً بمستقبل وطن يعني الكثير للعرب كل العرب، سواء صدّق الأخوة العراقيون هذه الحقيقة ام أبوا المهم الآن مستقبل العراق. مصير العراق. ثروات العراق " وتستطرد متابعا : " انه غير صحيح البتة ان ما يحصل في العراق يخص العراقيين وحدهم إطلاقاً ... " ! اننا ندرك بأن هذا ( الوطن ) يعني لكم الكثير ! نعم نحن نصدق هذه الحقيقة والعراقيون يدركون جيدا سيرورة المستقبل ومصير العراق وثروات العراق ولكنها الاثمان التي لابد ان تدفعها الشعوب المهزومة نتيجة لسياسات خارقة اتبعها الطغاة المجانين كما يعلمها لنا التاريخ .. ولازيدك اخي بأن العراقيين يدركون ادراكا حقيقيا ايضا بأن التركة ثقيلة جدا لا يمكنهم ابدا السيطرة عليها لوحدهم ، ولابد ان تدركوا بأننا لا يمكن ان نتغنى بالمستقبل او نولول عن المصير او نبكي الثروات من دون ان يعرف العرب بأن العراق مثقل بالديون الصعبة التي لابد من اطفائها دوليا ، وان البلاد الجميلة التي تحطمت لابد من مشروعات لأعمارها وبمقدرات تكنولوجية عالية المستوى ! وان مجتمعا عاش خواء سياسيا وخرج مجروحا ومكلوما من حرب قاسية لابد ان يمر بفترة نقاهة .. لهذه الاسباب نقول لكم : اتركونا لوحدنا نداوي جراحنا ، فقد مر نصف قرن والعرب يتدخلون بشؤوننا ويقاسموننا ثرواتنا .. انكم ان قارنتم اوضاعكم باوضاعنا فانتم على خطأ جسيم .. وان مجرد ربط مشاكلكم بالقضية العراقية ستجعل العراق يخسر كل ما يمكن ان يعالجه خلال السنوات الخمس القادمة ! ان ما حصل في العراق لا يمكن مقارنته ابدا لا بكامب ديفيد او بحرب لبنان ، فلنكن اذكياء في مقارنة الاحداث التاريخية المعاصرة ! واعتقد بأنك لا تدرك حتى الان فلسفة سياسات العراق في الخمسينيات اذ تقول : " أولم تؤثر سياسات العراق إبان مرحلة «حلف بغداد» على مجمل اوضاع الشرق الأدنى؟ ألم تكن بغداد في تلك الفترة مركز تحريك خطيراً للسياسات الاقليمية التي كانت تستهدف إسقاط غير نظام والقضاء على غير توجه استقلالي عن «سياسة المحاور والاحتواء» التي بشر بها جون فوستر دالاس وسلوين لويد خلال الخمسينات؟ " . واقول : هذا كلام شائع عند العرب من دون فحص اولوياته ومضامينه ، اسبابه ونتائجه .. فاعلم ان العراق لا يمكنه البتة ان يستقر ويتطور داخليا واقليميا من دون روابط اقليمية قوية بكل من تركيا وايران اولا ، ولقد نجحت سياسة فيصل الاول منذ العشرينيات والثلاثينيات اي قبل سياسات دالاس وسلوين لويد ، بتأسيس ميثاق سعد آباد بين العراق وايران العام 1936 الذي بني على اساسه ميثاق بغداد بين العراق وتركيا العام 1955، ثم انضمت الى الاخير على دفعات ايران والباكستان وبريطانيا والولايات المتحدة وتمتعت المنطقة بسلم اقليمي ولم تستهدف اسقاط اي نظام عربي ، بدليل ان العرب هم الذين ساهموا في اسقاط العراق ودخل في دوامة عربية لم يخرج منها حتى اليوم ! واذا كان البعض يزايد على الاستقلالات الوطنية العربية ، فان التاريخ سيكشف اجلا ام عاجلا ضلوع انظمة كانت تسمي نفسها بتقدمية ووطنية وقومية ووحدوية واشتراكية ضلوعا عميقا بهذا التكتل او ذاك .. فلماذا تتهمون العراق دوما ؟
وتستطرد قائلا : " ثم إذا كانت الهوية العربية قد أصبحت عبئاً على العراق، كما نقرأ ونسمع، فهل لدى المتحمسين لنعي العروبة هوية بديلة مقترحة؟ إسلامية مثلاً؟ سنية أم شيعية؟ كردية أم تركمانية؟ أم تراها مسيحية آثورية أم كلدانية أم سريانية؟ مندائية أم يزيدية؟... أم لعلها أميركية آباتشية؟ " ( انتهى ) ! كلا يا اخي لا يمكنك ان تستهزأ ابدا باقوام وملل ونحل واقليات عراقية اصيلة تحت لافتك العربية الشوفينية ! انني عربي قح ولكنني كعراقي لا يمكنني ان اقبل ابدا ان تنشر مثل هذا الغسيل على حبالك العربية ! ان احترام العراقيين هو احترام لتاريخهم الثر وامجاد مجتمعهم المتماسك الذي لم يعرف التفكك والصراعات ابدا الا بعد تطبيق السياسات القومية الشوفينية التي تمجد بالالهة العرب وكأنهم فعلا خير امة اخرجت للناس ، والحقيقة عكس ما تقول .. لا تزايدون علينا عربيا فالعراقيون العرب عرب اقحاح ابا عن جد ولكنهم لا يقبلون ابدا تغييب اخوتهم في المواطنة العراقية المقدسة كما فعلت الانظمة القومية فاضطهدوا وعانوا وذهبت ثرواتهم الحقيقية الى الاخرين ! انني كعراقي احترم كل الطوائف اللبنانية فلابد للعرب ان يحترموا اطيافنا على كل الارض العربية ويدركوا فعلا معنى حقوق الانسان !
وتبقى تستطرد وتقول ضاحكا ايضا : " يبقى ان أطرف مطلب لبعض الإخوة العراقيين للعرب هو الكف عن الكلام والكتابة «التحريضية»! ...نعم، الكف عن الكلام والكتابة. وهذا لعمري مطلب غريب من شعب ما زال يتنشق اولى نسائم حرية التعبير عن الرأي بعد حقبة كم افواه طالت لأكثر من 30 سنة. وأغلب الظن انه من موروثات مفهوم الحكم السابق للحوار والتفاعل الحضاري! " واكرر واقول : نعم ، ليكن اهتمامكم بامور اخرى غير العراق ، ولا تخافوا ولا تحزنوا على المستقبل والمصير ولا تتوهمو جملة من الاوهام وتبتعدوا عن حقائق الامور ، انكم بعملكم هذا تسيئون للعراق والعراقيين ، لقد كان الشعب العراقي نسيا منسيا بالنسبة لكم في العقود الماضية ، وقبلتم كل تداعيات الحروب الخليجية وكل اساليب الطاغية ، فلماذا تخافون اليوم على العراق والعراقيين وثروات العراقيين ؟؟ انها سيمفونيتكم التي تعزفونها ليل نهار وقد غدت مشروخة فالقطار يمر سريعا ، فاوقفوه ان استطعتم الى ذلك سبيلا ، ودعوا العراقيين يودعونه بعد زمن !
واخيرا ، كنت اتمنى على الاخ ابو شقرا في رده على الاخ علي الخفاجي ان يقترب قليلا من الاعتدال وان يتراجع قليلا عما بدر منه وليس في ذلك اي اثم ولا عيب ولا مثلبة .. اذ لابد ان يحترم المرء قضايا الاخرين فنحن من الناس الذين لا ندخل انوفنا بشأن الاخرين وان ادخلناها وعاتبنا اصحابه اعتذرنا ، لكن الاخ ابو شقرا بدا وكأنه يدافع عن نفسه كونه ليس من ادعياء صدام حسين واصفيائه العرب ، وانه قسم الموضوع الى ثلاثة محاور : داخلي واقليمي وخارجي ! وعليه ، فليكن معلوما بأن القضية العراقية لا يمكن حلها الا دوليا كونها تدولت منذ سنوات طوال وان اسلوبا واحدا هو االذي سينفعنا هو الحوار والتفاوض وناخذ ونطالب .. واي اسلوب اخر سيؤجل قضيتنا سنوات طوال وربما سيزج العراق في لا يحمد عقباه لا قدر الله .