سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1852 - 2007 / 3 / 12 - 11:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
هل الانتحار نقمة أم نعمة,شجاعة أم جبن, تحد أم فرار؟
مهما كان الجواب, يظل الانتحار مصيرا قلمّا يقترب العراقيون من عتباته.
بعضهم يظن أن سبب عزوف العراقيين عن الانتحار يعود الى أن العراقي لا يحتاج الى حفلة موت لاستدعاء عزرائيل, فهو موجود بينهم في هيئة حاكم محلي أومحتل أوقاطع طريق. وهناك من يؤكد بآلاف الشواهد أن عزرائيل العراقي موجود حتى في صورة أخ رضع معك من الثدي نفسها, أو أخت تقاسمت معك دفء وحنان الرحم ذاتها. فالعراقيون ليسوا في عوز الى الانتحار, لأن الموت قريب منهم قرب القبور من شواهدها.
ولكن, أللموت منافع تُجنى؟
نعم, للموت, كغيرها من لوازم الحياة العراقية, منافع.
فحينما مات الكاتب العراقي مهدي علي الراضي, في دمشق قبل أيام, تناقلت الصحف, حتى العربية منها, اسمه. فغدا بطرفة عين اسما معروفا, اسما ثقافيا لامعا, معلقا بحبل في سقف غرفة معتمة.
كدّ مهدي علي الراضي, مثل كثيرين, بأسنانه وأظافره من أجل أن يحافظ على فردية الإنسان المقهور القابع في أعماقه, فهجر الوطن, وولج ليل الغربة من أبوابها الواسعة والضيّقة. ثم راح يكدّ عبثا, بعزم مماثل, لأكثر من ربع قرن, من أجل أن يكتب اسمه في دفاتر وطن يبحث, كأهله, عن منفى. لكن ظلال المنفى المعتمة, وعتمة الوطن الباذخة, لم تكن شفوقة عليه.
لقد ظل مهجورا حتى وهو يفوز بأفضل نص روائي مكتوب على الانترنيت.
فلم يشفع له فوز نصه " العراقي المهجور" في تبديد عتمة الهجران.
عاد الى الوطن, لكنه لم يجد وطنا, بل وجد أكداسا من جثث الموتى بلا رؤوس, وأكداسا من جثث السياسيين الأحياء, بلا رؤوس أيضا.
لذلك أضطر عائدا الى براري التيه, عاد ليكون مهجّرا ومهجورا بإرادته, هذه المرّة.
ولذلك أيضا قرر أن يضع الحبل حول رقبته, وأن يعلق جسده, الزائد عن الحاجة, في سقف المنفى.
هكذا مات مهدي علي الراضي منتحرا, لكي يكتب عن وجوده المفترض صحافيون لم يقرأوا اسمه من قبل, وقرّاء لم يكتشفوا وجوده إلا جسدا غامضا, متدليا من سقف, يهتز كبندول باك في ساعة الزمن الظالم.
ولكن, لماذا انتحر العراقي المُحرَّر؟
لم يكن الراضي أول أو آخر المنتحرين. كثيرون هم المنتحرون من الشعراء والكتاب والفنانين, وما أكثر المنتحرين من سواهم! قبل أيام انتحر ياباني بسبب مأساة الشعب العراقي.
لكنّنا لم نسمع بانتحار مريد واحد من مريدي حروب الطاغية حزنا على سقوط بغداد بيد الغزاة, وخجلا من هروب المدافعين عن أسوارها!
العراقي لا يرغب في الانتحار, لا لأنه يكره الموت. العراقي كائن يتنقل في دروب التاريخ السياسي مستعيرا أقدام الكنغر. لذلك يفضل الثبات حتى الموت على الانتحار أو الاستقالة.
العراقي لا يستقيل من منصبه حتى لو استقال في أميركا المحتلة الغازية وزير عدل, وكبير قادة الجبهات, ومستشارون في وزارات الأمن والثقافة والصحة والخارجية. لكننا في العراق لم نر حارسا عراقيا لمزبلة قدم استقالته احتجاجا على وساخة الوطن.
العراقي لا يستقيل ولا ينتحر, ولا يبول على يد مجروح من أهله الأقربين, حتى لو كانت اليد الجريحة يده.
فقط, وفقط, حينما يبدأ العراقيون بمزاولة عادة الانتحار والاستقالة, يكف الديكتاتور الصغير والكبير عن أن يكون ملاك الوطن الحارس, ويتناقص عدد المشانق.
عدد الذين أعرفهم شخصيا من المنتحرين أقل من عدد أصابع اليد الواحدة. أذكر منهم ثلاثة: آخر المنتحرين كان مهدي علي الراضي, الذي هرب من زحمة الموت الجماعي ليموت منفردا, أعزل. أمّا صديق طفولتي, الرسام الموهوب والمعدم رحمن سلمان, طالب أكاديمية الفنون الجميلة, فقد حلّق من سطح بناية السكن الطلابي, لا لكي يطير في سماء الفن التشكيلي, كما أوهمنا, وإنما لكي يتجه نحو الأرض التي أحبها وكرهها حتى الموت. وثالثة الأثافي رسام وشاعر حالم قريب, كتب عن وردة الدم, اسمه ابراهيم زاير, ذهب الى بيروت المقاومة, ولكن, لينتحر بدلا من أن يقاوم.
ما يجمع أولئك الثلاثة هو الانتحار. هذا ما يعتقده, لأول وهلة, قارئ كلماتي. ولكن حقيقة ما يجمعهم, يكمن في موضع آخر, غير الانتحار. فالانتحار موت, خاتمة, نتيجة, ونهاية. ما يجمع المنتحرين المهجورين هو البداية. فأولئك جميعا, ولدوا على تربة واحدة, تربة لم يشهد التاريخ أطيب وأقسى منها, أسمها ميسان. تربة مترعة الى حد التخمة بالخير والبؤس والخذلان والعويل.
تُرى, ألهذا السبب فكرت, أنا الميساني, مرة, في أن أجرب ما فعله سقراط, حالما عدت من زيارة المغارة المظلمة, المسماة زنزانة سقراط, الواقعة تحت قدمي الأكروبول؟
لقد بهرتني حيلة سقراط العجيبة. فقد تناول السمّ, لكي يفوت الفرصة على حكام أثينا, الذين أتهموه بتضليل الشباب وحكموا عليه بالموت. كان بمقدوره أن يخفف الحكم, لكنه آثر أن يسبق جلاده, منتزعا منه نشوة القتل, فمات منتصرا على الموت بالموت, وترك جلاده كئيبا, يعاني من خيبة الفقد. ما أمهر الصفعة التي تلقّاها قاتلوه!
خدعة سقراط استولت على مشاعري بقوة, لكنّي لم أذهب بها الى مداها النهائي. لا أعرف لماذا, رغم أنني ميساني طيب أيضا, كما كنت أظن!
كنت مشغولا نفسيا وفكريا آنذاك بالهجوم الإسرائيلي على لبنان. كنت أجمع وأتسقط الأخبار وأهيء نفسي للكتابة. نشرت مقالتين في السفير والنهار. هل كانت الكتابة منقذي المؤقت؟ أهي شهرزاد عصر التدوين؟
حينما عدت من زنزانة سقراط الى بيت السويديين في أثينا, التابع لاتحاد أدباء السويد, الذي استضافني, قررت أن أفتح دفتر الزوار لألقي نظرة عليه, بعد أن رحت أرجيء كل يوم النظر فيه, بسبب تعكر مزاجي وانشغالي. دفتر الزوار أعرفه جيدا. فهو يحتوي على انطباعات سريعة ونصائح عملية من خبرات ضيوف البيت من الكتاب والصحافيين. أخذت أقلب الصفحات: نصحية للوصول الى أجمل جزيرة, أفضل مطعم سمك, أقرب وأرخص ساحل للسباحة والتنزه والراحة, أمتع مرقص ومتحف... تلك تقاليد السويديين, صغارهم وكبارهم! ظللت أقلب الصفحات حتى اصطدمت عيناي بخط ركيك, وجمل مفككة, وأفكار بائسة, مسطرة على صفحتين بالعربية وبسويدية عظيمة الركاكة, لا توجود فيها جملة واحدة خالية من خطأ إملائي أو لغوي.
الإحساس بالعار دهمني بقوة, وفهمت فورا سر إلحاح أولوف وزجته- شريكي في البيت من اتحاد الصحافيين - على قراءة الدفتر. بيد أن ما أتى لاحقا حوّل الإحساس بالخزي الى رغبة عارمة في تناول جرعة عاجلة من السمّ: البطولات التي اجترحها كاتب الكلمات وهو يقاوم الديكتاتورية, الهروب العظيم من مخالب الطاغية, احتفاء الأمم المتحدة وأمم أوروبا به ومديحه لصنيعها الجليل. انتهى النص, لكن دوافع اجتراع السمّ لم تنته. فالنص مذيل بعدد غير معقول من التواقيع لشخص واحد. أكثر من ستة تواقيع وضعها الكاتب على نصه, كما لو أنه يريد أن يؤكد للبشرية جمعاء, أن كأس سقراط المفجعة قد تغدو لبعض المكلومين قدرا وحيدا, لا حياد عنه!
مدوّنات الفخر الوطني الماثلة أمامي سطرها أحد مخلوقات الديكتاتور العجيبة, ممن لم يجدوا من يشتري جهلهم غير صيادي الفطائس من القادة القوميين, وتجار المحاصصة, وكتاب ثقافة العنف وجيش الوشاة. ثقافة نواب العرفاء وقادة الفرق هذه بدت لي كما لو أنها تلخيص إعجازي لثلاثية القهر التاريخية, التي حلّت على العراقيين وأبت أن تفارقهم: الديكتاتورية, الاحتلال, والعنف الوحشي المضاد.
رباه! أما آن لهذا الكابوس الفتاك أن يزول! إنهم أمامك وخلفك, في صحوك وفي أحلامك, في خبزك وفي كلماتك, في ترابك الحر وترابك المستعبد, في سجنك الجماعي وفي منافي عزلتك. إنهم مبثوثون حتى في كأس السم التي تتجرعها كي تتخلص من وجودهم الدبق المرّ, حتى في حبل المشنقة الذي تلفه حول عنقك.
أين تولي وجهك يا عراق؟
في تلك اللحظة أدركت لماذا ابتسم سقراط وهو يتناول الكأس القاتلة. والآن أدرك, بنفس القدر, لماذا ذهب مهدي علي الراضي الى أقرب سقف ليتدلى منه, بعد عودة قصيرة الى العراق للعمل في صحيفة الصباح, ثم المغادرة مجددا, ولكن الى المنفى السرمدي.
رباه, كم كان سقف المنفى قريبا من عنقي!
ولكنّي, رغم ذلك, لم أضع الحبل حول رقبتي بعد. ربما سيسبقني الى ذلك ميساني آخر,ميساني مترع بالخير والبؤس والخذلان والعويل, ميساني أكثر طيبة وتوجعا منّي, وأكثر إحساسا بظلم هذا الوجود العبثي, الأنوك, الجاحد.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟