عزيز باكوش
إعلامي من المغرب
(Bakouch Azziz)
الحوار المتمدن-العدد: 1852 - 2007 / 3 / 12 - 03:51
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
صدرت أخيرا للشاعر الدكتور محمد بودويك الطبعة الأولى لكتابه الجديد "شعر عز الدين المناصرة بنياته,إبدالاته, وبعده الرعوي" عن دار مجدلاوي الدولية للنشر والتوزيع بالأردن. وهي دراسة نقدية تقع في 407 صفحة من الحجم الكبير .
تتضمن فصول الإصدار الجديد مقدمة, وثلاثة فصول, وخاتمة.إضافة إلى لائحة بقائمة المصادر والمراجع المعتمدة.
اشتمل الفصل الأول على ثلاث مباحث .الأجناس الشعرية.الشعر الرعوي في المفهوم والخصائص.الرعوية في شعر المناصرة.
أما الفصل الثاني فقد تضمن بدوره ثلاث مباحث. مجنون جفرا. الفقد والخروج: الدياسبورا الفلسطينية.عوليس وايثاكا" نحو استعادة استعارية"
بالنسبة للفصل الثالث ,فقد بحث الفاعلية الإيقاعية, والفاعلية التصويرية في المتخيل الشعري,وبناء الصورة الشعرية ثم الفاعلية التناصية.
محاور كلها تندرج في فلك الشعرية الفلسطينية المتحققة من خلال البناء الدلالي والإيقاعي والتخيلي في المتن الشعري لأحد الشعراء العرب المعاصرين الأفذاذ : الفلسطيني عز الدين المناصرة.
جاء في مقدمة الإصدار بقلم الناقد نفسه : نقدم على هذه الخطوة ونحن نرتعش حذر السقوط في اللغو.أو مطب الكلام المنفلت من عقاله. نقدم وكلنا التزام بمقاربة نقدية لشعرية ملتزمة في كليتها دقيقية, متفحصة رادة للاعتبار ومانحة.. ان ما نروم مقاربته يتأبى على الإمساك, وكيف يتأتى القبض على اللامرئي والجوهري والجذوة المشتعلة, والضوء الهارب الذي هو بعض التماعات الشعر. يتساءل الباحث "أليس عالم المناصرة, عالم مليء بالرؤى والتجليات الشعرية , والرموز الرعوية والكنعانية, وهو أيضا عالم موغل في الخصوصية. يكاد يكون مغلقا عن اللذين لم يمنحهم الله شفافية النفس والقدرة على اختراق أسوار هذا العالم والولوج إلى أبهائه من أبوابه.؟؟
ان طول العشرة بين الشاعر والناقد ,ومصاحبة الشعر, والشاعر وتقليب النظر في المتن الشعري على ما يبدو .. لم تزد الناقد محمد بودويك إلا ارتباكا. وإحساسا فادحا بالعجز. عجز القراءة الاستبارية عمقيا وشموليا لتجربة الشاعر المناصرة الحفيلة والجليلة.
"لقد أخد منا هذا الشعر الوقت كل الوقت يبوح الناقد" وغير طرقنا في القراءة كنا نسلكها, ومقاربات عاشقة سريعة كنا نصطنعها..إننا امام تجربة شعرية عربية باذخة بناء وتخييلا ورؤية ورؤيا".
مقاربة الناقد والشاعرمحمد بودويك , تـأتي في سياق الاحتفال بالشعرية الفلسطينية بشكل عام ,كما تخلقت وتحققت على يد الفرسان الثلاثة درويش-المناصرة_ وسميح القاسم . بوصفها تجربة خلخلت الشعرية العربية ووضعتها في أتون من الجمر واللهب . كما تحضر أيضا في سياق الزمن الفلسطيني الحاضر..الذي انكتب وانحفر في الخمسين سنة الأخيرة من التاريخ المعاصر, وسال على الصمت والتواطؤ والاقتلاع عبر الدم المسفوح على ارض ,والمسفوح في الكتابة , استقر في قرار مكين من الشعرية العربية, بحيث أدمى رؤاها وأقذى عيونها واستفز لغتها, وضخ الألوان الكابية والمضرجة فيها وخضخض إشراق أسلوبها..وهو ما أضفى في رأي الناقد المشروعية على الشعرية العربية المعاصرة. في شكلها التفعيلي وعمقها الأسطوري. لذلك تتراءى التجربة الشعرية المناصرة كتجربة غنية موصولة بجذر تراثي أنساني رحيب , والمتكئة على جذع تاريخي وحداثي يمتح من انساغ القاع الفلسطيني الشعبي, والامتداد الحاراتي العربي , والأجنحة الغربية التجديدية المعاصرة. منحته إصرارا واضحا على تتبعها الباحث بالتقصي والتفكيك ,للوقوف على آليات اشتغالها ,وسر جمالها ,وما به صارت بنيانا لغويا مناصريا تحديدا وأسلوبيا متميزا.
ان اختيار موضوع "البنيات الدالة وابدالاتها في شعر عز الدين المناصرة أملته عدة اسباب ومجموعة دواع موضوعية يبوح بها الشاعر الناقد في مقدمة الكتاب..أهمها ان التجربة متطورة جدا- أنها شكلت إبدالا لغويا وأسلوبيا ورؤيويا وتطويرا بالتلازم والبديهة للشعرية الفلسطينية والعربية- كما شكلت إبدالا إيقاعيا فيما يتعلق بقصيدة النثر التي جاءت فريدة في بابها من حيث الدال الإيقاعي , ومن حيث النسيج اللغوي والرؤية الشعرية الرعوية الزراعية. -لأنها تجربة تجسيرية بين النثيرة والتفعيلة5 كما ان لهذا الشعر أهمية جمالية قياسا إلى مجايليه.
: حاول الناقد الدكتور محمد بودويك في بحثه النقدي الإحاطة بالمتن الشعري لعز الدين المناصرة من حيث قراءته على مستويين اثنين أساسيين : ومستوى فني جمالي , مستوى تيمي مضاميني فهو يغتدي من الطرافة اللغوية والفتح الأسلوبي والتشقيق وتفصيح العامية فضلا عن اغتذائه وارتشافه من عديد المنابع والمشارب الشعرية والمعرفية كالتراث والفلكلور والأغاني الشعبية الفلسطينية والأساطير والأدبيات الكنعانية والسومرية والمصرية والعبرية. مركزا على العناصر والمكونات الأكثر حضورا وتواترا ودورانا وعلى المقومات التي صنعت غناءه وتفرده وقيمته المضافة إلى المدونة الشعرية العربية المعاصرة.
وقد كان للشعرية بما هي مقترب نقدي لصيق بعالم الشعر تحديدا والأسلوبية بما هي خاص مقتربات لغوية لسانية وبلاغية والموضوعاتية بوصفها قراء ة نباشة في الطيم المتحكمة في شاعرية الإبداع والمضامين ذات الصلة بالدلالات الضمنية والعالم التخيلي كان لها جميعا الضوء والإشارة التي يهما في ليل النصوص الشعرية تاركين لهذه الأخيرة الكلمة في ان تقترح نوعية الخطو والمقاربة.
خصص الناقد المدخل العام لبحثه للشعرية الفلسطينية الحديثة والمعاصرة من باب وضعها الاعتباري في الشعرية العربية المعاصرة كشعرية طليعية حازت المعادلتين الصعبتين الجماهيرية والحداثة.
ثم افرد للشاعر المناصرة مكانة أثيرة , مكسبا للشاعر جدارته وشموخه من خلال إضافاته النوعية منحت شعريته التميز والخصوصية..ولم تكن هذه الخصوصيات سوى الكنعنة والرعوية.
لامس الناقد كذلك سنونوة الماء ما اصطلح على تسميته بالأجناس الأدبية كمهاد للشعر الرعوي بالنظر لكون الرعويات جنسا شعريا تاريخيا ظهر في ثقافات الأمم القديمة وثراتها بهذا القدر أو ذاك.
وقاده البحث إلى الوقوف على الأجناس الادبية الى كتاب "فن الشعر" لأرسطو ليستدل به على الجنسين الكبيرين التراجيديا والملحمة..وراح الناقد خوضا في الغنائية التي أغفلها أرسطو وأستاذه أفلاطون, وعن بخاطره أثناء الحفر والنبيش ان الرعوية حضرت منذ اليونان بوصفها جنسا أو نوعا شعريا مفكرا فيه مبينا ذلك في أناشيد السومريين وتراتيلهم الطقوسية , وفي أغاني الحب عند الرعامسة المصريين, ولدى العبرانيين ,كما يتجلى ذلك في العهد القديم من خلال قابيل وهابيل , وسفر راعوت, والمزامير, ونشيد الإنشاد.
في أثناء حديثه حول الأجناس الأدبية ,عاد الناقد ليبين غنائية الشعر العربي ,ويكشف غياب باقي الأنواع الشعرية الأخرى,معتبرا ان ذلك لا يعتبر انتقاصا من شعريتنا.
لقد كان الخوض في الأجناس الأدبية بالنسبة للناقد محمد بودويك أولوية للوصول إلى الرعوية بوصفها جنسا منحشرا عاش كالسرخس في ظلها ومن ثمة للوصو ل إلى مبتغاه , وهو استخلاص الرعوية كما أضاءها في أمكنة متفرقة من بحثه.
عمل الناقد على تفكيك طيمة الجنون..جنون الشاعر بجفرا حيث قادته قراءته للمتن إلى تركيبة الطيمة وتعددها فهي حينا جنون بالمرأة ليس إلا , وحينا آخر جنون بالأرض ملتبسا بالمرأة , أو جنون بالأرض وحسب.
ثم شرع يعد المنزلة التي تنزلتها المرأة في شعر المناصرة, وحصرها في ثلاث توصيفات.
الأولى تماهت فيها المرأة بحقيقتها وآدميتها والمنزلة الثانية تماهت فيها المرأة بالأرض مما أضفى عليها هالة من القداسة والمثال والارتقاء إلى الرمز الميثي. والمنزلة الثالثة بين المنزلتين مما يعني انبهام الترابط وتراخي الآصرة وانفصامها من جهة واندغامها إلى الحد الذي تخفى معه شعرة معاوية.
مما يفضي إلى التسليم ب ان تراجيديا الخروج الفلسطيني الثاني من بيروت عام 1982 كان له أثره الضارب والبين في ارتجاج أكثر اليقينيات واليقينيات العربية الكسلى..مثلما كانت له ذيوله بالمعنى الايجابي على الفكر والثقافة العربية..وبالتالي على الشعرية العربية من حيث عودتها إلى وعي واقع الحال والتعبير عنه بوعي لغوي جمالي مسامت له ومفارق في الآن ذاته.
على المستوى الثاني قارب الناقد محمد بودويك المتن الشعري من حيث فاعليته الثلاث بوصفها مداميك كل شعرية فخمة ومعايير تعتمد في قياس درجة شعرية النصوص سواء في الغرب أو في الشرق. ولم تكن هذه الفاعليات غير الدوال الايقاعية والتصويرية والتناصية.
وفي هذا السياق برهنت الممارسة النصية لشاعر المناصرة يقول الناقد"على حضور مدخور معرفي وشعري متنوع, وانغراس في المشهد الشعري المعاصر الأمر الذي أتاح له بعد الهضم والتجاوز, نقل هذه الابدالات إلى شعره هو.
الناقد خلص أيضا في بحثه إلى ان الصورة الشعرية التي حضرت في متن المناصرة ببتلاتها وابرها تحت أنماطها المتداولة كالحسية والتجريدية والرمزية والدرامية شهدت تطويرا لافتا, وإبدالا يحمل بصمة صاحب المتفردة. متحدثا في نفس السياق عن انزياحات تحققت وتنافرات وتوترات وتشاكلات جرت ..حيث أمكن القول بنجاح الشاعر وهو يمارس هذه الفاعلية المنبثقة من متخيل شعري غني استبطن أعماق الذات,واستغور دفائن "الهو" بما هو شعوري جمعي له علقة بصخب المعيش ومضطربه.
في اشتغال الناقد حول مفهوم التناص كإجراء نقدي عند المناصرة وقف على ما اسماه فادحة المتعة والفائدة " وقد أمكن الوقوف على تنوع ثقافة الشعر ورحابة افقه ,الشيء الذي اكسب ممارسته النصية القوة والطليعية والندية.
ليخلص في نهاية بحثه إلى ان الشاعر الكبير عز الدين المناصرة شاعر تنقيحي بامتياز, ومحاء ,ومخترق ومخترق , وهادم, وبان, لنصوص الكبار أسلافه ومجايليه.
من المحقق إذن , ان الناقد والشاعر محمد بودويك توفق في بحثه وهو يثير ويستدعي بالملموس جوانب"الحافرية- الاتفاقية" أو نواتج التلقيح والاستحضار الواعي واللاواعي لمصادر ثقافية شعرية وغير شعرية حضرت كشاهد أو تصدير أو تضمين. مثلما حضرت في إطار المعارضة والنقيضة أو في إطار من الهدم الايجابي والإخفاء الحاذق والبديع. محاولا ان يحيط بها متتبعا لأساساتها وأبعادها متوخيا ان يرفع عنها ضيم لحقها بالإهمال والتحييد..
وإذا كان عالم عز الدين المناصرة عالم مليء بالرؤى والتجليات الشعرية والرموز الرعوية والكنعانية وهو عالم خاص موغل في الخصوصية.
فان الدكتور بودويك استطاع ان يحقق من خلال البحث جزء كبيرا من مبتغاه ,وان يجيب عن سؤال أساسي : كيف يمكن للشاعر الحداثي الذي ينهل من منابع شتى تدمغه بالغموض والاستعصاء ان يحظى بالقراءة والإنصات العريضين من قبل النخب والجمهور؟؟
فاستطاع ان يأخذنا معه كقراء "لنجوس خلال ما وراءها من أبهاء وأفنية ونرى ما فيها من روائع الفن الشعري".رغم إقراره ان ما يروم مقاربته يتأبى على القبض.
اجل نقول مع الباحث حقق البحث مبتغاه ,"وان كان لا يزال في الشعر المتراحب مجال للباحث نفسه ,أو لباحثين آخرين للاستزادة"
عزيز باكوش
#عزيز_باكوش (هاشتاغ)
Bakouch__Azziz#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟