|
و أخيرا...صدور- خيانات اللّغة والصمت - للشاعر المناضل الكبير فرج بيرقدار
كمال العيادي
الحوار المتمدن-العدد: 1853 - 2007 / 3 / 13 - 13:05
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
حين تخون اللّغة, وحين تتورّم العبارة وتتدلّق في القلب حمم من نار....حين تسمع النشيج من بعيد, ولا تدري بأيّ مناديل البلاغة يمكنك أ تكفكف كلّ تلك الدّموع...حين تخجل من كلّ ضعف نفسك ومن كلّ صغر الدّنيا...و حين تكون الكلمة سوطا يجلد الكبرياء المذبوحة, حين تعتريك رغبة خانقة لتجثو على ركبتيك وأنت تشهد السماء على ما يحدث...سأخمّن أنّك قرأت بالتأكيد كتاب - خيانات اللّغة والصمت - للشاعر والمناضل الكبير فرج بيرقدار الصادر حديثا عن دار الجديد ببيروت.... كيف يمكن أن يقدم مثل هذا الكتاب المخيف...هل هوّ مذكرات ؟؟ هل هوّ إدانة ؟؟ هل هوّ خلاصة الشعر حين يخمّر في فجاج الجرح الغائر ؟؟ لا أدري...هذا فصل من الكتاب الملهم, خجلت أن يكويني وحدي, فرأيت أن يشاركني الأحبّة قراءته...حتي لا ننسى...وحتي نرفع للسجاّن ...كلّ سجاّن فوق الأرض عريضة - ترفّع - ليعلم أنه لم يكن ليستحقّ شفقة ضحيته, لولا جبروت الشعر وقلب الشاعر....
فرج بيرقدار (سوريا / ستكهولم)
في زمن ما كان يحدث هذا الحيف الذي تخونني اللغة فيه. أما الصمت.. فربما كان ولا يزال.. أكثر حيفاً وخيانة. فرج
“لا أمس.. ولا هناك؟!”
أيها الأصدقاء.. ورداً وأجنحة وبعد. ماستقرؤونه في هذا الكتاب، هو بعض أوراقي التي أترك لكم تقدير كيفية ومتاعب تهريبها من السجن، مكتوبةً على ورق السجائر.
في السنوات الأولى من الاعتقال، لم يكن لدينا أقلام ولا أوراق، ولهذا رحت أدرِّب ذاكرتي للكتابة عليها بشكل مباشر. أليست هي طريقة أجدادنا القدامى قبل انتشار الكتابة؟! بالطبع كان ذلك ممكناً بالنسبة إلى الشعر.. ومع ذلك فإنني حين كثرت القصائد، وخفت أن تخونني ذاكرتي، لجأت إلى بعض الأصدقاء الذين حفظ كل منهم واحدة من تلك القصائد.
فيما بعد ساعدني سجناء كثيرون في نسخ ونقاش وحماية وتهريب كل ما أكتب. إذن هو عمل جماعي على نحو ما، وإن كان مؤسساً بصورة فردية.
لم أستطع كتابة اسمي الصريح في هذه الأوراق، ولا أسماء الآخرين. كان لذلك مخاطره الأمنية من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن ليغير كثيراً ذكر الأسماء، مادامت التجربة واحدة، ومادام المهم هو عرضها أو توثيقها بطريقة ما. لا أدري.. ربما لم يخطر في بالي أصلاً ذكر الأسماء، ذلك أن أسماءنا جميعاً كانت مصادرة. لقد أعطونا في البداية بدلاً من أسمائنا أرقاماً.. وفي فترة لاحقة أعطونا ألقاباً مستمدة من أشكالنا أو ألوان ملابسنا: أبو البيجامة الكحلية.. أبو القميص البيج..أبو الكنزة الرمادية.. أشقر الخرا.. أسود الكلب.. راس الجحش.. الممعوط أبو رقبة.. إلخ.
في الشهور الأولى تعددت أسمائي، أعني أرقامي، تبعاً للمنفردات التي باركتني بكثير من الحنان واللعنات، ولكن الاسم الذي رافقني لزمن أطول، وعُرفت به، هو السجين رقم ( 13).
ربما هو رقم مشؤوم في عرف الكثيرين خارجاً.. أما في الداخل، فإن جميع الأرقام مشؤومة وكافرة وبنت كلب.
حين يعامل السجين بوصفه رقماً حيادياً أولقباً ازدرائياً، وحين يطغى الرمادي على الزمان والمكان في نسق جهنمي مطفأ وبارد وملول، تأخذ الألوان أبعاداً مختلفة، ويغدو الإحساس بالتمايز، والبحث عن الذات والقبض عليها داخل الزمن، مسألة وجود أو لا وجود. بعد إحدى جولات التحقيق المجنونة، نقلوني إلى قسم العناية المشدَّدة في مشفى حرستا العسكري. يومها اضطروا أن يعطوني اسماً حركياً: سيف أحمد. لن تصدقوا كم كانت فرحتي كبيرة بهذا الاسم. لقد كان يكفيني أنه ليس رقماً.. ولكن تلك الفرحة تبخَّرت عندما وضعوني على الحمّالة وأدخلوني إلى إحدى الغرف: لو متُّ في هذا المشفى، فلن يكون في قيوده أو سجلاته أي شيء حقيقي يدل عليّ!! ماإن همست للطبيب، الذي يفحصني، باسمي الحقيقي وبأني سجين سياسي، حتى تدخّل عناصر الدورية لإسكاتي وإنذار الطبيب.
نعم.. اسمك هو رسمك، ومحوه أو غيابه هو محوك أو غيابك. حين كان سجان ما، يسألني: من أنت؟ كنت أقدم له اسمي بتلقائية.. ولكن مع مرور الزمن وتوالي الصفعات والشتائم والكرابيج، تعلمت أن أقدم نفسي باسم السجين رقم (13).
في الغالب كان السجان المعني يقول: طز. وللأمانة، قال لي أحد السجانين ذات مرة: تشرفنا. وفي مرة أخرى، سلخني أحدهم بكرباج في منتهى الأمية، وهو يقول: وهذا 14 كرمى لخاطر أمك.
* * *
أكتب الآن وأنا حر بدرجة ما، وعلى نحو ما، وذلك بفضل حملة دولية بدأها عدد من الأصدقاء، ثم اتسعت لتضم العديد من الأسماء الثقافية والسياسية والمنظمات مثل: اللجنة العالمية لمناهضة القمع، نادي القلم العالمي، الأمنستي، ومنظمة صحفيين بلا حدود.. إلخ. ولكن السلطات السورية لم ترضخ لضغوط الحملة إلا بعد مرور قرابة أربعة عشر عاماً من الاعتقال، أمضيتها مابين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري، قبل أن يخلى سبيلي في 16/ 11/ 2000. وعلى الرغم من أنه صار بإمكاني اليوم تقديم نفسي والآخرين بالأسماء الصريحة، إلا أنه ليس بإمكاني، أو في الحقيقة لا رغبة لي في تغيير أوراق هذا الكتاب. هكذا كُتبت، وسأتركها على ماهي عليه، غفلاً من الأسماء، مكتفياً بهذه المقدمة.
* * *
قبل الاعتقال كان “الأمس” بالنسبة إلي ذكريات ملونة وراعشة ومتموجة كأجنحة الفراشات، وكان ال”هناك” غموضاً مثيراً بأسراره وخيالاته وتوقعاته، حيث كل شيء يمكن أن يكون مغامرة مفتوحة على الدهشة، ومغلقة على جمالها المفارق الرهيف. بعد إطلاق السراح يصير الأمس كابوساً، وال هناك لعنة، وأنت من حيث تدري ولا تدري، تحاول أن تمضي بهما حثيثاً إلى ما يشبه النسيان. أربعة عشر عاماً وأنا أسمِّي ال هناك هنا، وال هنا هناك!! ولهذا يتعين عليكم، كلما قرأتم “هنا” في أوراق السجن، أن تذهبوا بها إلى “هناك”. ليس بأساً كبيراً أن تذهبوا، ما دامت عودتكم مضمونة في آخر الكتاب، أو عند أي صفحة ترغبون، وأطمئنكم أنكم لن تشعروا عند عودتكم بما شعرت به، وأنا أسحب أول شهيق من خارج تلك المملكة المسوَّرة بالرعب والموت والجنون. أعني لن تشعروا بصدمة الحرية، ولن تخنقكم الزرقة، ولن تضيع منكم الحدود الفاصلة ما بين الضحك والبكاء.
* * *
على كل حال ذهب الأمس ولو مؤقتاً، ولم يعد مِن هناك. لم يعد اسمي: السجين رقم 13، ولا أبو البيجامة البنية. أنا الآن فرج بيرقدار.. شاعر وصحفي سوري من مواليد حمص 1951. أبي أحمد، وأمي خدوج. لي خمسة أخوة وثلاث أخوات، بودي لو أكتبهم جميعاً بحبر الضوء. عند اعتقالي تركت ورائي طفلة وحيدة، كانت في الثالثة من العمر، وحين عدت إليها وجدتها على مشارف الجامعة. أمها اعتقلت قبلي بأحد عشر شهراً، وأفرج عنها بعد حوالي أربع سنوات، إذ تأكد لهم من خلال اللجان الطبية والمراقبة الأمنية، أنها لا تمثِّل ولا تدَّعي الجنون، بل هي تعاني حقاً من حالة انفصام.
تعرضتُ في حياتي لثلاثة اعتقالات: الأول من قبل المخابرات الجوية عام 1978، وذلك بسبب كراس أدبي شبه دوري، شاركتُ في إصداره مع عدد من الأدباء الشباب في جامعة دمشق. الثاني من قبل مخابرات أمن الدولة، وقد حدث ذلك في اليوم التالي لخروجي من المخابرات الجوية، وكان بتهمة الانتماء لرابطة العمل الشيوعي. الثالث من قبل المخابرات العسكرية في 31/3/1987 بسبب الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي. بقيتُ ست السنوات الأولى من اعتقالي مقطوعاً عن العالم الخارجي، محروماً من الزيارات والأقلام والأوراق والراديو.. إلخ. في عام 1992 قدَّمتُ مرافعتي أمام محكمة أمن الدولة العليا، ويبدو أن ترجمة المرافعة ونشرها وإذاعتها لفت انتباه العديد من الشخصيات والمنظمات العالمية إلى أن صاحب المرافعة ليس معتقل رأي وحسب، وإنما هو شاعر وصحفي أيضاً. فيما بعد لعب نشر مجموعتي الشعرية “حمامة مطلقة الجناحين” 1997 وترجمتها إلى الفرنسية، وحصولها على جائزة “هلمان/ هامت” 1998 وجائزة الفرع الأمريكي لنادي القلم العالمي 1999، دوراً إضافياً في تصعيد الحملة الدولية وصولاً إلى الإفراج عني.
* * *
في البداية كان لا بد من الشعر كي أعرف نفسي، وأحميها، وأوازنها فوق صراطها الممتد مابين اللعنة والقداسة.. ولكن شيئاً فشيئاً بدأت أدرك أن الشعر بالنسبة إلي، هو طائر الحرية الأجمل.. هو التمرين الأقصى على الحرية، وبصيغة أخرى هو ما ليس قابلاً للأسر. حررته في داخلي، فحررني داخلياً مما يحيط بي من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال. لو كنت سياسياً فقط، لكان يمكن أن أنهزم.. غير أن الشعر استطاع أن ينقذني، ويعطي حياتي في السجن معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عما يراد. ما من شيء يستطيع أن يشدَّ القوس بي إلى النهاية أكثر مما يفعل الشعر.
* * *
أخيراً.. ينبغي علي التنويه إلى أنني لست عضواً في اتحاد الكتاب العرب، ولا اتحاد الصحفيين.. وربما لهذا لم يجد الاتحادان نفسيهما معنيين بالمطالبة بي، ولا حتى في الإقرار بوجود شاعر وصحفي سوري داخل السجون السورية!! أما اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذي انتسبت إليه عام 1981، فلم يجرؤ هو الآخر على الاعتراف بأني عضو فيه. بالطبع ليس ذلك مهماً كثيراً مادام بإمكانكم قراءتي ولست آسفاً على الماضي.. مادام بإمكاني المستقبل.
مع محبتي فرج
“البرزخ”
زمامير ورقص وضحكات وإطلاق رصاص!! هكذا كان عرس استقبال سيارة الدوريَّة، التي اعتقلتني، وهي تجتاز الحاجز الأخير المفضي إلى باحة الفرع. أهلاً وسهلاً بالمناضل الكبير!! منذ سنوات ونحن ننتظر أن تشرِّفنا بهذه الزيارة المباركة. تتهنَّى يا عم.. الآن ستشبع نضالاً. افتحوا باب السيارة للأستاذ. تفضل أستاذ لا داعي للخجل.. ولو.. أنت على العين والراس في ضيافة فرع فلسطين. لست أدري لماذا يحمِّلون تعليقاتهم كل هذا القدر من السخرية والشماتة؟! فظيعة هذه الدقائق.. في رأسي ما يشبه الفجوات، وما يشبه الموج، وما يشبه عنفات شيطانية تدور على نحو مجنون وفي أكثر من اتجاه. اللعنة.. لم يتركوا لي أي فرصة للهرب، كان الحي مطوَّقاً: مسلحون على الأرض.. على الأسطح.. سيارات على المداخل.. وبضعة عناصر يحيطونني بمنتهى اليقظة والريبة والقلق. لا بأس .. قد يتاح لي في أحد المنعطفات، أن أفتح باب السيارة، وأرمي بنفسي. صحيح أنها محاولة ضعيفة ولكن ربما.. لكأنهم يقرؤون أفكاري، فالسيارة تندفع مثل قذيفة، لا تلقي بالاً إلى المفارق والمنعطفات. لم يزل أمامي فرصة محتملة للهرب لحظة وصولي إلى الفرع.. ولكن ماذا لو لم أفلح؟ ما هي حدود مناورتي في الساعات الأولى ؟ كيف سأتخلَّص من بعض الأوراق الصغيرة المخفية في جيوب داخلية؟ ثمة ورقة ملعونة.. لو نجحوا في حل شيفرتها، أو إجباري على حلها، فعلى قيادة الحزب السلام. حاذر.. أخفض رأسك قليلاً وأنت تنزل. تنبَّهت إلى ضرورة أن يكون رأسي مرفوعاً بعد أن أترجل وأسير بينهم. ينبغي أن أترك لديهم انطباعاً واضحاً من القوَّة والتماسك. لم أكن أتوقع أنني لاحقاً، سأضطر إلى المناورة، وإحناء رأسي أكثر من مرَّة. تقدمت بخطوات تبدو ثابتة، رافعاً رأسي، وشابكاً يدي خلف ظهري. في الحقيقة كانتا مقيَّدتين إلى الخلف بكلبشة ذات سوارين. في الغرفة الأولى فكوا الكلبشة، وأخذوا مني ما يسمى “الأمانات” من نقود وساعة ونظارة وبطاقة هوية مزوَّرة وما لا أدري، ليتابعوا بعدها إلى الداخل: كوريدور عريض.. على جانبيه غرف مكاتب أو تحقيق. لن أستغرب شيئاً، فلدي تصور أوليّ عن مخطط الفرع ومعظم ضباطه. كان أكثر ما يشغلني هو دراسة المداخل والمخارج وإمكانيات الهرب. فيما بعد سأعرف أن هاجس الهرب ظل يرافق معظمنا لسنوات عديدة. فجأة فتحوا باب غرفة إلى اليسار وأدخلوني. وضعوا طميشة على عيوني ثم خرجوا، وأغلقوا الباب. سمعت وقع خطواتهم يبتعد. ما كدت أبتلع الورقة الملعونة حتى فتحوا الباب. جولة عاصفة من الصفع والركل والقبضات. أحضِروا العُدّة.. قال أحدهم ثم أضاف: وأنت أيها المناضل إخلع كامل ملابسك.. ليست هذه أول مرَّة أتعرض فيها للتحقيق، فقد سبق وتعرضت قبلها مرتين للاعتقال، ولا يخفى علي معنى أن يكون المرء عارياً خلال التحقيق، أو مكشوفاً ومراقباً في السجن الذي سينقلونه إليه بعد انتهاء التحقيق. كانت الصراخات والتهديدات والأسئلة، تتشظى وتتبعثر في أكثر من منحى، وأنا صامت تماماً. توقفوا للحظات، ثم سألني أحدهم عن اسمي، فقلت إنني لن أجيب قبل أن يحضر رئيس الفرع. نحن نعرف ما اسمك الحقيقي والحركي أيضاً، ولكن نريدك أن تقوله أنت. لن أقول أي شيء قبل أن يحضر رئيس الفرع. أرسِلوا له وراء رئيس الفرع. قال أحدهم، وراح يسأل عن المواعيد الدورية والاحتياطية وعن بيتي الحقيقي.. إلخ. تبدو أسئلتهم أكثر دقة وخبرة مما كانت عليه في السابق. لا شك أن صراعهم أو تجربتهم مع حزب الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى انهيار أحد كوادرنا، وخيانة أحد الأعضاء في الشهور الأخيرة، قد منحهم قدراً وافراً من الخبرة والمعلومات حول كثير من الأمور، بما فيها طرائق وآليات عمل الحزب ودفاعاته. لم أكن أريد بتمسّكي من حضور رئيس الفرع سوى اللعب بمزيد من الوقت، ريثما يعلم الرفاق باعتقالي، ويتخذون الإجراءات الضرورية. أصوات أقدام تدق الأرض بقوة إشارة إلى تقديم التحية العسكرية: احترامي سيدي.. احترامي معلم.. ثم هدوء ثقيل متربص لبضع ثوان، يبدو زمنها النفسي أشد وطأة من الماراثون. خير يا بني.. لماذا طلبتني؟ لا شك أن الحديث موجَّه إلي.. لعنة الله على الطميشة. إنها تستكمل المعنى المقصود من جعلك عارياً ومكشوفاً ومراقباً. لا أعرف لماذا افترضت، أنهم يمكن أن يضحكوا علي بتمثيلية حضور رئيس الفرع، فقلت: لم أطلبك أنت.. تغيّر صوته، وتلجلج قليلاً، وهو يسأل: ألم تبلغوني أنه يريد مقابلتي؟ نعم معلم.. هو الذي رفض أي كلام، حتى تحضر سيادتك. هل أفهم أنك تراجعت عن طلبك؟ لا.. ما زلت مصراً على مجيء رئيس الفرع. هل تشك بأني لست رئيس الفرع؟ بل متأكد أنك لست هو. ما الذي يجعلك متأكداً؟ صوتك. ما به صوتي؟ يبدو ضعيفاً متردداً، وصاحبه غير واثق بنفسه، كما أن عمره أصغر بكثير من العمر الزمني المحتمل لرئيس الفرع. بضعة أسئلة أخرى، ولم يعد ممكناً مواصلة اللعبة، فأوقفوا تمثيليتهم، وأبلغوا رئيس الفرع حقاً هذه المرة، فحضر على الفور، وليته لم يحضر. إرفعوا الطميشة عن عينيه. كان وراء الطاولة رجل ستيني أشيب ممتلئ، ينظر إلي بابتسامة هادئة، يتخللها شيء من التعاطف المشبوه. لم يطل كثيراً وقت الأسئلة والمناورة، ليكتشف رئيس الفرع، أنني لا يرهبني سيف المعز، ولا يغريني ذهبه، فنهض وملامحه تتقبّض وتعتكر وتكفهر. شوفوا حسابكم معه.. يبدو أنه ينوي أن يظل بغلاً. قالها وخرج تاركاً وراءه صمتاً أسود، ونجيعاً أسود، واحتمالات كالحة ومدججة بما يشبه الألغام. إذن بعد قليل ستدور مسنَّنات آلاتهم ، ستترنح الجهات والمسافات، وستنفلت في هذا المجتلد قطعان كثيرة من الضواري والوحوش المفترسة. لدي معرفة وافية حول أدواتهم وأساليبهم المعهودة في التعذيب. لم أكن أفكر بما سينجم عن ذلك من آلام لحظية. كنت أفكر بالعتبة التي يستطيع الإنسان تحملها. أعرف نظرياً أن الإنسان أكثر قدرة، على التحمّل والتلاؤم والصبر الجسدي والنفسي، من أي كائن آخر بما في ذلك الخيول. ساعدني يا ألله.. ساعديني يا أمي.. ساعدني أيها الحب.. أيها الحزن.. أيها اليأس.. وأنت يا حنان جهنم.. ساعدني.
“إلى الشرق”
أنهى المساعد قراءة الأسماء، وطوى الورقة، ليضيف بصوت أنثوي حادّ وموقَّع: كل من ورد اسمه في اللائحة، يضبّ أغراضه. تهلّلت أسارير بعضنا رغم ملامح الخيبة والحزن والقلق، التي ارتسمت على وجوه الآخرين، ولا سيما أولئك الذين لم ترد أسماؤهم في اللائحة. إذن رُفعت الملفات، وجفّت الدماء بعد أحد عشر شهراً من التحقيقات، كان الله خلالها، ينظر إلى جهنمه بازدراء. لن تفرحوا بها، قال المساعد، فو الله أينما ذهبتم، سيكون مرجوعكم إلي، ولن تخرجوا، إذا كان لكم نصيب في الخروج، إلا من هنا، حتى لو بعد خمس سنوات. لم يكن لدينا أغراض لنضبَّها، فقد كانت زياراتنا ممنوعة طوال فترة التحقيق. خرجنا من فرع فلسطين بثيابنا وقيودنا فقط. كنا نتمنى أن يفضي خط رحلتنا إلى سجن صيدنايا، فقد سمعنا بطريقة ما، أنه افتتح منذ شهور، وأن جميع رفاقنا القدامى، أصبحوا فيه الآن. ولكن من يدريس؟! فمنذ بداية الحملة والوقائع تسير خارج توقعاتنا، وأحياناً على النقيض تماماً. ألم نعتقد خلال الشهور الثلاثة الأولى من اعتقالنا، أننا نجحنا في إغلاق جميع الثغرات الأمنية؟! لا بل إنهم نقلونا إلى الفرع |248| كمحطة على طريق نقلنا إلى سجن ما، وفجأة أعادونا إلى فرع فلسطين، ليبدأ التحقيق من جديد، وعلى نحو انتقامي فاجر. ثم ألا يمكن أن يواصلوا انتقامهم، فيرسلوا مجموعتنا إلى سجن المزة مثلاً؟ كان ملفتاً للانتباه أن مجموعتنا الآن منتقاة على الأرجح بصورة مدروسة: عسكريون وأعضاء لجنة مركزية حصراً. وفي هذا من الاعتبارات، ما يكفي لجعل احتمال عزلنا وارداً وربما مرجحاً، لأسباب أمنية على الأقل وانتقامية وحتى إجرائية. لا بأس.. المهم أن الشطر الأكثر خطورة في هذه الرحلة العمياء قد انتهى، وها نحن الآن في طريق آخر، يستحيل أن يكون أكثر سوءاً، مهما كانت احتمالاته.
قامات مهدَّمة، تسير متحاملة على نفسها، وليس لها ما تتكئ عليه سوى الكبرياء. لم تكن المسافة من فرع فلسطين إلى الفرع |248| تتعدى الدقائق. هناك أوقفونا في أحد الكوريدورات من العاشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر. أنت.. أبو البيجاما البنّية.. إنهض. لا أستطيع.. معي كسر في الحوض. قلت لك إنهض أحسن ما أجيبلك الدولاب ها! قلت لك لا أستطيع، ودولابك أيضاً لا يستطيع. يبدو أن الإجابة أحنقت العنصر وأربكته، وحين لم يجد رداً مناسباً، صبَّ انفعاله باتجاه آخر. أبو الكنزة السوداء وجهك لقدَّام.. وأنت أيها الحوت.. يديك وراء ظهرك.. يداي نصف مشلولتين. من شو.. يا عين أمك؟ من ألله.. وربما من الكرسي الألماني. بس.. بلا حكي برَّا الطريق.. دعهم يا رجل.. فرع فلسطين كفَّى ووفَّى. من أراد الجلوس، يجلس.. ولكن حذار من البربرة والبصبصة.. وأنت أبو الفيلد العسكري، ثبِّت الطمّيشة على عينيك أحسن ما أحطلك طمّيشة ثانية. أمسكني أحدهم من كتفي: تعال أنت. سحبني بضعة أمتار، وربما أدخلني إلى واحدة من الغرف المجاورة. سألني صوت هادئ ومسالم، رغم نبرته الاستجوابية: أنت هو الشاعر أليس كذلك؟ لا أدري إن كنتُ أنا من تعنيه.. ولكني أكتب الشعر. ماذا كنت تعمل قبل التخفّي؟ في الصحافة. هل حقاً لك أشعار مطبوعة؟ نعم.. لي بعض الأشعار المطبوعة. أين طبعتها؟ في لبنان. ووزّعتها بصورة غير مشروعة طبعاً! أبداً.. لديَّ ترخيص فيها من وزارة الإعلام. كان ينبغي أن تكون هنا منذ ثلاث سنوات.. ولكن ساعدك الحظ كثيراً على ما يبدو. شكراً للحظ.. ولكنك وقعت أخيراً. ليست معجزة. هل كنت تنشر في الصحف السورية؟ سورية وغير سورية. ما حرام تضيّع مستقبلك؟! مستقبل أمة بكاملها ضائع. يبدو أنك لم تتعلَّم شيئاً من تجربتك.. أعيدوه إلى مكانه.
في الرابعة بعد الظهر وزّعونا على منفردات متباعدة، وفي اليوم التالي جمعونا في غرفة واسعة نسبياً، وتعاملوا معنا بطريقة شبه حيادية. قال أحدنا، إنه التقى البارحة، أثناء الخروج إلى التواليتات، بسجين سياسي قديم في الفرع، أخبره أن ذهابنا إلى سجن صيدنايا مستبعد، فإما سجن المزة، وإما إلى تدمر لفترة عقابية، قد تصل إلى ستة أشهر. غير وارد على الإطلاق، علَّق أحدنا بطريقته القطعية، وغير منطقي أبداً، فرفاقنا الذين كانوا هناك، نقلوهم جميعاً إلى صيدنايا، فما مبرِّر ذهابنا إلى هناك؟! قال آخر: تعلمون أن عضو اللجنة المركزية “مضر الجندي” شوهد لمرة واحدة أثناء التحقيق، وبعدها انقطعت أخباره، وليس هناك إلا واحد من احتمالات ثلاثة: إما أنه استشهد أثناء التعذيب. وإما أن لديه معلومات خطيرة، يخشون أن تصل إلينا أو إلى الخارج، فعزلوه عنا، وأنتم تعرفون أن هناك سابقة من هذا النوع. وإما أنه انهار وتعامل وخرج. وبغض النظر عن أرجحية الاحتمال الأول، فإن أي واحد من الاحتمالات السابقة، يجعل ذهابنا إلى تدمر أكثر من وارد. تناقشنا طويلاً، ولكن نقطة واحدة، اتفقنا عليها، فيما لو تحقق هذا الاحتمال التدمري الأسود، هي رفض “التشريفة” هناك، أو مقاومتها والاحتجاج عليها بكل السبل الممكنة. بعد ساعات أعادوا توزيعنا على الزنازين، لنخرج منها بعد يومين إلى ميكروباص أنيق، جعل أحدنا يعلّق متفائلاً: النقل إلى تدمر يتم عادةً بالسيارة “القفص”، أما هذا الميكرو السياحي!
ما كدنا نجلس على المقاعد حتى أحضروا الكلبشات والطمّيشات. الكل يديه إلى الخلف. كانت النبرة آمرة وقاطعة. لا أدري لماذا تصرُّ المخابرات العسكرية على استيراد هذا النوع من الكلبشات الاسبانية الصنع! صحيح أنها أنيقة ولامعة، ولكنها في منتهى اللؤم. سامحكم الله أيها الإسبان.. لا أنكر أن أجدادنا، احتلُّوا بلادكم فيما مضى، وهذا رغم كل شيء يؤسفني حقاً، ولكن ألم تجدوا طريقة أخرى غير هذه لردِّ الجميل؟! انتبهوا إلي جيداً.. الجميع رأسه دون مستوى المقعد الذي أمامه، وأي حركة يميناً أو يساراً ستكلّفكم غالياً. صمتٌ ضبابي عائم، يضفي عليه فحيح “اشطمان” الميكرو شيئاً من القشعريرة. اتجه الميكرو شمالاً ثم شرقاً ثم شمالاً.. لا تزال الشوارع معروفة بالنسبة إلينا جيداً.. أطوالها، ميولها، اتجاهاتها، وانعطافاتها. تبخَّر احتمال المزة، فخط السير الآن يتأرجح بين الشرق والشمال. هذه أول مرة أدرك فيها بعمق، مدى الأهمية والكيفية التي تعمل بها الحواس الأخرى لدى الضرير. اجتزنا المفرق الأول المؤدي إلى صيدنايا.. بقي هناك احتمال أن نذهب إليها عبر مفرق “معلولا”. هكذا أكد لنا أحد الرفاق منذ يومين. ما يزال هناك أمل.. مفرق “أبو الشامات تدمر”، قبل معلولا بكثير، فإذا اجتزناه، بقي احتمال صيدنايا فقط. ولكن.. لماذا يأخذوننا إلى صيدنايا عبر مفرق معلولا، بينما طريق “برزة تل منين”، أقصر وأسهل؟!. لا أدري.. بدأت هواجس تدمر، تنشر دخانها في رأسي بكثافة. أبو البلوزة الكحلية راسك لتحت. إذا كان المصير إلى تدمر، فهذا يعني أن وضعنا، سيبقى مجهولاً إلى أن تفتح الزيارات. الوضع الصحي لمعظمنا لا يستطيع أن يتحمل تدمر.. بعضنا سُحِب من المشفى قبل استكمال العلاج، فهل يعقل أن يرسلونا إلى تدمر، ونحن على هذه الحال؟! المشكلة أن رئيس الفرع موتور وحاقد، وما من شيء يمنعه عن إرسالنا إلى هناك. ألم يقل إننا أسفل مجموعة يراها في حياته، وإننا عذبنا جلاَّديه أكثر مما عذبونا؟! يا كلاب.. ما إن ترفع الطمّيشة عن عيونكم، حتى تحدِّقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى القحبات. وشرف أمي لنسِّيكم الحليب اللي رضعتوه يا عرصات. السافل.. ما علاقة شرف أمه بالموضوع؟! فجأة انعطف الميكرو بحدَّة إلى اليمين مصوباً جهة الشرق. اللعنة.. هي تدمر إذن!! لقد احترق الحبل الأخير من مظلَّة الوهم.. كل شيء يحترق ويحترق و يحترق.. إنه السقوط الحر. أمال الرفيق الذي بجانبي ساقه حتى لامسني، وراح يضغط، كما لو انه يريد أن ينعجن بي. تا دا مو راااااااا … هكذا صرخ صديق لي، قبل حوالي عشرين عاماً، وهو يلقي إحدى قصائده عن تدمر زنوبيا.
بدأ الطريق يتلوَّى، لا لشيء سوى ليطول. حقاً إن اقتحام الخطر، أقل وطأة من ترقبه، وتدمر لا تريد أن تصل. آ ا ا ا ا ا ا خ.. صرخة نهائيَّة فاجعة ممتدَّة على طول هاوية سحيقة. إخرس ولك شرموط.. شو في عندك؟ الكلبشة انزلقت، ويداي تتقطَّعان. دبِّر له الكلبشة بمعرفتك. طخ.. ضربة بأخمص البندقية على الرأس، أوقفت الصراخ في منتصف الهاوية، ثم شيئاً فشيئاً أصبحت السماء والأرض منطبقتين تماماً، لا يفصل بينهما سوى خيط من الأنين، وربما خيط من الدم، وفحيح اشطمان الميكرو. يا إلهي كم يبدو الزمن بطيئاً ودبقاً وكريه الرائحة!! كم تبقَّى حتى نصل؟ سأل أحد عناصر الدورية المرافقة. ليس أكثر من نصف ساعة، أجابه آخر. نايمين يا عكاريت؟! من شوية كنتوا بالفرع عاملين لي قبضايات! هلق منشوف زلوميّتكن.. قال شو..؟ ما بتعرف خيرو لتجرِّب غيرو.. والله تاتْشوفوا نجوم الظهر هلق.. بتستاهلوا.. ماني فهمان شو كان بدكن بهالشغلة الوسخة.. كلَّيتكن مثقفين وعايشين وعين ألله.. رْفَسْتوا النعمة لشو؟! شو يللي ما عاجبكِن بسيادة الرئيس آ ا ا؟ منين بدكن تجيبوا رئيس أحسن منُّو؟! أحكوا.. هاتوا تاشوف.. منين؟ صدقوني إذا بتبرموا الدنيا شرق وغرب، ما رح بتلاقوا رئيس بيجي لضفر من ضافيرو.. والله لو تفهموا وتقدروا بس، تاكنتوا تركعولو وتصلُّولو ياعكاريت.. قولوا بس شو يللي ما عاجبكن فيه ؟! ولك والله شخاختو دوا.. ولك والله والله خريتو مزار.. كانت كلمات المحاضرة تخرج من فم العسكري مهتوكة ومشرَّمة ومليئة بالتأتأة والنبر في غير أماكنه، وبين الجملة والأخرى كانت أخامص البنادق، تكمل عرض براهينها المفحمة بالدق على رؤوسنا حتى توقَّف الميكرو. كل واحد هلَّق يترك الطمّيشة عند الباب، وينزل وعيونو مغمَّضة وراسو بالأرض، وإيدو بإيد رفيقو.
كان الممر الذي دخلنا فيه أشبه بنفق مكشوف، وعلى جانبيه قيامة من السياط واللكمات والركل والأصوات البهيمية الزاجرة. بعد زمن يشبه الغيبوبة، وجدنا أنفسنا محشورين في غرفة صغيرة على ثلاثة أنساق، واجمين ووجوهنا إلى الحائط. حين نظَّمنا العسكري على أنساق، رأى العدد زائداً في النسق الثالث، فطلب مني أن أقف منفرداً بمحاذاة الجدار، ثم تركنا وغادر الغرفة. تساءل أحدنا: هل انتهت التشريفة؟ جاءه الصوت من الخلف كضربة سوط: بلا حكي يا منيوك. ران الصمت من جديد.. ثم فجأة أحسست بيد صلبة، تسحبني من كتفي.. التفتُّ لأرى نفسي أمام رقيب أشقر فاقع، يرفع رأسه على نحو استنكاري، وهو يحدجني بنظرة حجرية، تقدح إنذاراً ما. هززت رأسي مستفهماً عما يريده، فقال لي: غمَّض عينيك. لم أكن أعرف، أن إغماض العينين في تدمر، هو الدرس الأول، الذي يتلقاه السجين فور وصوله. تذكرت كلمات رئيس الفرع: يا كلاب.. ما إن ترفع الطميشة عن عيونكم، حتى تحدقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى القحبات. أعاد الرقيب أمره بنفاد صبر، كما لو انه الإنذار الأخير قبل إطلاق النار. فكرت أنني لن أسمح له بترويضي مهما كان الثمن. مرت بضع ثوان، كلانا يحدق في الآخر، منتظراً أن تنتهي المبارزة لصالحه. اقترب مني أحد العساكر.. ما يقوله لك حضرة الرقيب أمر عسكري منزل من عند ألله، ورفضُ التنفيذ، يعني كفر وتمرد.. نفذْ أحسن لك. همسات بعض الرفاق تصلني راجية ومشجعة ومستغيثة ومؤنبة ومواسية: لا داعي لتكبير الموضوع. رفيق لا تعملها مشكلة. مشِّها الآن وفيما بعد نرى. يا الله بسيطة رفيق.. أغمضتُ عيني. - أغمض جيداً. أغمضت بقوة، لعلي أقنعه بأنه كسب الجولة، وأنتهي من هذا الموقف السخيف. صفعة كافرة طرقع صوتها تاركاً في فضاء الغرفة صمتاً مدوياً، أعقبه طنين شامت، شعرت معه أنني أقف على نصل حادّ، يشقُّني بين رغبتين: الانتحار أو البكاء. بعد قليل أدخلونا بالتتالي إلى غرفة الذاتية. فلان الفلاني.. حاضر. يا ابن المنتاكة.. قل حاضر حضرة الرقيب، ثم ادخل. دقَّقَ مسؤول الذاتية قيوده وبلطف واضح أعلن: خالصين تفضلوا. تقدمنا بتثاقل، وكان بعضنا يشهق ويزفر، كما لو انه يتنفس الصعداء. عندك.. الجميع جالساً.. جلسنا. إشبكْ يديك حول الركبتين. شبكنا أيدينا. تشرت تشرت تشرت… صوت ماكينة حلاقة يدوية بدأ من الخلف شاقاً طريقه إلى الأمام بثقة واستهتار. حقاً المرء بشعر وشاربين، ليس هو نفسه بدونهما. بلدية.. صرخ الرقيب: خذوهم إلى باحة التشريفة. يا دين دينكم!! إذن ليس كل ما مضى سوى تحضيرات للتشريفة؟! إخلع كامل ملابسك. بدأنا بخلعها ونحن نتلكَّأ بفك الأزرار، كمن يحاول تأجيل قدر محتوم، ولو لبضع ثوان إضافية، لعل معجزة ما، تغير مجرى الحكاية. باحة شاسعة تتسع لخمسين زنزانة. نخلع الكلاسين أيضاً؟ قلت كامل ثيابك…أترك الجلد فقط، فنحن بحاجة إليه. أغمضتْ أمُّنا الدنيا عينيها، وصكّت أسنانها، وانزوت في الركن الأبعد من باحة التشريفة، مديرة ظهرها لأمواج متدافعة من الأصوات الممزقة بين الصراخ والعواء، وما يشبه الولاويل. هياكل لكائنات غريبة، محزومة أرجلها ومشدودة إلى أعلى. كل الأشياء مقلوبة…كل الآلهة عاجزة ومجللة بالخزي .. وحده الموت يقف عابساً مهيباً ثابت الجنان. كانت السياط والكرابيج، تشخط الهواء بزفيرها، تاركة وراءها أنيناً مخطوفاً، تتخلله شهقات دامية متقطعة.
إنهضوا.. ثبتوا الطمِّيشات على عيونكم، وليضع كلّ منكم يده على كتف الآخر.. صفّاً.. سِرْ. تقدمنا كقطار، تتدافع مقطوراته وتتراجع، متلاطمة تبعاً لحركة القاطرة الأولى، التي يقودها أحد عناصر البلدية. تحرَّك يا حيوان تحرَّك.. إرفع رجلك قليلاً عند اجتياز الباب. اجتزنا الباب الأول. إلى اليمين تابع.. تابع بسرعة.. إرفع رجلك أيضاً.. تابع.. إلى اليمين.. عندك.. انتظر قليلاً..تابعْ.. إلى اليمين.. إلى اليمين أيضاً.. قف.. تقدَّم قليلاً.. قف.. إرفعوا الطمِّيشات.. هذا مهجعكم، وهذه البطانيات.. خلال نصف ساعة أريد المهجع جاهزاً. من هم العسكريون بينكم؟ رفع العسكريون أيديهم. ما رتبتك أنت؟ رائد. صفعة خاطفة مدرَّبة.. قل رائد حضرة الرقيب.. وأنت الآخر ما رتبتك؟ مساعد حضرة الرقيب. إذن أنت رئيس المهجع.. انتبه جيداً لتقديم الصف، كلما فتح الباب، وكلما أغلق.. مفهوم؟ انسحب الرقيب والعساكر، وما كاد الباب يغلق، حتى فتح من جديد. رئيس المهجع تعال. رشقة من الصفعات وقذيفة على البطن. لماذا لم تقدِّم الصف، عندما أُغلق الباب؟ قدم الصف تا شوف. حاضر حضرة الرقيب.. انتبه.. استا.. عد.. استا.. رح.. استا.. عد.. المهجع انتهى من التفتيش حضرة الرقيب. صفعة طرشاء.. قل الرقيب أول ولك عرص.. أعِدْ. المهجع انتهى من التفتيش حرقيب أول. هكذا دمج رئيس المهجع كلمة “حضرة” مع “الرقيب” من شدة الارتباك. ابتعدت الخطوات، وتدحرجت عيوننا في أرجاء المهجع: واسع متآكل.. مخنوق بالغبار.. والجدران أشبه بلوحات سوريالية مطروشة بالدم والوسخ ولطخات متنوِّعة من الدهان والبقع المرمَّمة بشيء من الإسمنت.. أما الأرض.. حسناً. سأختصر الموضوع وأسألكم.. هل سمعتم باسطبلات “أوجياس”؟!
” دوائر ذات شهيق متصل “
آخ يا تدمر.. في أواخر عام / 1978/ التقينا للمرة الأولى. كنا يومها بضعة أصدقاء، يجمعنا الشعر، والحنين إلى ما لا نعرف، ومقدار ليس قليلاً من البراءة والمستقبل. في ذلك المدرَّج المشرف على أمومة التاريخ.. عمَّرنا سهرتنا، وكان القمر زنوبياً إلى حد الفتنة. وها نحن الآن، بعد حوالي عشر سنوات، نلتقي ثانيةً.. لكن هذه المرَّة بدون الشعر، بدون ذلك القمر الزنوبي الفاتن، وربما بدون المستقبل. تدمر هذه المرَّة.. تاريخٌ رمليّ وجغرافيا متحرِّكة.. دم يطغى، ويتدافع دوائر دوائر.. دوائر فاجرة ذات شهيق متَّّصل، تبتلع في طريقها الآثار والنخيل، النَّاس والمدن، وحتى الزمن والأسماء. تدمر هذه المرة زمن آخر، زمن يسير على أربع، مغمض العينين، يعوي حيناً، ويموء حيناً، وتتقطَّع أنفاسه حين يبدأ تنفُّس المهاجع في الباحات. لا أدري إذا كانت كل الباحات مثل باحتنا.. غير أن الوهوهات، والعواءات المقلوبة المتناهية إلينا من الجوار، كان لها نفس الملامح.. مطعونة بنفس الإيقاعات. أجل.. التنفُّس في الباحة قطع أنفاس حقيقي، وفي بعض الأحيان قطع أنفاس نهائي. ليس في هذا مجاز لغوي أو مفارقة شعرية. لقد حدث ذلك في باحتنا أربع مرَّات على الأقل خلال عام واحد، أربع مرَّات أكيدة، شاهدناها من ثقوب الباب، وفي أحيان أخرى كنا نشعر بكثافة الموت، وهي تدق الأبواب، ولكن شبح الشرطي القريب من “الشرّاقة” الفاغرة في السقف، كان يحول دون اقترابنا من ثقوب القلق والفضول والمعرفة. حين تنقطع أنفاس أحد السجناء بشكل نهائي، في فترة التنفس أو بعدها بقليل، كان يكتفي رئيس المهجع بدقّ الباب. بالطبع لا داعي لأي تساؤلات حول سبب الدَّق. ثمة أمور بديهية بالنسبة إلى السجناء، ولاسيما القدامى منهم، فالدق على الباب يعني في الغالب وجود حالة موت، ذلك أنه لا يمكن أن تسمع أي دق على الأبواب خارج هذه الحالة ومرادفاتها. للحق كان الطبيب يأتي مع شرطيين أو ثلاثة، ومن وراء الباب يسأل صوتٌ ما عن سبب الموت، ويكون الجواب أي شيء سوى الحقيقة.. لأن إعلان الحقيقة، يمكن أن يكلِّف المهجع المعني ضحية جديدة في اليوم التالي. مرة.. أعلن أحد السجناء في المهجع المقابل إضراباً مفتوحاً عن الطعام. حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه.. تعبت الأحذية والقبضات والعصيّ. أثناء التنفس.. أثناء توزيع الطعام.. وفي الليل عبر الشرّاقة الفاغرة في السقف. أحياناً كانت أمواج الهستيريا الذئبية، تنعقد وتفور، وهي تمارس انتقاماً مجروحاً بالعنانة ومختوماً بالموت، لكن ما تلبث تلك الأمواج، أن تتكسَّر على سدّ الأجساد البشرية، التي تخرج من المهجع كقطيع مذعور، وتدخله كقطيع مذعور، وتصطفُّ أثناء التنفس كقطيع فقدَ إيمانه بالجدوى الإنذارية، التي يمثلها الرعب. بين موجتين أحضر الشرطي فأراً ميتاً. ربما كان ينوي إطعامه لذلك السجين المضرب عن الطعام ، ولكن حالة السجين على ما يبدو، لم تكن قابلة لغير الموت. لهذا كان الفأر من نصيب سجين آخر، كان هو الأقرب إلى الشرطي. كنا حينها أكثر من عشرين عيناً، تتوامض متقاطعة، وهي تتزاحم على ثقوب الباب. أدخل الشرطي فأره في فم السجين، وأمره أن يبتلعه ابتلاعاً بدون أي مضغ. حاول السجين في البداية قليلاً قليلاً.. ولكن في منتصف الطريق، بدأت عضلات وجهه، تتقبَّض وترتجف.
لو أي شيء غير هذا الفأر الميت! لو كان مسلوخاً على الأقل!
أدار السجين رأسه بحركة لولبية بطيئة، وهو يضغط على العنق. كانت يداه.. كأنما تشدَّان شيئاً ما، ولكن بدون جدوى. باعد قدميه.. أو تباعدتا وهو يوازن حركته، مخالفاً ما بين دفع عنقه إلى الأمام، ونتر يديه إلى الخلف.
أن يبتلع الفأرُ إنساناً.. يبدو لي أسهل من أن يبتلع الإنسانُ فأراً!
عاد السجين يمطّ عنقه، بينما كان جسده يتلوَّى وينحني، هابطاً إلى نقطةٍ تمكنّه من الانتفاض مجدَّداً، فيقمح برأسه على طلقاتٍ متتالية، ومع كل طلقة يخطف يديه إلى الخلف، ويستعيدهما بلجلجةٍ واضطراب، ليخبط بهما في أكثر من اتجاه، مثل غريق يبتلعه الهواء. سكن للحظات، بدا فيها مستنزَفاً إلى آخره.. يا ابن الشرموطة إياك أن تمضغ. يلكزه الشرطي في خاصرته. قلتُ لك أن تزلطه زلطاً إلى النهاية. فجأة عاد السجين يحاول، وقد أطبقت كفّاه على عنقه، وراح يضغط حيناً، ويمسّد حيناً بحركات متشنجة ومتواترة. بين كل حركة وأخرى، تنفلت يداه، وهما تلوبان على شيءٍ ما في الفراغ، ثم يعيد المحاولة، وتنفلت يداه..
أين يقع مفترق اللّه مع الإنسان؟ مفترق الأرض مع السماء؟ الحياة مع الموت..؟ أين؟!
يا منيوك لا تحرِّك فكيك.. قلت لك زلطاً. هزَّ السجين رأسه عدة مرات، كما لو انه يريد أن يرسل إلى الشرطي إشارات سريعة من الموافقة والاستعطاف، ثم تابع تحالفه مع جسده في أكثر من وضعية، تتيح له التحايل على قضائه الداهم. إنه يحاول بأكثر من يديه ورأسه وقدميه.. يحاول بكل ما آتاه الله من قوة اليأس وإحساس الطريدة بالاستفراد.. لم يزل يحاول.. مرة.. اثنتان.. ثلاثاً.. أربع.. سقط على ركبتيه. إنهض يا كلب يا خرا.. قلت لك انهض.. ترفض الأمر العسكري؟! بسيطة.. إذا بقيت حياً نتحاسب. نهض السجين. دار دورتين في المكان، وهو يدقُّ صدره بقبضتيه، ثم ما لبث أن بدأ ينتفض ويترنَّح، إلى أن بلغ أقصاه، وبدا واضحاً أن ضريبة إعلان عجزه، لن تكون أكثر سوءاً من الاختناق، فنزل على ركبتيه، مردفاً رأسه إلى الخلف، وهو يشير بيديه مستغيثاً يطلب الماء. كان الجزء الأخير من ذيل الفأر، لا يزال متدلياً عند زاوية الفم.
آخ يا تدمر آخ.. لم أكن أنوي الدخول في هذا الاستطراد المرهق.. ولست مقتنعاً الآن بالتراجع عنه، ولم يعد لدي القدرة على العودة إلى تفاصيل ما تعرّض له ذلك السجين، المضرِب عن الطعام، خلال أربعة أو خمسة الأيام اللاحقة. أعتقد أن بإمكانكم مساعدتي، أو على الأقل تفهُّم وغفران عدم قدرتي، وربما عدم رغبتي في استكمال ما بدأت. لقد حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه. تعبتْ الأحذية والقبضات والعصيّ، ولكنه.. هل يكفي القول، إن ما تعرَّض له ذلك السجين منفرداً، يفوق ما تعرَّض له المهجع مجتمعاً؟ ومع ذلك فإن المسكين.. لم يم!! فقط أصبح مجنوناً. أصبح.. مجنوناً.. فقط.
الساعة الآن الثالثة والنصف صباحاً، وقد مضى على انتقالي إلى هنا، أعني إلى سجن صيدنايا، أكثر من عامين، فما الذي أخذني الآن إلى تدمر؟ لعله الحديث الذي دار في أول السهرة، بيني وبين أخي، حول العام الذي زرته فيه، عندما كان يعمل مدرِّساً في تدمر. كنا يومها بضعة أصدقاء، يجمعنا الشعر، والحنين إلى ما لا نعرف، ومقدار ليس قليلاً من البراءة وال..
” ستة عشر يوما من الجمر “
مضت الأيام خائفة.. متلجلجة.. ونازفة. أن ترفع رأسك، معناه أن ترفع نعشك، وتستعد للسير في أول الجنازة. كنا نميز العساكر من أشكال أحذيتهم. ذو الحذاء الصغير الأسود اللامع ليس سيئاً. بل إنه يبدو أحياناً، وكأنه متعاطف معنا. أما ذو الجزمة السميكة الوسخة، فإنه بلا شك، يتدرَّب الكاراتيه، ويطبق تمارينه علينا بطريقة غبية. غبية وربما أكثر إيذاء مما يريد.
حقاً أصابع المرء ليست واحدة، فقد كان هناك عساكر في منتهى الطيبة، وبعضهم كان يتعاطف معنا إلى درجة لمعان الدمع في العيون. لا أستطيع أن أنسى ذلك السجان، الذي كان، كلما أخذوني إلى التحقيق، يترك لي في المنفردة بعضاً من الحلوى أو الفاكهة. إحدى المرَّات كان هو الذي يرافقني إلى المنفردة بعد انتهائي من إحدى جولات التحقيق، وما إن فتح الباب، حتى وقعت عيناي على قطعة كبيرة من “الهريسة”. يصعب أن تصدقوا ما تعنيه قطعة هريسة بالنسبة لسجين جديد، استنزف التحقيق من دمه وأعصابه وعرقه، ما لا يستطيع احتماله أي كائن آخر غير الإنسان. التفتُّ إلى السجان مبتسماً، في الحقيقة كانت أعماقي تخفق بفرح طفولي غامر، وشكرته كما هي العادة. سألني عن مبرِّر ذلك، فأشرت بإصبعي إلى الهريسة. تغير لونه، وارتبك قليلاً، ليضيف: أنا لم أستطع، أن أترك لك شيئاً هذا اليوم. أغلق الباب، وما إن ابتعدت خطواته، حتى وصلني صوت أحد الرفاق: هل أعجبتك الهريسة يا منفردة /13/؟ هذا أنتم إذن؟ يا لتسرعي وضعف مبادهتي أيها الرفاق، لقد شكرت السجان عليها!
أجل.. تمضي الأيام طائشة ومترنِّحة، بل غامضة ومتحفِّزة وموحشة وعمياء. صحراء تشهق رملاً، ولا تزفر سراباً. أرجوحة بين نصلين لامعين يتناوشانها ذهاباً وإياباً باسم الحياة والموت. يا إلهكم! هل يستقيم لكم، أن تروا الحياة والموت على هيئة واحدة؟! رئيس المهجع /18/.. إرم من الشرَّاقة أفضل بطانية عندك. من شان شو حضرة الرقيب؟! من شان خرا بتمَّك يا شرموط.. من شان الخبز. كان صوت العسكري، وربما أحد عناصر البلدية، يلعلع في الباحة: رئيس المهجع /19/.. أفضل بطانية عندك../20-21-22-23-24/ أفضل بطانية عندك. شهقات غريبة متقطِّعة! انتبهنا إلى مصدر الصوت، فرأينا أحد الرفاق، وهو يجاهد في خنق ضحكة غير مفهومة، ولكنه ما لبث أن استسلم، تاركاً العنان لصوته وجسده وحركاته. تكلَّحت ملامح رئيس المهجع، وهو يسأل عن سبب الضحك، فأجابه الرفيق، وهو لا يزال تحت تأثير الحالة: لاشيء.. فقط أضحكتني نبرة العسكري، وهو يلفظ كلمة: شرموط. اكفهر وجه رئيس المهجع، واحتقنت عيناه بدمع حجري مقهور: ولكنك لم تضحك يا رفيق، عندما قالوا لك البارحة: يا منيوك! رَدَّ ثالث: في الحقيقة كلمة “شرموط” أخف وطأة من كلمة “منيوك”. قال آخر: بالعكس.. فكلمة “شرموط” هي أقذع شتيمة ممكنة. تدخَّل خامس، ليقول بجديَّة تامة: أنا لا أعرف حقاً أي اللفظتين أسوأ، ولكن لا داعي لهذه المهاترة، مادام بيننا اختصاصي لغة عربية، مشيراً إلّي. أنقذني أحدهم، وهو يعيد الدماء إلى مجاريها: ولك يا شباب شو صار لكم.. كلّه ألعن من بعضه.. الله يرحم خلافات أهل الكوفة والبصرة. يا سادة نحن الآن في تدمر، خلّونا نحل مشكلة البطَّانيات أولاً، وبعدها لكل حادث حديث.
في كل يوم كنا نرمي أفضل بطانية لدينا، فيعود إلينا الخبز مع بطانية جرباء مهترئة، وحين ضغطنا على رئيس المهجع، ليطرح المشكلة مع حضرة الرقيب، رضخ رئيس المهجع، ولكن رد الحضرة جاء عاصفاً. وبعد ما صحونا، اكتشفنا أن أربعة أو خمسة منَّا، لا يسمعون جيداً، وأن غشاء الطبل.. صفعة واحدة تكفي لثقبه أو تمزيقه.
بعد شهور نقلونا إلى المهجع /24/. قال لنا أحد الرقباء: هذا أفضل مهجع في السجن.. هواء وشمس ودلال. كنَّا نسمي هذا الرقيب “الجرو”. في الحقيقة ما من رقيب إلاَّ ركّبنا له اسماً حركياً، استوحيناه من شكله أو سلوكه أو صوته..إلخ. الرقيب الأشقر النحيف الطويل أطلقنا عليه اسم “آسفين”، لأنه حين سألَنا عن سبب ارتفاع الصوت، قال له أحدنا: لم نكن نعتقد أن الصوت كان عالياً أكثر مما.. قاطعه على الفور: لا تناقشني.. قلت لك كان عالياً. حسناً حضرة الرقيب.. آسفين إذا كنت ترى الأمور كذلك. ضيَّق الرقيب جفنيه بحركة ازدرائية: قلت لي آسفين آااا ؟! والله تاليتك بتاكل خرا، وبتحكي نَحَوِي! بعد هذه الحادثة وجدنا أنفسنا، حين نأتي على ذكر هذا الرقيب، نسميه “آسفين”. العريف ” شميدت”، استنبطنا له اسمه من شكله الألماني، وأعطينا الرقيب “الصرصور” اسمه من خلال تركيبة صدره، وربما من خلال صوته، والرقيب “جمال” من أناقته وتهذيبه بشكل عام. أما ” الجرو” فلأنه كان في إحدى موجات التعذيب الدوري المنظَّم، يعوي أكثر ممَّا يعضّ، في حين كان الآخرون، يعضّون أكثر ممَّا يعوون، وقد اختلفنا لاحقاً حول التسمية. بعضنا اعتبرها مديحاً له، وبعضنا اعتبرها ذمَّاً، لا يليق بسلوكه الذي ينم أحياناً عن ذكاء وتعاطف.
في إحدى فترات التنفس كان “الجرو” يغنِّي واحدة من أغاني سميح شقير الشهيرة: رجع الخيّ يا عين لا تدمعيلو فوق كتاف رفقاتو ومحبّينو رجع الخي يا يمَّا زغرديلو ها الشهيد دمَّاتو دين علينا. يا شباب أسمعتم؟! ألم أقل لكم إن وراء تصرُّفات الجرو ما وراءها؟ كلُّكم سمعتم الأغنية التي غنَّاها.. ألا تعتقدون أن هذه الأغنية رسالة واضحة الدلالة؟ نعم.. إنها تدل بوضوح على أننا سنرجع محمولين، ولكن ليس بالضرورة على أكتاف الأحباب والأصدقاء!
ذات يوم ساءت صحَّة أحد الرفاق، وحين فحصه طبيب السجن، قال إنه سيشرح للإدارة ضرورة نقله إلى مشفى تدمر.. وبالفعل نقلته الإدارة خلال ساعات. يا رفاق.. لو كانت حياتنا مهدورة، لما نقلوا رفيقنا إلى المشفى، وما دامت حياتنا ليست مهدورة، فلماذا لا نفكر بمواجهة محدودة بغية تحسين شروط حياتنا؟ عقدنا اجتماعاً مطولاً وفي منتهى الدرامية، استطعنا في نهايته الوصول إلى إقرار مشروع إضراب عن الطعام، احتجاجاً على سوء المعاملة وغياب الكتب والجرائد ونقص الطعام والأدوية، وغير ذلك من تفاصيل حياتنا اليومية. تحركت الإدارة بدينامية عالية عبر بعض الرقباء… ترهيب وترغيب وجس نبض..الخ. لاحقاً جاء المساعد، ليخبرنا أن الإدارة، لا تسمح بهذا السلوك أبداً.. ثم ما الداعي لهذا الجنون، طالما أن الإدارة، ستلبي طلباتنا قريباً بشكل طبيعي.. أم أننا ننوي استفزاز مدير السجن؟ لا بأس يا رفاق، سنكتفي بالإضراب ليوم واحد، فإن حققت الإدارة مطاليبنا كان خيراً، وإلا..فسنعود إلى الإضراب من جديد.
سنة وخمسة شهور والإدارة تماطل، ونحن نحاول.. في الواقع حسَّنوا معاملتنا جزئياً.. صارت الإهانات الجسدية والمعنوية أقل، وأعطونا النشرة السياسية، التي تصدرها إدارة التوجيه المعنوي للجيش. يا رفاق.. انتظرنا الإدارة أكثر مما ينبغي، وها قد مضى على اعتقالنا سنتان ونصف تقريباً بدون زيارات وبدون جرائد وكتب وبدون تنفس حر وبدون..
في 12 تشرين الأول 1989 بدأنا إضرابنا الثاني، وحددنا مطاليبنا بصورة أوضح وأوسع: الزيارات، المعاملة، الجرائد والكتب والأقلام ، باحة خاصة للتنفس طيلة النهار، الأدوية، الطعام.. كنا نقدر أن الإضراب سيستمر طويلاً، وأن الإدارة ستلجأ إلى كسره بالقوة، ولهذا لم نعلن عنه إلا بعد مرور ثلاثة أيام، وذلك لوضع الإدارة أمام الأمر الواقع، وبالتالي إلغاء جدوى تفكيرها باستخدام العنف. في البداية أعلنا أننا مضربون عن التنفس، وعند أول تصعيد من قبل الرقباء، أخبرناهم أننا مضربون عن الطعام أيضاً، وأنه قد مضى على إضرابنا ثلاثة أيام. قامت قيامة السجن.. ربما هي المرة الأولى التي تشهد فيها إدارة سجن تدمر إضراباً من هذا النوع. أخرجوا من بيننا أربعة رفاق لا على التعيين، ثم أغلقوا المهجع، لتبدأ جهنم في الخارج. كان الرفاق الأربعة يترنحون تحت الضربات الطائشة لقبضات العساكر وأحذيتهم، والحارس الواقف على السطح يصرخ مهدداً بعد أن لقّم بندقيته، وصوَّب باتجاههم. لن تخيفنا بصراخك.. هاهي صدورنا عارية.. إفتح النار إن كنت شجاعاً. كنا نرقبهم من ثقوب الباب، ودماؤنا تغلي. صرخة مخطوفة أطلقها أحد الرفاق في الخارج، وهو يضع يده على خاصرته، ثم ما لبث أن هوى كشجرة، قصفتها ضربة برق.
لا ندري كيف استطاعت قبضاتنا، أن تخلع الشرَّاقة، وقد اندلع المهجع بما يشبه الهستيريا. صراخ مجروح وهتافات وحركات يائسة وطرق مجنون على الباب: يسقط القمع يسقط الإرهاب تسقط الديكتاتورية عاشت الحرية. أسوار السجن وباحاته ومهاجعه صماء خرساء، وإن كانت تسمع وتردد أصداء صراخنا، وهي ترتطم على جدرانها، متناثرةً شظايا في كل اتجاه. اهدؤوا لنتفاهم، قال الرقيب المسؤول. لن نهدأ قبل أن تُدخِلوا الرفاق الأربعة. اهدؤوا أولاً، فندخلهم. أدخلوهم أولاً، فنهدأ. كنت أقف على الشرّاقة، محاولاً قدر الإمكان ضبط انفعالاتي أثناء هذا الحوار، وتهدئة بعض الرفاق الذين فقدوا السيطرة على أعصابهم تماماً. يبدو أن أحد العساكر ضاق ذرعاً بتلك المحاورة، فاندفع باتجاه الشرَّاقة مزبداً معربداً، وعندما وصل أمامي، أطلق صلية من الشتائم، ثم أتبعها ببصقة، جعلتني أصحو، وأفقد صوابي! كان وجهه أمامي تماماً، فرددت له البصقة بأقصى ما أستطيع. صمتَ المشهد كاملاً.. وقف العساكر مذهولين للحظات، قبل أن يرفع الرقيب المسؤول يده علامة النهاية. فتحوا الباب.. دخل الرفاق الأربعة، وانسحب العساكر، تاركين في الباحة صمتاً متربصاً، ينذر بكارثة. أدان الرفاق سلوكي، واتخذوا الاستعدادات المطلوبة في حال تمَّ تفريقنا إلى الزنازين، بعد أن قرَّروا إنكار الواقعة أمام المساعد ومدير السجن، ومنعي من إعلان مسؤوليتي الشخصية عن البصقة. لا يارفيق.. البصقة هنا ليست مسؤولية شخصية، بل إنها لم تحدث أصلاً، فإن أعلنت مسؤوليتك عنها، فأنت خارجنا. مسؤوليتك الشخصية قد تعني تصفيتك يارفيق..أما المسؤولية الجماعية فتبقى أقل وطأة.
بعد ساعات حضر المساعد، وأثار حادثة البصقة مع شيء من التهديد، ولكنه سرعان ما تجاوزها إلى مناقشة الإضراب وضرورة إنهائه بالحسنى، غاضاً الطرف عن البصقة وهيصة الشعارات والدق على الباب. إن أكلتم شأنكم، وإن صُمتم شأنكم.. ستموتون جوعاً مثل الكلاب. لقدكان مفاجئاً وغريباً، أن الإدارة لم تلجأ إلى الانتقام من سلوكنا، أو إلى العنف بغية كسر الإضراب.
أحد عشر يوماً والإدارة توحي لنا أنها غير مكترثة، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد.. ولكنها في آخر اليوم الحادي عشر، أبلغتنا عبر المساعد، أن نختار ممثِّلاً عنَّا لمقابلة مدير السجن. لم تطل المقابلة أكثر من ربع ساعة. قال المدير إنَّه موافق على جميع طلباتنا، التي هي من صلاحيَّاته، موضِّحاً أن الزيارات والأقلام ليست من عنده، ثم حاول إنهاء المقابلة بنبرة أبويَّة: فكُّوا إضرابكم يا أبنائي.. ستتحسَّن المعاملة، وستصلكم الجريدة والكتب وغير ذلك ممَّا هو من صلاحيَّاتي، وسنضعكم في مهجع له باحة خاصَّة للتنفس طيلة النهار. حسناً.. عندما تصبح هذه المسائل أمراً قائماً، سنوقف إضرابنا. أقسم العقيد أنه سيحقق كل ذلك خلال ستة أيام، فما الداعي لمواصلة الإضراب بلا مبرِّر؟!
بالفعل نقلونا إلى الباحة الجديدة بعد ستة أيام، وبدأت الجريدة تصلنا، وسمحوا لنا باستعارة الكتب من المكتبة، ووافقوا لنا على شراء قاموس عربي وقاموس إنكليزي وبابوركاز.. الخ. انتصار أنقى من الدمع، وأغلى من الدم.. فلنغسل جراحنا وعذاباتنا على مهل.. على مهل.. ولابأس أن نبكي قليلاً، ونحن نرقب نجمة الكرامة، تشق عباءة ليل طويل من الذل، وترتفع.
لم يكد يمضي شهران أو ثلاثة، حتى بدأت المعاملة تسوء بالتدريج. عاد الضرب والشتائم ولو بصورة متباعدة ومدروسة، وصارت انقطاعات الجريدة تطول، وتراجعت سوية الاهتمام الطبي والغذائي.
خلال عام واحد شهدنا ثلاثة تسمّمات جماعية بسبب فساد الطعام. أما الباحات الأخرى التي تضم الأخوان المسلمين وبعث العراق وبعض التهم المتفرقة، فقد كانت حالها أقسى وأكثر بؤساً وخطورة وتراجيدية..حال لم ينذر بها من قبلُ نبيّ ولا كتاب.
كنا بين فترة وأخرى، نعلِم المساعد أن الإدارة، تخرق ما تم الاتفاق عليه، ونلمح إلى أننا قد نضطر إلى استخدام سلاح، لا نود استخدامه، وفيما لو حدث واضطررنا إلى استخدامه، فإننا نحمّل الإدارة مسؤولية دفعنا إليه. تفهم الإدارة إشارتنا إلى سلاح الإضراب، فتتراجع قليلاً، ثم تعود ثانيةً إلى جولة جديدة من الترويض والمماطلة والالتفاف.
يوم 16 شباط /1991/ أعلنا إضراباً ثالثاً مختلفاً هذه المرة. بعض الرفاق يريد الإضراب لتكريس وتحسين ما حققناه سابقاً، وبعضهم يريده من أجل الزيارات حصراً، فقد مضى على اعتقالنا أربع سنوات وزياراتنا لا تزال ممنوعة، وبعضهم يريد الإضراب لتحريك وضعنا بالمعنى السياسي، ليس أمام إدارة السجن وحسب، وإنما أمام شعبة المخابرات العسكرية أيضاً، وآخرون يرون في تحريك وضعنا على هذا النحو خرقاً لقرارات الحزب وتوجيهاته، وهناك من هو ضد الإضراب، لأن دوافعه وأهدافه متباينة، والاستعداد الذاتي لنا كجماعة وكأفراد أضعف من أي فترة سابقة، بينما الإضراب المقترح أطول من سابقه بكثير، فالزمن الضمني المقترح يمتد إلى شهر، وثالثاً لأن الانعكاسات الصحية لمثل هذا الإضراب الطويل غير مأخوذة في الحسبان، لا سيما أن بيننا رفيقاً مريضاً مهددة حياته حتى بدون إضراب، وإذا تثلم سلاح الإضراب، فإن وضعنا سيغدو أسوأ بكثير مما نتوقع، ثم أخيراً مسألة التوقيت.. فحرب الخليج الثانية في أوجها، وكل أجهزة السلطة مشغولة بها. جلسات متتالية…مداخلات…اقتراحات… اتهامات… في النهاية فاز قرار الإضراب، وأبلغنا الإدارة في اليوم نفسه. كنا شبه موقنين، أن الإدارة لن تتصرف بمحض إرادتها، فنحن عندها،كما قال مدير السجن والمساعد في مناسبات عديدة، وديعة لا أكثر، وأن المسؤول عنا هو الفرع الذي اعتقلنا. كل ما فعلته الإدارة، أنها أصرت على إدخال الطعام إلى المهجع كإجراء قانوني وبغض النظر أكلنا، أم لم نأكل. بعد بضعة أيام صاروا يكتفون بإدخال الطعام إلى الباحة. كان بعضنا يتساءل عما إذا كان الطعام في هذه الفترة طبيعياً ومن مطبخ السجن، أم أنهم يحضرون لنا وجبات خاصة من “ميريديان” تدمر، لإضعاف مقاومتنا؟! عادي تماماً يا رفاق.. ألا تلاحظون أنهم بين فترة وأخرى، يحسّنون الطعام؟! تقول عادي؟! ومتى كانت الفراريج، تأتي محمّرة ومقمّرة ومكتّفة على هذا النحو، الذي يحرق حتى قلب غاندي؟!
وجهات النظر لا تنتهي، في المسائل الكبيرة والصغيرة على حد سواء، بدءاً من انهيار المنظومة الاشتراكية وسقوط جدار برلين ورياح الديمقراطية القادمة من الغرب، مروراً باحتمالات استمرار الحزب أو تصفيته، وانتهاءاً فيما إذا كان الزيتون هو العيطون، والعجّور هو البطيخ الأصفر، أم أن كلاً منها فصيلة مستقلة.
في اليوم السادس أو السابع تردّت صحة الرفيق المريض بصورة ملحوظة. عقدنا اجتماعاً، وناقشنا الأمر بمنتهى القلق والمرارة والمسؤولية، ومع ذلك فقد كانت نتيجة التصويت استمرار الإضراب.
الزمن يمضي رخواً وبليداً وزنخاً وركيكاً ورجراجاً. الوقت والمكان والأحلام والوسائد.. كلها من حجر سائل. بالطبع توقفت الجريدة، وسُحبت الكتب، فاضطررنا إلى استنفار إمكانيات أخرى: سرد الأفلام والروايات والقصص والسير الشعبية والذكريات، وإعادة نقاش جدوى الإضراب ودوافع تجاهل الإدارة..إلخ . بقينا على هذه الحال حتى اليوم الثالث عشر..إذ حضر المساعد، وسألنا إن كنا لا نزال على موقفنا؟ مادامت مطاليبنا لم تتحقق، فنحن على موقفنا. غاب المساعد قرابة الساعة، وعاد مع مدير السجن وشخص آخر، لم يسبق لنا أن رأيناه.. قال مدير السجن: معي سيادة العقيد من الشعبة، يريد أن يتحدث إليكم. بدأ العقيد حديثه بطريقة تهديدية رخيصة، موضحاً أنه قادم بتكليف من أعلى السلطات في هذا البلد، وأن قدومه ليس من أجل التفاوض، كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، ولكن من أجل أن يفهِمنا بأنه لا جدوى من هذا الإضراب الخسيس، الذي يحاول استغلال انشغال الدولة بموضوع الحرب الدائرة. فإما أن نفك الإضراب، وإما إلى جهنم، التي سنراها فور مغادرته، إن بقينا على عنادنا. عقيد فظ وأخرق وضعيف الخبرة والمبادهة، على ما بدا من خلال مناوراته الساذجة وأفكاره غير المترابطة. كأنه حفظ بصعوبة بعض الجمل، التي يتوجّب عليه إيصالها إلينا. كان يحرك يديه وكتفيه ورقبته الغليظة، بالقدر الذي لا يساعده فيه لسانه على رصف الكلمات بصورة واضحة. بقي معظمنا مستلقياً في مكانه، كما لو انه غير معني بما يقول ضابط الشعبة، وغير مكترث بمقامه أو بمقام مدير السجن، ولا بما ستؤول إليه النتيجة. أدرك الضابط أخيراً عناد الموقف، فغير من نبرته قليلاً، وقدَّم وعوداً عرقوبية، بأنه سيساعدنا في تقريره، إذا أنهينا الإضراب، وإلا فإنه سيقف ضدنا بكل ما يستطيع أمام المعلِّم. وحين بدا أنه يئس من إحراز أي تقدم في مهمته، ترك لنا تهديداً بالمقبرة، ومضى. في المساء عاد المساعد، ليسأل مَنْ منا لا يزال قادراً على المشي، فانبرى خمسة أو ستة رفاق.. طيب.. تفضلوا معي. كانت نبرته التهكمية والشامتة، تقول إنهم ذاهبون إلى المنفردات حتماً.. وهكذا أمضينا الليل، ونحن نتبادل الرأي حول الخطوات اللاحقة. صرخة يائسة مدمَّاة أطلقها الرفيق المريض: آااااااخ… داخل عليكم يا رفاق… إني أموت. بعضنا وضع رأسه بين يديه، وآخرون اتسعت عيونهم ذهولاً، وهي تنزف دموع العجز والخيبة والانكسار. أحدنا بادر باقتراح إيقاف الإضراب أياً تكن النتائج، فصحة الرفيق المريض والأوضاع الصحية للرفاق الآخرين في المنفردات، لا تستطيع المقاومة. نقاشات ومداخلات ومهاترات.. وعند التصويت سقط الاقتراح بإيقاف الإضراب، وكان الرفيق المريض أول من صوّت ضد الاقتراح! إذن فلنتابع.. قال رئيس الجلسة، وانفضّ الاجتماع. لم تمض دقائق، حتى عاد صراخ الرفيق المريض، يعلو من جديد! يا رفيق ألم تصوِّت ضد وقف الإضراب؟! نعم.. لا أستطيع أن أصوت على وقفه، ولا أستطيع تحمّل آلامي.. أرجوكم يا رفاق.. داخل عليكم أنقذوني. أنقذْنا أنت.. قلنا لك من البداية، أن لا تشارك في الإضراب، فوضعك الصحي سيء، وسيضعِف مقوّمات صمودنا.. ومع ذلك الجميع الآن يتفهمون موقفك، فيما لو أنهيت إضرابك منفرداً. لا أستطيع.. داخل عليكم.. سأموت.. أنا فداكم يا رفاق..
في اليوم السادس عشر أعادوا لنا أحد رفاق المنفردات. راحت الأسئلة تنهمر على الرفيق رشاً ودراكاً . تمهلوا.. تمهلوا.. أعادني المساعد. لماذا أعادك منفرداً؟! لا أدري بالضبط. ماذا قال لك قبل أن يعيدك؟ سألني عما سيكون عليه موقفي، إذا أعادني. وبماذا أجبته؟ قلت له إنني فرد، وإن أي موقف جديد هو من شأن المجموعة. وماذا أيضاً؟ لم أعده بشيء، ولكنه هددني بأنه سيعيدني إلى المنفردات، إذا لم يتوقف الإضراب . هل تعتقد أنه أعادك، لتشرح لنا ظروف المنفردات؟ هو لم يطلب ذلك صراحةً، ولكنكم تعرفون أن الظروف هناك أقسى من أن تحتمل، ومع ذلك أنا ملتزم بكل ما ترونه، وجاهز للعودة إلى المنفردة. يا رفاق نحن الآن في الخط الأخير.. ودوافع المساعد من إعادة الرفيق لا تغير شيئاً في الأمر.. ينبغي الاعتراف بفشل الإضراب والهزيمة. لم يفشل الإضراب ولم ننهزم، وما زال بإمكاننا المناورة والمساومة. لا مناورة ولا مساومة.. وضع الرفاق الآن أهم من كل الأهداف والنتائج، التي تراهنون عليها. وما هي الصورة التي سننهي الإضراب على أساسها أمام الإدارة؟ ليس مهماً.. وتستطيع أن تقول الاستسلام. بل مهم جداً.. صحيح أنني مقتنع الآن بضرورة إنهاء الإضراب، ولكن لا يجوز أن ننهيه، قبل أن يعيدوا الرفاق من المنفردات. أنا أفكر، أن أهم شيء يا رفاق، هو البحث عن تخريجة لإنهاء الإضراب، تحفظ لنا حداً أدنى من ماء الوجه، وإلا فإن حياتنا ستصبح.. إذا قررتم إنهاء الإضراب، ويبدو لي أن هذا الميل بات واضحاً، فيجب ألا تفرِّطوا في ما راكمناه خلال ستة عشر يوماً، فهذه الأيام يبقى لها شيء من الوزن، حتى لو فشل الإضراب، وبالتالي يجب عدم الاستسلام دفعة واحدة وكيفما اتفق.. يمكنكم مثلاً أن تطلبوا من الإدارة ورقة وقلماً، أو تكتبوا بالحبر الذي صنعناه إن شئتم، وترفعوا إلى مدير السجن بياناً، توضحون فيه أننا إذا كنا سننهي الإضراب، فلكي نبيّن أن لا علاقة لتوقيته بموضوع العراق والكويت والحرب الدائرة. إن لنا حقوقاً، كنا ولا نزال نعتبرها بديهية بالنسبة إلينا كمعتقلين سياسيين، وسنواصل العمل على تحقيقها بكل السبل الممكنة، وينبغي، في خاتمة البيان، التأكيد على أنه إذا كان قرارنا الأولي، هو وقف الإضراب، فإن بدء التنفيذ، لن يكون قبل عودة جميع الرفاق الذين هم في المنفردات الآن. انتهت المداخلات، وهكذا..
أجل. لابد من الاعتراف أن الهزيمة، كانت مؤلمة ومريرة وربما فادحة، ولكنها في الحساب الأخير، استطاعت أن تسجل ستة عشر يوماً من الجمر، في مواجهة هذا الرماد الطاغي، الذي يغطي روزناما كاملة من القهر واللعنة والخذلان.
” حمامتان.. وقمر.. وثلج أيضاً ”
ما من جهة تفضي إلى خارج هذه الغابة الملعونة. كل الجهات إلى الداخل.. إلى الداخل فقط. وأنت.. ليس لك إلا أن تقبض بيديك على جمر الحلم، وتطأ بقدميك على جمر الواقع، وفي صدرك جمر كثير، يحرس قلبك في الليل، ويوقظه في الصباح، لكي لا تنسى أن الله، ليس شيئاً آخر غير الغياب في أقصى تجلياته. إلى أين إذن هذه المسيرة الكاوية؟! حزن ومرارة ويأس وأحلام. صباحات مضفورة بالشوك، ومساءات مسفوحة المعنى بين أجراس الصمت ومناديل الليلك! تنازلات صغيرة ومناورات ومواجهات دامية مع الإدارة، يقابلها حنين وضحك وبكاء ومهاترات وتفاصيل يومية تافهة فيما بيننا. أعدنا اكتشاف الأشياء والأدوات واللعنات الأولى، التي اكتشفها إنسان ما قبل التاريخ، بدءاً من إِبَر القشّ وسكاكين العظم، مروراً بتصنيع الخيوط والأمراس والحقائب من أكياس الخبز، وصولاً إلى اكتشاف الألوان والحبر والخمر والخلّ والذاكرة والجوع والخوف والنسيان والأمل والجنون. تعلَّمنا كيف يمكن ترقيع الثياب أكثر من مرة.. وكذلك الروح والجسد وحتى الذكريات. كان التضامن بيننا إلى حد الموت، والتشاحن إلى حد السباب والضرب والهستيريا. أحياناً كان يبدو لي السجن أشبه بمجتمع نسائي شرقي، مليء بالحنان والثرثرة والقهر والشكوى والنميمة، وأحياناً أشبه بمجتلد روماني مخضَّب بزئير الوحوش الكاسرة والدم وصرخات الأسرى. ليس لكم أن تأخذوا علينا مثل هذه التناقضات أو التحوُّلات، ولا أتمنى لكم تجربة مشابهة، لتغفروا لنا صغائرنا وانتحاراتنا. يكفي أن تتذكَّروا، مثلما كنَّا نتذكر دائماً، تلك التجربة الشهيرة، التي أجريت على الفئران، والتبدلات التي طرأت على سلوكها، عندما نقلوها من حيِّز واسع إلى حيز ضيق ومغلق.
خمسة أعوام ونحن من فرع إلى فرع، ومن سجن إلى سجن، ومن باحة إلى باحة، ومن مهجع إلى مهجع، ومن مقبرة إلى مقبرة. قد تكون الذكرى الوحيدة الجميلة في تدمر، هي تلك الشرَّاقة، التي كنَّا نرى من خلالها الجزء العلوي لسروتين متجاورتين، تتهادل عليهما وقت الأصيل حمامتان عاشقتان، واحدة أكثر سواداً من آلامنا، والأخرى أكثر بياضاً من أحلامنا. يا إلهي.. نسيتُ ذكرى ثانية، لا تقلُّ جمالاً: القمر.. كنا نراه بضع مرَّات في الشهر، عندما كان ينحني إلى مستوى الشرَّاقات، وهو يعبرها واحدة واحدة، متيحاً لنا أن نحمِّله ما نشاء من الرسائل والوصايا. يا رفاق أقترح توزيع سيجارة إضافية. وما المناسبة؟! القمر.. ألم تشاهدوا القمر ليلة البارحة؟! الاقتراح واضح ووجيه وغانم.. سيجارة إضافية يا شباب.. من موافق؟ تعالوا انظروا تعالوا.. يا ألله.. تصوروا.. تدمر وثلج؟! أقترح توزيع سيجارة يا رفاق.. البارحة وزَّعنا سيجارة بمناسبة عيد ميلاد ابنتك للمرَّة الثالثة خلال أقل من نصف عام! صدِّقني أنها تستحق، أن تولد كل يوم. ولكن نقودنا أوشكت على النفاد..لم يبق غير الاحتياطي الأخير من أجل الأدوية.
كانت السيجارة الإضافية، تُقترح لأي مناسبة، بما في ذلك مناسبة سقوط القنبلة الذرِّية على هيروشيما. ولأن اليوم نفسه يصادف ذكرى تأسيس الحزب، فقد حظينا يومها بسيجارتين إضافيتين، واحدة للحزن وواحدة للفرح.
بالفعل خلال عام نفدت نقودنا، بما في ذلك احتياطي الأدوية، وقد انقطعنا من الدخان قرابة عامين، إلى أن حلها الغامض بغموضه الرحيم، فعادت اقتراحات السيجارة إلى سابق عهدها.
بعد الإضراب الأخير صارت حياتنا أشبه بمستنقع: عجز.. وإحباط.. وكآبة.. وزهد.. وغثيان. في السنوات الأولى كنَّا كلما سمعنا في الليل صوت فتح الباب، أي باب حتى لو كان في الباحة الأولى، تتزاحم الأحلام والتوقعات في ردهة واحدة وحيدة: النقل إلى سجن صيدنايا. وقد خابت أحلامنا عشرات، بل مئات المرات.
في التاسعة من مساء 4/ 5/1992 صلصلت الجنازير، وقعقعت المفاتيح والمزاليج في باب الباحة. ألله يعطينا خير هالفتحة يا شباب! على الأرجح مثل المرَّة الماضية.. سيسألون إذا كان عندنا حالات تسمُّم. ربما أحضروا الرمل والإسمنت لإصلاح الباحة، بعد ما لعنوا دينها بإصلاح المجارير. لا.. واضح أنهم سيفتحون باب المهجع. هذا صوت الرقيب “آسفين”.. هو الذي يفتح الباب. دخل المساعد محاطاً بفصيلة من العساكر، وقد ارتدوا لباسهم النظامي كاملاً بما في ذلك البيريهات: ضبُّوا أغراضكم، وسلِّموا الكتب، وكونوا جاهزين بأسرع ما يمكن. هل نأخذ معنا العوازل والبطانيات؟ لا.. أتركوا كل شيء في مكانه. إلى أين سيادة المساعد؟ داخل السجن أم خارجه؟ بلا كثرة حكي.. ضبُّوا أغراضكم، وكفى . لمحنا في وجه المساعد ظلال ابتسامة غامضة، كان يحاول تغطيتها بنبرات آمرة مفتعلة. ما إن أُغلق الباب، حتى أشرقت ملامح الحب والغفران ورغبة تبادل الأحاديث والأمنيات والتعليقات المازحة الودودة. صار المهجع حديقة، تتشاهق فيها الملائكة والنجوم والأجنحة وروائح الأهل والأصدقاء. صار النقل أكيداً. نعم، النقل من المهجع أكيد، ولكن إلى أين.. ربك أعلم. إلى أين يعني سيكون.. إما “صيدنايا” وإما “المزّة”. وإما المنفردات في الباحة الخامسة. طول عمرك متشائم. وأنت طول عمرك متفائل تاريخيّاً. وهل صار التفاؤل التاريخي شتيمة عندك؟! الوقائع تشتمه أكثر من خمس صلوات في اليوم. بعد قليل سنرى. عميت عيوننا لكثرة ما رأينا. على مهلكم يا شباب.. تفاءلوا بالخير تجدوه. أنت في الأصل كان لازم تكون مع الأخوان المسلمين، بس ألله غضب عليك أكثر مما غضب عليهم. يبلوكم أيكم أحسن عملا. بركاتك يا شيخ..
الضحك لا يتوقف.. جميع الآراء والتعليقات تؤخذ على محمل النوايا الحليبية الصافية. لم ننم.. كنَّا جميعاً متحلِّقين حول سرير الوكيلة العامة لمجمَّع الآلهة.. بانتظار أن تستيقظ، وتباشر أعمالها.
أذان الفجر وشقشقة الطيور.. شروق الشمس وثغاء الأغنام وأصوات بعيدة لأطفال يشبهون أطفالنا، يهربون إلى المدرسة أو منها، ويزدحمون على بوابة وداع، لا يعرف كيف يبكي، و لاكيف يضحك. في الثامنة صباحاً غادرنا الباحة السادسة إلى الخامسة، هناك توقفنا قريباً من البوابة المؤدية إلى الزنازين. كان مساعد الذاتية وسجلاته في انتظارنا. إذن.. فليسقط الهاجس الأخير المتعلِّق باحتمال النقل إلى الزنازين أو الباحات الأخرى. اصطفّوا جيداً يا أبنائي.. لا داعي للهمس أو الوتوتة.. كلكم شهادات عالية وتفهمون الكلام.. الآن بالدور.. كل واحد سيقدِّم اسمه، ويمضي بالسلامة باتجاه تلك السيارة. حقاً إن هذه السيارة “القفص”، والمخصصة غالباً لنقل اللحمة، أفضل ألف مرَّة من ذلك الميكرو الشيطاني، الذي أقلََّنا من فرع التحقيق إلى تدمر. الأول.. تفضَّل إلى هنا.. الإسم والكنية؟.. اسم الأب؟.. اسم الأم؟ مكان وتاريخ الولادة؟ الثاني بسرعة.. بعده.. حرِّك لي حالك شوية.. سُبحة مقدَّسة تكرُّ حباتُها بكل ما للإيمان من خشوع ورضا وسعادة. بعده.. الاسم والكنية؟ الأب؟ الأم؟ تلكَّأ الرفيقُ قليلاً في الإجابة، فرفع المساعد وجهه عن السجلات. اسم الأم ألا تسمع؟! أسمع أسمع ولكن.. ولكن ماذا؟! لا أتذكَّر.. لقد نسيته. تنسى اسم أمك؟! هل هناك أحد ينسى اسم أمه؟! جمجم الرفيق وملامحه تعتصر مزيجاً من القهر والحزن والخجل: هنا يمكن أن ينسى المرء اسم أمه وأبيه وحتى اسمه. همس له أحد الشباب.. كأني أتذكر أن اسمها على وزن.. حزنة أو مزنة. نعم.. خزنة .. خزنة سيادة المساعد.. خزنة. يا حيف عليك.. قالها المساعد بنوع من العتاب والتعاطف، اللذين لا علاقة لهما بما في داخل هذه الفضيحة التدمرية المجيدة من خرائب وأشباح ودم وتوابيت.
انتبهوا إلي جيداً.. انتبهنا إليه جيداً.. رائد من الشرطة العسكرية، لا أستطيع أن أصفه بأكثر من أنه شديد الشبه بالحكومة. لا أريد أي حركة أو شوشرة أو كلام طالع نازل.. لا مع الحرس ولا فيما بينكم.. يكفي أننا تركناكم بدون طميشات. والكلبشات سيادة الرائد؟ لا.. هذه من أجل سلامتكم. دار المحرك.. دقائق طويلة إلى حد الاختناق، أقلعت بعدها السيارة بتثاقل شديد في البداية، وهي تترنح يميناً وشمالاً، ولكنها ما إن تجاوزت الحواجز والمناطق السكنية، حتى راحت تشق أخدود الرحلة باندفاع يعزق الأعصاب. وحش خرافي أعمى ينهب الأرض، منطلقاً كالسهم بين جرفين شاهقين من الصمت والضجيج. كان زئير الأشطمان، ينتهك الدورة الدموية، على امتداد جرح إسفلتي طويل ومتعرِّج، يغطِّي ثلاثمئة كيلومتر، مخنوقة بالرمل، ومصهودة بالحرِّ والقلق والانتظار.
“أب.. إلى حد البكاء”
لا أدري إن كنت أباً فاشلاً أم ناجحاً؟ في الحقيقة لم تتح لي ظروفي، أن أدخل هذا الامتحان إلى آخره.. فحين وُلِدتْ ابنتي تخفَّيت، وقبل أن تكمل الرابعة اعتقلتُ، ومضت السنوات الخمس الأولى من اعتقالي بدون أية أخبار أو زيارات، ومع ذلك.. أشعر أنني أب إلى حد البكاء.
في سنوات التخفي، كنت أراها بين حين وآخر.. أخاطبها باسمها، وتخاطبني بأحد أسمائي، التي تتبدل حسب الضرورات. علَّمتها أن لا تناديني “بابا” أمام أحد، وكانت تلتزم بذلك تماماً، إلا في حالات الاحتجاج على شئ ما، كأن ترفض أمها الاستجابة لكامل رغبتها “الكازوزية” مثلاً، عندها تدير أسطوانة التهديد بشكل فحيح متصاعد: بابا.. بابا.. بابا ثم لا تتوقَّف، ما لم تتحقق رغبتها، أو تأخذ وعداً قاطعاً بتحقيقها.
بعد اعتقال أمها لم أرها إلا مرتين. أكثر ما كنت أخشاه، وهي معي، أن يحدث لي طارئ أمني، يضطرني إلى الهرب وتركها وحيدة، وهي لا تعرف غير الأسماء الحركية لأبيها، وليس بإمكانها حتى أن تلفظ اسمها بشكل سليم.. ألا يمكن عندها، أن تضيع إلى الأبد؟ كان معها حقيبة، لا أدري من اشتراها لها، وبدا لي أنها حريصة على حقيبتها أكثر من أي شيء آخر. فتحتُ الحقيبة، ووضعتُ بداخلها ورقة صغيرة، كتبتُ عليها اسمها الكامل، وعنوان أهلي بخط واضح، ثم أوصيتها أن لا تتلف هذه الورقة. في ذلك النهار كان لدي بعض الانشغالات، التي لا تسمح ببقائها معي، فتركتها مع إحدى الصديقات، على أن تحضرها أو ترسلها إليَّ مع أي شخص على موعد مسائي اتفقنا عليه. في المساء عادت الصغيرة، ولكن.. لا ورقة ولا حقيبة! أين الحقيبة يا شطُّورة؟ سألتها، فضربت بكفيها وهي تقول: بحّْ. تلك كانت آخر ذكرى لي معها قبل اعتقالي.
كانت تسألني عن أمها باستمرار.. صوتها نصف “مبحوح”، ونظرتها أقرب ما تكون إلى الاستجداء. هكذا.. عند حد معين، يعجز الحلق عن حبس كل ما وراءه من دموع، وهذه الصغيرة توشك أن تفضحني. في بداية الاعتقال شعرت كما لو اني هربتُ من أسئلتها، لكن ما إن انتهى التحقيق، حتى بدأت أسئلتها عن أمها وعني، تدق أبواب الزنازين. ما الذي يمكنني فعله بكل هذا العجز يا ابنتي؟! فجأة.. لمعت في ذهني الفكرة، ثم ما لبثت أن احتلت كل شيء: عدم اعتقال الصغيرة جريمة.. وهي تفوق في بشاعتها ولا إنسانيتها جريمة اعتقالي نفسها. إذن عليَّ أن أفكر بطريقة ما، تضمن اعتقالها لتكون مع أمها، أو حتى معي. سأفترض أنها ولدت في المعتقل، ومن الطبيعي في هذه الحال، أن تكون مع أمها. قد يبدو لكم هذا الخاطر أقرب إلى الهذيان، وربما يعتبره بعضكم ضرباً من الجنون. ولكن.. ها هي “دينا”. وُلِدتْ في السجن وتعيش فيه. لم يعترض أحد على وجودها مع أمها. تظنون أن “دينا” حالة استثنائية؟ طيب قبل “دينا”.. ألم تولد “ماريا” في السجن أيضاً؟ ومع ذلك بقيت مع أمها. فلماذا تنكرون ذلك على ابنتي؟! بصراحة..لم يكن يهمني ماذا ستقولون عني. المشكلة هي في إقناع الأجهزة الأمنية بالموافقة على اعتقال طفلة، لا تتقن الكلام بعد. صحيح أن جميع الاعتقالات السياسية غير إنسانية، ولا شيء يبرِّرها على الإطلاق.. ولكن هذا الاعتقال مبرَّر بصورة ما، أو على الأقل ضروري وطبيعي ضمن منطق الأمر الواقع ، لذلك فكَّرتُ أن أرفع نداء إلى أعلى مسؤول في السلطة، أحمِّله فيه مسؤولية عدم اعتقال ابنتي. لا يمكن له، مهما كان عديم الرحمة، أن يتبرَّأ من هذه المشكلة “الإنسانية”، وبالتالي يجب أن يوعز إلى أجهزته بضرورة حلها. لكن ما الطريقة لإرسال هذا النداء، وما الضمانة لوصوله إليه شخصيَّاً؟ فيما بعد.. كانت سنوات الجمر التدمرية، تنخل رماداً كثيفاً من النسيان.. إلى أن وصلتنا مجموعة كبيرة من الصور. جميع الصور عرفها أصحابها، باستثناء صورة واحدة، دارت على الرفاق واحداً واحداً، وظلت مجهولة. كنت أنوي أن لا أرى الصور، حتى يشبع منها أصحابها، ولكن أحدهم ناداني بإلحاح، لعل فراستي تتعرَّف على أحد ربما يخصُّني. تأمَّلتُ الصورة بإحساسٍ شبه حيادي في البداية: فتاة صغيرة ترتدي فستاناً شفافاً زهري اللون، تحته كنزة صفراء لم يستطع الفستان حجبها عند “القبَّة”، فبدت قديمة متهدِّلة وذات لون حائل. أما الوجه.. فكان أشبه بوردة في طريقها إلى الذبول. تناقض حاد إلى درجة المرارة بين الوجه والثوب. قلت: لا أعرف هذا الوجه، ولا أعتقد أن وضع أهلي، يتيح لهم أن يرسلوا لي شيئاً، أو يجدوا سبيلاً إليَّ. سألني أحدهم متردداً: ألا يمكن أن تكون هذه الفتاة ابنتك سومر؟! وأضاف آخر: أنا أجزم أنها هي. بالطبع حضرتْ سومر في ذهني، وأنا أتأمل الصورة، ولكنها حضرت بملامحها، التي طالما صارعت النسيان للاحتفاظ بها على الحالة التي رأيتها فيها آخر مرَّة. قلت لنفسي، يصعب أن تكون سومر، كبرت إلى هذا الحد. غير أن إصرار الرفيق الآخر على أنها ابنتي، جعلني أعيد التدقيق في تفاصيل الصورة. لا أعرف كيف شعرت أنها سومر فعلاً. لم أكن متأكداً تماماً، ولهذا أحسست بمزيج من الخجل والحزن والألم والخيبة، وأنا أقول: نعم.. إنها ابنتي على الأرجح. بعد أيام أو ربما ساعات أو دقائق، كان يقيني تاماً ونهائياً، بأنها لا يمكن أن تكون إلا هي. كانت عيناها تبتسمان وتغيمان، وكأنهما تقولان: أنا ابنتك .. أنا سومر. فجأة صرختُ، وربما رحت أقفز: يا شباب.. إنها سومر، سومر، سومر..
فيما بعد انبجس في داخلي سؤال بعيد، أخذ يستنصلني ضلعاً بعد آخر: هل ستعرفني ابنتي حين تراني؟ هل سيستيقظ شيء ما في داخلها؟ أم سيقولون لها: هذا الرجل هو أبوك، وعليك أن تقتنعي بذلك! ظلَّ السؤال يتأكَّلني، حتى انفتحت زيارتي. بصعوبة استطاع الرفاق تأمين الثياب الأقل سوءاً والأكثر ملاءمة لمقاسي ونزلت. تفحَّصتُ أهلي واحداً واحداً.. لم أكن قادراً على التركيز في شيء معين، لكني حين لمحت تلك الفتاة الصغيرة، تختلس النظر إليَّ، وهي نصف متوارية خلف أمي، قدَّرت أنها يجب أن تكون سومر. حاولت أن أكون متماسكاً، وأنا أتقدم منها، وأحملها مثلما كنت أفعل قبل سنوات، ثم سألتها: هل تعرفين من أنا؟ ابتسمت وأغمضت عينيها علامة الإيجاب. قلت: هل عرفتني لأنك تذكرتني، أم لأن جدتك أخبرتك أنك آتية لزيارتي؟ قالت: لا.. عرفتك مثلما كنت أعرفك من قبل.
انشقِّي إذن أيتها السموات انشقِّي وأعطيني خبراً يقيناً.
في الزيارة الثانية رجوت أمي، أن تخبرني بالضبط، إن كانت سومر، عرفتني فعلاً، فقالت: عرفتك وبس؟! عينك تشوفها كيف تتغمَّى حين يسألها الآخرون عنك، وتجيبهم متباهية: بابا رائع.. لقد عرفته فوراً.. لم يتغير فيه شيء.. فقط هو الآن أحلى.
لم تمض بضعة شهور، حتى أصبحت الزيارة وحدةَ القياس، التي أقيس بها أزمنة النور والظلمة.. الضعف والقوَّة.. الوحشة والأمان..السجن والحرية. كانت الصغيرة، تملؤني حتى في صمتها. أول مرة خرجتْ فيها عن طبيعتها، التي يختلط فيها الخجل بالتهذيب، سألتني: بابا.. هل صحيح أنك شاعر؟ قلت لها: تقريباً. قالت: لماذا إذن لا تكتب لي قصيدة؟ قلت: كتبت لك أكثر من قصيدة، وستقرئينها عندما تكبرين. قالت: لا أريد عندما أكبر.. أكتب لي الآن.
لاحقاً كتبت لها قصيدة، لونتها بالعديد من الذكريات والإشارات، التي يمكن أن تعني لها شيئاً. في الزيارة التالية، اندفعت نحوي وأخذتني عناقاً، ثم همست في أذني كلمتين: بابا حفظتُها. لم أفهم في تلك اللحظة ما المقصود.. لكني بعد قليل، تذكرت القصيدة فقلت: إذا أعجبتك وحفظتها حقاً، أنشديها لي. شهقت وهي تمسح الغرفة بنظرة متوجسة، ثم عادت ترمقني بعينين، تطفحان عتاباً وتأنيباً على كشف سر القصيدة المهرَّبة واستهتاري الأمني إلى هذه الدرجة! يا سبحان الطغيان.. حتى هذه الطفلة!
خلال أكثر من عامين لم تنقطع سومر عن زيارتي سوى هذه المرة، فهل أكتب الآن عنها، أو أستجر ذكرياتي معها، لأعوض عن غيابها؟ لم أكن أعرف أن غيابها باهظ إلى هذه اللاحدود. كأنه ليس ثمة غير الفراغ.. وأنا كأي سجين، لا أبدو قابلاً للاطمئنان. يبدو لي أن اللغة فراغ.. والصمت فراغ.. الحقيقة والوهم وما بينهما.. وحتى هذا السجن بكل ما فيه من جدران وأبواب ودهاليز. أحس كما لو اني أطفو فوق زمن ضائع، تسوقه الهواجس خارج نفسه.
أصبح عمرها الآن أحد عشر عاماً، ولم يُتَح لي أن أدخل امتحان الأبوة إلى آخره. قلت لكم إني تخفَّيت حين ولِدتْ ابنتي، واعتقلتُ قبل أن تكمل الرابعة، ومضت السنوات الخمس الأولى من اعتقالي بدون أية أخبار أو زيارات.. لكن رغم كل ذلك، وربما بسببه أيضاً، أشعر أنني أب إلى حد البكاء.
” كأس”
في جناحنا سجناء سوريّون وفلسطينيون ولبنانيون وأردنيون وعراقيون.. شيوعيّون وقوميّون ودينيّون ولا شيء. يا إلهي كم يبدو مخجلاً هذا البيان القومي الديمقراطي الفاضح!
في جناحنا أطفال وشباب وكهول وهرمون وموتى في مراحلهم التدريبيّة الأخيرة. طوبى.. طوبى لمن يستطيع أن يكون، كما لو انه لم يكن أبداً.
في جناحنا أبجديات تمحو ثقافة الحب والموت والألم والصّلوات، وتعيد الطين إلى أميته الأولى. أبجديات لا يربكها الإعلان عن استقالة الزمان من المكان، والصمت من اللّغة، والشريعة من غاباتها المتنكِّرة للأعراف والتقاليد.
أشرب الآن ولا رغبة لي، في هذه اللّحظة الراعفة، أن أرفع أيَّ نخب سوى العدم . لا تسألوني من أين الخمر؟ من يتقن عشرين سبيلاً إلى الموت، سيجد سبيلاً ما، إلى إتقان صناعة الخمر. وأشرب الآن ولا رغبة لي إلا أن أشرب. أعرف أن بعضكم سيتمطَّق كثيراً بفتاوى هذا الإثم، وينسى أو يتناسى أنهم يشربون دمنا. حسناً.. اجلدوني أربعين جلدة. سأضحك من أعماقي على هذه العقوبة الفانتازيَّة الرحيمة. أبو حسن بمفرده، وبدولاب واحد فقط، عدَّ أكثر من ثلاثمئة جلدة كافرة قبل أن يلهمه الله الإغماء. لا أريد أن أستفزَّ أحداً، ولكن صدقوني أن أي سجين هنا، يستطيع أن يشتم أي نبي، إذا عرف أن حدَّ شتيمة الأنبياء في تاريخنا القديم هو مئتان وستون جلدة فقط لا غير. كم أحاول ضبط هذا التّابوت على إيقاع محدَّد، ولا أستطيع. لقد نقضوا روحي، رعشةً رعشة، بحثاً عن أسرار الحليب الأول. لم يكن الموت يعني بالنسبة إليهم أكثر من حروفه الثلاثة، بعد تجريدها من رخامة جرسها البعيد البعيد.
إذن .. دعوني أعيد ترتيب روحي على مهل. أشعر أحياناً أن لدي من قوة الصمت ما لا أحتاج معه لقول حرف واحد طوال حياتي. وأحياناً أشعر أن لدي هواجس ملعونة، تستدعي أن لا أتوقف عن الكلام، حتى عندما أكون وحيداً، ولكن.. كيف لي أن أعطي هذا التّابوت صمتي؟ وكيف لي أن آخذ كلامه؟
قرأ صديقي هذا الذي تقرؤونه، فأغمض عينيه، وظلّ صامتاً ما يكفي لأداء صلاة غائب، ثم قال: بعض النقاط بحاجة إلى مزيد من العمق والوضوح. وافقته فيما يتعلَّق بالعمق. فأنا أعرف أن الجراحات، التي ينتقِه على ضفافها، أعمق وأبلغ من أي نزف لغوي ممكن. أمَّا الوضوح.. فأنا نفسي لا أريد أن أكون واضحاً. قلت لكم، هذه أبجدية العتم والغموض، وخط النار الأول على جبهات الغيب وتقلُّبات الطقس والايديولوجيا والأنظمة وحتى الشعوب.
لا أحد يعرف لماذا كان أبو أحمد “الغاوي”، يشتم نفسه وهو يدقُّ الجدار بقبضتيه. لم يكن واضحاً ما إذا كانت ارتجاجات جسده ناجمة عن الألم أم الضحك أم النشيج. تعدَّدت التأويلات، واستنفر السجناء حكايات، لها أول ما لها آخر، عن الغاوي وغيره. سألتُ أحد الأصدقاء، إن كان يعرف السبب، فقال: أنسيتَ قصيدتك عن تاء التأنيث؟ قلت: ما علاقتها بالموضوع؟ قال: لا أقصد ذلك.. ولكن ألا يكفي المسكين أنه منذ ستة عشر عاماً، لم تمسحه تاء التأنيث برحمتها؟ كأني لأول مرة أنتبه إلى هذه الجهنم النائمة في جزيرة من الرجال. بالطبع تتعدد وجوه المرأة وحضوراتها في السجن على نحوٍ، لايستطيعه الكلام إلا أصداءً، ولا يستطيعه الصمت إلا ظلالاً. بالنسبة إلي.. وحده الشعر كان يمكن له، أن يشرف على ذلك الفردوس المفقود، ووحدها صلوات الأمل كان يمكن لها، أن تجعل الزرقة أكثر قابلية لتجلي الرحمة والأنوثة. السجن ذكورة افتراسية قصوى، والحرية أنوثة رحمانية قصوى. لا داعي لاستخدام لفظ الشبَّاك إذا كانت لفظة النافذة تنوب.. لاداعي لاستخدام لفظ العتم إذا كانت لفظة العتمة تنوب، وكذلك الأمر بين الليل والليلة، والخمر والخمرة، والعام والسنة. باختصار.. تصبح تاء التأنيث الحرف الأجمل في دنيانا. لم يكن يشغلني كثيراً غياب المرأة أو حضورها كجسد. المرأة هي المرأة، أماً وأختاً وابنةً وحبيبةً وصوتاً وقصائد وملائكة.. وما من قداسةٍ جعلتني أحتمل الأسر أكثر من اثنتين: أمي وابنتي. واحدة في آخر الغروب والثانية في أول الشروق، وأنا بينهما طائر اليأس والأمل، بمنقاره المحنَّى وجناحيه الضارعين. بدون المرأة.. بدون أطيافها وأصدائها أو رائحتها على الأقل، لا يكون الرجل إنساناً. أعني لا يكون إنساناً كامل المعنى. أجل.. تصبح المرأة في السجن معادلاً رمزياً وانسانياً وفنياً للحرية. بل تصبح الحرية هي المرأة. ولهذا شيئاً فشيئاً يتبدَّد السجين، حتى لا يبقى منه سوى نص غامض مدروز بالأشواك. قلت لكم لا أريد، ولا أستطيع، أن أكون واضحاً. ومع ذلك فإن هذا لا يتعارض مع رغبتي في أن أقول، أو أكتب ما ليس واضحاً، بل ما ليس شيئاً حتى.
أكثر من عامين وثلاث عشرة جلسة غامضة بلهاء، حتى تجشَّأتني محكمة أمن الدولة العليا. كانت دواليب الحظ تدور بطريقة مجنونة تماماً، وحين أوقفوها، أعلن رئيس المحكمة بصوت خفيض إلى درجة غير لائقة: “خمسة عشر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية”. يا أبناء الدم! أي جريمة مقدَّسة تلك التي اقترفتها طيور كلماتنا، لتفتكوا بمناقيرها وأجنحتها على هذا النحو الكالح الخسيس! خمس عشرة بلطة ماجنة لترويض طيور الكلام!
قلت لأمي بطريقة مازحة، تُضمِر اعتزازي بها، وتطمئنها على معنوياتي: ظللتِ ورائي أكثر من ثلاثين عاماً، وأنت تعلَّمينني أن شرف الإنسان كلمته. فهل أعجبتك النتيجة؟ ظلَّت أمي مطبقة على إيمانها العميق الذي لم يجد إلهاً حليفاً، بينما ابتسمت أختي ملء دموعها، وهي تقول: المهم يا أخي أن تخرج سالماً مرفوع الرأس. سالماً؟! سامحيني يا أختاه. أعدكِ فقط برأسي مرفوعاً أعدكِ وأشتهي أن أبكي قليلاً ليس ضعفاً ولا خوفاً ولا يأساً لا يا أختاه.. فأنت تعرفينني جيداً غير أنهم أهانوني أكثر مما تتوقعين ولم أستطع أن أفعل شيئاً لم أستطع ولكن.. هذا رأسي خذيه بين أحضانك أيتها الغالية أسنديه إلى ركبتك قليلاً وأعيريني من سياج حزنك الطويل فراشةً أو ظلها وردةً أو ظلها ظلاً أو ظله أعيريني قصيدة لا أستطيع كتابتها وعشباً لا أستطيع قراءته واطمئني إلى خاتمة ما أمضي إليه اطمئني .
“بقية الكأس وسؤال أخير”
ما الذي يعنيه أن تكون وحيداً؟ ما الذي يعنيه أن تكون. يا أين أمي كم يبدو هذا السؤال غامضاً ونازفاً ومتعدداً! إذن.. إلى أي إجابة ستميل؟ أنا أميل، بل أزداد ميلاً، إلى السؤال بذاته، ذلك أنه لا جواب له سواه. بدأت الحالةُ معي منذ الأيام الأولى لوجودي في ذلك القبر الأليف الذاهل المنبوذ. صدقني عندما يكون الموت أرحم من التعذيب، فإن وصف المنفردة بالقبر، يأخذ معنى رحيماً أبيض. هل أكذِّب من تحدثوا عن المنفردة بصورة أخرى؟ لا.. ولكن حين لا الله، ولا الناس، ولا شئ.. حين تعود إليها متقمِّصاً ذاتك، خائفاً من ضياع جسدك، هذا الذي يخرج من كل جولة تعذيب أشبه بشيء لا ضفاف له ولا جهات. حين تعود.. تدرك بعمق أن المنفردة هي الرحم الأخير الرحمة الأخيرة وربما المعنى الأخير. أنا على يقين.. لو كان الجلاد يدرك حقيقة مشاعر الضحية، لتمنَّى أن يكون أي شئ آخر، حتى لو كان هذا الشيء هو الضحية نفسها. هل تسألني كيف وصلت إلى هذا الحكم اليقيني؟ لا أدري.. ولا أستطيع الدفاع عن ذلك، رغم أني أراه أكثر بداهة من الموت. بل أشعر أني سمعت أو قرأت شيئاً من هذا القبيل في مكان ما. لست جازماً تماماً، إلا أني أستبعد أن أكون أول طعين، ينزف مثل هذه اليقينيات ضمن هذا الملكوت التابوتي الذاهب إلى القيامة بمنتهى الرصانة والوقار.
ما الذي يعنيه أن تحس بالعار، ولا يتاح لك أن تغسله حتى بدمك؟ يا أين أنت كم يبدو السؤال فاضحاً ومجللاً بالخزي والخذلان! هل تعتقد أن المسألة تتعلق باغتصاب امرأة مثلاً؟ تقتلني لو فكرتَ على هذا النحو. لا اغتصاب امرأة، ولا اغتصاب ثروة أو منصب، ولا حتى اغتصاب وطن. كل هذه الأمور عرضية وقابلة للغفران والتجاوز وردّ الاعتبار. أما اغتصاب الإنسان بإطلاق.. اغتصاب الإنسان كمفهوم.. اغتصابه كوجود! لا.. ليتها من حجر هذه الروح الملعونة. إختر لي أي شيء لأنتمي إليه. خذ أي شيء.. خذني كاملاً.. أعني ما تبقى مني كاملاً، مقابل تبرئتي من فضيحة كوني إنساناً، من فضيحة كوني قاتلاً أو قتيلاً. هل تصدق أني أخجل من جلادي؟ ولا أبالغ إذا قلت، إني أخجل عنه أحياناً. ياألله كم يبدو هذا الوحل بشعاً ونذلاً ومقرفاً، وفي النهاية مثيراً للرثاء. وحق ما كان وما سوف يكون.. لا أحمل في داخلي ضغينة على أحد، ولكن هذا الكائن ملوث إلى آخره، ويلوثني معه. دعك من يديه وأظافره وأسنانه.. حتى عيناه ملوثتان.. وأنت دائماً في مرمى عينيه. قد يخيل إليك الآن، أن المشكلة كلها تبدأ وتنتهي بهذا الجلاد المسكين، وحقيقة الأمر ليست كذلك. هل تريدني صريحاً إلى النهاية؟ حسناً.. تخجلني هذه القابلية المرعبة للبيع والشراء.. للذل والمراوغة والدجل.. يخجلني هذا التواطؤ المحيِّر بين الضحية وجلادها.. هذا الحشد الهائل من السماسرة والمهرِّجين وشهود الزور.. من الوعّاظ والمريدين والجواكر والموتى وأصحاب السوابق. وأما أنت.. بلى أنت.. فكم يخجلني.. صمتك!
ملحق
دفاعاً عن الحرية
نص المرافعة التي تقدمتُ بها أمام محكمة أمن الدولة العليا بدمشق 1993
باسم الحرية المغدورة في وطني منذ أكثر من ثلاثين موتاً طارئاً أو عرفياً. باسم المحرومين منها مادياً و معنوياً، جسداً أو فكراً أو روحاً. باسم ابنتي، التي لا تستطيع أن تخون طفولتها، وتصدِّق الشعارات التي يرغمونها على تردادها في المدرسة كل صباح ، أعلن، بوصفي إنساناً و شاعراً و سياسياً، أن الحرية هي القيمة الأسمى في فلسفة التاريخ البشري، وأني ضد من يقف ضد الحرية، حتى لو كان المعني أنا أو حزبي. كشاعر.. ارتديت وطني حتى آخر القصائد، وارتديته كسياسي عاشق، ولهذا فقد مزَّقت الديكتاتورية وطني مرتين، عندما مزَّقت سياطها جلدي كشاعر في المرة الأولى ( على أيدي المخابرات الجوية عام 1978) وكسياسي في المرة الثانية ( على أيدي شعبة المخابرات العسكرية عام 1987). بالطبع ليس ما تعرَّضتُ له حالة خاصة أو استثنائية، فالقمع السافر و المعمم هو العدالة الوحيدة التي يجهد حكامنا في تطبيقها على المحكومين. وأنا لا أتلاعب بالألفاظ حين أقول إن السائد في سوريا، هو قانون القوة لا قوة القانون. ذلك أن جميع الأنظمة، التي تعاقبت على الحكم خلال الثلاثين سنة الماضية، إنما وصلت إلى سُدَّة السلطة على أبراج الدبابات، و عبر الانقلابات لا عبر الانتخابات، الأمر الذي يعني أنها أنظمة غير شرعية، و أن كل ما صدر عنها من قوانين ومراسيم ومؤسسات هو غير شرعي أيضاً، بما في ذلك محكمة أمن الدولة التي أقف أمامها الآن كمتَّهَم، مع كامل احترامي لهيئة المحكمة كأشخاص لا كمؤسسة استثنائية.
هل هناك ما يبرر هذه التراجيديا الجهنمية التي أتحدَّث عنها؟ لقد حاولتْ السلطات المتعاقبة الإجابة عن هذا السؤال، وهي تلوِّح بسيف المشاعر الوطنية لدى الجماهير، مدَّعيةً أن الدوافع التي قامت عليها جملة القوانين الاستثنائية وحالة الطوارئ، تتلخص بضرورات الصراع مع الكيان الصهيوني! إذن دعوني أتجاوز قناعتي بعدم وجاهة الدوافع، حتى لو افترضتُ صدقها، لأقول: أليس أمراً مضحكاً إلى حافة الجنون، مؤلماً حتى البكاء، أن تُطبَّق الأحكام الاستثنائية على الجماهير وقواها السياسية، فندخل قاعة محكمة أمن الدولة، في الوقت الذي تدخل فيه إسرائيل قاعة المفاوضات؟! هل هذا يعني أن الأحكام الاستثنائية تستهدف شعبنا “عملياً” رغم ادِّعائها “إعلامياً” أنها تستهدف إسرائيل؟! أترك الإجابة فاغرةً جراحها كانتصارات مهزومة، أو كهزائم سُجِّلت في بند الانتصارات. وليس هذا هو التناقض الوحيد الذي يفترع البلاد بين التسميات أو الشعارات التي تدَّعيها السلطات وبين واقع الحال. ذهاباً وإياباً تعلن السلطة صدق رغبتها في السلام والمصالحة مع إسرائيل، مؤكدة احترامها التام للشرعية الدولية وقراراتها ومواثيقها، فلماذا لا تحظى الشرعية الدولية ومواثيقها بأي احترام عندما يتعلق الأمر بشعب سورية؟ أيها السادة.. ليس ما تسمعونه أو تقرؤونه الآن تقريراً صحفياً معدَّاً للاستهلاك، وليس بيانات كاذبة تروِّجها أجهزة مأجورة أو مشبوهة، بل هو ما تبقَّى من أنقاض روحي، وأنقاض مئات المعتقلين السياسيين الشرفاء . إنه شهيقي وزفيري وما يترمَّد بينهما من ذكريات الماضي وأحلام المستقبل.
مرة أخرى باسم الحرية، هذه الكلمة الموسيقى.. هذه الروح القُدُس، أعلن أن اعتقال أي شخص، سلاحه الكلمة و ليس البندقية، هو بالمعنى الأخلاقي ممارسة إجرامية صافية السلالة، هو خرق لإنسانية الإنسان بإطلاق، قبل أن يكون خرقاً بالمعنى الحقوقي لقوانينه ودساتيره.
إن دولةً تُعتَبر الكلمةُ فيها جريمة يحاكَم عليها المرء، هي دولة غير جديرة بالحياة، ولاحتى بالدفن، وبشكل خاص ذلك الطراز من الدول التي تُفترَس فيها الكلمة بالسياط والبنادق والزنازين. يقول المرسوم / المجزرة الذي يحمل الرقم 6 ما يلي: ( تختص المحاكم العسكرية الاستثنائية بالنظر في الجرائم الآتية:
1 الأفعال التي تُعتَبر مخالفة لتطبيق النظام الاشتراكي في الدولة سواء أوقعت بالفعل أو بالقول، بالكتابة أم بأية وسيلة من وسائل التعبير الأخرى…) و يقول الدستور: ( لكل مواطن الحق في أن يُعرِب عن رأيه بحرية وعلنية، بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى.) هل تقرؤون الفضيحة جيداً؟! قارنوا الخطابين كلمة كلمة وأجيبوني أيهما مصيدة الآخر، الدستور أم المرسوم؟ ما يعتبره الدستور حقاً، يعتبره المرسوم جريمة أحاكم من أجلها الآن! هذا الخراب الفاجع كيف يمكن له أن يستقيم مع العقل والمنطق في ظل سلطة واحدة وشعب واحد وزمان واحد؟! من يعيرني شيئاً من الجنون، لعلي أقتنع بشرعية أو مشروعية هذا المرسوم القادر، بإذن الطغيان، على تحويل سورية إلى قبر جماعي؟ أيها السادة.. إني أخجل من كوني إنساناً، وبودي لو أستريح من ذاكرتي قليلاً. حسناً.. كنت أتحدَّث عن الاعتقال وما يمثله من خروقات، لكن في الواقع لم تتوقف الخروقات عند حدود الاعتقال، فقد تعدَّته إلى ممارسة أبشع صنوف التعذيب و أكثرها قسوة ووحشية (الجَلد، الدولاب، الشبح على السلم، الكرسي الألماني، الفسخ، إدخال أدوات صلبة في الشرج, وتعليق أثقال بالجهاز التناسلي..)، مما أدى إلى تشوهات وعاهات جسدية دائمة، وأحياناً إلى حد الموت. ليس “محمد عبود” هو الشهيد الأول، ولا أعتقد أن المفقود أو الشهيد المرشَّح “مضر الجندي” هو الأخير. إني أسألكم.. هل في العالم كله، أو حتى في سورية، قانون يسمح بتعذيب المعتقلين السياسيين ناهيكم عن تصفيتهم جسدياً؟ حتى القوانين الاستثنائية، بكل ما تنطوي عليه من لا عقلانية، يجري خرقها. إني أسألكم ثانية.. ما هو دور محكمة أمن الدولة تجاه ما تسمعه من خروقات؟ حين قلت للضابط المحقِّق، في إحدى جولات التعذيب، إن الدستور يقول (لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً، و يحدد القانون عقاب من يفعل ذلك)، ضحك الضابط المحقق كما يضحك غير الأسوياء, وتابع مهمَّته. في الحقيقة أنا أيضاً ابتسمت بكل ما تنطوي عليه قوة القهر و الامتهان من مرارة، فهل ستضحك هيئة المحكمة أم ستبتسم، أم ستكتفي بما قاله قاضي التحقيق في المحكمة، عندما أخبرته أن الإفادة التي يسألني بخصوصها، قد انتُزِعت مني تحت التعذيب. قال لي إنه لا علاقة له بما هو خارج المحكمة، وإنه من جهته لايمارس عليَّ أي ضغط أو إكراه جسدي. قلت: ولكنك تبني إفادتك على أساس إفادة منتزعة تحت التعذيب، كما أنك تصرُّ على تدوينها قبل أن أرى أهلي رغم مرور أكثر من خمس سنوات اعتقال في سجن تدمر الشهير، وفي ظل ظروف مروِّعة، أكثر بكثير مما وصفته الإذاعات، مما يعني أنك تأخذ إفادتي وأنا تحت ضغط نفسي، قد لا يكون أقل قسوة من الضغط الجسدي، ولهذا فإني أطعن بشرعية الإفادة التي انتزعتها المخابرات, وبشرعية إفادة المحكمة بوصفها ابنة للإفادة الأولى. أيها السادة.. واضح أنه ليس بإمكانكم أن تتفهموا كل ذلك، فأنتم لم تجرِّبوا مثلاً ما يسمونه الكرسي الألماني (هو النازي إذا أردنا أن لا يساء لعموم الشعب الألماني). نعم.. لم تجرِّبوا هذا النوع من الكراسي، ولم تسمعوا تفجُّعات زنوبيا، كما يسمعها معتقلو سجن تدمر في أحلام اليقظة والنوم. أنتم لم تشاهدوا كيف تتكسَّر البروق في عيني أمٍّ تزور ولدها بعد أكثر من خمس سنوات على اعتقاله، ولم تعرفوا ما يعنيه بكاء تلك المرأة، التي زارت ذلك السجين بعد أكثر من عشر سنوات على وجوده في ذلك البرزخ الملعون. كان هو لا يتمالك نفسه من تكرار ندائه: يمَّا..كيفك يمَّا.. مالك يمَّا..جاوبيني إيش في يما..؟! وكانت هي تختنق بالنشيج، وتظل عاجزة عن إخباره بأنها أخته.. وأن أمَّهُ…! أتساءل، أو أسأل أحداً ما، عاقلاً أم مجنوناً، هل بقي في عالمنا قضاءٌ، يقبل أو يجيز اعتقال البشر أو محاكمتهم وفق هذه القوانين و هذه الشروط؟! إذا لم يكن في سوريا دولة أو قضاء قادر على أن يأخذ مجراه الطبيعي، فإني أدعو هيئة محكمتكم كأفراد، وأدعو كل من له علاقة بمهنة القضاء، وبشرف هذه المهنة على اختلاف جنسياتهم ومواقعهم، إلى أن يقولوا كلمتهم فيما يجري داخل (سوريا الحديثة) من فظائع وانتهاكات ومصادرة لحقوق الإنسان وحرياته العامة. ولكي لايعكِّر أحد دمي، ويصطادني فيه, أجدني مضطراً لتأكيد ما يلي: أولاً رغم قناعتي بأنه لايحق لأي سلطة، حتى لو كانت شرعية، ناهيكم عن سلطة جاءت بقوة السلاح، أن تسائل أو تحاكم أي مواطن من أجل آرائه المعلنة، بغض النظر عمّا إذا كان هذا المواطن اشتراكياً أم رأسمالياً، مؤمناً أم ملحداً، منظماً أم مستقلاً، متفقاً مع سياسة السلطة أم معارضاً لها، ذلك أن جميع دساتير الأرض تضمن حق البشر بالمعارضة، بما فيها دستوركم، فهو يضمن هذا الحق حتى لمن هم ضده، أو لا يعتبرونه دستورهم، ولو لم يكن الأمر كذلك، لتوجَّب أن تكون بطاقة الاستفتاء على الدستور ذات دائرة حمراء فقط، أعني دائرة “موافق”. ثانياً رغم قناعتي بلا شرعية حالة الطوارئ، والأحكام العرفية والاستثنائية القادرة على إبقاء أي مواطن رهن الاعتقال، من المهد إلى اللحد، من دون توجيه تهمة محددة، وذلك عبر تجديد اعتقاله احترازياً ستة شهور، فستة شهور، فإلى ما لا نهاية. ولا أظنكم تجهلون أن بعض المعتقلين مضى على سجنهم 22 عاماً. فمن أين يحق لمحكمتكم أن تحاكمهم الآن؟ وإذا كنتم لن تحاكموهم، فبأي شرع يستمر اعتقالهم كل هذه السنوات بدون توجيه تهمة؟ ثالثاً رغم قناعتي بأنه حتى محكمة أمن الدولة، لا تمتلك القدرة أو الصلاحية الفعلية لفرض و تنفيذ أحكامها، فقانون القوة، وإن كان يستقوي بها، يظل أقوى منها إذا تعارضا، وبإمكانه الاحتفاظ بأي معتقل، حتى لو انتهت مدة حكمه المقرَّرة من قبلها، كما بإمكانه الإفراج عنه قبل انتهاء حكمه أو محاكمته حتى. أقول رغم كل ما تقدم، وعلى أرضيته، تصديت وأتصدى لتفنيد التُّهم التي وجهتها إليَّ النيابة العامة، وأنا مضطر للرد باسمي الشخصي، لأن محكمتكم رفضت السماح للحزب بممارسة حقه في الدفاع عن نفسه. وإني إذ أفعل ذلك أمام جهة لا يحق لها أصولاً أن تحاكمني، فلكي أكشف مدى العسف والتناقض في المنطق السلطوي بذاته، وليس فقط بمقارنته مع قوانين وحقوق وثوابت بشرية عامة، تشكل حداً أدنى، أجمع العالم عليه منذ عقود. بداية أشير إلى أنه ليس بإمكان السلطة، ممثلةً بالنيابة العامة، أن تواجه حزبنا بأي وثيقة أو ممارسة، تثبت من خلالها أننا ضد الوحدة و الحرية و الاشتراكية، بيد أن النيابة العامة تطابق بين السلطة وبين الأهداف، وباعتقادي أنه لو صحَّت المطابقة، لكان على محكمتكم أن تبدأ بمحاكمة السلطة الحالية، لأنها انقلبت على السلطة السابقة، التي تعرفون أنها كانت ترفع الأهداف نفسها. ولا ينبغي لأحد أن يستغرب افتراضاً يقول: إنه لو فشلت السلطة الحالية بانقلابها عام 1970، لكانت محكمتكم قد حاكمت رموز الانقلاب, بتكليف من السلطة السابقة طبعاً، بوصفهم أعداء لأهداف الدولة / الحزب، ومعرقلين لتطبيق الاشتراكية! بهذه الصلافة السلطوية في فهم ومحاكمة الأمور، توجَّه إلينا التهمة بعرقلة النظام الاشتراكي، والحجَّة أننا نعارض السلطة، والسلطة في عُرف نفسها أو ممثِّلها متطابقة مع الأهداف المعلَنة، وهكذا فإن معاداتنا للاشتراكية وعرقلة تطبيقها أصبحت أمراً مفروغاً منه! صدِّقوني إن سرير (بروكست) الأسطورة، ليس أكثر فظاعة من هذا السرير، الذي تُمدِّدنا عليه النيابة العامة في الواقع، وفي أواخر القرن العشرين لا في العصور الحجرية. إن هذه التهمة حتى وفق منطق السلطة تقتضي الإجابة عن سؤالين:
هل النظام القائم اشتراكي حقاً، أو قادر على إثبات اشتراكيته، كما يدَّعي؟ هل نحن فعلاً نعرقل التطبيق الاشتراكي المزعوم؟ إن الأساس الذي تعتمد عليه السلطة في اعتبار نفسها اشتراكية، هو قطاع الدولة الذي تسمِّيه القطاع العام، فهل حزبنا يعرقل الاشتراكية، عندما يدعو إلى توسيع هذا القطاع والارتقاء بمضمونه وقوانينه وآليات عمله، ليكون قطاعاً عاماً فعلاً، لا بقرة حلوباً للعلق البيروقراطي العتيد في سورية؟ بالتأكيد نحن نعتبر القطاع العام في صورته المعهودة ليس قطاعاً اشتراكياً، ومثلنا يعتبره العالم كله، لكن هل تعلم محكمتكم أن هناك قوى سياسية أخرى، بعضها عضو في ما يسمى (الجبهة الوطنية التقدمية)، تعتبر أيضاً أن القطاع العام في سورية ليس قطاعاً اشتراكياً، وأن سورية لا تشهد حتى تحولات اشتراكية، بل علاقات إنتاج رأسمالية تتسع وتُعمَّم. (إذا أردتم .. فإني أحفظ الوثائق حرفياً وبأرقام الصفحات)، فهل ستنسجم محكمتكم مع نفسها، وتقوم بمحاكمة الأحزاب المعنية، أم أن عدم معارضة هذا الحزب أو ذاك للسلطة السياسية، يعني هنا عدم عرقلة تطبيق الاشتراكية؟! آمل ألا يُفهم من كلامي أني أدعو لمحاكمة أحزاب ما، ذلك أن أي رأي مهما كان صائباً أو مخطئاً، هو حق طبيعي للجميع أفراداً وأحزاباً. إن كل ما كنت أرمي إليه هو إبراز حقيقة الصورة الكاريكاتيرية لغيرة السلطة على الاشتراكية (اليوم)، وهي التي لم تفعل ذلك بهذا الحرص، حتى عندما كان يوجد في العالم شيء اسمه اشتراكية! أما تهمة تشكيل منظمة سرية، تهدف إلى قلب النظام بالعنف, فإنها تهمة ساقطة بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات، وذلك لعدم قانونيتها أولاً و لكونها تُطرح من قبل سلطة جاءت بالعنف ثانياً، وفي بلد ليس فيه قانون أحزاب ثالثاً! وليس سهواً أنه لا يوجد في سورية أي حزب سياسي، يمتلك ترخيصاً قانونياً بما في ذلك أحزاب (الجبهة الوطنية التقدمية) نفسها. قد يتفهم المرء سلوك شرطي (يتسلبط) على سائق، لا حول له ولا قوة، بتهمة تجاوز إشارة ممنوعة في قرية نائية، ليس فيها أي قانون للسير أو إشارات للمرور، لكن أن يحدث ما يشبه ذلك على صعيد السياسة و القضاء، فإنه يغدو من المشروع تماماً، أن لا يرى المرء أي فارق جوهري بين كلمتي (سوريا) و(سوريالية). سبق للمحكمة أن اعتبرت إشارة الدستور لوجود جبهة، من دون تحديد لأسماء الأحزاب، بقيادة حزب البعث رداً كافياً على إثارتنا لمسألة قانون الأحزاب، ودليلاً واضحاً على وجود أحزاب رسمية في سورية! نعم هي أحزاب رسمية بالمعنى السياسي، ولكنها تبقى غير مرخَّصة بالمعنى القانوني، و يمكن لقرار سياسي صغير، أن يرميها خارج رحمة السلطة وجبهتها. وينبغي للمحكمة أن تكون أكثر معرفة مني، أنه ما من ميزان قضائي حُرّ، يقبل أن توزَن فيه الأمور على هذا النحو. هل المحكمة بحاجة أن أشرح ما يعني قانون الأحزاب؟ هل أشرح لها أنه عندما يحوز أشخاص على الشروط القانونية لتشكيل حزب ما، فإنه يصبح من حقهم الحصول على ترخيص، بغض النظر عما إذا كان الحزب الذي يمثلونه حليفاً للنظام الحاكم أو معارضاً له؟ أيها السادة.. إن لا قانونية الشق الأول من التهمة، أعني تشكيل منظمة سرية، من شأنها أن تُسقِط تلقائياً الشق الثاني بقلب النظام، حتى لو كان الأمر صحيحاً. أمَّا وأن الأمر ليس كذلك، فإني أطلب من النيابة العامة أن تمدَّ يدها إلى جعبة الأدلة التي في حوزتها. أجزم بأنها لن تستطيع أن تقدِّم دليلاً ملموساً واحداً، حتى لو مدت يدها إلى قبعة ساحر. لسوء حظ النيابة أنه لا يوجد في تاريخ الحزب أي نشاط أو تكتيك أو فعل له أي علاقة بممارسة العنف أو حتى تبنّيه، فهل تراهن النيابة على إمكانية تحميلنا مسؤولية نواياها وقراءتها المشوهة لأدبياتنا؟ أم مسؤولية التاريخ وما يمكن أن يخبئه لسورية في المدى الاستراتيجي من احتمالات، يستحيل التنبؤ بها أو التعاطي معها إلا بوصفها احتمالات نظرية مجردة. أعتقد أن تحميل المسؤوليات على هذا المستوى هو من صلاحيات قوى كلية، لم يسبق أن منحها البشر لغير الآلهة. إن سلطة جاءت بالعنف، يصعب عليها أن تتصوَّر إمكانية إسقاطها بغير العنف، ولهذا لم تستطع النيابة أن تميِّز بين ممارسة العنف وبين شعار إسقاط السلطة، الذي ينطوي على احتمال أن يتحقق بالعنف أو بغيره. أكثر من ذلك, يبدو لي أن النيابة، لم تقرأ برنامجنا الانتقالي الذي يشير في أول صفحة منه إلى أن الحزب، جمَّد شعاره المتعلق بإسقاط السلطة (كان ذلك في آب 1980، عندما كانت البورجوازية التقليدية الأكثر خطراً على مصير الشعب والوطن، تدقُّ أبواب العاصمة)، ومنذ ذلك الحين رفعنا بدلاً منه شعار دحر ديكتاتورية النظام، وهو أمر مختلف عن إسقاط النظام برمَّته، وأي شخص عالم بأوَّليات اللغة العربية، يدرك الفارق، فلماذا لا تريد النيابة إدراكه؟ إن شعار الحزب “دحر الديكتاتورية” هو دعوة لتغيير الشكل السياسي للحكم، تغيير أسلوبه وآليات اتخاذه للقرار. إنه دعوة لدحر القوانين اللاديمقراطية والمؤسسات اللاديمقراطية والممارسات اللاديمقراطية. أيها السادة.. إذا كانت الديكتاتورية حاضنة العنف. فإن الديمقراطية حاملة نعشه، ولهذا كان انحياز حزبنا إلى النضال من أجل الظفر بالحريات السياسية. ولعله من أطرف المفارقات، أننا عندما كنا نرفع شعار إسقاط النظام الديكتاتوري، قام هذا النظام نفسه بإطلاق سراح رفاقنا في شباط 1980 بدون قيد أو شرط، لا بل مع دعوة حارَّة إلى أن يخرجوا ويمارسوا نشاطهم السياسي، لأنهم وطنيون ولأن الوطن في خطر! أما الآن، ومع أن الحزب يرفع شعار دحر الديكتاتورية، وليس إسقاط النظام، فإنه يتعرَّض للملاحقة والاعتقال والمحاكمة! تُرى لماذا لم تمارس محكمتكم دورها في ذلك الحين؟ ولماذا تتدخل الآن؟ ألا يعني هذا أن محكمتكم تحاكمنا بقرار سياسي وليس بقرار قضائي؟ وأن محكمة أمن الدولة لاتتمتع بأي استقلالية عن السلطات التنفيذية، وأن دورها لا يعدو كونه شكلاً إخراجياً أو مجرد غطاء قانونيٍّ في ظاهره، لا شرعيٍّ في حقيقته، لقرار سياسي يفرض مجراه فوق المحكمة والدستور وخارجهما؟
بقي لي أن أتوقف قليلاً عند اتهامنا بنشر أخبار كاذبة، لأقول إن السلطة لم تترك للنيابة العامة أي إمكانية لإظهار أي قدر من الحصافة، لكي لا أقول الأمانة، في تحديد الجهة التي تنطبق عليها هذه التهمة. هل نكذب عندما نقول إن النظام ديكتاتوري، يصادر الحريات ويعتقل المعارضة السياسية؟ إذن من نحن؟ وأين نوجد، ولماذا؟ لقد تجاوزت السلطة مرحلة الإنكار منذ فترة كافية لتغيير كليشيه الاتِّهام. هل نكذب عندما نتحدث عن الرشوة والفساد والمحسوبيات وفلتان الأجهزة القمعية؟ صحف النظام نفسه تضطر أن تتحدث عن ذلك أحياناً، فهل هي صادقة ونحن لا؟ هل نكذب عندما نقول إن حقوق الإنسان.. (بودي هنا أن أعتذر شخصياً، لقناعتي أن الحزب لم يقل فيها ما يكفي، فإمكانياته وظروفه لم تسمح له بإعطاء هذه المسألة حقها, فما يجري في سورية من انتهاكات، أفظع بكثير مما تحدث عنه الحزب. لقد عرفت ذلك جيداً، نتيجة السنوات التي قضيتها في مملكة الموت والجنون، أعني في سجن تدمر، وقبلها في زنازين الفرع 235). وهل نكذب الآن، إذا قلنا إن سيرة عبيد روما تتجدَّد في سورية، لكن بفاعلية القرن العشرين، بدءاً من جحيم المعركة التي خضناها في فترة التحقيق، وانتهاء بالصليل الجارح للجنازير التي ندخل فيها قاعة المحكمة. (أشهد أن رئيس المحكمة رفض عقد أي جلسة قبل أن تُفكَّ الجنازير عن معاصمنا، و تتنحَّى ظلال البنادق عن قوس المحكمة. لكن ألا ينبغي لرئيس المحكمة، أن يشهد بطغيان هذه الجنازير والبنادق خارج قاعة المحكمة؟) أعتقد أن ما تقدَّم أو بعضه، يجعل الدعوة لدحر الديكتاتورية واجباً إنسانياً عاماً وشخصياً وحزبياً، وهذا ما فعلناه كحزب عندما رفعنا شعار دحر الديكتاتورية، وهذا ما أفعله شخصياً الآن. أيها السادة.. أعرف جيداً لا نزاهة الدوافع الكامنة وراء اتهام سورية بالإرهاب، ولن أنصِّب من نفسي محامياً مأجوراً حيال هذه التهمة. فأنا لا أمتلك أي معطيات بهذا الصدد على الصعيد الخارجي، غير أنه ليس بإمكاني مطلقاً، أن أغضَّ الطرف، أو أنفي ذلك على الصعيد الداخلي. لقد رأيت بعيني إطلاق النار على رفاق لي، أعرف جيداً أن سلاحهم الوحيد الذي كانوا يحملونه هو الجريدة أو البيان. وعايشت رفاقاً أو أصدقاء أو زملاء، يحق لهم أن يفاخروا بالأوسمة التي خلَّفتها على أجسادهم آثارُ الرصاص الإرهابي الغادر، حتى لو كُتِب عليه أنه رصاص غير إرهابي. وأطلقتُ أسراباً ملوَّنة من الكلمات، لكنها حين لم تجد فضاءاتها سقطت مضرَّجة بالعناقات الأولى لعشَّاقها.
إذن.. منكَّسة بيارق الكلمة، منكَّسة رؤوس حامليها. وهذا الذي نكتب فيه ليس حبراً، بل دم ولغَتْ فيه قوانينُ الديكتاتورية، وخوَّضتْ في حُرماته أشرسُ أجهزتها، فأية كوابيس هذه التي أسميها بلادي؟! نظام ترسملتْ فيه حتى الحجارة، يعقد محكمته لإدانة معارضيه جميعاً، حتى الشيوعيين منهم، تحت عنوان عدائهم لاشتراكيته المزعومة! إنها مفارقة مريبة، تكاد تقول: هنا مفلِسٌ يقوم بضربةِ صولد. لست متأكداً ما إذا كانت هذه التهمة ساذجة أو ماكرة، ولكني أجزم بأنه حتى الأجيال التي ستولد في سورية مستقبلاً، ستُطرِق الرأس خجلاً، كلما توقَّفتْ أمام هذه الصفحات السوداء من تاريخ سورية.
في النهاية لا بد لي من القول، إنني لست ضد أن أُحاكَم. بل إني أعتبر ذلك حقاً لي، وأريده كاملاً غير منقوص. غير أن هذا الحق لا يمكن ضمانُه من قِبَل محكمة استثنائية لا شرعية. ولهذا أطالب بكفِّ يد المحكمة, محكمة أمن الدولة، وإحالتي إلى محكمة مدنية عادية، يحضرها ممثلون عن الصحافة العربية والعالمية، وممثلون عن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان ومعتقلي الرأي. أريد شهوداً قادرين على أن يعلنوا في الختام: مَنْ يحاكِم مَنْ؟ وإلا فإنها اتهامات فاجرة.. وأحكام جائرة.
لم أقل كل ما ينبغي لي أن أقوله، فليسامحني من حاولت أن أدافع عنهم أو باسمهم. إن ظروفي من حجر.. لم تتح لي أن أقوم بواجبي إلى النهاية. شكراً لعدالة شعبي المؤجَّلة. شكراً لأمي علَّمتني، أن الحرية التي في داخلنا أقوى من السجون التي نحن في داخلها. ولهذا سوف تنتصر الحرية وتنهزم السجون.
الموقوف منذ 31/3/1987بسبب الانتماء لحزب العمل الشيوعي في سوريا
#كمال_العيادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملف صحفي حول الإحتفاء التاريخي بالشاعر د.عادل قرشولي
-
إلى روح الغالية مليكة مستظرف 1
-
صباحك يا مليكة سكر
-
الكتابة… بين المقهى والذّاكرة المسكونة
-
ملاحظات وهوامش حول موقع المبدعة فاطمة ناعوت
-
إنّها لندن يا عزيزي
-
صورة جانبيّة, لوضع الجاليّة العربيّة في ألمانيا
-
رسالة مستعجلة إلى حبيبتي الإلكترونيّة
-
صاحب ربطة العنق الخضراء
-
زفرات قلب الشّاعر
-
عن الحنين والغربة : مع الكاتبة المهاجرة كوثر التابعي
-
لهذه الأسباب منحت جائزة نوبل لأدونيس ولم تمنح لمحمود درويش
-
مرثيّة القمر الأخير
-
موت بدون وصيّة
-
يلزم بعض الوقت: مجموعة - زهرة يسرى -الشّعريّة
-
برقيّات إليهم …أينما كانوا في منفاهم - 1
-
وقائع الرّحلة العجيبة إلى تونس
-
رحلة إلى الجحيم
-
حكاية السنوات العشرين
-
بقايا الحنّاء والرّسائل المغشوشة
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|