في منتصف السبعينات كنت شاهد عيان على أحداث انتخابات اتحاد طلاب جامعة القاهرة من خلال عضويتي بأسرة "الفكر الناصري" بكلية الإعلام ، وكان هناك مرشحان لمنصب رئيس الاتحاد أحدهما رئيس أسرتنا ورئيس اتحاد طلاب الكلية ، والثاني طالب بكلية الهندسة القاهرة ، وكانت أصوات كليات الفيوم والتابعة للجامعة حاسمة في تحديد الفائز بالمنصب ،ونجح "الرفاق" في الأسرة في الاتصال بسائق الأتوبيس المقرر حضور أعضاء اتحاد الفيوم فيه إلى مقر الانتخابات ، وطلبوا منه مقابل مكافأة مالية أن يقوم بجولة في المناطق السياحية والأثرية بالقاهرة ولا يحضر إلى المدينة الجامعية حيث تجرى الانتخابات إلا بعد انتهاء الانتخابات ، وحدث ما كان مخطط له ، ونجح مرشحنا وقتها والنائب الحالي بمجلس الشعب وفاز برئاسة اتحاد الطلاب بجامعه القاهرة .
واكتشفت وأنا الشرقاوي القادم من القرية حديثاً ، أن كل شيء وارد في العمل العام وانه لا اختلاف في العمل السياسي ، وأليست السياسة هي فن استخدام الممكن ، عملاً بالمقولة الشهيرة أن الغاية تبرر الوسيلة .
ولعل هذه الواقعة القديمة تفسر وتكشف عن ما حدث مؤخراً في انتخابات نقابة الصحفيين .ولعل أهم المفاجآت في انتخابات نقابة الصحفيين هذه المرة هي الفوز الساحق لمرشح المعارضة "أ. جلال عارف" والذي فاز بمنصب النقيب بفارق يصل إلى 400 صوت ضد منافسه مرشح النظام "أ. صلاح منتصر" ، خاصة أن النقيب الحالي فشل ثلاث مرات من قبل للوصول إلى المنصب ، وفي إحدى المحاولات السابقة لم يتجاوز الفارق الذي فاز به المنافس وقتها سوى سبعة أصوات فقط ، ومن ثم فهذا الفوز لمرشح المعارضة وبهذا القدر الكبير نسبياً في الأصوات يكشف عن بعض الأسباب والملابسات التي جرت في ظلها الانتخابات ، ويبعث بالعديد من الرسائل إلى من يهمهم الأمر .. فالمتنافسان وإن كان يجمعهما عفة اللسان ودماثة الخلق ، إلا أن أحدهما وهو "أ. جلال عارف" يتمتع بخبرة نقابية طويلة ومتمرس انتخابياً ولديه العديد من الأنصار والمريدين ، كما أنه لعب بمبدأ "التغيير" وهو الأمل الذي يحلم به الصحفيين وعامة أفراد الشعب المصري .
أما "أ. صلاح منتصر" فقد كان كمن قذف في البحر وهو لا يعرف العوم ، وبدى كأنه لم يكن مهيئاً نفسياً ولا عملياً لخوض هذا المعترك ومن ثم كان مرتبكاً في تحركاته وخطابه الانتخابي ، وكانت جولاته الانتخابية في المؤسسات في غير صالحه ، بل كانت تضيف من الرصيد التصويتي لمنافسه يوماً بعد آخر ، ولم يرغب في الاستعانة بمن لديهم الخبرة في هذا المجال ، ولم ينفق من ماله الخاص ما تتطلبه الدعاية الانتخابية في مثل هذه الظروف .
وتلك الظروف السابقة ، هي عوامل شخصية خاصة بالمتنافسين لا حيلة للناخبين فيها ، ولكنها ترجح كفة أحدهما على الآخر كما حدث ، بالإضافة إلى أن الظروف والأسباب الموضوعية ، والتي كان منها أن "أ. صلاح منتصر" يمثل جيل رؤساء المؤسسات الصحفية الذي طال انتظار رحيلهم ، فبحكم القانون والسن كان يجب أن يغادروا مواقعهم منذ سنوات ، واستمرارهم يمثل مخالفة "قانونية" ضد سنة الحياة والطبيعة والتي تقضي بالتغيير والتجديد ، ومن ثم فقد كان انتخاب منتصر هو تكريس واستمرار لهذا الوضع المرفوض وبقاء للحال إلى ما هو عليه إلى أجل غير مسمى .
ومنها أيضاً احتكار رؤساء المؤسسات ومرشحي النظام لمنصب النقيب لمدد تصل إلى عشرين عاماً ، في حين أن العكس حدث في نقابة المحامين ونادي القضاء ، والناس بطبعها ترفض الاحتكار ، وخاصة عندما يكون من مؤسسة واحدة ، فهناك أكثر من عشرة مؤسسات غيرها على الساحة وبعضها أقدم منها في الوجود ، ولذا انتشرت إشاعة أن منتصر جاء "محللاً" للنقيب الدائم ، وساهم في ذلك أنه بدى للجميع أن "أ. إبراهيم نافع" هو الذي يدير المعركة الانتخابية ، وهو الذي سيدير النقابة من خلف الستار .
ومنها أيضاً أن "أ. منتصر" راهن على موقف رؤساء المؤسسات ودعمهم له ، ولم يراهن على زملائه الصحفيين الذين ينتخبونه ، كما فعل منافسه المتمرس جلال عارف ، والذي حدث أن هؤلاء الرؤساء القيادات "باعوه" لأنه لم يكن أفضلهم حتى يتم اختياره والدفع به للترشيح ، في حين أن بعضهم رغب في ذلك واعتقد أنه أحق وأولى من صلاح ، وكانت رسالتهم إلى من اختاروه : " عليكم أن تحصدوا ما زرعتم " !!!!.
ثم هناك الأوضاع الصحفية المختلة داخل المؤسسات الصحفية من انتشار الفساد الإداري والمحاباة والتفرقة في الترقيات والنشر والسفر .. وكافة المميزات الأدبية والعينية التي يملك رئيس المؤسسة منحها ومنعها عن من لا يختلف معه .
فقد غابت المعايير وغيبت القواعد ، وتحولت المؤسسات الصحفية إلى "عزب" خاصة للقائمين عليها ، والويل والصبور لمن يعترض ، والأمثلة والدلائل موجودة لكل ذي عين ، والطريف أن هذا الخلل لم يكن قاصراً على المؤسسات القومية وحدها ولكن انتقلت إلى الصحف الحزبية والخاصة أيضاً .
ناهيك عن الأوضاع العامة السياسية والاقتصادية ، حيث اختفى شعار التغيير وتجديد الدماء ، ورفع بدلاً منه شعار الاستمرار من أجل الاستقرار ، أسيء تفسير الآية القرآنية الكريمة "وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات" .. فضلاً عن أوضاع اقتصادية لا تليق مطلقاً بهذا الشعب العريق وهؤلاء المواطنين الصابرين .
كل هذه العوامل والظروف الخاصة والعامة كانت وراء القرار التصويتي لأعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين ، وكانت سبباً ودافعاً لانتخاب جلال عارف نقيباً للصحفيين ، والصحفيون جزء من المجتمع ولا يمكن أن ينفصلوا عنه ، بل هم ضميره الحي والمعبر عنه ، والمهم أن تصل الرسالة وأن يستوعبها من يتلقوها .
كان ما سبق عن النقيب وملابسات انتخابه ، أما مجلس النقابة فله حديث آخر ، وتجدر الإشارة أولاً إلى أن من نجحوا ليسوا أفضل من ترشحوا ، فقد خسر العمل النقابي "رجائي الميرغني" ، كما خسرت النقابة جدية وموضوعية حازم منير ، وغيرهما آخرون ولكنها الانتخابات التي يجيد لعبتها الأخوة الناصريون والإخوان ، فقد استفاد الحليفان من تناقضات وخلافات المؤسسات الصحفية ، ولعبا على وتر الدين والأوضاع السياسية ، وحققا غايتهما بعد أن "نيما" الجميع ، والغريب هنا هو موقف الدولة وأجهزتها التي لا تعترف بتنظيم الإخوان ومشروعيته ، في حين أنها تغمض العين عن نشاطه بل وتبارك سعي مرشحها لنيل البركة !!! ، والحصول على الدعم والتأييد الإخواني .
إن مواجهة الحقائق أفضل من دفن الرؤوس في الرمال ، وعلى الجميع أن يلعب على المكشوف ، حتى تتوفر العلانية والشفافية ويكون الحكم في النهاية للمواطن صاحب المصلحة ، ومصر بلد الجميع والدين لله ، وكلنا مصريون ووطنيون ، وإذا كان الخلاف السياسي أمر مطلوب ، فالعلانية والشفافية واجب مفروض .. ولا يجب أن يحتكر أحد الوطنية أو الحكمة ، فنحن شركاء ولسنا رعايا أو متفرجين ، ويجب أن نحتكم لمعايير وقواعد واضحة تسري على الجميع ، حتى لا نفاجأ بما لا نتمناه .. ونسأل الله الهداية للجميع ، وأن يكون شعارنا .. " مصر أولاً .. .. وأخيراً " .
جريدة التجمع – العدد 113