|
ثلاثة أيام بصحبة الحسناوي
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1851 - 2007 / 3 / 11 - 07:14
المحور:
سيرة ذاتية
أفاضَ ذلك اليوم الرائع ، الربيعيّ ، بكشف محاسن " باريس " لناظري . مدينة النور هذه ، شاءَ حسن حظي أن ألجها عبْرَ مدارج ريفها ، الساحر ؛ ثمة ، أين تجلت البيوتات البسيطة بأبهى حللها من التعريشات والأوراد والأشجار ، الوارفة ؛ الحواري الضيقة ، المتلاصقة الجدران والمفروشة أرضها بالحجارة البازلتية ، السمراء ؛ الأهالي بسحناتهم " الغاليّة " ، المميّزة ، المتبدي بعضهم على الشرفات الأنيقة ( الترّاس ) ، أو خلل حقولهم وكرومهم ، الكريمة . ربما أنّ محمد الحسناوي ، بدوره ، قد عاين هذا الجمال جميعاً ، وهوَ في طريقه من المطار إلى وسط العاصمة الفرنسية : في هذه الحالة ، فلا بد أنه إستعادَ بعضاً من ذكريات مسقط رأسه ؛ هناك ، في " جسر الشغور " ، المحروس بهامة " جبل الزاوية " ، الأشمّ . في ذلك اليوم من أيار 2004 ، كان قد مضى ما يزيد عن العقدين من الأعوام ، دونما أن يتاح لـ " أبي محمود " حظ رؤية موطنه ، مجدداً . كان قد غادره ، خفية ً ، في مستهل ثمانينات القرن الماضي ، تجنباً لحرب الإبادة التي شنها النظام البعثي ، الحاقد ، على التنظيمات الإسلامية وأنصارها ومؤيديها ، والتي إمتدت لتطال التنظيمات الاخرى ، من يسارية وقومية . شاءَ مقدور الرجل ، وقد قارب السبعين من عمره ، أن يرحل عن دنيانا ، هناك في المنفى الأردني ، دونما أن يُتاحَ حتى لجثمانه موراة الثرى في أرض الوطن . بيْدَ أنّ ذكرى المرحوم محمد الحسناوي ، لن تفتأ تروّج رائحة تلك الأرض ، العطرة ، خصوصاً لمن كان قد سعد باللقاء به ، وإن لأيام معدودات حسب ؛ حال كاتب هذه السطور ..
في بهو الفندق إلتقيتُ إذاً الأديب والشاعر محمد الحسناوي ، وكان رفقة بعض الأشخاص . كنا من أوائل الواصلين ، من مدعوي مؤتمر الحوار الوطني السوري . هنيهة اخرى ، وإذا بنا ننصت لضحك مرح ، يطل علينا خلل المدخل . كانوا ثلاثة من الضيوف أيضاً ، وقد لاح لي أحدهم بخلقة مألوفة : إنه الصديق الشاعر إبراهيم يوسف ، وكان بصحبة مشعل تمو ، السياسي الكردي ، والدكتور هيثم المناع ، منظم المؤتمر . وكان لقاءٌ حميمٌ بيننا ؛ لقاءُ المنفى المتظلم بالموطن المفتقد . إثر جولة قصيرة ، قادتنا عبرَ أزقة حي " ملكوف " ، الشعبيّ ، نؤوب ثانية للنزل ، لنجدَ أصدقاءَ جدداً ، ممن وصلوا للتوّ . مساءٌ ربيعيّ ، حار ، خيّم على جلستنا في المنظرة السماوية ، المتألقة ببحرة فاتنة ، يتدفق سلسبيل مياهها من فم أسدٍ حجري ؛ مساءٌ أبهيّ ، أرخى سدولاً لطيفة من نسيمه ، المداعب خصل شعورنا وشعور عارشتيْ الياسمين والكرمة ، المتهدلة على مجلسنا . ما لبثت أن رأيتني أنضمّ إلى طاولة صغيرة ، تحلق حولها عدد من المدعوين ؛ ثمة ، كان يشعُ " الحسناوي " ، بوجه الحسن ، الصبوح السمح ، وبكلماته المقتضبة ، الخافتة . أتذكرُ أنّ حديثنا تناهى إلى أدب نجيب محفوظ ، وأنني نهضت للدفاع عنه إزاء بعض الآراء المنتقدة إياه . ولن أسلوَ أبداً ، من تلك الجلسة ، ما بدا على تعابير وجه محمد الحسناوي ، حينما سردتُ أمامه وصفَ " خان الخليلي " ؛ وكيفَ إنثالت عبراتي في غمرة الروائح المعتقة ، المنبعثة من ذلك المكان الأثريّ ، حينما لاحت دمشقُ لمخيلتي وقتئذٍ ؛ مدينتي المفتقدة ، الحبيبة ، بأسواقها العريقة ، المشابهة لمثيلتها ، القاهرية .
إبتدأ مؤتمرنا في اليوم التالي مباشرة . جاء المدعوون من أصقاع المعمورة ، المختلفة ؛ من المشرق وأوروبة وأمريكة وكندة ؛ جاؤوا لكي يعبروا عن هواجسهم وآمالهم وتطلعاتهم ـ كمواطنين سوريين ، بالدرجة الأولى . ما كان إتفاقاً ، أن يعقد المؤتمر بعيد أحداث مدينة " القامشلي " ، الكردية ، والتي تطورت إلى إنتفاضة شاملة ، وصلتْ شمال البلاد بعاصمتها . كانت كثافة الحضور الكرديّ ، في تلك القاعة القريبة من نزلنا ، قد اثارت حفيظة البعض ، ممن ما فتيءَ على تجاهله لحقيقة كون سورية بلداً متعدد الثقافات والأديان والمذاهب . لهذا الداعي ، جاء صوتُ محمد الحسناوي ، ضرورياً هناك ؛ بإتزانه وإعتداله ورزانته ؛ الصوت الموحي بدماثة خلق صاحبه وأصالة فكره . وقد شاءت الصدفة ، أيضاً ، أن أكون جاراً للرجل في جلسات المؤتمر . وأعترف الآن ، بأنني كنتُ مشاغبَ الجلسات ، بلا إمتياز ! على أنّ تعليقاتي ومداخلاتي ، وحتى مشاداتي مع هذا وذاكَ ، فقد اُخِذتْ غالباً على محمل هيّن ، من لدن الآخرين . حينما كنت أشتط في المجادلة ، كان جاري هذا ، الهاديء ، يشير لي بعينيه مهدئاً من إندفاعتي . وهوَ نفسه ، من أبدى تأييداً لإقتراحي بمناقشة قضية لواء إسكندرون ، السوري ، على خلفية ما تردد وقتذاك عن إستعداد نظام الأسد للمساومة عليه لصالح تركية .
ثمة عدد من الصور في ألبومي ، يظهر فيها فقيدنا الراحل . إحداها ، يبدو فيها وهوَ يحوطني بيده ، فيما اليد الاخرى تتنكب أحد الأصدقاء ، من المشاركين في ذلك الإجتماع الباريسي . كان الكرد وقتذاك ، من مندوبين وإعلاميين ، يظهرون إحتفاءهم بالأستاذ الأديب محمد الحسناوي ، ويتبادلون معه حديث السياسة والذكريات ؛ نعم ، الذكريات : فإنه في سني شبابه ، كان قد درّس الأدب العربيّ في " عفرين " ؛ المنطقة الكردية ، الجبلية ، المحدقة بشمال مدينة " حلب " . الكثير من تلاميذه ، الكرد ، أضحوا الآن من نخبة المثقفين ، حيث يتذكرونه في مواقفه الإنسانية ، المشرّفة ، والتي غالباً ما كان يدفع ثمنها الباهظ . صداقته لشعبنا ، الصادقة ، تجلتْ في العديد من مقالاته على الإنترنيت وصفحات الجرائد والمجلات . كان المرحوم الحسناوي ، كما سبق وذكرنا في مستهل المقالة ، من " جبل الزاوية " ؛ موطن القائد الوطني ، إبراهيم هنانو ، ذي الأصل الكردي ؛ القائد المحارب ، الذي دوّخ الإستعمار الفرنسي ، ومن أطلق أولى الرصاصات ضد وجوده في سورية . وإبراهيم هنانو ، هوَ من كان قد بلغت به الجرأة حدّ طرد تاج الدين الحسني ، الرئيس السوري آنذاك ، من المسجد الأموي بدمشق ! .. فلا غروَ إذاً ، أن يخرج من ذلك الجبل الأشمّ ، رجالٌ جسورون ـ كمحمد الحسناوي ، أديب " جسر الشغور " ـ ممن تصدوا للنظام البعثي وفرعونه ، البائد ، وأخلافه أيضاً !
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 2 / 2
-
حكايتي مع الحجاب
-
صورة وبقرة وقمر
-
كلمتان أمامَ ضريح الحريري
-
أمّ كلثوم ، مُطهَّرة أمْ مَحظيّة ؟
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 1 / 2
-
دايلُ القاريء إلى القتلة / 1
-
دليلُ القاريء إلى القتلة / 1
-
الكوكبُ والشّهاب : أمّ كلثوم في حكايَة كرديّة
-
النغمُ والمشهَد : زمنُ السينما الرومانسيّة
-
تاريخٌ تركيّ ، بلا عِبْرة
-
شيطانُ بازوليني 2 / 2
-
الطاغية والطفولة
-
أفلامُ عطلةِ الأعياد ، المفضّلة
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية / 2
-
شيطانُ بازوليني 1 / 2
-
نفوق الوحش ونفاق الإنسان
-
نوتوريوس : هيتشكوك وتأسيس الأدب السينمائي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 3
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 2
المزيد.....
-
نتنياهو يتعهد بـ-إنهاء المهمة- ضد إيران بدعم ترامب.. وهذا ما
...
-
روبيو: إيران تقف وراء كل ما يهدد السلام في الشرق الأوسط.. ما
...
-
بينهم مصريان وصيني.. توقيف تشكيل عصابي للمتاجرة بالإقامات في
...
-
سياسي فرنسي يهاجم قرار ماكرون بعقد قمة طارئة لزعماء أوروبا ف
...
-
السلطات النمساوية: -دافع إسلامي- وراء عملية الطعن في فيلاخ و
...
-
اللاذقية: استقبال جماهيري للشرع في المحافظة التي تضم مسقط رأ
...
-
حزب الله يطالب بالسماح للطائرات الايرانية بالهبوط في بيروت
-
ما مدى كفاءة عمل أمعائك ـ هناك طريقة بسيطة للغاية للتحقق من
...
-
ترامب يغرّد خارج السرب - غموض بشأن خططه لإنهاء الحرب في أوكر
...
-
الجيش اللبناني يحث المواطنين على عدم التوجه إلى المناطق الجن
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|